Black_Horse82
18-06-2002, 07:36 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
صعود أمريكا إلى الهاوية
( 2/4 )
تحدثنا في الحلقة الأولى عن بداية تقوية أمريكا لسلاحها الاقتصادي الذي تستخدمه ضد أعدائها قبل حروبها العسكرية ، وتحدثنا عن بعض ملامح تطور الاقتصاد الأمريكي عن طريق التهديد والكيد للصديق والعدو ، وفي هذه الحلقة نتحدث عن بعض الأساليب الأمريكية للهيمنة الاقتصادية وكيف أصيب الاقتصاد الأمريكي بالنكسة .
ظهور غول العولمة الأمريكية وتزايد خلافات أوروبا مع أمريكا
وبعد أن خلا لأمريكا الجو الاقتصادي وأصبحت عن طريق التهديد والبطش والكيد هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم ، تدفقت عليها الاستثمارات الأجنبية من كل حدب وصوب ، وأصبحت تعاني من فائض في السيولة لدى مصارفها يفوق استثماراتها الداخلية ، وهذا الفائض دعاها إلى الترويج لنظام العولمة الاقتصادية لتفتح أسواق العالم أمامها بلا قيد أو شرط فتصدّر رأس المال والسلعة الأمريكية لتستورد أرباحها إلى أمريكا ، وبدأت بالترويج لهذه الخطة التي كانت تأمل من ورائها أن تأكل العالم بأكمله .
ونظراً لهذه الخطة الأمريكية الجديدة للسيطرة على العالم اقتصادياً ، بدأت أوروبا تشعر بالخوف من المناورات الأمريكية الخفية التي لن تعطيها أكثر من الفتات ، وعلى إثر بعض المناورات الاقتصادية الأمريكية المكشوفة بدأت العلاقات التجارية والسياسية تتوتر بين أمريكا وأوروبا على إثر عدة قضايا بعد حرب البلقان ، وكان محور مواضيع الخلاف نظام الدفاع الأمريكي المضاد للصواريخ الذي ترى دول أوروبا باستثناء ( ذيل أمريكا ) بريطانيا أنه سيعيد سباق التسلح في المنطقة ويعيد تهديد كوريا الشمالية والصين مما يؤثر على علاقات أوروبا بالدولتين ، كما أن هذا سيثير موسكو لتعيد مشاريعها في التسلح لأنها ترفض تعديل معاهدة ( أي بي إم ) الموقعة بين الحلفين عام 1972م والتي تحظر نشر هذا النوع من الصواريخ ، ومن مواضيع الخلاف عدم كفاية الاستثمارات العسكرية للاتحاد الأوربي والتي يمكن أن تؤدي إلى خرق وحدة تلاحم حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، ومن مواضيع الخلاف إعادة سياسة الناتو واستقلاله بقرارات التدخل عن مجلس الأمن في أي صراعات عالمية دون الرجوع للقرارات الدولية ، ومن مواضيع الخلاف انحياز أمريكا لإسرائيل التي لم تطبق شيئا من قرارات الأمم المتحدة ، ومن مواضيع الخلاف مواصلة حصار العراق وقصفها مما زاد من كارثة الشعب العراقي والمجاعة والأمراض ، ومقابل حصارها للعراق دعمها لدول دكتاتورية منتهكة لحقوق الإنسان ودعمها للانقلابات في العالم وتسليح دول تقوم على اضطهاد الشعوب وإبادتها لا سيما في أفريقيا السوداء ، ومن مواضيع الخلاف حرب الموز التي لا تزال عالقة حتى بعد حسم منظمة التجارة العالمية للقضية في صالح الولايات المتحدة في 12/1419هـ الموافق 4/1999م ، ومن مواضيع الخلاف فرض أمريكا رسوم تصل إلى 30% على وارداتها من الصلب من أوروبا في مارس الماضي ، مما دعا أوروبا العزم على فرض رسوم عقابية تصل إلى 300 مليون دولار على مجموعة من المنتجات الأمريكية ، ويقول الاتحاد الأوروبي أنه لا مناص من العقوبات على أمريكا إلا إذا وافقت واشنطن على تقديم تنازلات من إعفاء