المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخبار سياسية الشيخ عمر عبد الرحمن .. قضية عالِم ممتحَن وأسير منسي



الجميلي
23-11-2002, 12:48 AM
بسم الله الرحمن الرحيم



(( إنني مطالب أمام عقيدتي وأمام ضميري أن أدفع الظلم والجبروت ،وأرد الشبه والضلالات ،وأكشف الزيف والانحراف ،وأفضح الظالمين على أعين الناس ،وإن كلفني ذلك حياتي وما أملك )).

كلمات مضيئات لا تزال محفورة في الذاكرة ،منذ سمعناها ووعيناها من شيخنا العالم المجاهد الدكتور عمر عبد الرحمن منذ أكثر من عشرين عاماً ،وأشهد أنا ما رأينا منه خلال هذه السنين الطوال إلا مزيداً من الثبات على الحق ،ومزيداً من الترجمة العملية لما تحويه تلك الكلمات من معاني التضحية والصبر على الأذى في سبيل الله .

ولعل في محنة الشيخ في سجون الأمريكان والتي مضى عليها الآن قرابة السنوات العشر خير دليل على ما نقول ،فلقد امتحن الشيخ على يد هؤلاء المجرمين بما لم يمتحن به سواه فلفقت له التهم الباطلة ،ودس عليه من بني جلدته من يحاول توريطه في قضية هي من إعداد المباحث الفيدرالية الأمريكية ،انتهت بالحكم عليه من قبل قاضٍ يهودي متعصب بالسجن مدى الحياة استناداً لقانون قديم لم يطبق منذ الحرب الأهلية الأمريكية .

حقد دفين :

أصدر القاضي المجرم هذا الحكم القاسي في حق الشيخ بالرغم من أنه كان من بين الأشرطة السمعية التي زعموا أنها أدلة إدانة للشيخ، كان من بينها شريط قدم للمحكمة بطريق الخطأ، وهو يحوي مكالمة هاتفية بين ضابط أو ضابطة من المباحث الفيدرالية، وبين العميل المصري المدعو عماد سالم، وفيه يشرح الضابط لذلك العميل كيف يمكنه الإيقاع بالشيخ وتوريطه في القضية، وأن عليه أن يحاول استدراجه للحصول منه على أقوال يمكن أن تعد جرائم يعاقب عليها القانون، وقد كان هذا الشريط وحده كافياً في نسف كل التهم الموجهة للشيخ على أساس أن القانون الأمريكي يمنع من استدراج شخص لإيقاعه في خطأ يحاسب عليه القانون،ولكن الحقد اليهودي الصليبي أبى إلا أن يتجلى في أبشع صوره وأسوأ مظاهره .

ولقد طلب محامي الشيخ وقتها من القاضي التنحي عن نظر القضية لأسباب تتعلق بكونه يهودياً متعصباً، وأن الشيخ لن يلقى على يديه محاكمة عادلة، ولكن القاضي المجرم رفض ذلك الطلب، وهو ما دفع ذاك المحامي إلى الانسحاب من القضية، ثم قال قولة حق وصدق تدمغ القضاء الأمريكي بالظلم والتعصب حيث قال: (( إن أي مسلم لا يمكن أن يحاكم في هذه البلاد محاكمة عادلة )) .

ثم إن وزيرة العدل الأميريكية السابقة كانت قد برأت الشيخ –فرج الله أسره- من قضية محاولة تفجير مركز التجارة العالمي عام 1993 وقالت إنه لا توجد أدلة على ذلك. وتحت ضغوط الصهاينة والنظام المصري تم تلفيق الاتهامات التي حوكم بها الشيخ -حفظه الله- وأهمها تهمتي التحريض على اغتيال الرئيس المصري أثناء زيارةٍ كانت مقررة له وقت ذاك إلى نيويورك، والتحريض على قتال الجيش الأمريكي، والشكوك تحيط من كل جانب باعتبار الأقوال المنسوبة للشيخ تحريضاً بالمعنى القانوني، لكنا إذا افترضنا جدلاً أن هذا التحريض قد وقع فعلاً، فإن من المقطوع به أن الرئيس المصري لم يزر نيويورك في تلك الفترة، كما أنه لم تحدث أي هجمات ضد الجيش الأمريكي، بل لم يتم الشروع في أي من الجريمتين المزعومتين، فهل تكون عقوبة التحريض على جريمة لم تتم بل لم يشرع فيها هي السجن مدى الحياة، مع الحرمان من حق المتهم في الإفراج عنه بعد مضي نصف المدة إذا كان حسن السير والسلوك، وهو الحق المقرر في القانون الأمريكي وغيره من القوانين المعاصرة ؟!

