aseer_plastine
15-12-2002, 08:29 PM
ما نحسب قضيَّة من قضايا الأمَّة أحاطت بها الشبهات، وزُيِّف فيها الوعي، والتبست إزاءها المفاهيم مثلما حدث مع قضيَّة فلسطين والتواجد الصهيونيِّ في هذه البقعة المباركة من أرض وطننا، حتى إنَّ المرء أحيانا يسمع ممَّن يعيشون بيننا من أنواع الخطاب ما يجعله يظنُّ أنَّه يستمع للإذاعة العبريَّة أو يقرأ "معاريف" أو "يديعوت أحرونوت".
نعم لقد أحاطت الشبهات بالقضيَّة منذ ولدت، ونجح العدوُّ عن طريق بعض أبواقه ومن خلال رسائل إعلاميَّة مضللة أن يُزيِّف وعي الأمَّة ويمسخ هويَّتها ويشوِّش إلى حدٍّ ليس بالهيِّن أفكار أبنائها.
فقد تسمع كثيرًا من يقول: إنَّ القضيَّة قضيَّة قطرٍ لا قضيَّة وطن، أو يقول: ما لنا ولفلسطين؟ لننصرف إلى بلادنا نخوض معركة التنمية؟ كفانا حروبًا من أجل الآخرين.. نحن أضعف من أن نواجه أمريكا ولا محيص من الاستسلام.. لقد استردَّت كبرى الدول العربيَّة أرضها بالتفاهم فلم لا نلجأ إليه؟ الحروب لا تحلُّ مشكلةً ونحن لا قبل لنا بالحرب؟ الفلسطينيِّون هم الذين أضاعوا الفرص، لماذا لم يجلسوا إلى مائدة التفاوض في كامب ديفيد 1978م؟ الفلسطينيِّون هم الذين باعوا أرضهم وعليهم أن يتحمَّلوا نتيجة ما فعلوه.. لقد حارب العرب أربع حروبٍ من أجل فلسطين، وقدَّموا آلاف الشهداء ومئات المليارات من الجنيهات وكفاهم ما فعلوا... إلى آخر ما تطنطن به بعض الأبواق، وبعضها مع الأسف يشيع في ثقافة العامَّة بل وبعض الخاصَّة.. ولذا كان لا بدَّ من التصدِّي لهذه الشبهات علَّنا نوفق بحول الله وحده وقوَّته لردِّ تلك الشبهات وتمحيص هذه الدعاوى.
والأمر يحتاج إلى نظرةٍ هادئة، ومناقشةٍ عقلانيَّةٍ أكثر منه إلى حماسٍ عاطفيٍّ واستدراجٍ لخطابٍ ديماجوجيٍّ لا طائل من ورائه.
ولعلَّ ما طرحناه في مقالنا السابق من أهميَّة تصوُّر القضيَّة تصوُّرًا صحيحًا يردُّ على بعض هذه الشبهات، ذلكم أنَّنا إذا سلَّمنا بكون القضيَّة قضيَّة أمَّةٍ لا قضيَّة شعب فلسطين وبقعةٍ مباركةٍ غاليةٍ من الأرض، وأنَّها مواجهةٌ حضاريَّة لا مجرَّد مواجهةٍ عسكريَّة، إذا سلَّمنا بذلك فسيترتَّب على هذا التصوُّر ما يُجلِّي كثيرًا من الشبه.
فالقضيَّة قضيَّة وطنٍ لا قطر، وأمَّةٍ لا شعب محدود، وطنٍ عربيٍّ بل وإسلاميٍّ لا يمكن أن يقوم له كيانٌ قويٌّ في وجود هذا الجسم الضارِّ الغريب، وذلك الشرطيِّ المسلَّح حتى أنفه بداخله، يسري ذلك على مصر وسوريا، كما يسري على العراق والسعودية، ويسري على الأردن ولبنان، كما يسري على المغرب واليمن.
