waleed700
04-06-2002, 02:30 AM
www.islah.org
نشرة الإصلاح العدد 317 بتاريخ 3 يونيو 2002
مستقبل المعركة بين بن لادن وأمريكا
دروس من تجربة بيان المثقفين
الحميد والأمير سباق في التضليل
مستقبل المعركة بين بن لادن وأمريكا
تهديدات واستعدادات
بعد الحملة الأمريكية الشاملة ضد بن لادن والقاعدة والطالبان تكررت في الفترة الأخيرة تحذيرات الحكومة الأمريكية من ضربة جديدة تنفذها القاعدة داخل أمريكا في الوقت الذي يزال الحديث مستمرا عن تنسيق الجهود العالمية ضد الإرهاب. هل تعتبر هذه التصريحات الأمريكية والحملة السياسية والإعلامية والأمنية مسألة مفتعلة لتحقيق غرض معين، أو هي حقيقة تعكس حالة المعركة بين بن لادن وأمريكا؟
كيف نفهم طبعية المعركة
يغلب على كثير ممن يرصد طبيعة المعركة بين بن لادن وأمريكا وضعها في سياق التوازنات العسكرية القابلة للقياس، ولذلك يقعون في الاستنتاج الساذج أن أمريكا عملاق عسكري سياسي اقتصادي أمني مقابل بضعة مقاتلين في جبال أفغانستان لن يلبثوا أن ينقرضوا. الظريف أن الأمريكان أنفسهم ينظرون للمعركة بهذا المنظار، ولذلك تعاملوا معها تعامل التجييش العسكري والسياسي والاقتصادي والأمني وشنوا حملة عسكرية هائلة من أجلها. ولو كان هذا القياس صحيحا لكانت أمريكا قد حسمت أمر بن لادن بعد أن ردت على حوادث تفجير سفاراتها في كينيا وتنزانيا. والكل يعلم أن أمريكا لم تأل جهدا في تسخير جهازها العسكري والسياسي والأمني في القضاء على بن لادن من جهة وفي حماية نفسها من جهة أخرى، ومع ذلك فقد كانت حصيلة هذا الجهد الأمريكي الهائل بعد حوادث كينيا وتنزانيا هو أن تُضرب أمريكا في عقر دارها ضربة هائلة لا تساوي أمامها ضربة كينيا وتنزانيا شيئا.
الحرب غير المتوازية "بالياء"
هذا النوع من أنواع المواجهة يسمى في علوم الاستراتيجية الحديثة بـالحرب غير المتوازية "بالياء" تمييزا لها عن "الحرب غير المتوازنة "بالنون". ويقصد بالحرب غير المتوازية أن يستخدم الخصم وسائل وأساليب يستحيل على المدافع عن نفسه أن يستخدمها أو يتعرف عليها أو يتفاداها. وقد أشار إلى هذا النوع من المواجهة تقرير استراتيجي شامل سلم للرئيس الأمريكي كلينتون قبل مغادرته البيت الأبيض. قال التقرير إن أمريكا قد هيمنت على العالم ولم يعد هناك من يستطيع أن يجابهها عسكريا ولا اقتصاديا ولا سياسيا ولا استخباراتيا وإن الخصم الوحيد الذي يمكن أن يؤذي أمريكا هو من يستخدم أساليب الحرب غير المتوازية. واعتبر التقرير من يستخدم هذا النوع من المواجهة خطرا هائلا على أمريكا إلى درجة أنه يمكن أن يتسبب في خلخلة داخلية في أمريكا إن لم تحسن التعامل معه. وتنبأ التقرير بأن تبدأ علامات هزيمة أمريكية إن نجح خصم أمريكا في امتصاص الرد الامريكي على هجوم من قبله وتمكن من توجيه اكثر من ضربة لأمريكا.
مثال بن لادن
لا يمثل الشيخ بن لادن وتنظيم القاعدة دولة بجيش ولا طائرات وأساطيل ومدرعات ودبابات، كما لا يمثل حزبا أو تنظيميا مسلحا تقليديا يعمل من خلال التوازنات السياسية العالمية مستفيدا من تدافع القوى العظمى مثلما فعلت القوى الشيوعية في الهند الصينية وأمريكا الجنوبية. ولو كان تنظيم بن لادن بمثل هذا المستوى لأصبح الآن في حكم المنسي تاريخيا مع هذا النفوذ الهائل لأمريكا وتعاون دول العالم كله معها. توجد في ظاهرة تنظيم بن لادن عدة مزايا وصفات تجعله النموذج لخصم في حرب غير متوازية مع أمريكا بل نموذجا أمثلا في تحقيق نبوءة هذه الدراسة الاستراتيجية للأسباب التالية:
أولا: التنظيم ليس تكوينا نشازا متكلفا مصنوعا بدعم جهات سياسية نفعية بل هو إفراز طبيعي لحالة الاحتقان والغضب في العالم الإسلامي وطبعية الدين الإسلامي التي تدعو للاستعلاء والدفاع عن الإسلام. ولا يستطيع أحد أن يزعم أن هذا التنظيم صنيعة أحد إلا الجاهل أو العاجز عن تصور وجود عمل مستقل عن دعم سياسي خارجي.
ثانيا: التنظيم ليس جماعة معزولة مرفوضة من المجتمعات رافضة لها، بل إن مشروع بن لادن يقف على منصة قوية من المشاعر الاجتماعية المبتهجة بهذا المشروع والمفتخرة به والمسرورة بأعماله السابقة والمتطلعة لأعماله اللاحقة. هذه المنصة الاجتماعية توفر للتنظيم حاضنا طبيعيا يوفر عليه تكتيكات وأساليب مكلفة دون هذا الاحتضان.
ثالثا: التنظيم ليس مجرد كيان كلاسيكي متطور في وسائل السرية والانضباط كما هي حال التنظيمات الناجحة في العالم، بل هو أقرب إلى مفهوم مدرسة تخرج الآلاف من المؤمنين بالمشروع الجهادي وتبثهم في المجتمعات وتستفيد منهم بطريقة تتناسب مع توجهات المجتمع المسلم من جهة ومع واقع العالم الغربي من جهة أخرى، مما يعطيهم مضلة طبيعية تحميهم أمنيا واجتماعيا.
رابعا: يؤمن التنظيم بأن التخطيط يجب أن يكون على أساس استراتيجي فيه فهم للذات والبيئة والخصم والهدف. ولم يعد سرا أن التنظيم قد حدد هدفا هو تدمير أو إضعاف أو تفكيك أمريكا. ولا يعتبر التنظيم هذا المطلب مسألة خيالية رغم قوة الخصم الهائلة والقصور الكبير في قدرات الذات. وينفذ التنظيم من أجل حل هذه الإشكالية حيلة معقدة هي تحويل قوة وقدرات الخصم ضده ويبني معظم الاستراتيجية على ذلك.
خامسا: استفاد ويستفيد التنظيم من إشكال أساسي في المجتمع الأمريكي هو كثرة الثغرات البنيوية بسبب طبيعته المنفتحة التي جعلته خصما مكشوفا لمن أراد أن يحسن استغلالها ضده. هذه الثغرات لا يمكن إقفالها إلا أذا تحول الكيان الأمريكي لكيان عسكري مغلق بدين واحد وجنس واحد وهو امر مستحيل. وقد أشار رئيس السي آي إي في استجوابه من قبل الكونجرس إنه لا يمكن ضمان أمن المجتمع بزيادة الحصار على الحريات المدنية إلا بالوصول إلى حالة مجتمع لا يستحق الدفاع عنه.
سادسا: استفاد ويستفيد التنظيم من طبيعة النفسية الامريكية حين تُستفز في هويتها وتتصرف على شكل رد الفعل الانتقامي (الكاوبوي) بدلا من أن تتمهل وتدرس القضية قبل أن تستجيب. ونجح التنظيم في استدراج الماكنة الأمريكية الهائلة لتخدمه كشركة علاقات عامة بعد ضربات كينيا وتنزانيا، كما نجح في استدراجها بعد ضربات سبتمبر لأجل أن تبدو كما لو كانت تحارب الإسلام ومن ثم يُجيّش العالم الإسلامي كله ضد أمريكا.
سابعا: يعتمد التنظيم على التربية الإسلامية الجهادية التي تجمع بين الانضباط والطاعة للقيادة والثقة المطلقة بتوفيق الله والاستعداد الكامل للموت في سبيل الله والصبر وطول النفس. ولعل هذه الصفات في أفراد التنظيم والتي يصعب على الأمريكان إدراكها كان ركنا رئيسيا في تحول تنظيم بن لادن لخصم حقيقي لأمريكا في هذه الحرب غير المتوازية.
ثامنا: يعتمد التنظيم مبدأ المبادرة والفعل بدلا من رد الفعل، ويعد الخطوة التالية قبل أن ينهي الخطوة الحالية، ولا يقبل التنظيم بأن يستجر إلى رد فعل على هجوم يتعرض له يربك خطته. ولذلك لم يكترث التنظيم بالضربات التي وجهت لأفغانستان بعد حوادث كينيا وتنزانيا ولم يتحمس كثيرا للرد على الضربات الأخيرة لأن الخطوة التالية معدة سلفا ويجب أن تنفذ في وقتها.
تاسعا: يؤمن التنظيم بالاستفادة من أي فرصة سياسية أو أمنية توفرها الصراعات أو المشاكل العالمية، ويرى سرعة التصرف لاغتنامها دون التفريط بما يعتبره التزامات دينية. ومن خلال ذلك يقال إن التنظيم حصل على أجهزة وأسلحة متطورة مستغلا الفوضى التي تبعت سقوط الاتحاد السوفيتي.
عاشراً: يؤمن التنظيم بترك ما يعتبره جائزا أو مشروعا إن كانت جماهير المسلمين لا تستوعبه مثل مواجهة الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين خوفا من أن يتهم التنظيم بأنه يدفع لحروب أهلية ويؤدي ذلك لانفضاض الناس عن التنظيم. في المقابل يؤمن التنظيم أن كل هذه الأنظمة تابعة لأمريكا وستتهاوى مباشرة إذا انهزمت أمريكا وبذلك يمكن مواجهتها في ظرف أفضل.