وقد كانت آخر معلوماتنا عن الشيخ -قبل أن تنقطع أخباره منذ شهور -أنه لا يزال في الحبس الانفرادي ،وهو الشيخ الضرير ،الذي يعاني من أمراض السكر وارتفاع ضغط الدم وغير ذلك ،كما سمعنا أنه فقد الإحساس بأنامله ،وتدهورت حالته الصحية كثيراً حتى قال من سُمح له بزيارته منذ أكثر من عام إن من يراه يظنه في التسعين من عمره لا في الثانية والستين ، وقد تعرض للضرب والإهانة أكثر من مرة ،كما اعتقلوا مترجمه الأخ أحمد عبد الستار منذ عدة أشهر ،وأخيراً أعلنت محامية الشيخ أنه ليس موجوداً في سجنه ،ولسنا ندري ماذا فعل به هؤلاء المجرمون .

وإذا كانت نصرة الشيخ واجباً قصر فيه المسلمون فقد رأيت أن أقل ما ينبغي علينا القيام به أن نحيي قضيته ،بالحديث عن بعض ما وعيناه عنه من الدروس ،وما شهدناه أو علمناه من مواقفه التي كانت مثالاً يحتذى في الصبر والثبات ،لعل ذلك يُعرِّفُ به من لم يعرفه ،أومن سمع به ولم يعلم عنه إلا ما تردده أجهزة الإعلام المضللة ،التي لا تزال تصم الشيخ وأمثاله بأنهم متطرفون إرهابيون أصوليون إلى آخر تلك القائمة التي لا تنتهي .

صفحات ناصعة من الدعوة والجهاد :

والحق أن جهاد الشيخ وصدعه بالحق كان قد بدأ في وقت مبكر من حياته وقبل عدة سنوات من اتهامه في قضية قتل السادات والقضية التي تلتها والتي سميت بقضية الجهاد عام 1981 ،وهما القضيتان اللتان ارتبط اسمه بهما ،واشتهر في بداية الأمر من خلالهما ،فالذين يعرفون الشيخ عن قرب يعلمون أنه كان صادعاً بالحق منذ توليه الخطابة بمساجد وزارة الأوقاف قبل تخرجه من كلية أصول الدين بدءاً من العام 1964م،وأنه لأجل ذلك كان يستدعى للتحقيق من قبل الأجهزة الأمنية ،بل أحيل للاستيداع عام 1969م ،ثم أعيد ولكن إلى عمل إداري لا يحتك فيه بالجماهير ،ثم اعتقل في أكتوبر عام 1970م بعد إفتائه بأنه لا تجوز صلاة الجنازة على جمال عبد الناصر .

وفي العام 1974 أرادت زوجة الرئيس السابق (السادات) تمرير قانون جديد للأحوال الشخصية يمنع تعدد الزوجات،ويمنع الطلاق إلا على يد القاضي ،وقف الغيورون ضد هذا القانون المخالف لشرع الله ،وكان شيخنا واحداً من هؤلاء الغيورين،وقد كان حينئذ مدرساً بكلية أصول الدين بأسيوط ،فقاد مسيرة من طلاب فرع جامعة الأزهر بأسيوط التقت مع مسيرة أخرى لطلاب جامعة أسيوط عند مبنى المحافظة ،وهناك سلم الدكتور عمر إلى محافظ أسيوط وثيقة احتجاجية باسم الجامعتين تعترض على هذا القانون الخبيث وتطالب بمنع إقراره .

ثم سافر الشيخ في إعارة لإحدى الجامعات السعودية ،ولكنه قطع إعارته وعاد لمصر في عام 1980م لما أرادوا التضييق عليه منعه من الدعوة والخطابة .

ثم جاءت أحداث عام 1981 في مصر ،وقبض على الشيخ وقدم للمحاكمة مرتين كما أسلفنا ،وقد برئ في كلتا القضيتين بعد ما ذاق التعذيب ألواناً،لكنه تلقاه بصبر المؤمن وثبات الواثق بربه،وكان كثيراً ما يردد أثناء تعذيبه :((ذق أيها الجسد الفاني ،ذق )).

وحين كان يسأله بعض زبانية التعذيب ماذا كنت تقول بالخارج ؟ كان يجيب في غير خوف ولا تردد : ((كنت أقول الحق ولو كان مراً )) .