الشركات الأوروبية من رسوم والصلب ، ومن مواضيع الخلاف الصراع الذي لا يزال محتدماً بسبب المحاصيل المعدلة جينياً المعروفة بـ( GM ) حيث يزداد رفض الأوروبيين لاستيراد العديد من المحاصيل الأمريكية خرقاً للاتفاقيات بينهما بدعوى أنها معدلة جينياً وأن ذلك يضر بصحة البشر ، وسرعان ما وجه الأتحاد الأوروبي ضربة كبيرة لسوق القمح الأمريكية بعد اندلاع هذه الحرب بأسبوع عندما سمح لأسبانيا باستيراد القمح من الأرجنتين بدلاً من الولايات المتحدة ، ثم تباينت المواقف أكثر تجاه مفهوم العولمة وتحرير التجارة الاقتصادية والزراعة والبيئة والعمل والاستثمار والمنافسة ، ليظهر الخلاف الحاد بين الاتحاد الأوربي وأمريكا في الاجتماع الوزاري لدول منظمة التجارة الدولية في سياتل الأمريكية في منتصف عام 1420هـ أواخر 1999م ليتحول من قضية تجارية إلى قضية أخلاقية بحتة ، يفشل معها كل ما سبق من تفاهمات مما أفرح كثيراً من دول الاتحاد الأوروبي التي شعرت بتوقف المد الكاسح الأمريكي الذي ألب عليها الرأي العام الأوروبي خاصة في القطاع الزراعي ، إلى غير ذلك من القضايا الجوهرية التي عززت من تفاقم الخلاف بين أوروبا وأمريكا وعززت تمسك أوروبا بإنشاء اقتصاد منافس وعملة حرة مقابل كل ذلك ، حتى بدأ المراقبون يصفون أمريكا بعد تلك الخلافات مع أوروبا بالعملاق المقيد بعد تصادم خياراتها الاستراتيجية الاقتصادية مع حلفائها .
بداية خوف أمريكا على اقتصادها
إن ما سبق من قضايا خلافية بين أمريكا وحلفائها ، أشعرت أمريكا بالخطر البالغ وحفّزتها لتعمل في كثير من الأحيان ضد مصالح حلفائها بشكل علني تجاه عولمة اقتصادية أحادية الجانب ، وكان مما ألهب سعار الهوج الأمريكي نحو العولمة الأمريكية ارتفاع إجمالي العجز في الميزان التجاري مع دول العالم في ذي القعدة من عام 1420هـ الموافق مارس من عام 2000م ليصل إلى 30.2مليار دولار بمعدل زيادة قدرها 5.1% عن شهر شوال الموافق لفبراير من نفس العام .
ومن أهم الأسباب التي لعبت دوراً لهذا العجز الزيادات المتكررة في معدلات الفائدة الأمريكية التي يقبل عليها مجلس الاحتياطي الأمريكي مما خلق انكماشاً اقتصادياً مع تدفق رؤوس الأموال نتيجة رفع الفائدة ، و من أسباب ارتفاع العجز أيضاً في الميزان عجز البضائع الأمريكية ذاتها عن المنافسة الحرة مع بضائع الدول الصناعية الأخرى داخل الولايات المتحدة وخارجها ، وأهم الأسباب ارتفاع تكلفة عنصر العمل في الولايات المتحدة وارتفاع معدلات الفائدة وارتفاع تكاليف الشحن والنقل والتخزين والتأمين والخدمات المصرفية ، وبالطبع فإن السياسة الاستبدادية الأمريكية سلطت الضوء على عوامل لا علاقة لها بهذا العجز في الميزان حتى لا يهرب المستثمر ولا تفقد ثقة المستهلك ، فعلقت هذا كله على مشجب أسعار النفط والغاز وأجبرت أوبك والدول المصدرة خارج أوبك على زيادة الإنتاج لنزول الأسعار .
وأصبح الاقتصاد الأمريكي في آخر ولاية كلينتون ومطلع ولاية بوش يعاني من ركود لم يشهد له مثيلاً ، وكانت أمريكا تعول على قوة الدولار وضخامة سوقها لتخرج من هذا المأزق ، وفي أول أربعة أشهر من ولاية بوش عمد البنك المركزي إلى خفض الفائدة ورفعها لست مرات ليعالج هذا الركود ، وهو الذي لم يكن ليفعل ذلك من قبل إلا بمعدل مرتين إلى ثلاث سنوياً .