المشهد السابق
سردنا سابقا باستفاضة تسلسل الأحداث المرتبطة بالمواجهة بين بن لادن وأمريكا مقرونة باستراتيجية بن لادن. ومع أن ذكرها هنا مهم ومفيد ألا أننا نستغني عن التكرار ويكفي من أراد الإطلاع عليها الذهاب لهذا الرابط.
http://www.islah.info:3303/monitors/m294-c.htm
المشهد الحالي .. الشكل الظاهري
حين نتجاهل حقيقة الحرب غير المتوازية ومزايا تنظيم بن لادن نجد أنفسنا أمام أمريكا وقد انتصرت انتصارا باهرا وقضت على دولة الطالبان وقتلت من قتلت من القاعدة ورمت البقية في أقفاص جوانتانامو. بل إن أمريكا أثبتت أنها قائدة متحكمة بالعالم حين أجبرت كل الدول للتسابق في إرضائها وخدمتها بدءا بالقوى الكبرى مثل الصين وروسيا وانتهاء بالدول ذات العلاقة التي جعلت إمكاناتها تحت تصرف أميركا مثل باكستان والسعودية. أما بن لادن نفسه فقد اختفى واختفت القيادات معه ولا يعرف إن كان حيا أو ميتا. على المستوى السياسي والامني تمكنت أمريكا من تشكيل تحالف عالمي من كل دول العالم يستحيل معه لأي شخص من تنظيم القاعدة أن يكون في مأمن من الاعتقال الأمريكي. على مستوى أمريكا اتخذت الخطوات الأمنية والقانونية اللازمة لاعتقال كل مشتبه به وإغلاق الفرص أمام من يفكر بتنفيذ عمليات أخرى. وأما التهديدات المتكررة التي تشير لها الحكومة الأمريكية فليست إلا غطاءا سياسيا لتبرير هذه الحملة الأمنية وكذلك استباقا وحماية سياسية فيما لو حصلت حوادث فعلا. واندفعت أمريكا في حربها للإرهاب لدرجة أن باركت ما يقوم به شارون بحجة أن حملته حرب ضد الإرهاب. هذا المشهد تنظر من خلاله الحكومات والنخب المتسلطة ولذلك ازداد تعظيمها وتقديسها لأمريكا وتسابقها لإرضائها وخاصة حكام المملكة.
المشهد الحالي .. الشكل الحقيقي
بمقاييس الحرب غير المتوازية نحن أمام حقائق يتم التغاضي عنها وأمام استنتاجات منطقية يتم التحايل عليها، منها:
أولا: الشيخ بن لادن والشيخ أيمن الظواهري والملا عمر كلهم على قيد الحياة، والجزء الأكبر والمهم من تنظيم القاعدة لا يزال سليما، والأمريكان على علم بذلك ولا يريدون أن يعلنوه حتى لا تعتبر حملتهم عديمة الجدوى. والجدير بالذكر إن معظم المعتقلين في جوانتانامو هم إما من موظفي الإغاثة أو من العرب في باكستان وأفغانستان ممن ليس لهم علاقة بالقاعدة أو من الذين انضموا للجهاد بعد سبتمبر.
ثانيا: هناك قناعة تامة ومعلومات أكيدة عند الامريكان عن ضربة هائلة قادمة لأمريكا (أو أكثر من ضربة) لكنهم لا يعرفون متى وكيف وأين. ويعلم الأمريكان كذلك أن جهودهم العكسرية والأمنية والسياسية لم تصل لحد الآن لإيقاف هذه الضربة ولم يصلوا إلى مجرد طرف خيط يؤدي إلى منعها. ولذلك أصبح الإعلان عن هذه الضربة دون معرفة متى وأين وكيف هو أفضل تحقيق لقَسَم بن لادن في أن لا تتمتع أمريكا بالأمن حتى يعيشه الفلسطينيون.
ثالثا: انبهر الأمريكان بكمية الغموض الذي يكتنف حقيقة القاعدة والطالبان بعد حملتهم في أفغانستان. ورغم الكمية الهائلة للمعلومات التي حصلوا عليها من أوراق ووثائق وأجهزة كمبيوتر وتعاون باكستاني وأفغاني وسعودي فلم يصل الأمريكان لحد الآن لحل لغز طريقة عمل القاعدة والتعرف على طريقة تفكيرها وتركيبتها التنظيمية. ويعترف الأمريكان حاليا بأن كمية المعلومات التي لديهم يربك أكثر مما ينفع في إعطاء تصور واضح عن القاعدة.
رابعا: لم تسفر الحملة الأمنية والقانونية في أمريكا نفسها والاعتقالات التي طالت آلاف الإسلاميين عن التعرف على أي معلومة ذي بال أو أن تجرّم أحدا من المعتقلين جريمة لها علاقة بالقاعدة سوى شخص واحد علقت عليه التهمة بشكل متكلف.
خامسا: بلغ الغضب الإسلامي على أمريكا بعد الحملة على أفغانستان ثم تأييد أمريكا لشارون في جرائمه في فلسطين مبلغا هائلا تجاوز بكثير ما يطمح إليه بن لادن من مجرد تجييش المسلمين عاطفيا ضد أمريكا. ولوحظ الآن بين بعض الأوساط التي كانت تتحفظ على حادث سبتمبر أنها تتمنى حصول حادث مثله وتستبطئ الضربة المتوقعة.
المشهد ا لمستقبلي ... معطيات
بعد تأمل الحقائق أعلاه لا يجد المرء صعوبة في اعتبار الضربة القادمة لأمريكا أمرا حتميا، لكن السؤال المهم قد يكون أعقد من مجرد متى هذه الضربة وكيف وأين؟ السؤال هو، ما دام تنظيم القاعدة قد دخل في المواجهة الساخنة بحرب مستمرة مع الأمريكان فهل سيستمر على طريقة المواجهة بالضربات لأمريكا فقط أو إنه أعد العدة لعمل متعدد الأطراف في أكثر من مكان من العالم مستفيدا من سقوط هيبة أمريكا؟ يقول بعض من تابعوا وضع القاعدة قبل سبتمبر أن القاعدة والطالبان قد استعدوا لسقوط الطالبان قبل مدة ورتبوا الإجراءات التي تبقي الجزء المهم من القاعدة والطالبان سليما إلى أن تحصل الضربة القادمة. ويزعم هؤلاء إن القاعدة قد استعدت للضربة التالية في أمريكا منذ زمن، لكن التوقيت مقصود أن يتأخر قليلا بعد أن يقتنع الأمريكان تماما أنهم قد حققوا النصر وأنهوا مهمتهم حتى يكون مفعول الضربة أقوى ما يمكن نفسيا وسياسيا. ويزعم هؤلاء أن تنظيم القاعدة قد رتب أعمالا أخرى في أماكن أخرى وأن العمليات التي جرت في الهند حديثا ربما تكون من بينها وأنها مقصودة لإجبار الجيش الباكستاني على تحويل الجيش للهند ومن ثم كشف جبهة أفغانستان وترك الأمريكان في مواجهة الطالبان والقاعدة من جديد.
المشهد المستقبلي ... سينايوهات
مع وضع هذه المعطيات في الحسبان يستطيع المرء أن يخرج بالاستنتاجات التالية عن السناريوهات المتوقعة للمستقبل بخصوص المعركة بين بن لادن وأميركا:
السيناريو الأول: هو ضربة كبيرة في أمريكا لكن ليس فيها سلاح دمار شامل ولا آثار بعيدة المدى. وإذا تمت هذه الضربة فعلا فلربما تصدق نبوءة التقرير الاستراتيجي الذي أشرنا إليه آنفا من أنها ستؤدي لخلخلة كبيرة في أمريكا. السبب هو أن الضربة ستكون إعلانا مدويا ومؤلما بهزيمة منكرة للحملة الأمريكية ضد "الإرهاب". هذا الإعلان بالهزيمة لن يكون هزيمة لحكومة دكتاتورية متسلطة مثلما حصل في الاتحاد السوفياتي حين تورط في أفغانستان بل ستكون هزيمة للشعب الأمريكي كله الذي انتخب حكومته وبارك حملتها في أفغانستان بأغلبية مطلقة. سيصنع هذا الشعور بالهزيمة عدة تداعيات أولها الشعور بالإحباط عند الشعب الأمريكي وقناعته بالعجز عن حماية نفسه. حينها سيكون الأمريكان مشتتين، فريق يستمر يفكر بعقلية الكاوبوي ويريد أن يزيد من رد الفعل مستخدما أسلحة دمار شامل، وفريق يطالب بإلغاء هذه السياسة بالكامل والموافقة على مراجعة السياسة الخارجية الأمريكية بخصوص المسلمين، وفريق يرى التشدد الأمني حتى لو أدى ذلك لإلغاء كل الحقوق المدنية. وعلى الأرجح سيهزم الفريق الذي يطالب بالانتقام لأن الأهداف استنفذت ولم يبق قاعدة ولا طالبان لأن تضرب. ولعل هذا الخلاف وما يصاحبه من إحباط كبير سيكون بذرة لتفكك أمريكا أو لانهيار انتاجها.
السيناريو الثاني: أن تكون للضربة آثار أكثر من مجرد تدمير وقتل لعدد من الأمريكان، مثل لو صح احتمال السلاح النووي أو ما يسمى بالقنبلة القذرة التي تنشر كمية هائلة من المواد المشعة على مساحات شاسعة. هذا النوع من الحدث يؤدي لتعطيل العمل في مدينة كاملة، فلو حصل هذا الحادث في مدينة حساسة اقتصاديا مثل نيويورك أو لوس أنجليس فلربما ينهار الاقتصاد الأمريكي ويتشرد الملايين من سكان مدينة كبرى. وإذا صاحب هذا التشريد الإحباط الذي ذكرناه سابقا والخلاف حول ما يجب عمله تجاه الضربة فسيكون تراكما لانهيار اقتصادي واجتماعي ولا يستبعد أن يتبعه تفكك سياسي.
السيناريو الثالث: أن تكون الضربة مصحوبة أو متبوعة بعمليات أخرى في العالم ضد أنظمة أخرى ويكون التوقيت مقصودا سواء من جهة كون الأمريكان منشغلين بأزمتهم الداخلية أو من جهة انهيار هيبة الأنظمة بسبب انهيار هيبة سيدها. ويصعب تصور أمريكا تستطيع أن تدير أزمات هائلة وهي تعيش تحت وطأة ضربة من جنس من ضربة سبتمبر أو أقوى. أما الانظمة الأخرى فرغم أنها لا تعتمد على أمريكا في أمنها السياسي الداخلي ألا أن سقوط هيبة أمريكا واستعداد الشعوب للتحرك وتغير الولاءات داخل الأجهزة الأمنية ستساهم بشكل كبير في إضعافها إو إسقاطها.
السيناريو الرابع: أن تحصل حوادث كبيرة في أجزاء حساسة من العالم -سواء بتخطيط القاعدة أو دون تخطيطها- قبل ضربة أمريكا مثل اندلاع الحرب بين باكستان والهند ومثل وفاة الملك فهد ونشوب خلاف بين آل سعود أو مثل انهيار سلطة عرفات في فلسطين. هذه الحوادث لوحدها ستربك أمريكا وستجعلها مشلولة في التعامل معها فكيف لو انشغلت أمريكا بعدها بضربة داخلية؟
السيناريو الخامس: أن ينجح الأمريكان في منع الضربة القادمة وربما يعثروا على بن لادن والظواهري والملا عمر. هذا الاحتمال سيحمي أمريكا من الضربة لكنه لن يحميها من تداعيات هائلة تأتيها بسبب التجييش الذي تكون في العالم الإسلامي ضدها. ويصر الذين يزعمون أنهم على معرفة بخفايا القاعدة أن تنظيم القاعدة قد وضع بدائل للعملية لو تم كشفها.
