المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صبي يحترق



vireri.9
13-09-2002, 07:54 AM
صبي يحترق

قصة: السيد حمزة الشاخوري

أنا

الوقت ظهراً، والطريق خالية تماماً، والشمس ترش الشوارع والأبنية بلهب مشتعل. جلده يتفصد عرقاً، وملابسه ترشح بللاً، وهو يمشي حافي القدمين غير عابئ..

جذبتني هيئته الرثة لمتابعته، وحين تحول عن الشارع إلى أحد الأزقة؛ انتابني حنق ضده، فقد اضطررت أن أترك الهواء البارد داخل سيارتي لأمشي وراءه. يبدو بأنه شعر بملاحقتي له فتوقف، صار ينظر تجاهي بعينين باردتين. لمحت طيف الموت يسكن وجهه الشاحب. للحظات احترت ما أفعل؟ أطرقت برأسي أفكر وحين قررت الاقتراب منه تطلعت نحوه فكان قد اختفى.. لابد أنه اغتنم فرصة تفكيري ليهرب.

كان يتفرع عن الزقاق دربان ضيقان قد حجبت الأبنية عنهما أشعة الشمس، دلفت صوب أحدهما وهرولت حتى انتهى بي الدرب إلى جدار قائم، ولم يكن منفذ آخر أمامي، فاضطررت أن أعود.. زدت سرعتي واقتحمت الآخر .. كنت ألهث قليلاً.. وكلما أوغلت السير اشتدّ تعبي وتوتر حنقي. ومال بي الدرب يميناً حتى وجدتني أمام مفترق طرق.. سرت منهكاً نحو سيارتي، ونفسي تفور بقرار العودة في الغد.

هو

أيظنني غبياً؟! كأنني أعرف وجهه! ربما كان صديقاً لأبي. لابد أنه بعثه ليترصدني ((هي هي.. العب غيرها)) ماذا تريد مني يا أبي؟ ألم تيأس بعد؟ لقد حذفتك من ذاكرتي فلما مازلت تذكرني؟ لقد برأت كلَّ جروح جسدي.. صحيح أن آثاراً كثيرة ما تزال تذكرني بعصاتك الغليظة، وبتلك الركلات الجنونية.. لكنني حذفتك من قاموس حياتي.. فأنا لا أنام في بيتك.. ومنذ سنوات لا آخذ مصروفي منك.. أنت لست أبي.. لست أبي.. لست أبي!

أنا

ظهر اليوم التالي قصدت القرية نفسها.. ولما حاذيت الشارع العام ألفيت مجموعة من الصبية يتراكضون فيما ضحكاتهم تتعالى. وقبل أن أستوعب المشهد، رأيت كهلاً يجري وراءهم ولسانه يهذر بشتائم تفضح غضبه. وقع نظري عليه بينهم فاعترتني رعشة ثم جمدت أطرافي. لا أدري ما الذي يشدني لهذا الصبي؟ فمنذ الأمس وصورته عالقة برأسي لا تفارقه للحظة.

التففت من الخلف وقطعت عليهم الطريق فتحوطوا السيارة، أصبح أمامي مباشرة، وجهه المحترق بأشعة الشمس يحمل إليّ ذكريات قديمة وغائمة. ليته يقترب أكثر.. لأجرب أن أناديه.. إنه يتجاوب هذه المرة، لعله اطمأن إلي. نفسّت زجاج النافذة فبصق في وجهي.. وفروا إلى طريق جانبية، وظللت أسمع ضحكاتهم وهم يبتعدون..

هو

البصقة إنذار! وسيتلوها ما هو أعظم.. إن لم يكف هذا الحقير عن التدخل في شؤوني. ليخبر أبي.. ما عساه سيفعل؟ أنا ما عدت أخاف أحداً. عليَّ أن أخطط لمواجهته. سأنهي مشكلتي معه. والآن سأترك أمره للصباح.. عليّ أن أبحث عن شيء آكله.. ابن الحرام ذاك العجوز تخلى عني منذ اشترى دجاجاته.. صار يقدم لها بقايا طعامه. الملعون لقد نسيني.. لكنه لن ينجو بفعلته.

أنا

((لقد حان الوقت لأذهب لرؤيته. فكيف تراه سيتصرف اليوم.. أيبصق في وجهي أيضاً؟! لأكن حذراً)). حدثت نفسي ثم انطلقت، اخترت لنفسي موقفاً خلف صف من النخيل غطت سعفاته على سيارتي، وهناك لبثت أنتظره. تلفت في الاتجاهات فلم أره.. وبعد دقائق سمعت صوت ارتطام فتطلعت ناحية الصوت ورأيته يكلم فتاة تطل من نافذة الطابق العلوي. ثم انحنى والتقط كيساً وسار باتجاهي.. تأكد لي بأنه سيراني، غير أنه قبل أن يصل قربي انعطف يساراً.. ظللت أراه حتى ابتعد وغاب داخل الأزقة.