وحان الوقت لعقاب أمريكا
وبعد كل هذا الاستبداد والبطش والتجبر والسعي الحثيث لخنق العالم اقتصادياً ، وإذلال المسلمين في كل بقاع الأرض وجعلهم كبش الفداء الذي ترعب أمريكا بقتلهم وتشريدهم واستباحت أرضهم ومقدراتهم كل أعدائها من غير المسلمين ، حان الوقت بعد ذلك كله لإنزال القاصمة بالاقتصاد الأمريكي وأخذ بعض الثأر منها لما تفعله بالمسلمين ، فتم ذلك ولله الحمد والمنة ونزلت القاصمة على أمريكا واقتصادها في صبيحة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1422هـ وهو ما يعرف بـ 11 سبتمبر ، فكانت الضربة موفقة بحق ، فقد دُمر اقتصاد أمريكا إلى حد كبير ، فبعد أن كان اقتصادها يعاني من الركود ويسعى لإنعاش السوق ، فإذا به ينهار مع انهيار البرجين ، وما هو أعظم من انهيار البرجين والاقتصاد الأمريكي ، هو انهيار سلاح العولمة ، فلم نعد بعد انهيار البرجين نسمع من يتحدث عن العولمة ذلك الغول الذي كاد أن يلتهم خيرات العالم كلها في بطن أمريكا ، ولم يكن أحمق البيت الأبيض بوش ولا زبانيته يملكون بعد نظر ولله الحمد ، فسيطرت عليهم روح الانتقام ، وأثقلوا كاهل اقتصادهم الجريح بعمليات عسكرية في كل الاتجاهات لم يجنوا من ورائها حتى اليوم أي هدف حددوه لها ، وكان بوش يثق كثيراً باقتصاده ، فأعلن عن أهداف ضخمة جداً لحربه طالت دول العالم كلها تقريباً ، حتى توصل للتهديد النووي للصين وكوريا الشمالية والعراق وإيران وسوريا ، كل ذلك ثقة باقتصاده ، ناهيك عن حمقه السياسي واستعراضه لعضلاته على الشعب الأفغاني الأعزل ، ويبدو أنه ظن أن الشعب الأعزل هو من نفذ الضربات ، فحرص على إبادته ، واستمر في غطرسته وتهوره وهدم الاقتصاد الأمريكي .
وأحس المراقبون الأمريكيون بحمق بوش من توسيع دائرة الحرب والتهديدات في كل الاتجاهات وإثقال كاهل الاقتصاد الأمريكي ووضع العوائق السياسية أمام بلاده دون أي فائدة لذلك ، وذلك بعد خاطب بوش لحلفائه بقوله لهم في منتصف شهر شوال من العام الماضي على حلفاء أمريكا أن يسيروا خلفها في حربها ضد الإرهاب دون اعتراض منهم وقد جاء هذا بعد مقولته المشهورة " إما معنا أو مع الإرهاب " .
وهذا مما دفع الساسة بالرد عليه حتى انتقده آل جور نائب الرئيس الأمريكي السابق في شهر ذي الحجة من العام الماضي الموافق لفبراير من عام 2002م في خطاب له أما لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ حيث قال " إن بوش لا يحرص على التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة " .
وقال عنه زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي توم داشل بعد انتقاد حاد لإدارة الرئيس بوش قال " إن إدارة بوش ليس لديها أي رؤية واضحة وهي تقوم بإرسال القوات الأمريكية في جميع الاتجاهات ضمن حملتها الحالية ضد ما يسمى بالإرهاب ، مشيراً إلى أنه لم يتم بعد السيطرة على الفوضى التي خلفتها العمليات العسكرية في أفغانستان وسط معلومات بأن قوات طالبان والقاعدة تعيد تجمعها في مناطق في شرق البلاد ، وفي ظل عدم تحديد مصير زعماء القاعدة والطالبان " .