المشهد المستقبلي .. تداعيات أخرى
أوربا: أذا حصلت ضربة أخرى فلا شك أن التوازنات العالمية ستتغير بشكل كبير. سوف تقتنع أوربا أنها لا يمكن أن تجاري أمريكا إلى الأبد وعليها أن تغازل العالم الإسلامي حتى لا يأتيها نصيبها من الدمار. يجب أن نعلم أن هذه الدول ترسم مستقبلها بناء على المصالح وليس بناء على قيم ومباديء تضحي من أجلها.
المجتمعات الإسلامية: إذا حصلت ضربة أخرى فلن يكون هناك شك هذه المرة أنها من تنظيم بن لادن مقارنة بالشك بعد 11 سبتمبر. وبعد حالة الاحتقان والغضب الهائل ضد أمريكا عند المسلمين فستشكل هذه الحادثة شعورا بأن المواجهة التاريخية مع أمريكا قد حسمت لصالح الإسلام وأن الدمار حل بأمريكا رغم أن الذي يحاربها أشخاص مطاردون محاصرون. وبغض النظر عن الموقف الشرعي والقيمي من الحادث فإن آثاره ستكون شحنا لحقنة هائلة مفاجئة من الثقة في نفوس المسلمين وحشدا جديدا لهم في عمل استقطابي ضد أعداء المسلمين في كل مكان.
بؤر الصراع الأخرى: سيؤثر حصول الضربة في بؤر الصراع الأخرى في العالم الإسلامي مثل الشيشان وكشمير والفلبين بطريقة تساهم في تحسن الكفة لصالح الطرف الإسلامي.
الأرجح
المرجح أن يكون المشهد معقدا جدا ومتشابكا لأن المعطيات متوفرة لحصول قلاقل في باكستان وفلسطين وبلاد الحرمين قبل أو بعد ضربة حتمية في أمريكا. ويبدو بعد هذا التعقيد أن الأمور ستكون بعيدة جدا عن سيطرة أمريكا على الموقف لأنها ستعيش أزمة داخلية هائلة لا نظن أنها تستطيع أن تتعافى منها فضلا عن أن تستطيع أن تدير أزمة خارجية.
دروس من تجربة بيان المثقفين
نعلم أن التوجه العام عند الإخوة الآن هو عدم الخوض في بيان المثقفين والخلاف الذي دار حوله، لكن هذه مجموعة من الاستنتاجات والملاحظات جمعت بعد تجربة البيان نحسب أن الأمة بحاجة لأن تتأملها وتتدارسها. ذلك لأن تجربة البيان لم تكن تجربة عادية، ولذا ينبغي مدارسة كل ما يتصل بها إن كان فيه نفع للأمة.
الجدل استقر بين السلفيين
هذا النقاش الذي دار بين من تبنى البيان وبين من انتقده ظهر فيه فريقان هما الذان اهتم الجمهور برأيهما وتعليقهما. أما سواهما فلم يعطه الجمهور اعتبارا رغم أن كلامه وتعليقه على البيان نشر في صحيفة رسمية. هذه الظاهرة ليست مجرد حدثا عابرا بل هي في الحقيقة حصيلة تحول ثقافي كبير في المجتمع الثقافي العربي أدى لأن يستقر النقاش بين تيارين كلاهما محسوب على السلفية. في الخمسينات والستينات الميلادية كان الفكر الإسلامي مهمشا عند المثقفين العرب والنقاش كان كله بين التيارات غير الإسلامية من يسار وقومية وغيرها. في السبعينات تحول النقاش إلى نقاش بين هذه التيارات غير الإسلامية من جهة وبين الإسلاميين من جهة أخرى. في الثمانينات بدأ غير الإسلاميين يخرجون من الساحة الثقافية وكثر النقاش بين مختلف التيارات الإسلامية دون حضور يذكر للتيار السلفي فيها. في التسعينات أخرجت التيارات غير الإسلامية تقريبا من النقاش أو اضطرت لتلطيف خطابها بعبارات تعترف بالدين أو القيم أو التراث حتى تكون مقبولة، وفي المقابل تنامى الخطاب السلفي في الساحة الثقافية العربية بشكل واضح. والآن أثبتت تجربة بيان المثقفين أن الجدل الثقافي الحقيقي هو بين تيارات داخل الخط السلفي ولم يعد هناك قبول لمن يطرح طرحا غير ملطف بخطاب عند جمهور الساحة الثقافية.
جرأة التيار السلفي الجهادي
لم يعد سرا أن التيار الذي انتقد البيان وهو التيار السلفي الجهادي قد شكل خطا معينا منذ أحداث سبتمبر سواء على المستوى البشري بأسماء وشخصيات معينة أو المستوى الفكري بأطروحات ومواقف محددة. لقد برزت مواقف هذا التيار في بيانات وفتاوى وكتب بشكل بارز فيه حرص على أداء واجب البلاغ رغم مخالفة وجهة النظر الرسمية. وتبين من خلال تجربة سبتمبر وأحداث أفغانستان وأحداث فلسطين أن هذا التيار تميز عن بقية المحسوبين على العلماء المستقلين الذين تفاوتت مواقفهم بين السكوت على هذه الأحداث أو إتخاذ مواقف فيها شيء من المغازلة الخفيفة للنظام. وجاءت تجربة بيان المثقفين لتبين الفرق بين التيارين ليس من ناحية المحتوى فحسب بل حتى من ناحية الجرأة في قول الحق.
التكنولوجيا في خدمة "التشدد"
تعتبر المواقف التي خالفت بيان المثقفين مواقف متشددة لا تحبها الدولة ولا تريد أن تعلن وتنشر ومن المعلوم أن التوزيع والنشر فرض فرضا بسبب التطور الكنولوجي. ولو كان حدث بيان المثقفين والردود عليه قد حصل قبل عهد الانترنت لما تمكن الناقدون للبيان من إيصال كلمتهم بنفس هذا التوسع وبمثل هذه السرعة. وفي حين كان موقف الشيخ سفر الحوالي من القوات الأمريكية أيام أزمة الخليج قد استغرق أياما من أجل أن يصل على شكل شريط مسجل لبضعة آلاف من الناس فإن الردود على البيان لم تستغرق دقائق من أجل أن تكون في متناول الملايين في الانترنت. والتكنولوجيا خدمت المد السلفي من جانب آخر هو تسهيل الوصول للنص الشرعي والتعامل معه حتى أصبح شاب في مقتبل العمر بضغط زر يحصل على معلومات كانت حكرا على علماء الحديث إلى عهد قريب. وهكذا صار من المفارقات أن تقنية المعلومات والاتصالات هي التي خدمت تنامي الفكر السلفي وأصبحت تحديات العولمة تحت خدمة مشروع العودة للنص الشرعي وهيمنته على الطرح الفكري الإسلامي.
مجامل أمريكا مخالف للإجماع
كان أقوى مأخذ على من وقع بيان المثقفين بإجماع من تابع الردود عليه هو اتخاذ خط لين مع الأمريكان في الرد على بيانهم الذي يبرر للقتل كرد على أحداث سبتمبر. وكان الجدل المطروح في هذا الرد طاغيا ومفحما بشكل لا يحتاج لدليل، بل إن معاداة أمريكا والتشدد تجاهها واعتبارها عدوا أصبح ثابتا من الثوابت المقطوع بها يستدل به ولا يستدل له. ولذلك لم يكن العوام الذين سمعوا بالبيان بحاجة لأن يتابعوا النقاش الفقهي والعقدي المتعمق بل اكتفوا بأن البيان فيه لين مع أمريكا حتى يقفوا منه موقفا مضادا. ولعل هذا يعكس ما آلت إليه سمعة أمريكا في بلادنا وبلاد المسلمين وكيف أن الموقف من أمريكا أصبح من المسلمات إلى درجة أن الذي لا يراعيها يسقط ثقافيا.
الدولة عاجزة أمام ضخامة الفكرة
ليس سرأ أن الدولة تضايقت من الردود التي صدرت على البيان وتمنت لو منعتها وصادرتها لكن هيهات، فالجو العام مشحون ضد أمريكا بطريقة أعطت غطاء أمنيا طبيعيا لمن يريد أن يتحدث بذلك الاتجاه. ولكن الظريف أن قضية بغض أمريكا تحولت إلى جسر لتمرير مجموعة من الأفكار التي لم يمكن تمريرها لو نشرت لوحدها.
المد الجهادي هو الغالب
بعد المعركة الفكرية التي حصلت داخل دائرة الطرح السلفي لم يمض وقت طويل حتى اضطر كبار الذين وقعوا على البيان لأن يعلنوا توضيحا يؤكدوا فيه التزامهم بنقاط هي في حقيقتها ثوابت الفكر الجهادي. وبغض النظر عن تسمية هذا الإعلان توضيحا أو تراجعا فإن الشخصيات التي أصدرته لم تكن لتصدره لو لم تكن فعلا تشعر أنها بحاجة لأن تنفي عن نفسها تهمة التفريط في قضايا الولاء البراء والموقف من الجهاد. هذا الضغط الهائل الذي اضطر هذه المجموعة لأن تدفع عنها تهمة دليل على أن الذي يتحدث عن قضايا الجهاد بشيء من اللين أو بعبارات يمكن أن يفهم منها تفريط يكون عرضة لأن يصبح في موضع الاتهام.
الأسماء الكبيرة لم تنفع "اللين والانهزامية"
إلى عهد قريب كان وجود بعض الأسماء في وثيقة يكفي لتزكيتها وإعطائها صفة قريبة من العصمة بسبب سمعة هذه الأسماء العلمية وماضيها المعروف. لكن في حالة بيان المثقفين، بدلا من أن ترفع هذه الأسماء قيمة هذا البيان نزل البيان بهذه الأسماء وفتح عليها أبوابا من النقد والتجريح. يبدو أن التحول في الموقف له عدة أسباب منها، أولا تطور وعي الأمة بأن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال، ثانيا غياب الأسماء الواردة في البيان قبل هذا البيان عن دور أهم من طرح حوار مع الأمريكان. وليس سرا أن الجمهور المتطلع المنتظر للمواقف الكبيرة للعلماء أصبح لديه القدرة على التقويم والنظر وليس بتلك الإمعية والعجز الفكري.
