المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأوغاد يضحكون



ANiME CENTER
28-06-2002, 04:32 AM
الاوغاد يضحكون



يتسلل ضوء القمر عبر منفذ صغير استقر بأعلى العنبر وحين تحدق بالظلام لا ترى إلا أجسادا مقذوفة في أحلامها البائسة (تشخر) بعمق وملل.
الليل منفذ واسع للهروب من تلك الآهات التي تثقب الصدور،كان الخيشة - وهو أقدم سجين -يردد:

- إذا كثرت أحزانك، نم

فأصبحت مقولته قاعدة نستتر بها من زخات أحزاننا الكثيفة،فما أن يهطل الليل حتى نتسابق إلى مخادعنا لنجتر ذكرى قديمة أو حلم ينز من البال باقتضاب.

منذ ليلتين لم نعد نسعد بالنوم فما أن نطبق عيوننا حتى يتعالى صوت دمدمة وقرع طبال وروائح لقش محترق،وفي أحيان كثيرة رائحة شياط لذبيحة تشوى على جلبة أصوات تدمدم بهمة وأقدام تضرب الأرض بتوتر،ولم يكن أحد ليجرؤ على فتح عينيه بعد أن فقعت عين البوري بحربة انطلقت من الظلام لتفجر محاجره وتترك له حفرة غائرة وعينا منطفئة،فيما بعد أقسم أن ثمة جن تسكن هذا العنبر،وروى أنه رأى جماعة من الزنوج تدور حول نار ملتهبة رافعة حرابها وزمجرتها داكين الأرض بغضب نافر من سحنتهم المتشابهة وحين رأوا عينيه المحدقة بهم أطلق أحدهم حربته باتجاهه ..وبعد أن أيقن من ذهاب ضوء عينيه أصبح لا ينام، - يقول بعض من تتبع أخباره أنه أدخل مستشفى المجانين،وأنه يجالس أقرانه يوميا ويحكى لهم سبب انطفاء ضوء عينه اليسرى - فما أن يأتي الليل حتى يصاب بهياج وسعار ويظل يقفز من مكان إلى آخر صائحا:

-الجن ينتظروا نومي حتى يزهقوا روحي

وشاع خبره في بقية العنابر وأصبح المساجين يطلقون على عنبرنا (عنبر الجن) وحين وصل الخبر لمأمور السجن سخر من عقولنا السقيمة- على حد زعمه -،وعزل البوري من عنبرنا بعد أن أشبعه ركلا في محاولة لمعرفة من قام بفقء عينيه وكلما ركله أكد له تلك الواقعة التي رواها لزملائه - حتى ملوا من كثرة ترديدها - فيزداد المأمور سخطا وتنكيلا به ولم يتوقف عن إيذائه إلا حين نقلت إليه عيونه أن ثمة أصواتا تخرج ليليا من ذلك العنبر ولا يعرف مصدرها بالتحديد عندها أصدر أمرا لبعض حرسه بالتلصص بين المساجين خفية والقبض على العابثين الذين يقومون بإصدار تلك الجلبة ليلا لكن المراقبة لم تثمر عن شيء وظلت الأصوات تواصل جولتها الليلية .

في تلك الليالي أصبح الليل وحشا ضاريا لا نستطيع دفع خوفنا منه إلا بإغماض عيوننا والإنصات لتلك الأصوات حتى مطلع الفجر وما أن تخمد حتى نسرق قليلا من النوم قبل أن تيقظنا أحذية العسكر .

في إحدى تلك الليالي تجاسرت وفتحت عيني،فرأيت شرنوكه يقف منتصبا رافعا يده بحربة ذات نصل دقيق ويدور ضاربا الأرض بقدميه بتوتر وانفعال زائدين بينما كان صوت طبل يتعالى على صيحات متهيجة تستجيب لها صيحات حادة متوحشة أقرب للعواء تأتي من أماكن قصية،وثمة عجل عبره خازوق من فمه وظهر من دبره قد استقر على وتدين نصبا بشكل متوازي بينما كان زنجيان يمسكان بطرفي الخازوق ويقلبان العجل بمهل على نار أضرمت من وقت مبكر.