وحذر المحلل السياسي جوزيف بي نيي عميد معهد كيندي للعلوم السياسية ومساعد وزير الدفاع في إدارة كلينتون ، في كتاب له تحت عنوان ( أمريكا تحارب أمريكا ) " حذر الولايات المتحدة من خوض الحرب بمفردها ضد الإرهاب دون الاعتماد على تحالف دولي مشيراً إلى أن التعاون والتحالف الدولي يخدم المصالح الأمريكية أكثر من الاتجاه المنفرد في السياسية الخارجية ، وحذر من تركيز واشنطن في سياستها الخارجية على الجانب العسكري لقوتها وسلطتها كقوة عظمى وعالمية تسيطر على العالم وتجاهل الأبعاد والعناصر الهامة في قوتها الاقتصادية ، وأوضح المحلل السياسي أن إدارة بوش بدأت التحول نحو إظهار قوتها العسكرية وسيطرتها على العالم وحقها في اللجوء إلى أي إجراء ، والتعامل مع القوى العالمية كالصين من زاوية أنها تشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأمريكية وأن دول الاتحاد الأوروبي منافس وخصم أكثر منه شريك ، وأشار نيي إلى أن واشنطن لا تستطيع خوض حرب الإرهاب بمفردها ولا يمكن لها أن تحقق بمفردها نجاحاً في حربها على الشبكات الإرهابية ومراقبة تدفق رؤوس الأموال لهذه الشبكات " .
ولكن بوش كان معجباً بنفسه ويمارس السياسية مع دول العالم كما لو كان ممثلاً في فلم بوليسي من صنع هوليود فكان يجر بلاده إلى الهاوية ولا يقدر حجم الحرب التي يخوضها في كل اتجاه حتى قال عنه الكاتب الأمريكي فرانك بروني في كتابه الوثائقي ( المتجول في التاريخ ) " الرئيس جورج بوش سطحي وجاهل بالثقافة الأمريكية " وأضاف " إن بوش يعتبر أن نجمه السينمائي المفضل هو تشوك نوريس بطل أفلام الكارتيه في السبعينيات وأنه مغرم بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية الهزلية " .
وفي الحلقة القادمة نعرف كيف استطاعت الأحداث أن تروض بطل هوليود .
مركز الدراسات والبحوث الإسلامية
8/4/1423هـ
صعود أمريكا إلى الهاوية
( 2/4 )
تحدثنا في الحلقة الأولى عن بداية تقوية أمريكا لسلاحها الاقتصادي الذي تستخدمه ضد أعدائها قبل حروبها العسكرية ، وتحدثنا عن بعض ملامح تطور الاقتصاد الأمريكي عن طريق التهديد والكيد للصديق والعدو ، وفي هذه الحلقة نتحدث عن بعض الأساليب الأمريكية للهيمنة الاقتصادية وكيف أصيب الاقتصاد الأمريكي بالنكسة .
ظهور غول العولمة الأمريكية وتزايد خلافات أوروبا مع أمريكا
وبعد أن خلا لأمريكا الجو الاقتصادي وأصبحت عن طريق التهديد والبطش والكيد هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم ، تدفقت عليها الاستثمارات الأجنبية من كل حدب وصوب ، وأصبحت تعاني من فائض في السيولة لدى مصارفها يفوق استثماراتها الداخلية ، وهذا الفائض دعاها إلى الترويج لنظام العولمة الاقتصادية لتفتح أسواق العالم أمامها بلا قيد أو شرط فتصدّر رأس المال والسلعة الأمريكية لتستورد أرباحها إلى أمريكا ، وبدأت بالترويج لهذه الخطة التي كانت تأمل من ورائها أن تأكل العالم بأكمله .