رفض فكرة الحكم باسم الأمة
عندما رتبت مسألة التوضيح وصدر بيان التوضيح صدر من الشيخ البراك تقريض على صيغة حسم المسألة ثم وزع تقريض الشيخ البراك كما لو كان إقفالا للقضية. لكن لم يكد يصدر تقريض البراك حتى صدرت الردود على التوضيح دون تقليل من مقام الشيخ البراك ولا اعتراض على تقريضه. وهذا كذلك تطور ونضج مهم في البيئة الثقافية أن ترفض الأمة أن يعطى شخص واحد حق القيام بدور حكم باسم الأمة رغم جلالة قدره وغزارة علمه.
أسماء معينة تجاوزتها المرحلة
بينت تجربة البيان وطريقة تعامل كل فريق معه أن هناك أسماء قد أدت ما عليها في مرحلة معينة مشكورة مأجورة، ولكن تجاوزها الزمن. وإذا وضعت تجربة الانتفاضة وتجربة سبتمبر وبعدها ضرب أفغانستان ثم تجربة البيان وحوادث أخرى داخلية في سياق واحد يتبين أنه ليس من الحكمة أن يتطلع الناس إلى شخصيات معينة لأن تقدم أكثر مما تستطيع. ولذلك لن ينفع ولن يغير من الأمر شيئا تكرار اللوم والتجريح والانتقاد الخشن الذي قام به بعض الكتاب مطالبين بعودة هذه الأسماء للقيام بدور ريادي.
المجتمع مع الطرح الإسلامي
صدر بيان المثقفين بعد أسبوع واحد من بيان آخر صدر عن مجموعة من المثقفين الليبراليين والعلمانيين والشيعة. ومع أن لغة البيان الذي صدر عن الليبراليين كانت أشد على أمريكا من بيان المثقفين الإسلاميين ألا ان كل الاهتمام والجدل انصب على بيان المثقفين ولم يعر أحد البيان الآخر أي اهتمام. حتى الجدل الذي دار من بعد ذلك قبل تيارات مختلفة في بعض الصحف وفي قناة الجزيرة لم يوجه منه حسب علمنا أي اهتمام لبيان الليبراليين. هذا يعني أنه لا يكفي اتخاذ موقف متشدد من أمريكا لأخذ قلوب الناس بل إن الصفة الإسلامية مطلب أهم من ذلك.
الحميد والأمير
سباق في التضليل
بن حميد والأمانة
حين عين الشيخ صالح بن حميد رئيسا لمجلس الشورى استبشر البعض بذلك خيرا على أساس أنه من عائلة كريمة ومن بيئة واعية وكونه مر بتجربة عرف فيها حقيقة الدولة. نعم لم يتوقع الناس من الشيخ أن يحدث تغييرا في المجلس، لأن المجلس هيئة أومؤسسة مشلولة لا تتحرك إلا بتوجيه الحاكم، لكن توقع الناس أن يستغل الشيخ كونه رئيسا للمجلس ليقف مواقف إيجابية يدعم بها مسيرة الإصلاح وإنكار المنكر. وحتى أؤلئك الذين لم يتطلعوا إلى موقف من هذا القبيل استبعدوا تماما أن يكون الشيخ نسخة أخرى من المداحين المسفّين الذين ينافس تعظيمهم للحاكم تعظيمهم لله. لكن حديث الشيخ صالح الأخير في مجلس الشورى والذي نقلته وسائل الإعلام غير كل هذه الانطباعات بشكل محزن ومشين.
لم يكتف الشيخ -سامحه الله- بالتقصير عن قول الحق والسكوت، ولم يكتف بترداد عبارات المجاملات التي فيها مدح مجرد للحاكم، بل وردت على لسانه عبارات يعلم الشيخ يقينا أنه يغالط فيها ويضلل الأمة. ولسنا بحاجة هنا لننقل كل خطبة الشيخ ويكفينا بعض عباراته للتدليل على ما ذكرنا.
يصف الشيخ مؤسسات الدولة في سياق ثناءه على سلفه الشيخ بن جبير رحمه الله بأنها " منظومة منسجمة متكاملة مع الأجهزة الحكومية ومؤسسات البلاد لإقامة شرع الله الحنيف". هل يعتقد الشيخ فعلا إن اجهزة الدولة منظومة متكاملة لإقامة شرع الله الحنيف؟
وفي وصف مجلس الشورى قال الشيخ الحميد "ونال بكل اعتزاز ثقة القيادة وارتياح المواطن وتفاعل المجتمع". نعم لا إشكال أن ينال المجلس ثقة القيادة لأن القيادة هي التي اختارت رئيسه وأعضائه، لكن هل يعتقد الشيخ الحميد أن المجلس نال ارتياح المواطن وتفاعل المجتمع؟
لكن الشيخ فاجأنا مثل كل الصحفيين والمداحين بابتهاجه بعشريينة الملك فهد بقوله "وفي هذه المناسبة السنوية العزيزة لا يمكن أن لا تذكر مناسبة كبرى ووقفة في مسيرة هذه البلاد متميزة تلكم هي مناسبة مرور عشرين عاما على تولي خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وألبسه لباس الصحة والعافية مقاليد الحكم وقيادة هذه البلاد انها مسيرة مليئة بالعطاء والإنجاز من إضاءاتها حمله حفظه الله للقب خادم الحرمين الشريفين". ولم يفت الشيخ أن يصف هذه العشرين عاما بأنها "مسيرة رائدة في انجازاتها على الاصعدة كافة الداخلية والخارجية والاقليمية والدولية انها تجسد بعد النظر ونهج الحكمة والشجاعة في اتخاذ القرار ولا سيما في ادارة الازمات". أمانة أمام الله، هل يعتقد الشيخ فعلا بأن الملك فهد يجسّد بعد النظر والحكمة والشجاعة؟ والله إن كان يعتقد ذلك فعلا فلا ندري نشك بعقلنا أم بعقل الشيخ؟
لكن الشيخ يقع في كارثة أكبر حين يعلن من منصة رئاسة مجلس الشورى مباركته وتأييده لمبادرة الأمير عبد الله التي أعلن فيها بيعه لأربع أخماس فلسطين والترحيب باليهود المحتلين سفراء وسواحا وتجارا في بلاد الحرمين. قال الشيخ في مطلع كلامه "كما دون التاريخ أن المملكة كانت ومازالت في مقدمة الدول الراعية لقضية فلسطين والداعمة لها ماديا ومعنويا". ثم أكمل في نهاية كلامه "وما مبادرة سموكم الكريم وهي المبادرة التي تبنتها القمة العربية وأصبحت مبادرة عربية الا حلقة في سلسلة جهود المملكة وتفاعلها الدائم مع هذه القضية". الشيخ يقع في كارثتين أحدها أشد وأنكى من الأخرى. أولا يعلم الشيخ يقينا أن مبادرة الأمير عبد الله خيانة وجريمة في حق الدين والأمة وأن الذي يريد أن يعطيها وجها شرعيا مفتئت على الله ورسوله وشريك في الخيانة والتلاعب بالدين. ثانيا يتكلم الشيخ وهو رئيس مجلس الشورى مباركا عملا قام به الأمير مع أنه لم يخبر المجلس به مجرد إخبار فضلا عن أن يشاورهم. أولم يخجل الشيخ وهو يبارك هذه المبادرة من أن الصهيوني توماس فريدمان علم عن هذه المبادرة قبل مجلس الشورى وقبل الشيخ نفسه؟ إلى أي درجة وصلت مهانة الكرامة عند شيخ درس العلوم الشرعية وهو سليل أسرة علم وفضل واعتلى منبر المسجد الحرام وعين رئيسا للشورى أن يبارك قرارا تجسّد فيه إهانة الحاكم له واحتقاره إلى درجة أن يخبر الصحفي الصهيوني عن القرار قبله؟ والله كبيرة كبيرة عليك يا شيخ بن حميد.
وحين يستعرض الشيخ إنجازات مجلس الشورى يسهب في ذكر عدد الجلسات وعدد اللجان ويتبين في نهاية المطاف أن إنجازات المجلس كلها في حدود الرهن التجاري والسوق المالية وبنك التسليف. أما السياسة الأمنية والدفاعية والسياسة المالية والسياسة الخارجية التي من ضمنها مبادرة عبد الله فعلى الشيخ الحميد أن يبارك ويؤيد ويثني حتى لو كان القرار تجسيدا لإهانته واحتقاره.
الخطاب البرلماني الملكي
الذي يسمع بحكاية الخطاب الملكي السنوي يظن أن الحكومة ستعرض برنامجها السنوي في كل الشؤون وأولها الوضع السياسي ثم الاقتصادي ثم الدفاعي ثم الأمني وبعد ذلك تأتي الأوضاع الأخرى. تحدث الأمير عبد الله فجاء ثلثي خطابه ثناء على الذات ومدحا لإنجازات الدولة المزعومة ومجاملات لمجلس الشورى وتعزية للشيخ الجبير.
واعتبر الأمير عبد الله أن لتجربة المملكة في الشورى "دور رئيس في تأصيل فقه الشورى، وتقديمه للعالم اسهاما من المملكة في اثراء التراث البشري في فلسفة الحكم وأنظمته". لقد هزلت إن كانت الشورى السعودية إثراء للتراث البشري. واعتبر الأمير عبد الله أن إنشاء مجلس الشورى دليل على "قدرة هذا الدين على التعامل ايجابا مع متغيرات الزمان، واستيعاب معطيات الحضارة، والتفاعل معهما تفاعلاً بناء وواعيا بتجاوز السلبيات إن لم يصححها، وبأخذ الايجابيات والبناء عليها، وهذا هو الحوار الحضاري المثمر الذي لا بديل عنه". يعني أن المجلس لم ينشأ إلا للتعامل مع متغيرات الزمن واستيعاب معطيات الحضارة، ولذلك فالشورى حسب هذه الكلام جديدة فرضتها متيغرات الزمن!!
أما الحديث عما يفترض أنه برنامج الحكومة فلربما يستطيع أي متابع للإعلام السعودي أن يتوقع ما قرأه ولي العهد. وسيكون استعراض كلمة الأمير عبد الله والتعليق على تفاصيلها مضيعة للوقت وهي تكرار لما يسمعه المرء من وسائل الإعلام من اسطوانة معروفة. لكن عبارة ظريفة تستحق أن تورد هنا هي قوله "وإن ما تحقق من انجازات ارتكز في مجمله على الحفاظ على العقيدة الإسلامية وتطبيق شريعة الله، وترسيخ مبادئها ونشرها والدفاع عنها وعن الوطن".
المهم أن وكالة الأنباء السعودية أشارت إلى أن حديث الأمير عبد الله مع أعضاء مجلس الشورى اتسم بأربع صفات هي: الصدق، الصراحة، الوضوح، الشمولية.