لمحت شرنوكه يرقص في دائرة يحف به رجال سود كالليل يحتزمون بشفار ويتسلحون بأدوات بدائية وأيديهم تمسك بحراب مدببة يرفعونها بين لحظة وأخرى على رؤوسهم وإذا أنزلوها حاذوا بها صدورهم كمن يستعد للقذف طالقين صيحات الظفر بينما كان شرنوكه يتراقص فتهتز كل مفاصل جسده وفق قرعات طبل تكفل بقرعة أحدهم فكان المكلف بضرب الطبل يصدر نغمات ثقيلة حينا وسريعة في أحيان أخرى فيستجيب لها جسد شرنوكه بطأ وتدفقا ويهتز كموجة تتثنى على نفسها وينطلق نحو النار كامشا من جمراتها وناثرا إياها فوق رؤوس المحيطين به فينكبون أسفل قامته سجدا ليقفز عاليا ضاربا الهواء بسنان حربته ويصيح محتدا:

- من سبينين جمنو لا بك من جتر خج (*)

في إحدى قفزاته تلاقت عينينا فأشار لي بإغماض عيني وعندما لم استجب لإشارته رأيت زنجيا - حجري الملامح - من خلف ظهره يستعد لقذف حربته باتجاهي فاعتراني الخوف وغمضت عيني على عجل وتلحفت بغطائي وأخذت استعيذ بالله وأجاهد نفسي لتتغلب على خوفها وكلما حاولت الانغماس في النوم تعالت صيحات أقرب للعواء ودمدمة ثقيلة رتيبة فاحت على إثرها رائحة شياط لعجل نز سمنته على نار مستعرة .. ومن بعيد .. بعيد تأتي أصوات متداخلة تمضغ الكلمات بلكنة غريبة وان كانت منغمة يشق انسيابها صوت شرنوكه حادا مزمجرا:

- من سبينين جمنو لابك من جتر خج

يختلط صوته حينا بثغاء أغنام وخوار ثور وربما شخير إنسان مرقت على نحره شفرة حادة بعدها هدأت الجلبة وعاد السكون للعنبر شيئا فشيئا وغرق في العتمة والصمت .

في الصباح اقترب مني شرنوكه وهمس:

- إياك أن يعلم أحد بما رأيت ليلة البارحة وحين هممت بملاحقته بالأسئلة قز على أسنانه :

- يكفى ما رأيت .. وتذكر أن ثرثرتك تقابلها حياتك

وعندما لم أعد أسئلتي إليه أصبح أكثر ودا معي .

*** ***

السجن يضيق حتى يصبح صدرا إضافيا يخفق بداخله القلب بتوتر،وتغدو الحياة أنفاسا رتيبة مملة،نقطعها بكلمات ميتة تسير سير سلحفاة هرمة،كان مقررا علينا أن نقضي زمنا طويلا بداخل هذا العنبر،فقد تعددت جرائمنا،وصنفت ضمن الجرائم الخطرة والتي توجب السجن لسنوات طوال،هنا يصبح الزمن وجوه أناس تتأملها وتقرأ تفاصيل ماض موغل في البؤس وغد مضمحل لا يبين،تسير صوبه تلك الوجوه بدون أدنى اكتراث ويصبح الغد وجوه أولئك الذين يدخلون أو يخرجون من هذا العنبر ،ويكون زمننا خصبا حين يهل علينا نزلاء جدد نتعرف من خلالهم على ما يحدث خارج هذه الزنازين التي ملت من أنفاسنا وروائحنا،ليس هذا فحسب فمع مقدمهم نحصل على الدخان وبعض الحاجيات البسيطة التي تعتبر بداخل السجن كنوزا تميز بعضنا بعضا كفنلة أو قطعة صابون أو منشفة أو سروالا،أو(كشينة)،ولمقدم هؤلاء النزلاء - الجدد - فرحة تسرى بيننا وتفيض من تلك الوجوه القاتمة حيث كنا نستعد لمجيئهم باحتلال الأماكن التي يتم إخلاؤها من تلك الأجساد الذابلة التي تغادرنا بالإفراج أو القصاص،ونقوم ببيع الأماكن الشاغرة للقادمين وبالتالي يتيسر لنا بعض المال نستطيع من خلاله أن نتدبر بعض الأمور التي نحتاج إليها فبالرغم من اشتغال معظمنا بأعمال مختلفة بداخل السجن إلا أننا نضيع ما نحصل عليه وراء إشباع نزوات حمقاء سراعان ما تتلاشى في عتمه الليل ….