نعم.. لن يقوم للعرب كيانٌ وتقوى لهم شوكةٌ وتُحترم لهم إرادةٌ ما دام بين أضلعهم ذلك العدوُّ الحضاريُّ التاريخيُّ الإستراتيجيّ.
وكلُّ كلامٍ يتجاوز هذه البديهيَّة لا يبنى على أساسٍ مكينٍ من الناحية التاريخيَّة أو الأيديولوجيَّة بل ولا حتى الأنثروبولوجية.
بل حتى أولئك الذين يتعلَّلون بأنَّه قد آن الأوان لنصرف جهودنا لقضيَّة التنمية فإنَّهم يخطئون تمامًا إذا تصوَّروا إمكانيَّة تحقيق تنميةٍ في ظلِّ هذا الواقع.
أوَّلا: لأنَّ مفهوم التنمية ينبغي أن يكون شاملاً لا مقصورًا على مجرَّد تحقيق بعض التقدُّم في معدَّل النموِّ الاقتصاديِّ فذلك فهمٌ ضيِّقٌ جدّا لقضيَّة التنمية، بل إنَّ المؤسَّسات الدوليَّة تضع الآن في عناصر قياس مدى إنجاز الدول في تحقيق التنمية ما يدلُّ على أنَّ الأمر ليس مجرَّد زيادةٍ في هذا الرقم الذي هو معدَّل النمو الاقتصادي.
فمن المهمِّ مثلا أن يتحقَّق هذا النموُّ مع قدرٍ معقولٍ من استفادة طبقات المجتمع كافَّة به، فلا تستفيد به فئةٌ محدودةٌ وتظلُّ أغلبيَّة المجتمع كما هي، بل وربَّما ازدادت أوضاعها سوءا.
التنمية إذن مفهومٌ أشمل وأعمق كثيرًا من مجرَّد زيادة هذا الرقم – معدَّل النمو- ويتحتَّم إذا أُرِيد تحقيقها أن تكون اجتماعيَّةً بل وقيميَّةً مع كونها تنميةٌ اقتصاديَّة.
ثانيا: إنَّه وحتى في ظلِّ المفهوم المحدود للتنمية فإنَّ الكيان الصهيونيَّ سيظلُّ عائقًا - ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - دون تحقيق هذه التنمية، وسيعمل ما وسعه العمل على أن تظلَّ الأوضاع في العالم العربي كما هي بل وزيادتها سوءا، ذلكم أنَّ الدولة العبريَّة لا تريد مواجهة دولٍ قويَّةٍ لا اقتصاديّا ولا اجتماعيّا ولا عسكريّا، بل تريد كياناتٍ ضعيفةً منكفئةً على ذاتها، غارقةً حتى الأذنين في مشكلاتها وأزماتها الداخليَّة.
بل إنَّ ربيبتها أمريكا ستعمل أيضا ما وسعها العمل على أن يظلَّ العالم العربيُّ عالمًا مستهلكًا لا منتجًا، آخذًا لا معطيًا، مجرَّد منجمٍ يمدُّها بالبترول الخام ويمدُّ اقتصادها بمليارات الدولارات في مقابل أسلحةٍ تتحوَّل مع الزمن إلى قطعٍ من الحديد الصدئ.
إذن فحتى قضيَّة التنمية سواءً بمفهومها الشامل أو المحدود تمثِّل الدولة العبريَّة عائقًا دون تحقيقه وستظلُّ من ورائها أمريكا تحرس كلَّ تخلُّفٍ عربيٍّ أو إسلاميّ.
** إذا اتَّضح لدينا أيضًا التصوُّر الصحيح للقضيَّة فسندرك أنَّنا لا نحارب من أجل الآخرين بل نحارب من أجل أنفسنا.. من أجل أنفسنا بالمعنى الإسلاميِّ وبالمعنى القوميِّ وبالمعنى القطريّ.
بالمعنى الإسلاميَّ لأنَّ الله علَّمنا: "وأنَّ هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون"، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا"، ويقول: "المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى".