نشرة الإصلاح العدد 317 بتاريخ 3 يونيو 2002
مستقبل المعركة بين بن لادن وأمريكا
دروس من تجربة بيان المثقفين
الحميد والأمير سباق في التضليل
مستقبل المعركة بين بن لادن وأمريكا
تهديدات واستعدادات
بعد الحملة الأمريكية الشاملة ضد بن لادن والقاعدة والطالبان تكررت في الفترة الأخيرة تحذيرات الحكومة الأمريكية من ضربة جديدة تنفذها القاعدة داخل أمريكا في الوقت الذي يزال الحديث مستمرا عن تنسيق الجهود العالمية ضد الإرهاب. هل تعتبر هذه التصريحات الأمريكية والحملة السياسية والإعلامية والأمنية مسألة مفتعلة لتحقيق غرض معين، أو هي حقيقة تعكس حالة المعركة بين بن لادن وأمريكا؟
كيف نفهم طبعية المعركة
يغلب على كثير ممن يرصد طبيعة المعركة بين بن لادن وأمريكا وضعها في سياق التوازنات العسكرية القابلة للقياس، ولذلك يقعون في الاستنتاج الساذج أن أمريكا عملاق عسكري سياسي اقتصادي أمني مقابل بضعة مقاتلين في جبال أفغانستان لن يلبثوا أن ينقرضوا. الظريف أن الأمريكان أنفسهم ينظرون للمعركة بهذا المنظار، ولذلك تعاملوا معها تعامل التجييش العسكري والسياسي والاقتصادي والأمني وشنوا حملة عسكرية هائلة من أجلها. ولو كان هذا القياس صحيحا لكانت أمريكا قد حسمت أمر بن لادن بعد أن ردت على حوادث تفجير سفاراتها في كينيا وتنزانيا. والكل يعلم أن أمريكا لم تأل جهدا في تسخير جهازها العسكري والسياسي والأمني في القضاء على بن لادن من جهة وفي حماية نفسها من جهة أخرى، ومع ذلك فقد كانت حصيلة هذا الجهد الأمريكي الهائل بعد حوادث كينيا وتنزانيا هو أن تُضرب أمريكا في عقر دارها ضربة هائلة لا تساوي أمامها ضربة كينيا وتنزانيا شيئا.
الحرب غير المتوازية "بالياء"
هذا النوع من أنواع المواجهة يسمى في علوم الاستراتيجية الحديثة بـالحرب غير المتوازية "بالياء" تمييزا لها عن "الحرب غير المتوازنة "بالنون". ويقصد بالحرب غير المتوازية أن يستخدم الخصم وسائل وأساليب يستحيل على المدافع عن نفسه أن يستخدمها أو يتعرف عليها أو يتفاداها. وقد أشار إلى هذا النوع من المواجهة تقرير استراتيجي شامل سلم للرئيس الأمريكي كلينتون قبل مغادرته البيت الأبيض. قال التقرير إن أمريكا قد هيمنت على العالم ولم يعد هناك من يستطيع أن يجابهها عسكريا ولا اقتصاديا ولا سياسيا ولا استخباراتيا وإن الخصم الوحيد الذي يمكن أن يؤذي أمريكا هو من يستخدم أساليب الحرب غير المتوازية. واعتبر التقرير من يستخدم هذا النوع من المواجهة خطرا هائلا على أمريكا إلى درجة أنه يمكن أن يتسبب في خلخلة داخلية في أمريكا إن لم تحسن التعامل معه. وتنبأ التقرير بأن تبدأ علامات هزيمة أمريكية إن نجح خصم أمريكا في امتصاص الرد الامريكي على هجوم من قبله وتمكن من توجيه اكثر من ضربة لأمريكا.
مثال بن لادن
لا يمثل الشيخ بن لادن وتنظيم القاعدة دولة بجيش ولا طائرات وأساطيل ومدرعات ودبابات، كما لا يمثل حزبا أو تنظيميا مسلحا تقليديا يعمل من خلال التوازنات السياسية العالمية مستفيدا من تدافع القوى العظمى مثلما فعلت القوى الشيوعية في الهند الصينية وأمريكا الجنوبية. ولو كان تنظيم بن لادن بمثل هذا المستوى لأصبح الآن في حكم المنسي تاريخيا مع هذا النفوذ الهائل لأمريكا وتعاون دول العالم كله معها. توجد في ظاهرة تنظيم بن لادن عدة مزايا وصفات تجعله النموذج لخصم في حرب غير متوازية مع أمريكا بل نموذجا أمثلا في تحقيق نبوءة هذه الدراسة الاستراتيجية للأسباب التالية:
أولا: التنظيم ليس تكوينا نشازا متكلفا مصنوعا بدعم جهات سياسية نفعية بل هو إفراز طبيعي لحالة الاحتقان والغضب في العالم الإسلامي وطبعية الدين الإسلامي التي تدعو للاستعلاء والدفاع عن الإسلام. ولا يستطيع أحد أن يزعم أن هذا التنظيم صنيعة أحد إلا الجاهل أو العاجز عن تصور وجود عمل مستقل عن دعم سياسي خارجي.
ثانيا: التنظيم ليس جماعة معزولة مرفوضة من المجتمعات رافضة لها، بل إن مشروع بن لادن يقف على منصة قوية من المشاعر الاجتماعية المبتهجة بهذا المشروع والمفتخرة به والمسرورة بأعماله السابقة والمتطلعة لأعماله اللاحقة. هذه المنصة الاجتماعية توفر للتنظيم حاضنا طبيعيا يوفر عليه تكتيكات وأساليب مكلفة دون هذا الاحتضان.
ثالثا: التنظيم ليس مجرد كيان كلاسيكي متطور في وسائل السرية والانضباط كما هي حال التنظيمات الناجحة في العالم، بل هو أقرب إلى مفهوم مدرسة تخرج الآلاف من المؤمنين بالمشروع الجهادي وتبثهم في المجتمعات وتستفيد منهم بطريقة تتناسب مع توجهات المجتمع المسلم من جهة ومع واقع العالم الغربي من جهة أخرى، مما يعطيهم مضلة طبيعية تحميهم أمنيا واجتماعيا.
رابعا: يؤمن التنظيم بأن التخطيط يجب أن يكون على أساس استراتيجي فيه فهم للذات والبيئة والخصم والهدف. ولم يعد سرا أن التنظيم قد حدد هدفا هو تدمير أو إضعاف أو تفكيك أمريكا. ولا يعتبر التنظيم هذا المطلب مسألة خيالية رغم قوة الخصم الهائلة والقصور الكبير في قدرات الذات. وينفذ التنظيم من أجل حل هذه الإشكالية حيلة معقدة هي تحويل قوة وقدرات الخصم ضده ويبني معظم الاستراتيجية على ذلك.
خامسا: استفاد ويستفيد التنظيم من إشكال أساسي في المجتمع الأمريكي هو كثرة الثغرات البنيوية بسبب طبيعته المنفتحة التي جعلته خصما مكشوفا لمن أراد أن يحسن استغلالها ضده. هذه الثغرات لا يمكن إقفالها إلا أذا تحول الكيان الأمريكي لكيان عسكري مغلق بدين واحد وجنس واحد وهو امر مستحيل. وقد أشار رئيس السي آي إي في استجوابه من قبل الكونجرس إنه لا يمكن ضمان أمن المجتمع بزيادة الحصار على الحريات المدنية إلا بالوصول إلى حالة مجتمع لا يستحق الدفاع عنه.
سادسا: استفاد ويستفيد التنظيم من طبيعة النفسية الامريكية حين تُستفز في هويتها وتتصرف على شكل رد الفعل الانتقامي (الكاوبوي) بدلا من أن تتمهل وتدرس القضية قبل أن تستجيب. ونجح التنظيم في استدراج الماكنة الأمريكية الهائلة لتخدمه كشركة علاقات عامة بعد ضربات كينيا وتنزانيا، كما نجح في استدراجها بعد ضربات سبتمبر لأجل أن تبدو كما لو كانت تحارب الإسلام ومن ثم يُجيّش العالم الإسلامي كله ضد أمريكا.
سابعا: يعتمد التنظيم على التربية الإسلامية الجهادية التي تجمع بين الانضباط والطاعة للقيادة والثقة المطلقة بتوفيق الله والاستعداد الكامل للموت في سبيل الله والصبر وطول النفس. ولعل هذه الصفات في أفراد التنظيم والتي يصعب على الأمريكان إدراكها كان ركنا رئيسيا في تحول تنظيم بن لادن لخصم حقيقي لأمريكا في هذه الحرب غير المتوازية.
ثامنا: يعتمد التنظيم مبدأ المبادرة والفعل بدلا من رد الفعل، ويعد الخطوة التالية قبل أن ينهي الخطوة الحالية، ولا يقبل التنظيم بأن يستجر إلى رد فعل على هجوم يتعرض له يربك خطته. ولذلك لم يكترث التنظيم بالضربات التي وجهت لأفغانستان بعد حوادث كينيا وتنزانيا ولم يتحمس كثيرا للرد على الضربات الأخيرة لأن الخطوة التالية معدة سلفا ويجب أن تنفذ في وقتها.
تاسعا: يؤمن التنظيم بالاستفادة من أي فرصة سياسية أو أمنية توفرها الصراعات أو المشاكل العالمية، ويرى سرعة التصرف لاغتنامها دون التفريط بما يعتبره التزامات دينية. ومن خلال ذلك يقال إن التنظيم حصل على أجهزة وأسلحة متطورة مستغلا الفوضى التي تبعت سقوط الاتحاد السوفيتي.
عاشراً: يؤمن التنظيم بترك ما يعتبره جائزا أو مشروعا إن كانت جماهير المسلمين لا تستوعبه مثل مواجهة الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين خوفا من أن يتهم التنظيم بأنه يدفع لحروب أهلية ويؤدي ذلك لانفضاض الناس عن التنظيم. في المقابل يؤمن التنظيم أن كل هذه الأنظمة تابعة لأمريكا وستتهاوى مباشرة إذا انهزمت أمريكا وبذلك يمكن مواجهتها في ظرف أفضل.
