aseer_plastine
15-01-2003, 11:23 PM
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و أما بعد:
فهذا موضوع حول فضيلة من أسمى الفضائل و خصلة من أكرم الخصال و خلة من خلال المروءة و النبل الحميدة ، و آية من آي الشرف و العقل و سمة من سمات المجد و الرشد ، تلك هي صيانة السر و المبالغة في كتمانه و الحرص أن يمس ، و حسبك دليلا على منزلة هذه الخصلة في قلوب الناس قاطبة إجماعهم على امتداح صاحبها و وزنهم عقل الرجل و شرفه و همته و مروءته بميزان حفظ السر و دفنه له ، و مما لا ريب فيه أن الناس على حفظ الأموال أقدر منهم على حفظ الأسرار و أأمن ، فليس كل أمين على المال حفيظا على السر، و لذلك يبلغ المرء من الجهد و النصب في تخير من يستودعه مكنون سره ، ما لا يبلغ معشاره فيمن يستودعه نفيس ماله ،و يخاف على سره أن يذاع أكثر مما يخاف على ماله من الضياع ، لأن المال غاد و رائح ، و أما السر فقد يكون في إفشائه إزهاق روح ؟ أو انتهاك عرض ؟؟ …
و لما رأيت أنه قد تفشى في المجاهدين عادة عدم كتمان الأسرار العامة و الخاصة ، و أصبح الحديث عنها عند القريب و البعيد أمرا غير مستنكر ، و ما نتج عن ذلك من تأذي المجاهدين و أهاليهم و ما يحصل للذين يأوون و ينصرون .. . دون أن نغفل مصالح الجهاد و الدين ، فكم من مهمة تعطل تحقيقها وذهبت أدراج الرياح بسبب بسيط ألا وهو انتشار خبرها بشكل مريع فظيع ، وكم من إخوة مجاهدين تأذوا بسبب فشو سر ما تنقلوا لأجل القيام به ، و قد يتساءل معي أخي المجاهد الفاضل ما السبب في ذلك يا ترى ؟ و ما علاجه يا أخي ؟
و الإجابة على ذلك لا يمكن بحال أن بعد المتابعة و الدراسة و البحث ، و ما يمكنني نقله من إجابة حول هذا السؤال من خلال هذه الأسطر ، هو الإشارة ابتداء إلى الآداب الشرعية في التعامل مع السر و ما ينبغي لنا أن نتحلى به . و من ذلك أحببت أن أقدم هذه النّقول حول موضوع الأسرار و كيفية التعامل معها و مسؤولية المجاهد اتجاه ذلك ، من حفظها و عدم إفشائها سواء كانت أسرارا سمعها أو أسرارا ائتمن عليها ، و ليعلم أيضا أنه ليس كل ما يعرف يقال ، يقول الله تعالى : وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَو الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ، و قوله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ، وفقنا الله إلى ما فيه الخير الصلاح .
و بداية أنقل إليكم هذه التعريفات للفظة السر و الكتمان :
الكتمان هو ضبط النفس ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها ، و ذلك لا يتم إلا بالصبر الأخلاق الإسلامية ج2 ص358.
السر هو كل ما تكتمه و تخفيه في نفسك و لا تطلع عليه أحدا لدفع ضرر أو لجلب مصلحة ، أو تخص به من تثق به دون سواه المنهاج ج2 ص48 .
السر هو ما يكتمه الإنسان في صدره و جمعه أسرار ، و السريرة مثله ، و جمعها سرائر . الأخلاق في الإسلام ص201 .
كتمان السر هو أن يضبط الكلام من الإنسان عن إظهار ما يضمره مما يضر به إظهاره وإبداؤه قبل وقته ( فضل الله الصمد ص 48 )
كتمان السر هو الصبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام عدة الصابرين و ذخيرة الشاكرين لابن القيم ص17 .