ومن أجل أنفسنا بالمعنى القوميِّ، فالصراع قد وُجِد وسوف يظلُّ عربيّا إسرائيليّا، لا فلسطينيّا إسرائيليّا، قد تكون فلسطين أرضًا وشعبًا هي ساحة المعركة اليوم، لكن بالأمس كانت سيناء والجولان وجنوب لبنان وغور الأردن، قد تكون فلسطين هي قلب الجسد لكن بقيَّة هي سائر العالم العربيِّ فهل سمعنا عن جسدٍ بلا قلب، أو عن جسدٍ صحيحٍ معافىً بقلبٍ مريضٍ ضعيف.
بل إنَّنا ندافع عن أنفسنا حتى بالمعنى القطريّ، فلن تقوم لبلد عربيٍّ قائمةٌ بدولةٍ عبريَّةٍ متترِّسةٍ حتى الآذان بالسلاح، تعمل دومًا على إنهاك كلِّ بلدٍ عربيٍّ لأنَّ في قوَّته ضعفها، وفي عافيته سقمها.
أدرك ذلك كلُّ الرجال العظماء والقواد ذوو الرؤية الثاقبة من رمسيس وتحتمس، حتى صلاح الدين ومحمَّد علي، فلن يتحقَّق أمنٌ لبلدٍ على حدوده أو قريبًا منها ذلك الكيان الغريب المعادي المتربِّص.
فنحن إذن لا نحارب ولا نواجه من أجل الآخرين بل من أجل أنفسنا بالمعنى الإسلاميّ، وبالمعنى القوميّ، وبالمعنى القطريّ.
وعليه فلا مصر ولا غيرها من البلاد العربيَّة يمكن أن تكون بمنأى عن هذه المعركة.. إنَّها معركة أمَّةٍ لا قطر، ووجودٍ لا حدود، وحضارةٍ لا قطعة أرض، وإذا صدق ذلك بالنسبة للعرب كافَّة فإنَّه لمصر لا يصدق فحسب بل يتجسَّد تاريخًا وجغرافيا واقتصادًا ودورًا إقليميّا لا تستطيع أن تتخلَّى عنه.
فمصر - مثلا - قدَّمت ما قدَّمت من أموالٍ ودماء لأنَّها مفروضٌ عليها ذلك بحكم انتمائها العربيِّ والإسلاميِّ وبحكم ريادتها العربيَّة ودورها التاريخيّ، وهي إذ تفعل ذلك فلا هو منَّةٌ على أحدٍ ولا بفضل، وإنَّما واجبها الذي يحتِّمه عليها وضعها التاريخيُّ والجغرافيُّ والإستراتيجيّ، ولا يسعها بحالٍ أن تتخلَّى عن القيام به.
على أنَّ نظرةً للحروب السابقة التي خاضها العرب مع الدولة العبريَّة تثبت بما لا يدع مجالاً لشكٍّ أنَّها لم تكن من أجل فلسطين فحسب بل من أجل الأمَّة كلِّها.
إذ باستثناء حرب 1948م سنجد أنَّ مصر خاضت الحروب التالية دفاعًا عن أرضها بالمعنى القطريِّ المحدود.
بل إنَّ حرب السابع والستين تحمل مصر مسئوليَّةً أدبيَّةً وتاريخيَّةً تجاه أهل فلسطين، إذ هذه الحرب انتهت بتلك الكارثة المروِّعة التي لم يفقد العرب خلالها سيناء والجولان وأجزاء من الأردن ولبنان فحسب، وإنَّما فقدوا الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة بل والقدس الشرقيَّة.
فحتى 1967م كانت هذه الأجزاء غير محتلَّةٍ من قبل العدوِّ الصهيونيّ، وكانت غزَّة تتبع مصر إداريّا والضفَّة تتبع الأردن، وبسياساتٍ غير متعقِّلةٍ من قبل القيادة المصريَّة آنذاك كانت هذه الكارثة المروِّعة.