المشهد السابق
سردنا سابقا باستفاضة تسلسل الأحداث المرتبطة بالمواجهة بين بن لادن وأمريكا مقرونة باستراتيجية بن لادن. ومع أن ذكرها هنا مهم ومفيد ألا أننا نستغني عن التكرار ويكفي من أراد الإطلاع عليها الذهاب لهذا الرابط.
http://www.islah.info:3303/monitors/m294-c.htm
المشهد الحالي .. الشكل الظاهري
حين نتجاهل حقيقة الحرب غير المتوازية ومزايا تنظيم بن لادن نجد أنفسنا أمام أمريكا وقد انتصرت انتصارا باهرا وقضت على دولة الطالبان وقتلت من قتلت من القاعدة ورمت البقية في أقفاص جوانتانامو. بل إن أمريكا أثبتت أنها قائدة متحكمة بالعالم حين أجبرت كل الدول للتسابق في إرضائها وخدمتها بدءا بالقوى الكبرى مثل الصين وروسيا وانتهاء بالدول ذات العلاقة التي جعلت إمكاناتها تحت تصرف أميركا مثل باكستان والسعودية. أما بن لادن نفسه فقد اختفى واختفت القيادات معه ولا يعرف إن كان حيا أو ميتا. على المستوى السياسي والامني تمكنت أمريكا من تشكيل تحالف عالمي من كل دول العالم يستحيل معه لأي شخص من تنظيم القاعدة أن يكون في مأمن من الاعتقال الأمريكي. على مستوى أمريكا اتخذت الخطوات الأمنية والقانونية اللازمة لاعتقال كل مشتبه به وإغلاق الفرص أمام من يفكر بتنفيذ عمليات أخرى. وأما التهديدات المتكررة التي تشير لها الحكومة الأمريكية فليست إلا غطاءا سياسيا لتبرير هذه الحملة الأمنية وكذلك استباقا وحماية سياسية فيما لو حصلت حوادث فعلا. واندفعت أمريكا في حربها للإرهاب لدرجة أن باركت ما يقوم به شارون بحجة أن حملته حرب ضد الإرهاب. هذا المشهد تنظر من خلاله الحكومات والنخب المتسلطة ولذلك ازداد تعظيمها وتقديسها لأمريكا وتسابقها لإرضائها وخاصة حكام المملكة.
المشهد الحالي .. الشكل الحقيقي
بمقاييس الحرب غير المتوازية نحن أمام حقائق يتم التغاضي عنها وأمام استنتاجات منطقية يتم التحايل عليها، منها:
أولا: الشيخ بن لادن والشيخ أيمن الظواهري والملا عمر كلهم على قيد الحياة، والجزء الأكبر والمهم من تنظيم القاعدة لا يزال سليما، والأمريكان على علم بذلك ولا يريدون أن يعلنوه حتى لا تعتبر حملتهم عديمة الجدوى. والجدير بالذكر إن معظم المعتقلين في جوانتانامو هم إما من موظفي الإغاثة أو من العرب في باكستان وأفغانستان ممن ليس لهم علاقة بالقاعدة أو من الذين انضموا للجهاد بعد سبتمبر.
ثانيا: هناك قناعة تامة ومعلومات أكيدة عند الامريكان عن ضربة هائلة قادمة لأمريكا (أو أكثر من ضربة) لكنهم لا يعرفون متى وكيف وأين. ويعلم الأمريكان كذلك أن جهودهم العكسرية والأمنية والسياسية لم تصل لحد الآن لإيقاف هذه الضربة ولم يصلوا إلى مجرد طرف خيط يؤدي إلى منعها. ولذلك أصبح الإعلان عن هذه الضربة دون معرفة متى وأين وكيف هو أفضل تحقيق لقَسَم بن لادن في أن لا تتمتع أمريكا بالأمن حتى يعيشه الفلسطينيون.
ثالثا: انبهر الأمريكان بكمية الغموض الذي يكتنف حقيقة القاعدة والطالبان بعد حملتهم في أفغانستان. ورغم الكمية الهائلة للمعلومات التي حصلوا عليها من أوراق ووثائق وأجهزة كمبيوتر وتعاون باكستاني وأفغاني وسعودي فلم يصل الأمريكان لحد الآن لحل لغز طريقة عمل القاعدة والتعرف على طريقة تفكيرها وتركيبتها التنظيمية. ويعترف الأمريكان حاليا بأن كمية المعلومات التي لديهم يربك أكثر مما ينفع في إعطاء تصور واضح عن القاعدة.
رابعا: لم تسفر الحملة الأمنية والقانونية في أمريكا نفسها والاعتقالات التي طالت آلاف الإسلاميين عن التعرف على أي معلومة ذي بال أو أن تجرّم أحدا من المعتقلين جريمة لها علاقة بالقاعدة سوى شخص واحد علقت عليه التهمة بشكل متكلف.
خامسا: بلغ الغضب الإسلامي على أمريكا بعد الحملة على أفغانستان ثم تأييد أمريكا لشارون في جرائمه في فلسطين مبلغا هائلا تجاوز بكثير ما يطمح إليه بن لادن من مجرد تجييش المسلمين عاطفيا ضد أمريكا. ولوحظ الآن بين بعض الأوساط التي كانت تتحفظ على حادث سبتمبر أنها تتمنى حصول حادث مثله وتستبطئ الضربة المتوقعة.
المشهد ا لمستقبلي ... معطيات
بعد تأمل الحقائق أعلاه لا يجد المرء صعوبة في اعتبار الضربة القادمة لأمريكا أمرا حتميا، لكن السؤال المهم قد يكون أعقد من مجرد متى هذه الضربة وكيف وأين؟ السؤال هو، ما دام تنظيم القاعدة قد دخل في المواجهة الساخنة بحرب مستمرة مع الأمريكان فهل سيستمر على طريقة المواجهة بالضربات لأمريكا فقط أو إنه أعد العدة لعمل متعدد الأطراف في أكثر من مكان من العالم مستفيدا من سقوط هيبة أمريكا؟ يقول بعض من تابعوا وضع القاعدة قبل سبتمبر أن القاعدة والطالبان قد استعدوا لسقوط الطالبان قبل مدة ورتبوا الإجراءات التي تبقي الجزء المهم من القاعدة والطالبان سليما إلى أن تحصل الضربة القادمة. ويزعم هؤلاء إن القاعدة قد استعدت للضربة التالية في أمريكا منذ زمن، لكن التوقيت مقصود أن يتأخر قليلا بعد أن يقتنع الأمريكان تماما أنهم قد حققوا النصر وأنهوا مهمتهم حتى يكون مفعول الضربة أقوى ما يمكن نفسيا وسياسيا. ويزعم هؤلاء أن تنظيم القاعدة قد رتب أعمالا أخرى في أماكن أخرى وأن العمليات التي جرت في الهند حديثا ربما تكون من بينها وأنها مقصودة لإجبار الجيش الباكستاني على تحويل الجيش للهند ومن ثم كشف جبهة أفغانستان وترك الأمريكان في مواجهة الطالبان والقاعدة من جديد.
المشهد المستقبلي ... سينايوهات
مع وضع هذه المعطيات في الحسبان يستطيع المرء أن يخرج بالاستنتاجات التالية عن السناريوهات المتوقعة للمستقبل بخصوص المعركة بين بن لادن وأميركا:
السيناريو الأول: هو ضربة كبيرة في أمريكا لكن ليس فيها سلاح دمار شامل ولا آثار بعيدة المدى. وإذا تمت هذه الضربة فعلا فلربما تصدق نبوءة التقرير الاستراتيجي الذي أشرنا إليه آنفا من أنها ستؤدي لخلخلة كبيرة في أمريكا. السبب هو أن الضربة ستكون إعلانا مدويا ومؤلما بهزيمة منكرة للحملة الأمريكية ضد "الإرهاب". هذا الإعلان بالهزيمة لن يكون هزيمة لحكومة دكتاتورية متسلطة مثلما حصل في الاتحاد السوفياتي حين تورط في أفغانستان بل ستكون هزيمة للشعب الأمريكي كله الذي انتخب حكومته وبارك حملتها في أفغانستان بأغلبية مطلقة. سيصنع هذا الشعور بالهزيمة عدة تداعيات أولها الشعور بالإحباط عند الشعب الأمريكي وقناعته بالعجز عن حماية نفسه. حينها سيكون الأمريكان مشتتين، فريق يستمر يفكر بعقلية الكاوبوي ويريد أن يزيد من رد الفعل مستخدما أسلحة دمار شامل، وفريق يطالب بإلغاء هذه السياسة بالكامل والموافقة على مراجعة السياسة الخارجية الأمريكية بخصوص المسلمين، وفريق يرى التشدد الأمني حتى لو أدى ذلك لإلغاء كل الحقوق المدنية. وعلى الأرجح سيهزم الفريق الذي يطالب بالانتقام لأن الأهداف استنفذت ولم يبق قاعدة ولا طالبان لأن تضرب. ولعل هذا الخلاف وما يصاحبه من إحباط كبير سيكون بذرة لتفكك أمريكا أو لانهيار انتاجها.
السيناريو الثاني: أن تكون للضربة آثار أكثر من مجرد تدمير وقتل لعدد من الأمريكان، مثل لو صح احتمال السلاح النووي أو ما يسمى بالقنبلة القذرة التي تنشر كمية هائلة من المواد المشعة على مساحات شاسعة. هذا النوع من الحدث يؤدي لتعطيل العمل في مدينة كاملة، فلو حصل هذا الحادث في مدينة حساسة اقتصاديا مثل نيويورك أو لوس أنجليس فلربما ينهار الاقتصاد الأمريكي ويتشرد الملايين من سكان مدينة كبرى. وإذا صاحب هذا التشريد الإحباط الذي ذكرناه سابقا والخلاف حول ما يجب عمله تجاه الضربة فسيكون تراكما لانهيار اقتصادي واجتماعي ولا يستبعد أن يتبعه تفكك سياسي.
السيناريو الثالث: أن تكون الضربة مصحوبة أو متبوعة بعمليات أخرى في العالم ضد أنظمة أخرى ويكون التوقيت مقصودا سواء من جهة كون الأمريكان منشغلين بأزمتهم الداخلية أو من جهة انهيار هيبة الأنظمة بسبب انهيار هيبة سيدها. ويصعب تصور أمريكا تستطيع أن تدير أزمات هائلة وهي تعيش تحت وطأة ضربة من جنس من ضربة سبتمبر أو أقوى. أما الانظمة الأخرى فرغم أنها لا تعتمد على أمريكا في أمنها السياسي الداخلي ألا أن سقوط هيبة أمريكا واستعداد الشعوب للتحرك وتغير الولاءات داخل الأجهزة الأمنية ستساهم بشكل كبير في إضعافها إو إسقاطها.
السيناريو الرابع: أن تحصل حوادث كبيرة في أجزاء حساسة من العالم -سواء بتخطيط القاعدة أو دون تخطيطها- قبل ضربة أمريكا مثل اندلاع الحرب بين باكستان والهند ومثل وفاة الملك فهد ونشوب خلاف بين آل سعود أو مثل انهيار سلطة عرفات في فلسطين. هذه الحوادث لوحدها ستربك أمريكا وستجعلها مشلولة في التعامل معها فكيف لو انشغلت أمريكا بعدها بضربة داخلية؟
السيناريو الخامس: أن ينجح الأمريكان في منع الضربة القادمة وربما يعثروا على بن لادن والظواهري والملا عمر. هذا الاحتمال سيحمي أمريكا من الضربة لكنه لن يحميها من تداعيات هائلة تأتيها بسبب التجييش الذي تكون في العالم الإسلامي ضدها. ويصر الذين يزعمون أنهم على معرفة بخفايا القاعدة أن تنظيم القاعدة قد وضع بدائل للعملية لو تم كشفها.