كلمة الحق :

ولا زالت كلماته القوية في مرافعته أمام محكمة أمن الدولة -والتي نشرت بعد ذلك في كتاب بعنوان كلمة حق - لا زالت ماثلة في أذهان كثير ممن عاصروها ورأوا فيها عزة العالم المسلم حتى وهو سجين مستضعف ،وذلك مثل قوله مخاطباً قاضيه :
((أيها القاضي المستشار:حق الله ألزم من حق رئيس الجمهورية، الله يمنعك من الحكومة ،والحكومة لا تمنعك من الله )).

وقوله : (( إنني مسلم أحيا لديني وأموت في سبيله ،ولا يمكن بحال أن أسكت والإسلام يحارب في كل مكان ،أو أن أهدأ وأمواج الشرك والضلالة تتلاطم وتغمر كل اتجاه (كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ).. )) .

(( أنا لا يرهبني السجن ولا الإعدام ولا أفرح بالعفو أو البراءة ،ولا أحزن حين يحكم علي بالقتل ؛فهي شهادة في سبيل الله وعندئذ أقول فزت وربِ الكعبة ،وعندئذ أقول أيضا:ً ولست أبالي حين أقتل مسلماً * على أي جنب كان في الله مصرعي )).

كما كان موقف الشيخ واضحاً في مرافعته من أنظمة الحكم المخالفة لشرع الله تعالى، وفقدانها للشرعية بسبب امتناعها عن تطبيق شرع الله ،حتى كان محاموه يشفقون عليه من أن تتخذ أقواله تلك دليل إدانة ضده ،فكانوا يتدخلون ليقولوا للمحكمة إنه لا يقول هذا الكلام بصفته متهماً في القضية ،وإنما بصفته واحداً من علماء المسلمين .

رحماء بينهم :

وإذا كانت مواقفه في وجه الظلم والظالمين ،قد اتسمت بهذا القدر الذي أشرنا إليه من القوة والصلابة ،فإن مواقفه مع إخوانه وتلاميذه كانت تتسم بحنو الوالد ،وحرص الأستاذ والمعلم على محبيه ومريديه ،فكان دائم المواساة لهم والتسرية عنهم ، ولقد روى الأخ الشيخ عبود الزمر في حوار صحافي معه أنه لما حكم عليه بالسجن حزن حزناً شديداً ؛إذ كان يريد أن يلقى الله شهيداً ،وظل في حزنه إلى أن جاءته كلمات الشيخ حفظه الله : (( لقد بعتم أنفسكم لله ورضيتم بالجنة ثمناً لها ،وهو سبحانه صاحب الحق في أن يضع السلعة التي اشتراها حيث شاء ،وما عليكم إلا التسليم والرضا ؛لأنها بالبيع خرجت عن ملككم ،فإن شاء ابتلاكم بالسجن ،وإن شاء رزقكم الشهادة ،وليس لكم أن تشترطوا فتقولوا : نريد شهادة ولا نريد سجناً)).

كما كان الشيخ -ولا يزال -حاملاً هم الإسلام والمسلمين ،شديد الحزن والتأثر لما آلت إليه أحوال الأمة من ضعف وذلة ،حتى إنه استمع إثناء محاكمته في قضية اغتيال السادات إلى الشباب وهم ينشدون :

ملكنا هذه الدنيا القرونا * وأخضعها جدود خالدونا
فلما بلغوا قول الشاعر :

ترى هل يرجع الماضي فإني * أتوق لذلك الماضي حنينا

فوجئوا بدموع الشيخ تنهال على لحيته ،ورأوه يبكي وهو الذي تحمل كل صنوف التعذيب فلم يضعف ولم تخنه عبراته ،رأوه يبكي حنيناً وشوقاً لمجد تعب في تحصيله الأجداد فأضاعه الأحفاد .

ذكر ودعاء :

وفي فترة سجنه التي استمرت ثلاث سنوات ضرب الشيخ أروع الأمثلة في الصبر والثبات، مستعيناً على ذلك بأنواع الطاعات من الصيام والقيام والذكر وغير ذلك ،وقد كان يداوم على قيام الليل بجزء كامل كل ليلة ،حتى إن بعض إخوانه كانوا يتعبون من متابعتهم له ،بل كان البعض يتهرب من الصلاة خلفه أحياناً،هذا وهو يومها كهل مصاب بعدة أمراض ،وهم شباب في العشرينيات من أعمارهم .

