المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكذابون الثلاثة!



عضو 32371
28-08-2002, 09:27 PM
الكذابون الثلاثة!

http://209.197.226.127/upload/images/untitled.bmp

الكذب سراب.. سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء..

سراب وخراب لفاعله.. وسراب أمام سامعه قد يخدعه أو يشككه ويوهمه أن السراب القاحل المهلك ماء فيقصده ويتعب في سبيله ويعلق عليه الآمال فإذا جاءه لم يجد شيئا .. ضاع التعب وخاب الأمل وأحس المخدوع بمرارة الخديعة ونقصان العقل وكراهية الكاذب حتى العظم..

وكما أن الإنسان الفاضل لا يزال يعمل الخير ويحب الخير ويتحراه حتى يمتزج بالخير ويصير جزءا جميلا من سلوكه يرضي ربه عز وجل ويقر عينه ويريح ضميره وقلبه ويعط ر سمعته ويجعله ينشر بذور الخير المباركة في كل مكان يحل فيه..

فإن الكذاب على العكس من ذلك, لا يزال يكذب ويواصل كذبه ويرقع أكاذيبه الواهية بالمزيد ويعتاد ذلك حتى لا ينكره ويألفه حتى يصير جزءا من شخصه وطبعا فيه وصفة لحديثه فيمتزج بالكذب حتى يعيش في ليل من الأكاذيب مظلم.. قال رسول الله : "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر, والبر يهدي إلى الجنة, وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .. وإياكم والكذ ب, فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجوريهدي إلى النار, ومايزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " رواه البخاري ومسلم..

***
وإذا تأملنا في مسيرة الكذب والكذابين فيما مضى وفي الحاضر, وإلى آخر الزمان كما يبدو, نجد أن الكذابين ينقسمون الى ثلاثة أقسام حسب أهدافهم من الكذب:

1 -فهناك من يكذب ليدفع شرا يخشى أن يصيبه.

كالطالب الذي يكذب في سبب تأخره عن المدرسة خوف العقاب, والموظف الذي يكذب في سبب غيابه خشية الحسم من مرتبه, والولد الذي يكذب على أبيه خوفا منه, وكل إنسان ضعيف يجبن عن مواجهة الحقيقة, وكل إنسان فيه أنانية كريهة يريد أن يأخذ بدون أن يعطي, كالذي يشتري بضاعة ويستل منها ويدفع مقابلها شيكا بلا رصيد, فالكذب رذيلة كبرى تتكون من ثلاث رذائل هي الجبن والجهل والظلم..

2 -وهناك من يكذب ليجلب نفعا له.

أن البشر يريدون أن يجذبوا النفع لأنفسهم, ولكننا نقول شتان بين من ينفع نفسه بالحق والخير والبر والصدق ونفع الناس, وبين من ينفع نفسه بالباطل والشر والكذب وظلم الناس, الأول فاضل.. صالح.. تعمر به الأرض.. وتزهر المجتمعات.. ويعم الخير.. والثاني ريح صرصر تجفف منابع الخير والبر وتز ه د في صنائع المعروف.. "أفضل الناس أنفعهم للناس" كما ورد في الحديث الشريف..

أما الذي يريد أن ينفع نفسه بالكذب فهو مخادع.. نصاب.. ظلوم.. وغبي يظن الناس أغبياء..

والذين يكذبون لجلب النفع لأنفسهم, على ما يعتقدون وما جلبوا لها غير الإثم والعار أنواع: هناك الحاسد الذي يتكلم في محسوده كذبا ويعد له مقالب لا وجود لها ويزيف عليه المواقف والأقوال, وهناك الحاقد الذي يريد أن ينتقم ممن يبغض بالتقو ل عليه وتشويه سمعته بالكذب والحط منه, والفرق بينهما الحاسد والحاقد ان الأول يفعل أفعاله اللئيمة الكاذبة حتى مع من لم يسئ إليه, بل ربما فعلها مع من يحسن اليه.. إذا تغلغل الحسد في قلبه كالورم الخبيث, فهو أظلم من الحاقد وأسوأ على سوء هذا ايضا لأن الأخير لا يحقد الا على من أهانه أو أساء إليه فلم يستطع مواجهته لجبنه, وصرح الحقد يبنى من حجارة الإهانات, والبغض انتقام الجبان..

وهناك المنافقون الذين يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله, فالمنافق يكذب مع هؤلاء ومع هؤلاء لينال في اعتقاده المريض الحظوة عند الفريقين فيخسر الأمرين, وهو يكذب في المدح والذم, يذم أولئك عند هؤلاء, ثم يمدح هؤلاء, وهو كاذب في الموقفين, والعكس, وهذا من شر الناس, قال رسول الله : "تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه, وهؤلاء بوجه" رواه البخاري ومسلم .. وهناك التاجر الكذوب, وما أكثرهم, ينفق سلعته بالكذب والغش والخداع, وقد يمعن في كذبه فيحلف بالله كاذبا ابتغاء عرض من الدنيا, كان في الواقع سيأتيه أكثر وأبر وأطهر لو أنه صدق وصبر.. وهناك أنواع كثيرة من الكذب الذي يلجأ صاحبه إليه لينال نفعا في اعتقاده, فالكذب يجمع العديد من الرذائل ويوصل إليها ولا فخر!.. فعشاق المظاهر وغواة التباهي والتفاخر كثيرا ما يكذبون ويعتادون الكذب حتى يكتبوا عند الله كذابين, وحتى يعرفوا عند الناس دجالين, وحتى يعودوا مسخرة للساخرين!.