والأقذر أن تمضى وقتتك تطارح ذاتك .

بعض النزلاء الذين أدمنوا العودة وجدوا تجارة رابحة تدر عليهم المال اليسير الذي بين أيدينا،وقد بدأت هذه التجارة بجلب صورة نبيلة عبيد كان أجارها لليلة واحدة خمس ريالات والساعة بريال واحد،ولكون الأنوار تغلق مبكرا فقد كان البائع يستعين بجلب شموع يتم تهريبها بإلصاقها بأعلى حذاءه ولكي تستأجر الصورة عليك أن تستأجر معها قطعة شمع وتتدبر كيف تشعلها بعد أن يغلق الحرس أنوار العنبر،وبعد دخول صورة نبيلة أصبح الداخلون أكثر تفننا في جلب الصور الأكثر إثارة وإشباع للنهم الذي نعيشه.

لم يكن مقدرا لمجموعة كبيرة أن تغادر هذا العنبر فى وقت قريب لذلك كان هاجسنا كيف يمكن لنا أن تقضى أيامنا دون أن نتطلع إلى الغد،وان فعلنا فعلينا أن نمضغ كثيرا من الأحلام الصغيرة والكبيرة فى انتظار أن يأتي ذلك اليوم البعيد.

كان يجاورني أحد الأفارقة - ويدعى شرنوكه - والذي كان مشغولا بالتخطيط على أرضيه العنبر ورسم أشكالا بديعة،ولم أكتشف مقدرته الفذة في الرسم إلا فى إحدى الأمسيات حين مد يده بورقة باتجاهي فذهلت لتلك الرسمة التي جسد فيها هيأتي ولصمته الطويل كنت أظن انه أصم أو أنه لا يفقه العربية لكنني اكتشفت أنه يتمتع بالسان ذرب وروح حلوة متعطشة للحياة عرفت فيما بعد أنه قيد للسجن بتهمة مزاولة السحر .

وحين علم زملاء العنبر تهمته أخذوا يتضاحكون ويلمزونه :

- لو كان ساحرا لما استطاع أحد أن يقتاده إلى هذا المكان المعتم..

كان يسمع أحاديثهم ونكاتهم بشيء من الثقة تاركا ابتسامته تسيل على شفتيه الغليظتين وعينيه الصغيرتين تتعمق تلك الوجوه المكدودة .

في إحدى الليالي تسامرنا قال أنه قدم من خلف جبال تكوتا حيث السحر والجمال من قرية لازالت تقبع خلف التاريخ بها أناس لا يعرفون سوى الغابات وأغاني الأمطار ويقدسون الروح المحلقة فى الفضاء .

ANiME CENTER
28-06-2002, 04:39 AM
ذات مساء وبينما دخلنا في نومنا سمعت هنهنة وبكاء مكتوما - كان هذا قبل فقدان البوري لعينه اليسرى - تقلبت فرأيت شرنوكه يجلس القرفصاء ضاما يده الى صدره ،اقتربت منه:

- ما الذي يبكيك

وكمن أمسك به وهو يسرق انتفض وسارع الى مسح دمع عينيه،وبشيء من الغلظة أجاب:

- هذا شأن لا يعنيك

فلازلت أتودد إليه حتى انبث حنينه دفاقا عبر كلمات ممتلئة :

- اشتقت لقريتي وتلك الوجوه السمراء المزروعة فى الأرض

وضعت يدي على ظهره مهدهدا :

- عليك أن تنسى لبضع الوقت حتى تنهى مدتك

ضغط على زنده بقوة فنفرت عروقه بتوتر وكز على أسنانه بغيظ:

- إن دمى يتلوث خلال سنة ولو بقيت المدة المقررة هنا سأموت.