عود للدعوة والجهاد :

وما إن منَّ الله عليه بالخروج من السجن في أواخر عام 1984م ،حتى عاد الشيخ مرة أخرى لممارسة دوره في الدعوة والصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وحاول الطغاة إغراءه فعرضوا عليه أن يولوه الخطابة في مسجد كبير بمدينة الفيوم التي كان يقيم فيها ،وكان هدفهم من ذلك تحجيمه وعدم توسيع نطاق دعوته ،وقد فهم الشيخ ذلك فرفض ذلك العرض مفضلاً أن يكون داعية حراً يجوب البلاد صادعاً بالحق متحملاً في سبيل ذلك أي مشقة وابتلاء .

الممارسات القمعية من النظام :

ثم تولى اللواء زكي بدر وزارة الداخلية في فبراير 1986وبدأت مرحلة جديدة كانت سياسة النظام فيها الاعتقالات المتكررة والضرب في سويداء القلب ،كما كان يكرر ذلك الوزير الهالك عليه من الله ما يستحقه ،وقد كانت البداية هي قتل الأخ شعبان راشد رحمه الله بمدينة أسيوط حيث قام أحد مخبري مباحث أمن الدولة بإطلاق الرصاص عليه ،وهو يهم بإلصاق إعلان عن محاضرة للشيخ بأحد مساجد المدينة ،وثارت ثائرة الشباب،رغبة في الانتقام من هذا المجرم الأثيم ،وأذكر أنه قد جاء يومها أخ كريم لا أرى مانعاً من ذكر اسمه الآن بعد أن مضى على استشهاده على أرض أفغانستان أكثر من عشر سنوات ،ألا وهو الأخ علي عبد الفتاح المكنى بعد ذلك بأبي اليسر ،وكان وقتها أميراً للجماعة الإسلامية بالمنيا ،جاء الأخ الشيخ علي وبشجاعة معهودة منه قال للشيخ : إنني على استعداد للقصاص من هذا القاتل المجرم ،وسوف أستطيع بإذن الله أن أدبر الأمر وحدي ،وأتحمل مسؤوليته وحدي ،ولكن الشيخ من منطلق حرصه على أبنائه -ولم يكن قد مضى وقتها على خروجهم من السجون إلا عام وبضعة أشهر -رأى أنه لا يصح التورط في أي عمل ،يجر الشباب إلى معركة غير متكافئة مع نظام طاغوتي ظالم ، بل إن الشيخ قد ذكر -في مؤتمر حاشد عقد بتلك المناسبة -أنه علم أن الشباب ينوون الخروج عقب المؤتمر بمسيرة حاشدة تجوب أرجاء المدينة ،وناشدهم أن لا يفعلوا ذلك ،وأن ينصرفوا في هدوء ،حتى لا يتخذ ذلك ذريعة لتدخل أمني غاشم .

ولم يكن هذا التصرف من الشيخ إلا تغليباً لمصلحة الإسلام والمسلمين ،لا رغبة في إرضاء حاكم أو تملق ذي سلطان ،ولذا فإنه لما جاءه بعد المؤتمر مجموعة من رجال الأزهر مبعوثين من قِبَل محافظ أسيوط ،الذي قال بحسب روايتهم إنه يريد شكر الشيخ على منعه الشباب من القيام بتلك المسيرة ،حيث حمى بذلك البلد من شر كبير ،وقالوا له إن المحافظ يريد أن يقابلك ليشكرك بنفسه،أقول إنه لما حدث ذلك فإن الشيخ المجاهد العازف عن متاع الدنيا ،المستعلي بدينه على أصحاب الكراسي والمناصب رفض هذا العرض بكل شدة ،ولما رأوا إصراره عرض أحدهم أن يتم اللقاء في بيته ،لكن الشيخ أصر على رفضه ،وحدثهم بما لا يعرفونه عن هذا المحافظ ،وأنه كان من قبل مسؤولاً أمنياً كبيراً في مدينة بورسعيد ،وكان يقوم بنفسه بتعذيب الشباب المسلمين هناك،حتى إنه ضرب أحدهم عل خصيتيه ضرباً شديداً ،وقال الشيخ لهم إنه لا يمكنه أن يصافح يداً يعلم أنها أوقعت أذى بفرد من المسلمين .