المشهد المستقبلي .. تداعيات أخرى
أوربا: أذا حصلت ضربة أخرى فلا شك أن التوازنات العالمية ستتغير بشكل كبير. سوف تقتنع أوربا أنها لا يمكن أن تجاري أمريكا إلى الأبد وعليها أن تغازل العالم الإسلامي حتى لا يأتيها نصيبها من الدمار. يجب أن نعلم أن هذه الدول ترسم مستقبلها بناء على المصالح وليس بناء على قيم ومباديء تضحي من أجلها.
المجتمعات الإسلامية: إذا حصلت ضربة أخرى فلن يكون هناك شك هذه المرة أنها من تنظيم بن لادن مقارنة بالشك بعد 11 سبتمبر. وبعد حالة الاحتقان والغضب الهائل ضد أمريكا عند المسلمين فستشكل هذه الحادثة شعورا بأن المواجهة التاريخية مع أمريكا قد حسمت لصالح الإسلام وأن الدمار حل بأمريكا رغم أن الذي يحاربها أشخاص مطاردون محاصرون. وبغض النظر عن الموقف الشرعي والقيمي من الحادث فإن آثاره ستكون شحنا لحقنة هائلة مفاجئة من الثقة في نفوس المسلمين وحشدا جديدا لهم في عمل استقطابي ضد أعداء المسلمين في كل مكان.
بؤر الصراع الأخرى: سيؤثر حصول الضربة في بؤر الصراع الأخرى في العالم الإسلامي مثل الشيشان وكشمير والفلبين بطريقة تساهم في تحسن الكفة لصالح الطرف الإسلامي.
الأرجح
المرجح أن يكون المشهد معقدا جدا ومتشابكا لأن المعطيات متوفرة لحصول قلاقل في باكستان وفلسطين وبلاد الحرمين قبل أو بعد ضربة حتمية في أمريكا. ويبدو بعد هذا التعقيد أن الأمور ستكون بعيدة جدا عن سيطرة أمريكا على الموقف لأنها ستعيش أزمة داخلية هائلة لا نظن أنها تستطيع أن تتعافى منها فضلا عن أن تستطيع أن تدير أزمة خارجية.
دروس من تجربة بيان المثقفين
نعلم أن التوجه العام عند الإخوة الآن هو عدم الخوض في بيان المثقفين والخلاف الذي دار حوله، لكن هذه مجموعة من الاستنتاجات والملاحظات جمعت بعد تجربة البيان نحسب أن الأمة بحاجة لأن تتأملها وتتدارسها. ذلك لأن تجربة البيان لم تكن تجربة عادية، ولذا ينبغي مدارسة كل ما يتصل بها إن كان فيه نفع للأمة.
الجدل استقر بين السلفيين
هذا النقاش الذي دار بين من تبنى البيان وبين من انتقده ظهر فيه فريقان هما الذان اهتم الجمهور برأيهما وتعليقهما. أما سواهما فلم يعطه الجمهور اعتبارا رغم أن كلامه وتعليقه على البيان نشر في صحيفة رسمية. هذه الظاهرة ليست مجرد حدثا عابرا بل هي في الحقيقة حصيلة تحول ثقافي كبير في المجتمع الثقافي العربي أدى لأن يستقر النقاش بين تيارين كلاهما محسوب على السلفية. في الخمسينات والستينات الميلادية كان الفكر الإسلامي مهمشا عند المثقفين العرب والنقاش كان كله بين التيارات غير الإسلامية من يسار وقومية وغيرها. في السبعينات تحول النقاش إلى نقاش بين هذه التيارات غير الإسلامية من جهة وبين الإسلاميين من جهة أخرى. في الثمانينات بدأ غير الإسلاميين يخرجون من الساحة الثقافية وكثر النقاش بين مختلف التيارات الإسلامية دون حضور يذكر للتيار السلفي فيها. في التسعينات أخرجت التيارات غير الإسلامية تقريبا من النقاش أو اضطرت لتلطيف خطابها بعبارات تعترف بالدين أو القيم أو التراث حتى تكون مقبولة، وفي المقابل تنامى الخطاب السلفي في الساحة الثقافية العربية بشكل واضح. والآن أثبتت تجربة بيان المثقفين أن الجدل الثقافي الحقيقي هو بين تيارات داخل الخط السلفي ولم يعد هناك قبول لمن يطرح طرحا غير ملطف بخطاب عند جمهور الساحة الثقافية.
جرأة التيار السلفي الجهادي
لم يعد سرا أن التيار الذي انتقد البيان وهو التيار السلفي الجهادي قد شكل خطا معينا منذ أحداث سبتمبر سواء على المستوى البشري بأسماء وشخصيات معينة أو المستوى الفكري بأطروحات ومواقف محددة. لقد برزت مواقف هذا التيار في بيانات وفتاوى وكتب بشكل بارز فيه حرص على أداء واجب البلاغ رغم مخالفة وجهة النظر الرسمية. وتبين من خلال تجربة سبتمبر وأحداث أفغانستان وأحداث فلسطين أن هذا التيار تميز عن بقية المحسوبين على العلماء المستقلين الذين تفاوتت مواقفهم بين السكوت على هذه الأحداث أو إتخاذ مواقف فيها شيء من المغازلة الخفيفة للنظام. وجاءت تجربة بيان المثقفين لتبين الفرق بين التيارين ليس من ناحية المحتوى فحسب بل حتى من ناحية الجرأة في قول الحق.
التكنولوجيا في خدمة "التشدد"
تعتبر المواقف التي خالفت بيان المثقفين مواقف متشددة لا تحبها الدولة ولا تريد أن تعلن وتنشر ومن المعلوم أن التوزيع والنشر فرض فرضا بسبب التطور الكنولوجي. ولو كان حدث بيان المثقفين والردود عليه قد حصل قبل عهد الانترنت لما تمكن الناقدون للبيان من إيصال كلمتهم بنفس هذا التوسع وبمثل هذه السرعة. وفي حين كان موقف الشيخ سفر الحوالي من القوات الأمريكية أيام أزمة الخليج قد استغرق أياما من أجل أن يصل على شكل شريط مسجل لبضعة آلاف من الناس فإن الردود على البيان لم تستغرق دقائق من أجل أن تكون في متناول الملايين في الانترنت. والتكنولوجيا خدمت المد السلفي من جانب آخر هو تسهيل الوصول للنص الشرعي والتعامل معه حتى أصبح شاب في مقتبل العمر بضغط زر يحصل على معلومات كانت حكرا على علماء الحديث إلى عهد قريب. وهكذا صار من المفارقات أن تقنية المعلومات والاتصالات هي التي خدمت تنامي الفكر السلفي وأصبحت تحديات العولمة تحت خدمة مشروع العودة للنص الشرعي وهيمنته على الطرح الفكري الإسلامي.
مجامل أمريكا مخالف للإجماع
كان أقوى مأخذ على من وقع بيان المثقفين بإجماع من تابع الردود عليه هو اتخاذ خط لين مع الأمريكان في الرد على بيانهم الذي يبرر للقتل كرد على أحداث سبتمبر. وكان الجدل المطروح في هذا الرد طاغيا ومفحما بشكل لا يحتاج لدليل، بل إن معاداة أمريكا والتشدد تجاهها واعتبارها عدوا أصبح ثابتا من الثوابت المقطوع بها يستدل به ولا يستدل له. ولذلك لم يكن العوام الذين سمعوا بالبيان بحاجة لأن يتابعوا النقاش الفقهي والعقدي المتعمق بل اكتفوا بأن البيان فيه لين مع أمريكا حتى يقفوا منه موقفا مضادا. ولعل هذا يعكس ما آلت إليه سمعة أمريكا في بلادنا وبلاد المسلمين وكيف أن الموقف من أمريكا أصبح من المسلمات إلى درجة أن الذي لا يراعيها يسقط ثقافيا.
الدولة عاجزة أمام ضخامة الفكرة
ليس سرأ أن الدولة تضايقت من الردود التي صدرت على البيان وتمنت لو منعتها وصادرتها لكن هيهات، فالجو العام مشحون ضد أمريكا بطريقة أعطت غطاء أمنيا طبيعيا لمن يريد أن يتحدث بذلك الاتجاه. ولكن الظريف أن قضية بغض أمريكا تحولت إلى جسر لتمرير مجموعة من الأفكار التي لم يمكن تمريرها لو نشرت لوحدها.
المد الجهادي هو الغالب
بعد المعركة الفكرية التي حصلت داخل دائرة الطرح السلفي لم يمض وقت طويل حتى اضطر كبار الذين وقعوا على البيان لأن يعلنوا توضيحا يؤكدوا فيه التزامهم بنقاط هي في حقيقتها ثوابت الفكر الجهادي. وبغض النظر عن تسمية هذا الإعلان توضيحا أو تراجعا فإن الشخصيات التي أصدرته لم تكن لتصدره لو لم تكن فعلا تشعر أنها بحاجة لأن تنفي عن نفسها تهمة التفريط في قضايا الولاء البراء والموقف من الجهاد. هذا الضغط الهائل الذي اضطر هذه المجموعة لأن تدفع عنها تهمة دليل على أن الذي يتحدث عن قضايا الجهاد بشيء من اللين أو بعبارات يمكن أن يفهم منها تفريط يكون عرضة لأن يصبح في موضع الاتهام.
الأسماء الكبيرة لم تنفع "اللين والانهزامية"
إلى عهد قريب كان وجود بعض الأسماء في وثيقة يكفي لتزكيتها وإعطائها صفة قريبة من العصمة بسبب سمعة هذه الأسماء العلمية وماضيها المعروف. لكن في حالة بيان المثقفين، بدلا من أن ترفع هذه الأسماء قيمة هذا البيان نزل البيان بهذه الأسماء وفتح عليها أبوابا من النقد والتجريح. يبدو أن التحول في الموقف له عدة أسباب منها، أولا تطور وعي الأمة بأن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال، ثانيا غياب الأسماء الواردة في البيان قبل هذا البيان عن دور أهم من طرح حوار مع الأمريكان. وليس سرا أن الجمهور المتطلع المنتظر للمواقف الكبيرة للعلماء أصبح لديه القدرة على التقويم والنظر وليس بتلك الإمعية والعجز الفكري.