وانهار واعتلى نحيبه لينهض بعض زملاءنا محاولين تهدئته،مسح مخاطه بفانلته المتسخة وتطلع إلينا متصفحا وجوهنا وقال بصوت واثق :

- سأخرجكم من هنا جميعا

فانبثقت ضحكاتنا،لكنه لم يمهلنا وقتا طويلا :

-أريد أن تتركوا لي هذا الجدار من أوله إلى أخره وبعدها سنهرب جميعا

فازداد ضحكنا،ولكنه كان أكثر احتدادا وتصميما،فلم يقابل إلا بالاستهزاء،فسكت على مضض،وفاتحني بعد عدة أيام بأن أقدم له يد العون في امتلاك هذا الحائط تقبلت كلامه بشيء من العطف :

-أنت تعلم أن لكل سجين مساحة معينة بداخل هذا العنبر ولن يتنازل لك أحد عنها إلا بمقابل

فصمت وعاد إلى مكانه سارحا،وفى اليوم التالي استطاع شراء كراسة عريضة بواسطة أحد العسكر المتعاطفين معه وامتهن رسم السجناء،كان يبيع الرسمة بريالين ولم يمضى عليه وقت طويل حتى أصبح يمتلك بعض المال دفعه لأقدم سجين بداخل العنبر وحصل على مساحة ثلاثة أمتار من الحائط كان ذلك السجين قد ورث مترين من زميلين تم تنفيذ القصاص بهما،وبعد ذلك بدأ يتوسع فى الحصول على بقية الحائط .

أذكر أن دمدمة الليل التي تحدث بعنبرنا بدأت تظهر بعد أن استطاع امتلاك أول ثلاثة أمتار من جدار العنبر .

صباح تلك الليلة التي رأيته فيها محفوفا بالزنوج،جاءني وحذرني من مغبة أن أذكر ما رأيت وخوفا من تحذيره فقد التزمت الصمت ولم أبح لزملائي بشيءمما حدث،ذات صباح استيقظنا فوجدناه يمسك بعيدان صغيرة غريبة الشكل شذبت على هيئة أقلام قال أنه جلبها معه من أدغال أفريقيا من شجرة (موبي ادبا وباب) أعرق أشجار إفريقيا،وأخذ يغمس تلك العيدان في محلول كلون الدم كان يحمله بين ملابسه ويشرع في رسم هيكل سفينة كبيرة فأخذ النزلاء يلتفون حوله وهم مبهورين بإتقانه لرسمه العجيب - والغريب أن هذه الرسمة كانت تختفي من على الحائط عند دخول دورية التفتيش - وظل لوقت ليس بالقصير يرسم سفينته ويدخل عليها التعديلات المتوالية حتى إذا أتم رسمه صاح:

- الليلة سوف أرحل فمن يصحبني

فتضاحك الجميع ،فصاح بعنف:

- كفوا عن حماقاتكم ومن يريد مرافقتي فليتحرك

تخشب معظمنا ومع صرخته الثانية،كنا نقف بتخاذل محتارين ونحن نتطلع إلى هيئته التي تغيرت وغدت أقرب لهيئة نمر ضاري يهم بالانقضاض على من يحاول التحرش به فنقدنا لنظراته باستسلام ،ولكي لا يفقد رئيس العنبر هيبته فقد اعتبرها لعبة يمكن أن تدخل السرور لقلوبنا،هذه الفكرة أنقذت كبرياءنا أمام بعضنا البعض .