ونظراً لهذه الخطة الأمريكية الجديدة للسيطرة على العالم اقتصادياً ، بدأت أوروبا تشعر بالخوف من المناورات الأمريكية الخفية التي لن تعطيها أكثر من الفتات ، وعلى إثر بعض المناورات الاقتصادية الأمريكية المكشوفة بدأت العلاقات التجارية والسياسية تتوتر بين أمريكا وأوروبا على إثر عدة قضايا بعد حرب البلقان ، وكان محور مواضيع الخلاف نظام الدفاع الأمريكي المضاد للصواريخ الذي ترى دول أوروبا باستثناء ( ذيل أمريكا ) بريطانيا أنه سيعيد سباق التسلح في المنطقة ويعيد تهديد كوريا الشمالية والصين مما يؤثر على علاقات أوروبا بالدولتين ، كما أن هذا سيثير موسكو لتعيد مشاريعها في التسلح لأنها ترفض تعديل معاهدة ( أي بي إم ) الموقعة بين الحلفين عام 1972م والتي تحظر نشر هذا النوع من الصواريخ ، ومن مواضيع الخلاف عدم كفاية الاستثمارات العسكرية للاتحاد الأوربي والتي يمكن أن تؤدي إلى خرق وحدة تلاحم حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، ومن مواضيع الخلاف إعادة سياسة الناتو واستقلاله بقرارات التدخل عن مجلس الأمن في أي صراعات عالمية دون الرجوع للقرارات الدولية ، ومن مواضيع الخلاف انحياز أمريكا لإسرائيل التي لم تطبق شيئا من قرارات الأمم المتحدة ، ومن مواضيع الخلاف مواصلة حصار العراق وقصفها مما زاد من كارثة الشعب العراقي والمجاعة والأمراض ، ومقابل حصارها للعراق دعمها لدول دكتاتورية منتهكة لحقوق الإنسان ودعمها للانقلابات في العالم وتسليح دول تقوم على اضطهاد الشعوب وإبادتها لا سيما في أفريقيا السوداء ، ومن مواضيع الخلاف حرب الموز التي لا تزال عالقة حتى بعد حسم منظمة التجارة العالمية للقضية في صالح الولايات المتحدة في 12/1419هـ الموافق 4/1999م ، ومن مواضيع الخلاف فرض أمريكا رسوم تصل إلى 30% على وارداتها من الصلب من أوروبا في مارس الماضي ، مما دعا أوروبا العزم على فرض رسوم عقابية تصل إلى 300 مليون دولار على مجموعة من المنتجات الأمريكية ، ويقول الاتحاد الأوروبي أنه لا مناص من العقوبات على أمريكا إلا إذا وافقت واشنطن على تقديم تنازلات من إعفاء الشركات الأوروبية من رسوم والصلب ، ومن مواضيع الخلاف الصراع الذي لا يزال محتدماً بسبب المحاصيل المعدلة جينياً المعروفة بـ( GM ) حيث يزداد رفض الأوروبيين لاستيراد العديد من المحاصيل الأمريكية خرقاً للاتفاقيات بينهما بدعوى أنها معدلة جينياً وأن ذلك يضر بصحة البشر ، وسرعان ما وجه الأتحاد الأوروبي ضربة كبيرة لسوق القمح الأمريكية بعد اندلاع هذه الحرب بأسبوع عندما سمح لأسبانيا باستيراد القمح من الأرجنتين بدلاً من الولايات المتحدة ، ثم تباينت المواقف أكثر تجاه مفهوم العولمة وتحرير التجارة الاقتصادية والزراعة والبيئة والعمل والاستثمار والمنافسة ، ليظهر الخلاف الحاد بين الاتحاد الأوربي وأمريكا في الاجتماع الوزاري لدول منظمة التجارة الدولية في سياتل الأمريكية في منتصف عام 1420هـ أواخر 1999م ليتحول من قضية تجارية إلى قضية أخلاقية بحتة ، يفشل معها كل ما سبق من تفاهمات مما أفرح كثيراً من دول الاتحاد الأوروبي التي شعرت بتوقف المد الكاسح الأمريكي الذي ألب عليها الرأي العام الأوروبي خاصة في القطاع الزراعي ، إلى غير ذلك من القضايا الجوهرية التي عززت من تفاقم الخلاف بين أوروبا وأمريكا وعززت تمسك أوروبا بإنشاء اقتصاد منافس وعملة حرة مقابل كل ذلك ، حتى بدأ المراقبون يصفون أمريكا بعد تلك الخلافات مع أوروبا بالعملاق المقيد بعد تصادم خياراتها الاستراتيجية الاقتصادية مع حلفائها .