إذ اتِّخذت القيادة المصريَّة قبل عدوان 1967 قراراتها السياسيَّة التي تُقدِّم كلَّ الذرائع للكيان الصهيونيِّ وتعدُّ المنطقة كلَّها لدخول حرب، من إغلاق مضيق تيران إلى طرد قوَّات السلام الدوليَّة.. الأمر الذي كان يُقدِّم كلَّ المبرِّرات السياسيَّة للكيان الصهيونيِّ لدخول معركةٍ، هذا في الوقت الذي لم يكن فيه الجيش المصريُّ مستعدّا بحالٍ من الأحوال لدخول المعركة، ممَّا نتج عنه الكارثة التي ذهبت بذكرها الركبان، والتي تحمَّل الفلسطينيِّون نتائجها مريرةً إلى اليوم، والتي أدَّت إلى أن أصبحت قضيَّة العرب ليست فلسطين كاملةً من النهر للبحر، ولكن الأرض التي احتلت سنة 1967م فحسب، والتي لا تمثِّل أكثر من 22% من مساحة فلسطين الغالية.
كلُّ هذا من نتائج هزيمة 1967م الأمر الذي يُحمِّل مصر تاريخيّا وأدبيّا أن تقف بكلِّ ما تملك مدافعةً عن فلسطين أرضًا وشعبًا، هذا بالطبع إذا سايرنا أصحاب النظرة القاصرة المحدودة للمصلحة القطريَّة الضيِّقة.
أمَّا حرب رمضان/ أكتوبر 1973م فلا شكَّ أنَّ مصر خاضتها لتحرير أرضها المحتلَّة وليس لتحرير فلسطين.
لم تخض مصر –إذن- حروبًا تُذكَر من أجل فلسطين، بل خاضت حروبها دفاعًا عن أرضها التي احتلت بخطأٍ فادحٍ من قيادتها فاضطرَّت لدخول حربٍ أخرى لإزالة آثار الاحتلال البغيض لأرضها.
وليس هذا بالطبع تقليلاً من دور مصر، ذلك الدور الممتدُّ تاريخيّا منذ مئات السنين فقد كانت مصر دومًا أمل الأمَّة العربيَّة عند كلِّ انتكاسةٍ أو أزمة، ولكنَّنا فحسب نردُّ على شبهاتٍ تثار من قبل البعض بجهلٍ أو بسوء نيَّة، وإلا فالجميع يركب نفس السفينة وهي إن تغرق فلن يكون أحدٌ من الناجين.
نعم لقد أحاطت الشبهات بالقضيَّة منذ ولدت، ونجح العدوُّ عن طريق بعض أبواقه ومن خلال رسائل إعلاميَّة مضللة أن يُزيِّف وعي الأمَّة ويمسخ هويَّتها ويشوِّش إلى حدٍّ ليس بالهيِّن أفكار أبنائها.
فقد تسمع كثيرًا من يقول: إنَّ القضيَّة قضيَّة قطرٍ لا قضيَّة وطن، أو يقول: ما لنا ولفلسطين؟ لننصرف إلى بلادنا نخوض معركة التنمية؟ كفانا حروبًا من أجل الآخرين.. نحن أضعف من أن نواجه أمريكا ولا محيص من الاستسلام.. لقد استردَّت كبرى الدول العربيَّة أرضها بالتفاهم فلم لا نلجأ إليه؟ الحروب لا تحلُّ مشكلةً ونحن لا قبل لنا بالحرب؟ الفلسطينيِّون هم الذين أضاعوا الفرص، لماذا لم يجلسوا إلى مائدة التفاوض في كامب ديفيد 1978م؟ الفلسطينيِّون هم الذين باعوا أرضهم وعليهم أن يتحمَّلوا نتيجة ما فعلوه.. لقد حارب العرب أربع حروبٍ من أجل فلسطين، وقدَّموا آلاف الشهداء ومئات المليارات من الجنيهات وكفاهم ما فعلوا... إلى آخر ما تطنطن به بعض الأبواق، وبعضها مع الأسف يشيع في ثقافة العامَّة بل وبعض الخاصَّة.. ولذا كان لا بدَّ من التصدِّي لهذه الشبهات علَّنا نوفق بحول الله وحده وقوَّته لردِّ تلك الشبهات وتمحيص هذه الدعاوى.