وسرعان ما تحولت إلى لعبة ليدخلها نزلاء العنبر كترويح عن أنفسهم ولتخرجهم من مللهم لبعض الوقت،فقام شرنوكه ووزعنا على هيكل السفينة المرسوم وأمرنا بالوقوف أمام المكان المخصص لكل واحد منا،وطال وقوفنا فتململ الكثيرون من وقفتهم وانسحبت مجموعة كبيرة بعد أن أبدى شرونكة اللين مع من تخاذل فى وقفته،حيث كان من المقرر أن نقف من الأصيل الى غروب الشمس،وقد استقر شرنوكة فى مقدمة السفينة وهو يتطلع إلينا بثقة وتحريض على الصبر وكلما تقاعست قامتنا صاح:

- رحلتنا ليست في حاجة للمتخاذلين،ومن لم يجد فى نفسه الصبر فليغادر سفينتنا

كنا نتغامز،ونتبادل الابتسام بلا مواربة من جملته تلك التي كان يرددها بين الحين والآخر،وتجرأ الخيشة بالإفصاح عن سخريته :

- ركبت في راس العبد يفكرنا راكبين سفينة بحق وحقيق،يا جماعة فكونا من تكرنته،يلعن أبوه على أبو السفينة

فلتفت إليه بعين حارة،ونفس حامضة،ودمدم بلكنة مليئة بالشنشة جعلت من رآها يكتم ضحكته لا إراديا،وإن بقينا نلعن استجابتنا له في داخلنا،وبعد مضى ساعة صاح الهمني :

- لم أقف في الصلاة كل هذا الوقت ولن أقف لأحد

وتحرك من مكانه وقذف بجسده في زاويته،فصاح به:

- ستندم

فرد عليه بضيق:

- لو ندمت لا تدخلني الجنة

وبعده تحرك الخيشة ثم تناسلت مجموعة كبيرة،ولم يبق فى مكانه إلا خمسة أشخاص كانوا يحلمون بالهروب من حد السيف .

ومع الغروب دخل إلى الحمام ودلق على رأسه الماء واغتسل جيدا ولبس ملابسه الشعبية وجلس منشرحا بعد أن أمر من بقى معه بالذهاب للاغتسال وظلت ابتسامته تنير وجهه وهو يحرض من انسحب بانتهاز الفرصة لكن أحدا منا لم يكترث به حتى أنا الذي شاركته الفكرة منذ البدء تراجعت وسخرت مع الساخرين فقال بحزم :

- ستندمون في الصباح

وعندما وثق من عدم إجابتنا لما يدعونا إليه،جمع من وافقه ووزعهم من جديد على هيكل السفينة المرسوم على الحائط وأمرهم بالصمت حتى يحين موعد الإبحار،فجلسوا فى أماكنهم صامتين بينما تقدم هو لمقدمة السفينة وأخذ يتمتم بوقار ومثابرة لم تخرجه سخريتنا عن تمتماته وخشوعه كانوا كلهم كالخشب المسندة على الحائط،وعبثا ذهب تنكيتنا وضحكنا من إخراجهم من صمتهم،فتركناهم على هيئتهم وانقلبنا لأحوالنا .

أخذ الليل يعبرنا ببطيء ونحن نزاول ليلنا كالمعتاد في اللعب والأحاديث،والالتفات الى أولئك المتخشبين فى أماكنهم بصمت والتندر عليهم،وعندما أطفأت الأنوار نمنا ونحن نتضاحك على ركاب السفينة،ومع منتصف الليل سمعنا هديرا عاليا وصفارة قوية تنبعث في هجعة الليل وأمواج تتلاطم وثمة سفينة تشق العتمة .