3 -وهناك الذين يكذبون ابتغاء الضحك والهزل واللغو والمزاح.

وخطورة هذا النوع من الكذب وكل الكذب خطير أنه بالمزاح يقود الى التجريح, فالمزاح هو السباب الأصغر, ويقود الى النميمة والغيبة مع الإغراق في الضحك وطلب الإغراب, ويصبح قلة أدب أو عادة.. عادة السوء التي عناها الشاعر حين يقول:

لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الأدب !

على أي حال "كل بني آدم خطاءون وخير الخطائين التوابون" كما ورد في الحديث الشريف, والإنسان يجاهد نفسه على التحلي بالخير ما استطاع, ويجد الأجر والجمال في ذلك الجهاد, وحتى لو كان معتادا الكذب لسبب أو آخر فإنه يستطيع بالتصميم والمثابرة أن يخلص من هذه العادة الذميمة بالتدريج, إن استطاع أن يرميها من النافذة فهو الأفضل والأسلم وإلا فلينزل بها مع الدرجة ويحاصرها ويحدها حتى تصل الى باب الخروج فيركلها سعيدا بفراقها غير مشتاق!

والعاقل يعلم أن الصدق فوق أنه واجب ديني وأخلاقي أجدى نفعا من الكذب بكثير على المدى الطويل, حتى بمقياس (النفع) نفسه والذي ألجأ الكاذبين الى هذا الحبل القصير:

1 -فالكذب لدفع الضرر عن النفس ينكشف سريعا , فيعود الضرر أكبر, مصحوبا بعدم الثقة حتى لو جاء سبب قاهر في المستقبل فلن ينجو صاحبه من العقاب لأنه كذب مرارا حتى صار كذابا لا يصدقه أحد:

وإذا عر ف الكذاب بالكذب لم يزل
لدى الناس كذابا وإن كان صادقا

يضاف إلى هذا أن اعتياد الكذب لدفع الضرر يجعل صاحبه يعتاد الكسل والتسويف والاستخفاف بالأمور والناس اعتمادا على الكذب وهو لا يعتمد عليه فهو حفرة يغوص صاحبها فيها حتى تقضي عليه..

2 -والكذب لأجل جلب المنافع قصير الأمد ضرره أكبر على المدى الطويل, فالناس ليسوا أغبياء, والتاجر الكذوب قد يربح مرتين أو ثلاثا ولكن مصيره إلى الإفلاس التام إذا دام على ذلك لأن الناس سوف يعرفونه ويتجنبونه تماما , لا ينجح على المدى الطويل إلا التاجر الصادق (الجادة ولو طالت) لأنها توصل صاحبها إلى بر الأمان, أما طرق الكذب الجانبية المجهولة فلا توصل إلا إلى الحسرة والخسارة, وضياع الجهود في اصطناع الأكاذيب, ولو بذل هذا جهوده تلك في العمل الدؤوب بصدق لنجح وبر ونفع واستنفع وأراح واستراح..

كذلك الحسد والحقد وما يدفعان إليه من كذب, فالحاسدون والحاقدون يحقق لهم الكذب عكس ما يعتقدون, فهو ذم لهم, وفخر لمن يكرهون, لأن الناس يميزون الغث من السمين, ويعرفون الدوافع, ويدركون بواطن الأمور, فكلام الحاسد له رائحة نفاذة لا يخطئها أغبى الناس, وهو لصالح المحسود رغم أنف الحاسد:

لولا التخوف للعواقب لم يزل
للحاسد النعمى على المحسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يع رف طيب عر ف العود

والحاسد يريد بكذبه وهذيانه ضرر محسوده فلا يضر في الواقع إلا نفسه, ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله:

اصبر على مضض الحسود
فإن صبرك قاتله

كالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله

وعلاج ذلك هو الإيمان بالله عز وجل وأنه هو الخالق الرازق وأن الحسد اعتراض على حكمته عز وجل فهو منكر يقود الى أسوأ العواقب, وحسبك ان اول جريمة وقعت في السماء كانت بسبب الحسد والكبر حين أبى ابليس لعنه الله ان يسجد امتثالا لأمر الله, وأول جريمة وقعت في الأرض كانت ايضا بسبب الحسد حين قتل قابيل أخاه هابيل حسدا له على أنه تقبل منه والقاتل لم يتقبل منه..

والحقد الذي يدفع للكذب والتشفي العاجز بالتقول والتزايد انما يدل فقط على الجبن والضعف وعدم القدرة على المواجهة فهو جهد العاجز.

أما المنافقون الذين يركبون مطية الكذب وبئس الراكب والمركوب فإنهم يستخفون بالقيم والعقول فينالون الاحتقار والخسران.

والذين يكذبون من باب (الجخ والنفخ) وحب التفاخر والمظاهر يكشفون سوءاتهم وهم لا يشعرون, يدلون على شعورهم بالنقص, وإحساسهم بالدونية, ويجعلون أنفسهم (أراجيز) في مسرح ساخر هم فيه المساخر والمهازل والبهلوانات!.

3 -وأما اعتياد الكذب لأجل المزاح والضحك والإغراب والهزل واللغو فإنه ايضا لا يأتي بخير وان كان أسهل من سابقيه, وفي حقائق الحياة, وفي المجردات, وفي الآداب والفنون وأخبار العالم وجميل الهوايات, وفي القراءة والرياضة وحديث العقول الناضجة, ما يغني عن تلك الأكاذيب, ويكون أمتع.. وأنفع.. وأجدر بكل إنسان يحترم نفسه.

عبدالله الجعيثن

والله سبحانه أعلم