المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخبار سياسية التصور الصحيح للقضية



aseer_plastine
15-12-2002, 08:26 PM
يقول المناطقة: "إنَّ الحكم على الشيء فرعٌ من تصوُّره"، أي أنَّه ما لم تُفَهم المسألة فهمًا صحيحًا فإنه لن يمكننا بطبيعة الحال أن نصيب في حكمنا عليها، وسيأتي الحكم المبنيُّ على التصوُّر الخطأ حكمًا بعيدًا عن الصواب بطبيعة الحال.

والحقُّ أنه لم يُسأ فهم قضيَّةٍ كما أُسيء فهم قضيَّة فلسطين، ولم يُخطأ في تصوُّر مسألةٍ كما أُخطِئ من قبل غالب أبناء الأمَّة في تصوُّر الصهيونيَّة، والأسس التي قامت عليها ولأجلها الدولة العبريَّة في هذا الجزء الغالي من أجزاء وطننا.

وكان من أبرز سلبيَّات هذا الفهم أن صوِّرت القضيَّة على أنَّها فحسب قضيَّة قطعةٍ صغيرةٍ من الأرض وبضعة ملايين من الشعب الفلسطينيِّ طُرِدوا من أرضهم، ولا بأس من أن نحاول مساعدتهم في حلِّ مشكلتهم لنبرئ ذمَّتنا من المسألة برمَّتها، ويا له من تصوُّرٍ أحمق، وفهمٍ مغلوط! والعجيب أنَّ الذين سعوا لإقامة الكيان الصهيونيِّ في هذه المنطقة -فلسطين- فهموا الأمر فهمًا واضحًا ولم يخفوا أهدافهم أو يلتفوا حولها، بل صرَّحوا بها مرارًا.

ذلكم أننا بنظرةٍ خاطفةٍ في صفحات التاريخ الحديث سنتبيَّن بغير كثير عناء:

أولاً: أنَّ إسرائيل مشروعٌ غربيّ: غربيٌّ فكرةً، وغربيٌّ تطبيقًا، وغربيٌّ حضارة.

فأمَّا كونه مشروعًا غربيّا فواضحٌ كلَّ الوضوح، فقد جاءت الفكرة من عند نابليون الذي كان له نداءٌ مشهورٌ إلى يهود العالم قال لهم فيه: "إلى ورثة فلسطين الشرعيِّين أيُّها الإسرائيليُّون أيُّها الشعب الفريد الذي لم تستطع قوَّة الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القوميَّ وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد"، ثمَّ يمضي في خطابه لليهود: "انهضوا بقوَّةٍ أيُّها المشرَّدون في التيه، إنَّ أمامكم حربًا مهولةً يخوضها شعبكم بعد أن اعتبر أعداؤه أنَّ الأرض التي ورثها عن الأجداد غنيمةً بينهم حسب أهوائهم، لا بد من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبوديَّة وذلك الخزي الذي شلَّ إرادتكم لألفي سنة"، إلى أن قال: "ولهذا فإنَّ فرنسا تُقدِّم لكم يدها حاملةً إرث إسرائيل".

وهكذا بدأها نابليون الذي لم يكن يهوديًّا أو مُحبًّا لليهود، ولكن كانت له رؤيته الإستراتيجيَّة التي لا يُشكِّك فيها أحد؛ ولذا فقد رأى أنَّه لا بد من الفصل بين الدولتين اللتين لن تقوم نهضةٌ في العالم العربيِّ بدونهما (مصر وسوريا)، فليكن غرسٌ غريبٌ أجنبيٌّ لا هو عربيٌّ ولا هو إسلاميٌّ في قلب العالم العربيّ، غرسٌ غربيٌّ حضارةً وقِيَمًا وجذورًا، ولا بأس بل من المستحسن أن تكون له عقيدةٌ مخالفةٌ ولغةٌ مخالفة.

لقد استثمر نابليون أساطير التوراة التي ربما لم يكن يؤمن بها لكي يستنفر اليهود بأوروبا وليضع هذه البذرة الغربيَّة في الأرض العربيَّة، وإذا كان نابليون الفرنسي أطلقها صيحةً فإنَّ بريطانيا ثبَّتتها عملاً، وبلفور ترجمها وعدًا، وها هي أمريكا تتعهَّدها رعايةً وإمدادًا.

ويُضاف لهذا ما جاء في وثيقة مؤتمر "بانرمان" وهو مؤتمرٌ يختم سلسلةً من الاجتماعات الممتدَّة من سنة 1904م إلى 1907م بين خبراء في كافَّة المجالات من القوى الاستعماريَّة الكبرى في هذا الوقت، والتي نصَّت وثيقته النهائية على:

"ممَّا لا شكَّ فيه أن حضارة الرجل الأبيض الأوروبيِّ بدأت مرحلة الشيخوخة، وأنَّ المنطقة المرشَّحة لوراثة الحضارة هي المنطقة الممتدَّة من شمال إفريقيا إلى شرق البحر المتوسط، ولكن هذه المنطقة تتَّصف بالعداء لحضارتنا؛ لذا يجب العمل على الحيلولة بينها وبين عوامل التحضُّر والنهوض، والعمل على زرع جسمٍ غريبٍ عنها يفصل بين المنطقة الأفريقيَّة والآسيويَّة يعمل على استنزافها دائمًا..".