اشتداد الحصار :

واستمر الشيخ في دعوته متحملاً ما يلقاه في ذلك من التضييق والاعتقال ،ثم فُرض عليه حصار ظالم يمنع بمقتضاه من الخروج من إطار مدينة الفيوم وما حولها ،ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة دعوته فكان يتحرك داعياً إلى الله في تلك المنطقة ،كما كان يسجل بعض الأشرطة ويرسلها لإخوانه في المناطق الأخرى ،بل كان أحياناً يخاطر بخرق هذا الحصار ، ويقوم من أجل ذلك بأنواع من المغامرات التي يتخوف من القيام بها المبصرون ،كأن يترك زيه الأزهري إلى أحد إخوانه يلبسه حتى يظن رجال الأمن أنه الشيخ ،ثم يخرج هو في لباس آخر وسط مجموعة من الشباب ،ثم يتحمل مخاطر السفر والانتقال ،وما عسى أن يكون في طريقه من الدوريات ونقاط التفتيش الأمنية .

ثم فرضوا عليه الإقامة الجبرية فمنعوه من الخروج من منزله إلا إلى المسجد القريب للصلاة مأموماً فيه ،ثم منعوا ذلك أيضاً ،وفي تلك الفترة أرسل أكبر ولدين له إلى ساحة الجهاد في أفغانستان ،وقد كانا في مقتبل العمر لا يزيد عمر أكبرهما عن ستة عشر عاماً ،هذا مع حاجته وحاجة الأسرة إليهما إذ كان بقية أولاده لا يزالون أطفالاً صغاراً .

ثم سمح له بالخروج من مصر فخرج مهاجراً في سبيل الله مكملاً مسيرته في الدعوة والجهاد ،إلى أن استقر به المقام في بلاد يزعم أهلها أنها زعيمة العالم الحر ،وأنها الراعية لحقوق الإنسان ،وفيها نسجت خيوط المؤامرة السالفة الذكر من حوله .

كلمات خالدة في وجه الكافرين :

وكما كانت مرافعته أمام محكمة أمن الدولة في مصر كلمة حق في وجه الظلم والظالمين ،فإن مرافعته أمام المحكمة الفيدرالية الأمريكية كانت شهادة إدانة ووثيقة فضح لأقوام يخدعون العالم بشعارات الحرية وحقوق الإنسان ،وذلك كقوله : (( ألا فليكتب التاريخ وليعلم العالم بأسره : أن هذه المبادئ التي تتشدق بها زعيمة العالم الحر من حرية العقيدة ،وحرية الكلمة هي طبل أجوف لا حقيقة له ولا مصداقية له ،وعلى لجان حقوق الإنسان بدلاً من أن تذهب إلى أفريقيا وآسيا ،أن تأتي إلى أمريكا لترى المبادئ المضيعة والحقوق المنتهكة ))

(( من أراد أن يبيع شهادة فليذهب إلى ( إف بي آي ) ليشترطوا عليه أن تكون الشهادة زوراً ،وسيعطونه مليون دولار وعاشقة من ضابطات ال (إف بي آي ) تدربه على الكذب والزور ،وتوصي عليه في المصالح الحكومية ))

ولم تمنع الشيخ سطوة هؤلاء المجرمين ،ووجوده مستضعفاً بينهم أن يصدع بالحق الذي يلزمه به دينه وكونه رجلاً من حملة العلم الشريف ،ولذلك فإنه لما ذكر المدعي العام الأمريكي أن من جرائم الشيخ أنه أبدى سروراً لما قيل له ذات مرة : إنه قد قُتِل اليوم اثنان من قوات المارينز في الصومال ،وأنه قال تعليقاً على هذا الخبر : ((حسناً)) ،فإن الشيخ علق في مرافعته على هذا الاتهام قائلاً : (( هذه جريمة حقاً ،وأنا أخطأت ،لكن هل في حق المارينز ؟كلا ،بل أخطأت في حق الصوماليين ؛لأنه كان يجب علي أن أقول : يجب على الصوماليين أن يستأصلوا المارينز ،وأن يقتلوهم جميعاً ،لأنهم قتلوا الآلاف منهم ،ودم الأمريكي ليس أفضل من دم الصومالي،هذا ما يأمرني الدين أن أقوله وإن خالف السياسة الأمريكية )).