أنا خارج الزمن أيها الأوغاد

ANiME CENTER
28-06-2002, 04:41 AM
الاوغاد يضحكون 2



ذات مساء وبينما دخلنا في نومنا سمعت هنهنة وبكاء مكتوما - كان هذا قبل فقدان البوري لعينه اليسرى - تقلبت فرأيت شرنوكه يجلس القرفصاء ضاما يده الى صدره ،اقتربت منه:

- ما الذي يبكيك

وكمن أمسك به وهو يسرق انتفض وسارع الى مسح دمع عينيه،وبشيء من الغلظة أجاب:

- هذا شأن لا يعنيك

فلازلت أتودد إليه حتى انبث حنينه دفاقا عبر كلمات ممتلئة :

- اشتقت لقريتي وتلك الوجوه السمراء المزروعة فى الأرض

وضعت يدي على ظهره مهدهدا :

- عليك أن تنسى لبضع الوقت حتى تنهى مدتك

ضغط على زنده بقوة فنفرت عروقه بتوتر وكز على أسنانه بغيظ:

- إن دمى يتلوث خلال سنة ولو بقيت المدة المقررة هنا سأموت.

وانهار واعتلى نحيبه لينهض بعض زملاءنا محاولين تهدئته،مسح مخاطه بفانلته المتسخة وتطلع إلينا متصفحا وجوهنا وقال بصوت واثق :

- سأخرجكم من هنا جميعا

فانبثقت ضحكاتنا،لكنه لم يمهلنا وقتا طويلا :

-أريد أن تتركوا لي هذا الجدار من أوله إلى أخره وبعدها سنهرب جميعا

فازداد ضحكنا،ولكنه كان أكثر احتدادا وتصميما،فلم يقابل إلا بالاستهزاء،فسكت على مضض،وفاتحني بعد عدة أيام بأن أقدم له يد العون في امتلاك هذا الحائط تقبلت كلامه بشيء من العطف :

-أنت تعلم أن لكل سجين مساحة معينة بداخل هذا العنبر ولن يتنازل لك أحد عنها إلا بمقابل

فصمت وعاد إلى مكانه سارحا،وفى اليوم التالي استطاع شراء كراسة عريضة بواسطة أحد العسكر المتعاطفين معه وامتهن رسم السجناء،كان يبيع الرسمة بريالين ولم يمضى عليه وقت طويل حتى أصبح يمتلك بعض المال دفعه لأقدم سجين بداخل العنبر وحصل على مساحة ثلاثة أمتار من الحائط كان ذلك السجين قد ورث مترين من زميلين تم تنفيذ القصاص بهما،وبعد ذلك بدأ يتوسع فى الحصول على بقية الحائط .

أذكر أن دمدمة الليل التي تحدث بعنبرنا بدأت تظهر بعد أن استطاع امتلاك أول ثلاثة أمتار من جدار العنبر .

صباح تلك الليلة التي رأيته فيها محفوفا بالزنوج،جاءني وحذرني من مغبة أن أذكر ما رأيت وخوفا من تحذيره فقد التزمت الصمت ولم أبح لزملائي بشيءمما حدث،ذات صباح استيقظنا فوجدناه يمسك بعيدان صغيرة غريبة الشكل شذبت على هيئة أقلام قال أنه جلبها معه من أدغال أفريقيا من شجرة (موبي ادبا وباب) أعرق أشجار إفريقيا،وأخذ يغمس تلك العيدان في محلول كلون الدم كان يحمله بين ملابسه ويشرع في رسم هيكل سفينة كبيرة فأخذ النزلاء يلتفون حوله وهم مبهورين بإتقانه لرسمه العجيب - والغريب أن هذه الرسمة كانت تختفي من على الحائط عند دخول دورية التفتيش - وظل لوقت ليس بالقصير يرسم سفينته ويدخل عليها التعديلات المتوالية حتى إذا أتم رسمه صاح:

- الليلة سوف أرحل فمن يصحبني

فتضاحك الجميع ،فصاح بعنف:

- كفوا عن حماقاتكم ومن يريد مرافقتي فليتحرك

تخشب معظمنا ومع صرخته الثانية،كنا نقف بتخاذل محتارين ونحن نتطلع إلى هيئته التي تغيرت وغدت أقرب لهيئة نمر ضاري يهم بالانقضاض على من يحاول التحرش به فنقدنا لنظراته باستسلام ،ولكي لا يفقد رئيس العنبر هيبته فقد اعتبرها لعبة يمكن أن تدخل السرور لقلوبنا،هذه الفكرة أنقذت كبرياءنا أمام بعضنا البعض .