بداية خوف أمريكا على اقتصادها
إن ما سبق من قضايا خلافية بين أمريكا وحلفائها ، أشعرت أمريكا بالخطر البالغ وحفّزتها لتعمل في كثير من الأحيان ضد مصالح حلفائها بشكل علني تجاه عولمة اقتصادية أحادية الجانب ، وكان مما ألهب سعار الهوج الأمريكي نحو العولمة الأمريكية ارتفاع إجمالي العجز في الميزان التجاري مع دول العالم في ذي القعدة من عام 1420هـ الموافق مارس من عام 2000م ليصل إلى 30.2مليار دولار بمعدل زيادة قدرها 5.1% عن شهر شوال الموافق لفبراير من نفس العام .
ومن أهم الأسباب التي لعبت دوراً لهذا العجز الزيادات المتكررة في معدلات الفائدة الأمريكية التي يقبل عليها مجلس الاحتياطي الأمريكي مما خلق انكماشاً اقتصادياً مع تدفق رؤوس الأموال نتيجة رفع الفائدة ، و من أسباب ارتفاع العجز أيضاً في الميزان عجز البضائع الأمريكية ذاتها عن المنافسة الحرة مع بضائع الدول الصناعية الأخرى داخل الولايات المتحدة وخارجها ، وأهم الأسباب ارتفاع تكلفة عنصر العمل في الولايات المتحدة وارتفاع معدلات الفائدة وارتفاع تكاليف الشحن والنقل والتخزين والتأمين والخدمات المصرفية ، وبالطبع فإن السياسة الاستبدادية الأمريكية سلطت الضوء على عوامل لا علاقة لها بهذا العجز في الميزان حتى لا يهرب المستثمر ولا تفقد ثقة المستهلك ، فعلقت هذا كله على مشجب أسعار النفط والغاز وأجبرت أوبك والدول المصدرة خارج أوبك على زيادة الإنتاج لنزول الأسعار .
وأصبح الاقتصاد الأمريكي في آخر ولاية كلينتون ومطلع ولاية بوش يعاني من ركود لم يشهد له مثيلاً ، وكانت أمريكا تعول على قوة الدولار وضخامة سوقها لتخرج من هذا المأزق ، وفي أول أربعة أشهر من ولاية بوش عمد البنك المركزي إلى خفض الفائدة ورفعها لست مرات ليعالج هذا الركود ، وهو الذي لم يكن ليفعل ذلك من قبل إلا بمعدل مرتين إلى ثلاث سنوياً .
وحان الوقت لعقاب أمريكا
وبعد كل هذا الاستبداد والبطش والتجبر والسعي الحثيث لخنق العالم اقتصادياً ، وإذلال المسلمين في كل بقاع الأرض وجعلهم كبش الفداء الذي ترعب أمريكا بقتلهم وتشريدهم واستباحت أرضهم ومقدراتهم كل أعدائها من غير المسلمين ، حان الوقت بعد ذلك كله لإنزال القاصمة بالاقتصاد الأمريكي وأخذ بعض الثأر منها لما تفعله بالمسلمين ، فتم ذلك ولله الحمد والمنة ونزلت القاصمة على أمريكا واقتصادها في صبيحة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة لعام 1422هـ وهو ما يعرف بـ 11 سبتمبر ، فكانت الضربة موفقة بحق ، فقد دُمر اقتصاد أمريكا إلى حد كبير ، فبعد أن كان اقتصادها يعاني من الركود ويسعى لإنعاش السوق ، فإذا به ينهار مع انهيار البرجين ، وما هو أعظم من انهيار البرجين والاقتصاد الأمريكي ، هو انهيار سلاح العولمة ، فلم نعد بعد انهيار البرجين نسمع من يتحدث عن العولمة ذلك الغول الذي كاد أن يلتهم خيرات العالم كلها في بطن أمريكا ، ولم يكن أحمق البيت الأبيض بوش ولا زبانيته يملكون بعد نظر ولله الحمد ، فسيطرت عليهم روح الانتقام ، وأثقلوا كاهل اقتصادهم الجريح بعمليات عسكرية في كل الاتجاهات لم يجنوا من ورائها حتى اليوم أي هدف حددوه لها ، وكان بوش يثق كثيراً باقتصاده ، فأعلن عن أهداف ضخمة جداً لحربه طالت دول العالم كلها تقريباً ، حتى توصل للتهديد النووي للصين وكوريا الشمالية والعراق وإيران وسوريا ، كل ذلك ثقة باقتصاده ، ناهيك عن حمقه السياسي واستعراضه لعضلاته على الشعب الأفغاني الأعزل ، ويبدو أنه ظن أن الشعب الأعزل هو من نفذ الضربات ، فحرص على إبادته ، واستمر في غطرسته وتهوره وهدم الاقتصاد الأمريكي .