ولما ذكرت هيئة المحلفين أن جماعة الجهاد الدولية -التي يرأسها الشيخ بزعمهم –ترى أن أمريكا كافرة ،قال : (( ليست جماعة الجهاد المزعومة فقط هي التي تعتبر الولايات المتحدة كافرة ،وليس هذا كلام جماعة وحدها، بل هو كلام الأمة الإسلامية بأسرها ،فألف مليون مسلم في أنحاء العالم الإسلامي يجمعون على أن الولايات المتحدة كافرة .. كافرة بكل أنظمتها ومؤسساتها ،الكونجرس كافر والبيت الأبيض كافر والبنتاجون كافر ،لا يخالف في كفر الولايات المتحدة إلا من كان ذيلاً لأمريكا ...أو من كان ذيلاً لذلك الذيل ... هكذا يقول المسلمون ،وهكذا يذكر الإسلام في كتابه الخالد : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)) .

(( يريد المدعي العام أن يؤمرك الإسلام ،ونرفض رفضاً تاماً أن يؤمرك الإسلام ،بل الواجب أسلمة أمريكا ،ويريد المدعي العام أن نذل لأمريكا ،وإلا لك السجن مدى الحياة ،ونقول : ( رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه )،فمرحباً بالسجن ما دام فيه رضا الله )) .

(( يريد المدعي العام أن نعبد أمريكا من دون الله ،ونقول ستتلاشى أمريكا ،وتهدم الحضارة والمدنية ،ويفنى كل شيء في هذه الحياة فلا ينبغي أن يعبد إلا الله ولا يستعان إلا به فلا إله غيره ولا رب سواه )) .

بمثل هذه الكلمات القوية واجه الشيخ جلاديه ،وصدع بالحق في عقر دار الكافرين ،غير عابئ بجبروتهم وما عسى أن يلحقه من كيدهم ومكرهم .

ظلم ذوي القربى :

ومن أسفٍ أن قضية الشيخ لم تأخذ حقها عند إخوانه من العلماء والدعاة وقادة الحركات الإسلامية ، فلقد رأينا تجاهل أكثرهم لمحنة الشيخ ، وهم الذين نظن أنه لا يغيب عنهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفك الأسير كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى مرفوعاً : ( أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني ،قال سفيان والعاني الأسير ) [ أخرجه البخاري (5373) ،وأبو داود ( 3105)] ،وقد أجمع أهل العلم على وجوب فك أسارى المسلمين ،حتى قال بعض أهل العلم : لو أسرت امرأة بالمشرق ،ولم يستطع أهل المشرق فك أسرها وجب على أهل المغرب العمل على فك أسرها ، فكيف بعالم من علماء المسلمين ؟

ولست ادعى العصمة للشيخ ،ولمن شاء من أهل العلم والدعوة أن يخالفه في بعض ما ذهب إليه ،بيد أنا كنا نود أن لا يكون الخلاف في بعض المسائل مانعاً من القيام بما أوجبه الشرع من نصرة المسلم لأخيه المسلم ،لكن الواقع كان مع الأسف غير ما نتمنى،بل قد رأينا من المنسوبين للعلم والدعوة من يصم الشيخ ظلماً وعدواناً بأنه خارجي تكفيري ،ورأينا من يخاف من مجرد أن يجري اسم الشيخ على لسانه ،ورأينا من لا يرغب في أن يذكر اسم الشيخ في مجلس هو فيه، وأذكر أنه عُقد في مدينة الخرطوم بعد اعتقال الشيخ في أمريكا مؤتمر حضره الكثيرون من ممثلي الحركات الإسلامية ،وقد حدثني أحد من حضروا ذلك المؤتمر أن المؤتمرين قد وجهوا التحية في بيانهم الختامي لكثير من الدعاة المضطهدين في بعض البلاد العربية ،وتناسوا قضية الشيخ بالكلية،وهذا ما حدا بأحد الحاضرين أن يكتب ورقة للمشرف على الجلسة يقول له فيها: ألا يستحق الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون في أمريكا تحية مثل هؤلاء الذين ذكرتم ؟ ولم يجب مدير الجلسة على السؤال ،ولم يقرأه على الحاضرين ،بل ألقى بالورقة جانباً ،وكأن ما بها لا يعنيه في شيء .

ففي سبيل الله ما لقيت وما تلقى أيها الشيخ الجليل ،وإلى الله نشكو ضعف قوتنا ،وقلة حيلتنا ،مع اعترافنا بالتقصير في نصرتك والقيام بالواجب نحوك ،وعند الله تعالى نحتسب ما تعاني من تجاهل قضيتك حتى ممن كانوا يوماً من أقرب الناس إليك:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة * على النفس من وقع الحسام المهند



عبد الآخر حماد