وسرعان ما تحولت إلى لعبة ليدخلها نزلاء العنبر كترويح عن أنفسهم ولتخرجهم من مللهم لبعض الوقت،فقام شرنوكه ووزعنا على هيكل السفينة المرسوم وأمرنا بالوقوف أمام المكان المخصص لكل واحد منا،وطال وقوفنا فتململ الكثيرون من وقفتهم وانسحبت مجموعة كبيرة بعد أن أبدى شرونكة اللين مع من تخاذل فى وقفته،حيث كان من المقرر أن نقف من الأصيل الى غروب الشمس،وقد استقر شرنوكة فى مقدمة السفينة وهو يتطلع إلينا بثقة وتحريض على الصبر وكلما تقاعست قامتنا صاح:

- رحلتنا ليست في حاجة للمتخاذلين،ومن لم يجد فى نفسه الصبر فليغادر سفينتنا

كنا نتغامز،ونتبادل الابتسام بلا مواربة من جملته تلك التي كان يرددها بين الحين والآخر،وتجرأ الخيشة بالإفصاح عن سخريته :

- ركبت في راس العبد يفكرنا راكبين سفينة بحق وحقيق،يا جماعة فكونا من تكرنته،يلعن أبوه على أبو السفينة

فلتفت إليه بعين حارة،ونفس حامضة،ودمدم بلكنة مليئة بالشنشة جعلت من رآها يكتم ضحكته لا إراديا،وإن بقينا نلعن استجابتنا له في داخلنا،وبعد مضى ساعة صاح الهمني :

- لم أقف في الصلاة كل هذا الوقت ولن أقف لأحد

وتحرك من مكانه وقذف بجسده في زاويته،فصاح به:

- ستندم

فرد عليه بضيق:

- لو ندمت لا تدخلني الجنة

وبعده تحرك الخيشة ثم تناسلت مجموعة كبيرة،ولم يبق فى مكانه إلا خمسة أشخاص كانوا يحلمون بالهروب من حد السيف .

ومع الغروب دخل إلى الحمام ودلق على رأسه الماء واغتسل جيدا ولبس ملابسه الشعبية وجلس منشرحا بعد أن أمر من بقى معه بالذهاب للاغتسال وظلت ابتسامته تنير وجهه وهو يحرض من انسحب بانتهاز الفرصة لكن أحدا منا لم يكترث به حتى أنا الذي شاركته الفكرة منذ البدء تراجعت وسخرت مع الساخرين فقال بحزم :

- ستندمون في الصباح

وعندما وثق من عدم إجابتنا لما يدعونا إليه،جمع من وافقه ووزعهم من جديد على هيكل السفينة المرسوم على الحائط وأمرهم بالصمت حتى يحين موعد الإبحار،فجلسوا فى أماكنهم صامتين بينما تقدم هو لمقدمة السفينة وأخذ يتمتم بوقار ومثابرة لم تخرجه سخريتنا عن تمتماته وخشوعه كانوا كلهم كالخشب المسندة على الحائط،وعبثا ذهب تنكيتنا وضحكنا من إخراجهم من صمتهم،فتركناهم على هيئتهم وانقلبنا لأحوالنا .

أخذ الليل يعبرنا ببطيء ونحن نزاول ليلنا كالمعتاد في اللعب والأحاديث،والالتفات الى أولئك المتخشبين فى أماكنهم بصمت والتندر عليهم،وعندما أطفأت الأنوار نمنا ونحن نتضاحك على ركاب السفينة،ومع منتصف الليل سمعنا هديرا عاليا وصفارة قوية تنبعث في هجعة الليل وأمواج تتلاطم وثمة سفينة تشق العتمة .

أنا خارج الزمن أيها الأوغاد