المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليلة كل عام



vireri.9
13-09-2002, 07:51 AM
ليلة كل عام

نجيبة سيد علي

مشيا معاً، تنهب أرجلهما الصغيرة الأرض الخضراء، يذرعان الطرقات، ويشقان الأزقة، في عتمة كل زقاق يفارقان وجه القمر المضيء على أمل جديد باللقاء، يلتقيانه ثانية في ودٍ وشوق، يبسط لهما ضوء ساحراًَ يجنبهما عثرات الطريق ويأمنهما الكبوات.

صورة النجوم المتلألئة في صفاء السماء تنعكس في حدقات أعينهما البريئة كلما مد كل منهما عنقه للأعلى فيشع سنا الفرحة فيها براقاً منبئاً عن قلوب حيّة، لطالما انتظرا هذه الليلة التي تمر في كل عام وتبقى ذكرياتها طوال العام، ليلة النصف من شهر رمضان يعدون لها العدة ويمنون بها الأحلام، ليلة فريدة تحلق فيها أرجل الصغار من بيت إلى بيت كما تحلق الفراشات من زهرة لأخرى وتأخذ منها نصيبها من الرحيق، وتمتلئ الأكياس بالحلويات والمكسرات وكل ما يلتذ به الصغار، وتزدان الفتيات بحلة جديدة وكذلك الفتيان، ويعاهدهم القمر كل عام أن يبقى معهم سائراً يضيء لهم الدروب ويبهج الخطوات.

احتمل سعد كيسه في يده، بينما لفَّ عبدالله حبل الكيس حول عنقه، الأكياس ثقيلة لكن ثقلها تثير فيهم سروراً وفخراً، فعما قريب يلتقي الجميع ويتفاخرون بما جمعوه من حلويات ونقود، مرت عليهما جماعة من الأطفال، لحقا بها، انضما إليها، صاروا يطرقون الدور (ويكَركَشون)، تتلاحم أصواتهم معاً، فتثير في الليل شدواً جميلاً يصل أسماع القمر فتطرب النجوم وتزداد تلألؤاً:

كَريكَشون ناصفات حلاوات

على النبي صلوات

أعطونا الله يعطيكم

بيت مكة يوديكم

مكة المعمورا

فيها السلاسل والذهب والنورا

اتجهت المجموعة نحو زقاق آخر ودور أخرى، استبق عبدالله صاحبه ليلحق بالمجموعة لكن سعد استوقفه قائلاً وقد بدا كوخ صغير يبزغ منه بصيص خافت من النور.

- دعنا نذهب إلى ذلك الكوخ أولاً.

- ماذا.. إنه بعيد.. والطريق إليه مظلم.

- لا تخف، سوف نمشي بحذر.

- الأفضل أن نلحق بالمجموعة يا سعد.

- تذكر أن أحداً من الأطفال على ما يبدو لم يطرق باب الكوخ، سوف يكون عطاؤنا كثيراً.

- حسناً، لنمسك بعضنا جيداً.

تلاحمت أيديهما، مشيا خطوات بطيئة حذرة حتى اقتربا من دائرة الضوء التي تنطلق من الكوخ، صارت خطواتهما واثقة، اقتربا، طرق سعد الباب وعيناه توزعان النظرات هنا وهناك وعقله لا يتوقف عن الانشاد الخافت المتقطع بينما عبدالله يقف كأنه يحتمي إليه من مصير مجهول.

فتح الباب، عجوز محدودبة الظهر، بالية الثياب، وطفل مقارب لهما في السن يرقد على أريكة ممزقة الفراش، وضوء خافت من سراج لعق آخر قطرات الوقود، التقت نظرات الأطفال ببعضها، أحسا في نظرات طفل الأريكة حزناً دفيناً، سحب سعد نظرته إلى كيسه ليفتحه منتظراً ما ستعطيه إياه العجوز التي ابتدرته قائلة في انكسار:

- لقد انتهى (الكَريكَشون)، تعاليا إلينا في العام القادم إن شاء الله.

قاطعها طفل الأريكة معترضاً:

- أبداً يا جدتي، لم يكن معنا ما نوزعه.

سكت ثم أضاف ونظراته مركزة على كيس سعد:

- ولا حتى ما نأكله.

سأله عبدالله مشفقاً:

- ولِمَ لم تخرج كغيرك من الأطفال؟

أطرق طفل الأريكة بعينيه إلى الأرض ورفعهما قليلاً إلى لباسه البالي، قال متحاشياً الحقيقة المؤلمة:

- فضلت أن أبقى مع جدني لكي لا تكون وحدها.

أغلق سعد كيسه، تراجعت خطواته للوراء، أعد نفسه لذكر أناشيد عدم العطاء، لكن عبدالله دفعه قليلاً كأنه يريد أم يرمي طفل الأريكة بنظرة أخيرة، التقت النظرات ثانية، أنزل عبدالله عنه كيسه، تقدم بخطوات خجولة، وضعه في رقبة طفل الأريكة، قال في هدوء:

- هذا لك.

وانطلق ليغلق الباب وراءه.

ابتدره سعد مندهشاً:

- كيف فعلت ذلك.

- بل لِمَ لم تفعل مثلي؟

- ماذا، أعطيه كيسي، هذا مستحيل، وكيف أقابل أصدقائي وأخوتي بعد نهاية جولتنا، أقابلهم خالي اليدين مثلك وقد كنت أمنّي نفسي بالفخر أمامهم بما جمعت!

- هذا يعني أنك لن تناصفني كيسك؟

سكت سعد ولم يجب، أطرق إلى الأرض ولم يطل إذ سرعان ما فوجئ بغلام يهجم عليه ويسرق منه كيسه، حاول سعد أن يلحق به، لكن الغلام اختفى في خباء النخيل المظلم والمخيف، تراجع سعد، قال لعبدالله في لهجة حزينة:

- ها أنا ناصفتك حظك، فكل منا سيرجع خالي اليدين.

ابتسم عبدالله، وقال:

- لكن مع وجود الفارق.

منقووووووووووووووووووول