وأحس المراقبون الأمريكيون بحمق بوش من توسيع دائرة الحرب والتهديدات في كل الاتجاهات وإثقال كاهل الاقتصاد الأمريكي ووضع العوائق السياسية أمام بلاده دون أي فائدة لذلك ، وذلك بعد خاطب بوش لحلفائه بقوله لهم في منتصف شهر شوال من العام الماضي على حلفاء أمريكا أن يسيروا خلفها في حربها ضد الإرهاب دون اعتراض منهم وقد جاء هذا بعد مقولته المشهورة " إما معنا أو مع الإرهاب " .
وهذا مما دفع الساسة بالرد عليه حتى انتقده آل جور نائب الرئيس الأمريكي السابق في شهر ذي الحجة من العام الماضي الموافق لفبراير من عام 2002م في خطاب له أما لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ حيث قال " إن بوش لا يحرص على التعاون مع حلفاء الولايات المتحدة " .
وقال عنه زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي توم داشل بعد انتقاد حاد لإدارة الرئيس بوش قال " إن إدارة بوش ليس لديها أي رؤية واضحة وهي تقوم بإرسال القوات الأمريكية في جميع الاتجاهات ضمن حملتها الحالية ضد ما يسمى بالإرهاب ، مشيراً إلى أنه لم يتم بعد السيطرة على الفوضى التي خلفتها العمليات العسكرية في أفغانستان وسط معلومات بأن قوات طالبان والقاعدة تعيد تجمعها في مناطق في شرق البلاد ، وفي ظل عدم تحديد مصير زعماء القاعدة والطالبان " .
وحذر المحلل السياسي جوزيف بي نيي عميد معهد كيندي للعلوم السياسية ومساعد وزير الدفاع في إدارة كلينتون ، في كتاب له تحت عنوان ( أمريكا تحارب أمريكا ) " حذر الولايات المتحدة من خوض الحرب بمفردها ضد الإرهاب دون الاعتماد على تحالف دولي مشيراً إلى أن التعاون والتحالف الدولي يخدم المصالح الأمريكية أكثر من الاتجاه المنفرد في السياسية الخارجية ، وحذر من تركيز واشنطن في سياستها الخارجية على الجانب العسكري لقوتها وسلطتها كقوة عظمى وعالمية تسيطر على العالم وتجاهل الأبعاد والعناصر الهامة في قوتها الاقتصادية ، وأوضح المحلل السياسي أن إدارة بوش بدأت التحول نحو إظهار قوتها العسكرية وسيطرتها على العالم وحقها في اللجوء إلى أي إجراء ، والتعامل مع القوى العالمية كالصين من زاوية أنها تشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأمريكية وأن دول الاتحاد الأوروبي منافس وخصم أكثر منه شريك ، وأشار نيي إلى أن واشنطن لا تستطيع خوض حرب الإرهاب بمفردها ولا يمكن لها أن تحقق بمفردها نجاحاً في حربها على الشبكات الإرهابية ومراقبة تدفق رؤوس الأموال لهذه الشبكات " .
ولكن بوش كان معجباً بنفسه ويمارس السياسية مع دول العالم كما لو كان ممثلاً في فلم بوليسي من صنع هوليود فكان يجر بلاده إلى الهاوية ولا يقدر حجم الحرب التي يخوضها في كل اتجاه حتى قال عنه الكاتب الأمريكي فرانك بروني في كتابه الوثائقي ( المتجول في التاريخ ) " الرئيس جورج بوش سطحي وجاهل بالثقافة الأمريكية " وأضاف " إن بوش يعتبر أن نجمه السينمائي المفضل هو تشوك نوريس بطل أفلام الكارتيه في السبعينيات وأنه مغرم بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية الهزلية " .
وفي الحلقة القادمة نعرف كيف استطاعت الأحداث أن تروض بطل هوليود .
مركز الدراسات والبحوث الإسلامية
8/4/1423هـ