والأمر يحتاج إلى نظرةٍ هادئة، ومناقشةٍ عقلانيَّةٍ أكثر منه إلى حماسٍ عاطفيٍّ واستدراجٍ لخطابٍ ديماجوجيٍّ لا طائل من ورائه.
ولعلَّ ما طرحناه في مقالنا السابق من أهميَّة تصوُّر القضيَّة تصوُّرًا صحيحًا يردُّ على بعض هذه الشبهات، ذلكم أنَّنا إذا سلَّمنا بكون القضيَّة قضيَّة أمَّةٍ لا قضيَّة شعب فلسطين وبقعةٍ مباركةٍ غاليةٍ من الأرض، وأنَّها مواجهةٌ حضاريَّة لا مجرَّد مواجهةٍ عسكريَّة، إذا سلَّمنا بذلك فسيترتَّب على هذا التصوُّر ما يُجلِّي كثيرًا من الشبه.
فالقضيَّة قضيَّة وطنٍ لا قطر، وأمَّةٍ لا شعب محدود، وطنٍ عربيٍّ بل وإسلاميٍّ لا يمكن أن يقوم له كيانٌ قويٌّ في وجود هذا الجسم الضارِّ الغريب، وذلك الشرطيِّ المسلَّح حتى أنفه بداخله، يسري ذلك على مصر وسوريا، كما يسري على العراق والسعودية، ويسري على الأردن ولبنان، كما يسري على المغرب واليمن.
نعم.. لن يقوم للعرب كيانٌ وتقوى لهم شوكةٌ وتُحترم لهم إرادةٌ ما دام بين أضلعهم ذلك العدوُّ الحضاريُّ التاريخيُّ الإستراتيجيّ.
وكلُّ كلامٍ يتجاوز هذه البديهيَّة لا يبنى على أساسٍ مكينٍ من الناحية التاريخيَّة أو الأيديولوجيَّة بل ولا حتى الأنثروبولوجية.
بل حتى أولئك الذين يتعلَّلون بأنَّه قد آن الأوان لنصرف جهودنا لقضيَّة التنمية فإنَّهم يخطئون تمامًا إذا تصوَّروا إمكانيَّة تحقيق تنميةٍ في ظلِّ هذا الواقع.
أوَّلا: لأنَّ مفهوم التنمية ينبغي أن يكون شاملاً لا مقصورًا على مجرَّد تحقيق بعض التقدُّم في معدَّل النموِّ الاقتصاديِّ فذلك فهمٌ ضيِّقٌ جدّا لقضيَّة التنمية، بل إنَّ المؤسَّسات الدوليَّة تضع الآن في عناصر قياس مدى إنجاز الدول في تحقيق التنمية ما يدلُّ على أنَّ الأمر ليس مجرَّد زيادةٍ في هذا الرقم الذي هو معدَّل النمو الاقتصادي.
فمن المهمِّ مثلا أن يتحقَّق هذا النموُّ مع قدرٍ معقولٍ من استفادة طبقات المجتمع كافَّة به، فلا تستفيد به فئةٌ محدودةٌ وتظلُّ أغلبيَّة المجتمع كما هي، بل وربَّما ازدادت أوضاعها سوءا.
التنمية إذن مفهومٌ أشمل وأعمق كثيرًا من مجرَّد زيادة هذا الرقم – معدَّل النمو- ويتحتَّم إذا أُرِيد تحقيقها أن تكون اجتماعيَّةً بل وقيميَّةً مع كونها تنميةٌ اقتصاديَّة.
ثانيا: إنَّه وحتى في ظلِّ المفهوم المحدود للتنمية فإنَّ الكيان الصهيونيَّ سيظلُّ عائقًا - ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - دون تحقيق هذه التنمية، وسيعمل ما وسعه العمل على أن تظلَّ الأوضاع في العالم العربي كما هي بل وزيادتها سوءا، ذلكم أنَّ الدولة العبريَّة لا تريد مواجهة دولٍ قويَّةٍ لا اقتصاديّا ولا اجتماعيّا ولا عسكريّا، بل تريد كياناتٍ ضعيفةً منكفئةً على ذاتها، غارقةً حتى الأذنين في مشكلاتها وأزماتها الداخليَّة.