هممت بالحركة عندما وجدته يعود مصطحباً معه أربعة صبيان، يحمل كلٌ قضيباً حديدياً.. حاصروني، إذ ليس أمامي طريق آخر غير الذي يوصلني لهم. اخترت البقاء مكاني. اقتربوا مني أكثر. بات بإمكاني تبين ملامحهم المتحفزة. شعرت بالخطر. وقبل أن أتصرف هجموا على السيارة، كسروا زجاجها، وسحبوني إلى الخارج. قاومت وحاولت الإفلات من بين أيديهم.. فإذا هو يرفع قضيب الحديد عالياً…

الكهل

((ملعون هذا الزمن! مَنْ تفعل له خيراً لا يجازيك إلا بالشر)).. سنة مضت وأنا أحسن إليه، قاسمته طعامي، وتخليت له عن لحافي يوم أن وجدته نائماً فوق بلاطات البيت المهجور.. ولولا تهديدات أبيه لآويته في غرفتي.. لكن ما الحيلة؟ الله يعلم بأنني لم أبخل عليه بشيء.. حتى أقعدني المرض ولم أستطع الخروج لأوصل لقمته إليه.. توقعته أن يعودني.. أن يطرق الباب ليسأل عني.. فإذا به يجمع صبية الحي ويهاجمونني ويسرقوا بيتي…

هو

بعد الآن سيحسب أبي ألف حساب قبل أن يرسل أحداً ليتبعني.. فهذا الأبله قد اختفى إلى الأبد.. وحتى لو نجى فلن يجازف بملاحقتي ثانية.. وكيف تراه سينجو؟! هل سيصلحوا عينه المفقوءة؟! بإمكانهم أن يرمموا جمجمته، لكنهم لن يستنبتوا له أسناناً. قد يعطونه كتلك الصناعية التي كنت أراها في فم جدي. ((مبروكة عليك يا صديق أبي!! أوه لقد نسيت أن أغسل سكيني عن دمائك الملوثة)) سأغسلها ثم سأخرج..

أنا

أجفاني ثقيلة جداً بالكاد استطعت رفعهما. كل ما حولي أبيض.. الجدران، الفراش، والملاءات. ورأسي يرقد في هوة عميقة لا يمكنني إخراجه منها.. أدركت بأنني في المستشفى، لكن لا أدري منذ متى؟ جسدي كله يؤلمني.. رحت أتفحصه حتى دخلت عليّ زوجتي يتبعها والدي ثم والدها. جلسوا حولي، وقد سرهم تخلصي من غيبوبتي التي دامت ثلاثة أيام كما أخبروني، ثم راح أبي يعاتبني:

ـ ما لك وأولاد الناس؟ ليحترقوا! ما دخلك أنت؟ أنظر ماذا جنيت من شفقتك عليهم..؟!

تأوهت وأنا أحاول إجابة أبي.. فقد كان فكي مخلخلاً، قلت:

ـ لست مشفقاً على أحد يا أبي.. لكني أحببت ذاك الصبي وودت لو أعرف قصته.

ـ ونتيجة حبك أن تموت مشوهاً.. من أجل قصة مشرد قد تخلت عنه أسرته.

ـ كيف؟ تساءلت وقد خلت أبي يعرف الصبي جيداً.

ـ القصة طويلة يا ولدي والكل يعرفها..! ولم أظنك لم تسمع بها من قبل أن تتورط معه.. منذ سنوات وهذا الشقي يتنقل بين الشوارع والسجون. يسرق متجراً فيدخل الحبس. يخرج فيتشاجر مع أحد المارة، يغيب خلف القضبان، ويوم يفرج عنه يهاجم أحد المنازل.. الأفضل أن يعدموه ليريحوا الناس من شره.. فقد تخلت عنه أسرته وتبرأ منه أبوه، ولم يتبقى له سوى أخته التي ترمي له طعامه من النافذة خلسة من أبيها.

صمت أبي وهو يتأفف فقلت بعد تفكير:

ـ غريب!

ـ ما الغريب؟ زوجتي تسألني.

ـ القصة كلها غريبة! فأنا لا أستوعب كيف يستطيع صبي مراهق أن يتخلى عن دفء أسرته، ليهيم في الطرقات، ويكابد التشرد والجوع والحرمان، ثم يحترق تحت لهب الشمس..

ـ هو لم يتخلى، أوضح والد زوجتي، فقد طرده أبوه بعد أن طلق أمه، كان ابني يدرس معه، وقد حكى لي مراراً بأنه كان يحضر إلى الفصل وآثار الكدمات تملأ وجهه، حتى صارح ابني ذات يوم بأنها من فعل أبيه.. ومن يومها لم يره أحد في المدرسة أبداً..

بعد أسبوعين غادرت المستشفى، كانت الساعة الواحدة ظهراً.. كان أبي يقود السيارة فطلبت إليه أن ينعطف صوب القرية.. فتطلع نحوي مبتسماً وهو يردد: (لن تترك شقاوتك ولو أوصلتك القبر)!.

منقووووووووول