وهكذا يتَّضح بجلاءٍ أن إسرائيل مشروعٌ غربيٌّ منذ بدايته فكرةً إلى أن أصبح واقعًا، أمدَّه الغرب في كلِّ مراحله بالغذاء الذي حوَّل الفكرة إلى دولة، وها هي أمريكا تصبُّ الدماء في شرايين هذه الدولة بغير انقطاعٍ ولا يفتأ مسئولوها يُصرِّحون بأنَّهم "عن أمن إسرائيل مسئولون".

وإذا صحَّ ذلك -وهو صحيح لا شكَّ- ترتَّب عليه أن قضيَّة إسرائيل مواجهةٌ بين حضارة الغرب والحضارة العربيَّة الإسلاميَّة وليست مجرَّد مواجهةٍ مع شعب فلسطين الأبي.

إنَّ النموذج الغربيَّ يتجسَّد في صورة إسرائيل ليواجه الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة لا من بُعدٍ ولكن من ها هنا، من قلبها الذي هو فلسطين.

بدلاً من فلسطين التي تُوحِّد شطري العالم العربيِّ وتصل بينها، تأتي إسرائيل التي تُمثِّل فاصلاً أرضيًّا يمزِّق اتصال المنطقة العربيَّة، ويُدمِّر تجانسها، ويمنع وحدتها.

إنَّها -أي إسرائيل- إسفنجة غير قابلةٍ للتشبُّع تمصُّ كلَّ طاقات الأمَّة العربيَّة، ونزيفٌ مزمنٌ لمواردها، وأداةٌ جاهزةٌ للقضاء على أيِّ محاولة نهوضٍ حرَّةٍ من قبل أيِّ بلدٍ عربيّ، وحتى بالنسبة للعالم الإسلاميِّ فإنَّ فلسطين تقع في صرَّة هذا العالم متوسِّطةً ما بين الصين شرقًا والأطلسيِّ غربًا، وما بين وسط آسيا وجنوب أفريقيا، إنَّها ببساطةٍ تُمثِّل النواة. "جمال حمدان – العالم الإسلاميُّ المعاصر".

في هذا الجزء بالذات والذي تمَّ اختياره بعنايةٍ فائقةٍ من قبل الغرب، تبنَّى الغرب -فرنسا وإنجلترا ثمَّ أمريكا- إيجاد هذا الكيان الدخيل ليكون -كما أسلفنا- نموذجًا للمجتمع الغربيِّ في قلب العالم العربيِّ بل والإسلاميّ، ينقل حضارة الغرب بكلِّ ما فيها ويقوم بدوره في إجهاض أيِّ محاولةٍ للنهوض في هذه المنطقة العربيَّة، وليمثِّل أيضًا العصا الغليظة الكفيلة بإرهاب كلِّ من يريد رفع رأسه أو تجميع قوَّة العالم العربيّ.

إذا اتَّضح لدينا هذا التصوُّر السابق فإنَّه يترتَّب عليه أنَّها إذن ليست قضيَّةً قُطريَّةً ولا إقليميَّة، ولا تخصُّ شعبًا بعينه هو الشعب الفلسطينيّ، ولكنَّها كما أسلفنا مواجهةٌ حضاريَّةٌ بين العالمين العربيِّ الإسلاميّ، وبين الحضارة الغربيَّة والكيان القويِّ الذي تمَّ إيجاده للقضاء على أيَّة محاولة للنهوض في المنطقة.

إذا اتَّضح ذلك ترتَّب عليه ما يلي:

1 - أنَّه يجب مواجهة هذا الكيان مواجهةً جماعيَّةً لا قُطريَّة أو إقليميَّة.

فالعدوُّ وجد لتفتيت هذه الوحدة ولا بد للنجاح في مواجهته من أن تكون المواجهة من مجموع القوى العربيَّة بل والإسلاميَّة لا من قوَّةٍ دون أخرى، وإن أمَّتنا تمتلك من المقوِّمات الثقافيَّة ما تحافظ به على وحدتها فنحن حملة كتاب كريم يعلمنا: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون"، "لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ".

إلى آخر الآيات الكريمات التي تتعامل مع أمَّةٍ واحدةٍ يجمعها الإسلام لا بلدان ممزَّقة تُفرِّقها الانتماءات القُطريَّة والعصبيَّات الجاهليَّة.

وفي تراثنا النبويِّ العظيم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون يدٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم"، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره".