بل إنَّ ربيبتها أمريكا ستعمل أيضا ما وسعها العمل على أن يظلَّ العالم العربيُّ عالمًا مستهلكًا لا منتجًا، آخذًا لا معطيًا، مجرَّد منجمٍ يمدُّها بالبترول الخام ويمدُّ اقتصادها بمليارات الدولارات في مقابل أسلحةٍ تتحوَّل مع الزمن إلى قطعٍ من الحديد الصدئ.
إذن فحتى قضيَّة التنمية سواءً بمفهومها الشامل أو المحدود تمثِّل الدولة العبريَّة عائقًا دون تحقيقه وستظلُّ من ورائها أمريكا تحرس كلَّ تخلُّفٍ عربيٍّ أو إسلاميّ.
** إذا اتَّضح لدينا أيضًا التصوُّر الصحيح للقضيَّة فسندرك أنَّنا لا نحارب من أجل الآخرين بل نحارب من أجل أنفسنا.. من أجل أنفسنا بالمعنى الإسلاميِّ وبالمعنى القوميِّ وبالمعنى القطريّ.
بالمعنى الإسلاميَّ لأنَّ الله علَّمنا: "وأنَّ هذه أمَّتكم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدون"، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا"، ويقول: "المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى".
ومن أجل أنفسنا بالمعنى القوميِّ، فالصراع قد وُجِد وسوف يظلُّ عربيّا إسرائيليّا، لا فلسطينيّا إسرائيليّا، قد تكون فلسطين أرضًا وشعبًا هي ساحة المعركة اليوم، لكن بالأمس كانت سيناء والجولان وجنوب لبنان وغور الأردن، قد تكون فلسطين هي قلب الجسد لكن بقيَّة هي سائر العالم العربيِّ فهل سمعنا عن جسدٍ بلا قلب، أو عن جسدٍ صحيحٍ معافىً بقلبٍ مريضٍ ضعيف.
بل إنَّنا ندافع عن أنفسنا حتى بالمعنى القطريّ، فلن تقوم لبلد عربيٍّ قائمةٌ بدولةٍ عبريَّةٍ متترِّسةٍ حتى الآذان بالسلاح، تعمل دومًا على إنهاك كلِّ بلدٍ عربيٍّ لأنَّ في قوَّته ضعفها، وفي عافيته سقمها.
أدرك ذلك كلُّ الرجال العظماء والقواد ذوو الرؤية الثاقبة من رمسيس وتحتمس، حتى صلاح الدين ومحمَّد علي، فلن يتحقَّق أمنٌ لبلدٍ على حدوده أو قريبًا منها ذلك الكيان الغريب المعادي المتربِّص.
فنحن إذن لا نحارب ولا نواجه من أجل الآخرين بل من أجل أنفسنا بالمعنى الإسلاميّ، وبالمعنى القوميّ، وبالمعنى القطريّ.
وعليه فلا مصر ولا غيرها من البلاد العربيَّة يمكن أن تكون بمنأى عن هذه المعركة.. إنَّها معركة أمَّةٍ لا قطر، ووجودٍ لا حدود، وحضارةٍ لا قطعة أرض، وإذا صدق ذلك بالنسبة للعرب كافَّة فإنَّه لمصر لا يصدق فحسب بل يتجسَّد تاريخًا وجغرافيا واقتصادًا ودورًا إقليميّا لا تستطيع أن تتخلَّى عنه.