رفض فكرة الحكم باسم الأمة
عندما رتبت مسألة التوضيح وصدر بيان التوضيح صدر من الشيخ البراك تقريض على صيغة حسم المسألة ثم وزع تقريض الشيخ البراك كما لو كان إقفالا للقضية. لكن لم يكد يصدر تقريض البراك حتى صدرت الردود على التوضيح دون تقليل من مقام الشيخ البراك ولا اعتراض على تقريضه. وهذا كذلك تطور ونضج مهم في البيئة الثقافية أن ترفض الأمة أن يعطى شخص واحد حق القيام بدور حكم باسم الأمة رغم جلالة قدره وغزارة علمه.
أسماء معينة تجاوزتها المرحلة
بينت تجربة البيان وطريقة تعامل كل فريق معه أن هناك أسماء قد أدت ما عليها في مرحلة معينة مشكورة مأجورة، ولكن تجاوزها الزمن. وإذا وضعت تجربة الانتفاضة وتجربة سبتمبر وبعدها ضرب أفغانستان ثم تجربة البيان وحوادث أخرى داخلية في سياق واحد يتبين أنه ليس من الحكمة أن يتطلع الناس إلى شخصيات معينة لأن تقدم أكثر مما تستطيع. ولذلك لن ينفع ولن يغير من الأمر شيئا تكرار اللوم والتجريح والانتقاد الخشن الذي قام به بعض الكتاب مطالبين بعودة هذه الأسماء للقيام بدور ريادي.
المجتمع مع الطرح الإسلامي
صدر بيان المثقفين بعد أسبوع واحد من بيان آخر صدر عن مجموعة من المثقفين الليبراليين والعلمانيين والشيعة. ومع أن لغة البيان الذي صدر عن الليبراليين كانت أشد على أمريكا من بيان المثقفين الإسلاميين ألا ان كل الاهتمام والجدل انصب على بيان المثقفين ولم يعر أحد البيان الآخر أي اهتمام. حتى الجدل الذي دار من بعد ذلك قبل تيارات مختلفة في بعض الصحف وفي قناة الجزيرة لم يوجه منه حسب علمنا أي اهتمام لبيان الليبراليين. هذا يعني أنه لا يكفي اتخاذ موقف متشدد من أمريكا لأخذ قلوب الناس بل إن الصفة الإسلامية مطلب أهم من ذلك.
الحميد والأمير
سباق في التضليل
بن حميد والأمانة
حين عين الشيخ صالح بن حميد رئيسا لمجلس الشورى استبشر البعض بذلك خيرا على أساس أنه من عائلة كريمة ومن بيئة واعية وكونه مر بتجربة عرف فيها حقيقة الدولة. نعم لم يتوقع الناس من الشيخ أن يحدث تغييرا في المجلس، لأن المجلس هيئة أومؤسسة مشلولة لا تتحرك إلا بتوجيه الحاكم، لكن توقع الناس أن يستغل الشيخ كونه رئيسا للمجلس ليقف مواقف إيجابية يدعم بها مسيرة الإصلاح وإنكار المنكر. وحتى أؤلئك الذين لم يتطلعوا إلى موقف من هذا القبيل استبعدوا تماما أن يكون الشيخ نسخة أخرى من المداحين المسفّين الذين ينافس تعظيمهم للحاكم تعظيمهم لله. لكن حديث الشيخ صالح الأخير في مجلس الشورى والذي نقلته وسائل الإعلام غير كل هذه الانطباعات بشكل محزن ومشين.
لم يكتف الشيخ -سامحه الله- بالتقصير عن قول الحق والسكوت، ولم يكتف بترداد عبارات المجاملات التي فيها مدح مجرد للحاكم، بل وردت على لسانه عبارات يعلم الشيخ يقينا أنه يغالط فيها ويضلل الأمة. ولسنا بحاجة هنا لننقل كل خطبة الشيخ ويكفينا بعض عباراته للتدليل على ما ذكرنا.
يصف الشيخ مؤسسات الدولة في سياق ثناءه على سلفه الشيخ بن جبير رحمه الله بأنها " منظومة منسجمة متكاملة مع الأجهزة الحكومية ومؤسسات البلاد لإقامة شرع الله الحنيف". هل يعتقد الشيخ فعلا إن اجهزة الدولة منظومة متكاملة لإقامة شرع الله الحنيف؟
وفي وصف مجلس الشورى قال الشيخ الحميد "ونال بكل اعتزاز ثقة القيادة وارتياح المواطن وتفاعل المجتمع". نعم لا إشكال أن ينال المجلس ثقة القيادة لأن القيادة هي التي اختارت رئيسه وأعضائه، لكن هل يعتقد الشيخ الحميد أن المجلس نال ارتياح المواطن وتفاعل المجتمع؟
لكن الشيخ فاجأنا مثل كل الصحفيين والمداحين بابتهاجه بعشريينة الملك فهد بقوله "وفي هذه المناسبة السنوية العزيزة لا يمكن أن لا تذكر مناسبة كبرى ووقفة في مسيرة هذه البلاد متميزة تلكم هي مناسبة مرور عشرين عاما على تولي خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وألبسه لباس الصحة والعافية مقاليد الحكم وقيادة هذه البلاد انها مسيرة مليئة بالعطاء والإنجاز من إضاءاتها حمله حفظه الله للقب خادم الحرمين الشريفين". ولم يفت الشيخ أن يصف هذه العشرين عاما بأنها "مسيرة رائدة في انجازاتها على الاصعدة كافة الداخلية والخارجية والاقليمية والدولية انها تجسد بعد النظر ونهج الحكمة والشجاعة في اتخاذ القرار ولا سيما في ادارة الازمات". أمانة أمام الله، هل يعتقد الشيخ فعلا بأن الملك فهد يجسّد بعد النظر والحكمة والشجاعة؟ والله إن كان يعتقد ذلك فعلا فلا ندري نشك بعقلنا أم بعقل الشيخ؟
لكن الشيخ يقع في كارثة أكبر حين يعلن من منصة رئاسة مجلس الشورى مباركته وتأييده لمبادرة الأمير عبد الله التي أعلن فيها بيعه لأربع أخماس فلسطين والترحيب باليهود المحتلين سفراء وسواحا وتجارا في بلاد الحرمين. قال الشيخ في مطلع كلامه "كما دون التاريخ أن المملكة كانت ومازالت في مقدمة الدول الراعية لقضية فلسطين والداعمة لها ماديا ومعنويا". ثم أكمل في نهاية كلامه "وما مبادرة سموكم الكريم وهي المبادرة التي تبنتها القمة العربية وأصبحت مبادرة عربية الا حلقة في سلسلة جهود المملكة وتفاعلها الدائم مع هذه القضية". الشيخ يقع في كارثتين أحدها أشد وأنكى من الأخرى. أولا يعلم الشيخ يقينا أن مبادرة الأمير عبد الله خيانة وجريمة في حق الدين والأمة وأن الذي يريد أن يعطيها وجها شرعيا مفتئت على الله ورسوله وشريك في الخيانة والتلاعب بالدين. ثانيا يتكلم الشيخ وهو رئيس مجلس الشورى مباركا عملا قام به الأمير مع أنه لم يخبر المجلس به مجرد إخبار فضلا عن أن يشاورهم. أولم يخجل الشيخ وهو يبارك هذه المبادرة من أن الصهيوني توماس فريدمان علم عن هذه المبادرة قبل مجلس الشورى وقبل الشيخ نفسه؟ إلى أي درجة وصلت مهانة الكرامة عند شيخ درس العلوم الشرعية وهو سليل أسرة علم وفضل واعتلى منبر المسجد الحرام وعين رئيسا للشورى أن يبارك قرارا تجسّد فيه إهانة الحاكم له واحتقاره إلى درجة أن يخبر الصحفي الصهيوني عن القرار قبله؟ والله كبيرة كبيرة عليك يا شيخ بن حميد.
وحين يستعرض الشيخ إنجازات مجلس الشورى يسهب في ذكر عدد الجلسات وعدد اللجان ويتبين في نهاية المطاف أن إنجازات المجلس كلها في حدود الرهن التجاري والسوق المالية وبنك التسليف. أما السياسة الأمنية والدفاعية والسياسة المالية والسياسة الخارجية التي من ضمنها مبادرة عبد الله فعلى الشيخ الحميد أن يبارك ويؤيد ويثني حتى لو كان القرار تجسيدا لإهانته واحتقاره.
الخطاب البرلماني الملكي
الذي يسمع بحكاية الخطاب الملكي السنوي يظن أن الحكومة ستعرض برنامجها السنوي في كل الشؤون وأولها الوضع السياسي ثم الاقتصادي ثم الدفاعي ثم الأمني وبعد ذلك تأتي الأوضاع الأخرى. تحدث الأمير عبد الله فجاء ثلثي خطابه ثناء على الذات ومدحا لإنجازات الدولة المزعومة ومجاملات لمجلس الشورى وتعزية للشيخ الجبير.
واعتبر الأمير عبد الله أن لتجربة المملكة في الشورى "دور رئيس في تأصيل فقه الشورى، وتقديمه للعالم اسهاما من المملكة في اثراء التراث البشري في فلسفة الحكم وأنظمته". لقد هزلت إن كانت الشورى السعودية إثراء للتراث البشري. واعتبر الأمير عبد الله أن إنشاء مجلس الشورى دليل على "قدرة هذا الدين على التعامل ايجابا مع متغيرات الزمان، واستيعاب معطيات الحضارة، والتفاعل معهما تفاعلاً بناء وواعيا بتجاوز السلبيات إن لم يصححها، وبأخذ الايجابيات والبناء عليها، وهذا هو الحوار الحضاري المثمر الذي لا بديل عنه". يعني أن المجلس لم ينشأ إلا للتعامل مع متغيرات الزمن واستيعاب معطيات الحضارة، ولذلك فالشورى حسب هذه الكلام جديدة فرضتها متيغرات الزمن!!
أما الحديث عما يفترض أنه برنامج الحكومة فلربما يستطيع أي متابع للإعلام السعودي أن يتوقع ما قرأه ولي العهد. وسيكون استعراض كلمة الأمير عبد الله والتعليق على تفاصيلها مضيعة للوقت وهي تكرار لما يسمعه المرء من وسائل الإعلام من اسطوانة معروفة. لكن عبارة ظريفة تستحق أن تورد هنا هي قوله "وإن ما تحقق من انجازات ارتكز في مجمله على الحفاظ على العقيدة الإسلامية وتطبيق شريعة الله، وترسيخ مبادئها ونشرها والدفاع عنها وعن الوطن".
المهم أن وكالة الأنباء السعودية أشارت إلى أن حديث الأمير عبد الله مع أعضاء مجلس الشورى اتسم بأربع صفات هي: الصدق، الصراحة، الوضوح، الشمولية.