ونحن حملة تاريخٍ علَّمنا على امتداد قرونه أنَّ الأمَّة تؤتى دائمًا من باب فرقتها، وتنهض دائما من باب وحدتها.

كلُّ هذا ينبغي أن يصبَّ في نهر مواجهتنا مع هذا العدو.

2 - إنَّنا أمَّةٌ تملك ثقافة مقاومة رائعةً لا نعتقد أنَّ أمَّةً أخرى تملكها، إنَّنا نحمل في ثقافة مقاومتنا أنَّ: "الصبر نصف الإيمان"، وأنَّ: "وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْر، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْب، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسرًا"رواه الترمذيُّ وقال حسنٌ صحيح.

وأنَّ المحن من سنن الله تعالى يبتلي بها المؤمن، وإن يصبر عليها فإنَّها تتحوَّل إلى مدرسةٍ عظيمةٍ يتعلَّم فيها المؤمن ويخرج منها أقوى ممَّا دخلها.

"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".

وفي تراثنا العربيِّ أنَّ: "الشجاعة صبر ساعة"، ومن مأثور ما روي عن عمر -رضي الله عنه-: "اخشوشنوا فإنَّ النعمة لا تدوم"، والمسلم تربَّى على المقاومة، مقاومة شهوات، مقاومة نزع شيطان، مقاومة زخرف الدنيا، فلأنَّ يقف اليوم صامدًا في ميدان جهادٍ أو مقاومًا ذاته الاستهلاكيَّة مستغنيًا عن منتجٍ أمريكيٍّ أو صهيونيّ، فإنَّ له في تراثه عطاء وفي سلفه قدوة، وفي تراثنا الصوفيّ هذه العبارة الرائعة: "الغنى أن تستغني عن الشيء لا به".

3 - ونملك ثقافةً جهاديَّةً رائعةً تجعل غاية المسلم أن يرزق الشهادة، وأن يشرِّفه الله عز وجل بأن يقبله في زمرة الذين يصطفيهم من عباده فيرزقهم الشهادة.

فالشهيد وحده الذي يغفر له لأوَّل قطرةٍ من دمه، ويشفَّع في سبعين من أهله، ويعافى من فتنة القبر، ويبعث يوم القيامة ودمه يسيل اللون لون الدم والريح ريح المسك.

والجهاد غاية ما لم يستطعه المسلم فإنَّه يتمنَّاه: "من مات ولم يغْزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبةٍ من النفاق" رواه مسلم.

هذه الثقافة الجهاديَّة ينبغي أن يحسن توظيفها في مواجهة هذا العدو.

على أنَّ الجهاد في الإسلام واسع المعنى عميق الفكرة لا يقف عند جهاد السلاح في ساحة الوغى، وإنَّما يتعدَّاه لجهاد العلم، وجهاد الكلمة، وجهاد اللسان، وجهاد مواجهة المنكر والفساد، "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"، هكذا سمَّى الله سبحان جهاد السلاح وجهاد العلم بنفس المسمَّى: "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ"، وجهاد العلم من أهمِّ ما يواجهنا به عدوُّنا الذي يتسلَّح دومًا بهذا السلاح.

4 - علينا أن نواجه هذا العدوَّ بالتخطيط، والعمل المنظَّم لمستقبلٍ نحصد فيه غدًا ما بذرناه اليوم أو يحصد ذلك أبناؤنا وأحفادنا.

فنحن لن نستطيع أن نواجه عدوًّا يحسن التخطيط أيُّما إحسان، ويعرف كيف يتعامل مع يومه وغده ويحول أزمانه إلى فرص، لن نواجهه بعقليَّةٍ ارتجاليَّة، ورؤيةٍ سطحيَّة، ونظرةٍ قاصرة، وعاطفةٍ تغلب العقل، وحماسةٍ تذهب الفكر، بل لا بد أن نُسخِّر العاطفة والحماسة لتحفيز الهمم للعمل المنظَّم المستمرِّ الدءوب وفق رؤيةٍ واضحةٍ جليَّة.

ولنا في سيرة نبيِّنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أسوة، فمرحلة التأسيس في مكَّة كانت أطول من مرحلة الدولة في المدينة.

وما ذلك إلا لأنَّ التخطيط الصحيح، والبناء المتراكم، والعمل الهادئ العميق المستمر هو الذي يحصد أصحابه في النهاية نتائج طيِّبة، ويكافئهم ربُّهم فيريهم ثمرة عملهم طيِّبةً؛ لأنه سبحانه لا يضيع أجر المصلحين.

وبهذا.. أخي الكريم نكون قد وقفنا مع العنصر الأوَّل من عناصر موضوعنا، فأوضحنا بحول الله سبحانه وقوَّته التصوُّر الصحيح للقضيَّة، وما يترتَّب على هذا التصوُّر من أمورٍ عمليَّة.