فمصر - مثلا - قدَّمت ما قدَّمت من أموالٍ ودماء لأنَّها مفروضٌ عليها ذلك بحكم انتمائها العربيِّ والإسلاميِّ وبحكم ريادتها العربيَّة ودورها التاريخيّ، وهي إذ تفعل ذلك فلا هو منَّةٌ على أحدٍ ولا بفضل، وإنَّما واجبها الذي يحتِّمه عليها وضعها التاريخيُّ والجغرافيُّ والإستراتيجيّ، ولا يسعها بحالٍ أن تتخلَّى عن القيام به.
على أنَّ نظرةً للحروب السابقة التي خاضها العرب مع الدولة العبريَّة تثبت بما لا يدع مجالاً لشكٍّ أنَّها لم تكن من أجل فلسطين فحسب بل من أجل الأمَّة كلِّها.
إذ باستثناء حرب 1948م سنجد أنَّ مصر خاضت الحروب التالية دفاعًا عن أرضها بالمعنى القطريِّ المحدود.
بل إنَّ حرب السابع والستين تحمل مصر مسئوليَّةً أدبيَّةً وتاريخيَّةً تجاه أهل فلسطين، إذ هذه الحرب انتهت بتلك الكارثة المروِّعة التي لم يفقد العرب خلالها سيناء والجولان وأجزاء من الأردن ولبنان فحسب، وإنَّما فقدوا الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة بل والقدس الشرقيَّة.
فحتى 1967م كانت هذه الأجزاء غير محتلَّةٍ من قبل العدوِّ الصهيونيّ، وكانت غزَّة تتبع مصر إداريّا والضفَّة تتبع الأردن، وبسياساتٍ غير متعقِّلةٍ من قبل القيادة المصريَّة آنذاك كانت هذه الكارثة المروِّعة.
إذ اتِّخذت القيادة المصريَّة قبل عدوان 1967 قراراتها السياسيَّة التي تُقدِّم كلَّ الذرائع للكيان الصهيونيِّ وتعدُّ المنطقة كلَّها لدخول حرب، من إغلاق مضيق تيران إلى طرد قوَّات السلام الدوليَّة.. الأمر الذي كان يُقدِّم كلَّ المبرِّرات السياسيَّة للكيان الصهيونيِّ لدخول معركةٍ، هذا في الوقت الذي لم يكن فيه الجيش المصريُّ مستعدّا بحالٍ من الأحوال لدخول المعركة، ممَّا نتج عنه الكارثة التي ذهبت بذكرها الركبان، والتي تحمَّل الفلسطينيِّون نتائجها مريرةً إلى اليوم، والتي أدَّت إلى أن أصبحت قضيَّة العرب ليست فلسطين كاملةً من النهر للبحر، ولكن الأرض التي احتلت سنة 1967م فحسب، والتي لا تمثِّل أكثر من 22% من مساحة فلسطين الغالية.
كلُّ هذا من نتائج هزيمة 1967م الأمر الذي يُحمِّل مصر تاريخيّا وأدبيّا أن تقف بكلِّ ما تملك مدافعةً عن فلسطين أرضًا وشعبًا، هذا بالطبع إذا سايرنا أصحاب النظرة القاصرة المحدودة للمصلحة القطريَّة الضيِّقة.
أمَّا حرب رمضان/ أكتوبر 1973م فلا شكَّ أنَّ مصر خاضتها لتحرير أرضها المحتلَّة وليس لتحرير فلسطين.
لم تخض مصر –إذن- حروبًا تُذكَر من أجل فلسطين، بل خاضت حروبها دفاعًا عن أرضها التي احتلت بخطأٍ فادحٍ من قيادتها فاضطرَّت لدخول حربٍ أخرى لإزالة آثار الاحتلال البغيض لأرضها.
وليس هذا بالطبع تقليلاً من دور مصر، ذلك الدور الممتدُّ تاريخيّا منذ مئات السنين فقد كانت مصر دومًا أمل الأمَّة العربيَّة عند كلِّ انتكاسةٍ أو أزمة، ولكنَّنا فحسب نردُّ على شبهاتٍ تثار من قبل البعض بجهلٍ أو بسوء نيَّة، وإلا فالجميع يركب نفس السفينة وهي إن تغرق فلن يكون أحدٌ من الناجين.