ــ السر في القرآن الكريم :
جاءت في كتاب الله عز و جل آيات تحث على حفظ السر و آيات كثيرة تحكي عن أناس حفظوا أسرارهم فكانت لهم نجاة ن مما يدل ما لحفظ الأسرار من فوائد عظيمة ، فضلا عن الآيات الكثيرة التي تأمر الإنسان بعدم الإكثار من الكلام ، و تبين أن الإنسان محاسب على كل كلمة يقولها ، إن خيرا فخير و عن شرا فشر ، و إليك أخي المجاهد الفاضل بعض الآيات الآمرة بحفظ و كتمان الأسرار :
ـ يقول الله تعالى آمرا بحفظ العهد : (و أَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )، و السر عهد عهد إليك صاحبه بحفظه ، فيجب عليك الوفاء بالعهد بكتمان سره .
ـ و جاء في موضع آخر من كتاب الله العتاب على من أفشى سرا و ذلك في قصة النبي صلى الله عليه و سلم مع بعض أزواجه ، التي نزل بسببها صدر سورة التحريم ، قال الله تعالى : ( َو إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فلَمَّا نَبَأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللهَُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) الآيات ، لقد عاتب الله عز و جل المرأة التي أفشت سر النبي صلى الله عليه وسلم و هددها هي و التي اتفقت معها و أفشت لها السر بالطلاق إلا أن يتوبا إلى الله تعالى. وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه يعني حفصة حديثا حديث تحريم مارية أو تحريم العسل وقيل حديث إمامة الشيخين فلما نبأت به أفشته إلى عائشة رضي الله عنها وأظهره الله عليه وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبرئيل عليه السلام عرف بعضه بتشديد الراء في قراءة أي أعلم حفصة ببعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها وأعرض عن بعض أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به تكرما قال سفيان ما زال التغافل من فعل الكرام والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية أو تحريم العسل وأعرض عن بعض فلما نبأها به أي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بما أفشت من السر وأظهره الله عليه قالت حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنبأك هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر قال نبأني العليم بالسرائر الخبير بالضمائر إن تتوبا إلى الله خطاب لحفصة وعائشة .
ـ أما القصص الواردة في كتاب الله تعالى في ذكر أناس حفظوا أسرارهم ، فكانت سببا لسعادتهم أو نجاح أعمالهم فهي كثيرة نذكر منها :
ـ كتمان يوسف عليه السلام عندما رأى رؤيًا، قال الله تعالى مبينا ما أمر به يعقوب ابنه يوسف عليه السلام :( َقالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الآية 5يوسف.
ـ كتمان لوط عليه السلام خبر الملائكة عن قومه و امرأته ، فقال تعالى: : ( َقالُوا يَاُلوطُ إِناَّ رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلٍِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ )الآية81 هود .
ـ الكتمان عن قوم مريم عليها السلام ، لقوله تعالى : ( فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِّنَ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا ) الآية 26 مريم .
ـ كتمان الخضر عليه السلام على موسى عليه السلام بسبب عمله ، و في هذا مغزى عظيم ، قال الله تعالى : (قَــالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا68 قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَ لاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا69 قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا70 الآيات من سورة الكهف .
و هناك آيات كثيرة عدة في هذا الباب ، اكتفينا بنقل ما سبق منها ، و للفائدة فقد وردت مادة سر في القرآن الكريم حوالي اثنين و ثلاثين مرة ، في صور مختلفة .
السر في السنة :
جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم يحث فيها المسلمين على الكتمان و يحذر فيها من إفشاء السر ، إليك طرفا منها قال الرسول صلى الله عليه و سلم :[استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود ] ،رواه البيهقي في شعب الإيمان و صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 943 ) .
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :[ إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة ] ،رواه أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي . إذا ما دام أن السر أمانة فيجب حفظه و عدم إفشائه و إلا كان فيمن يضيع هذه الأمانة صفة من صفات المنافقين ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم ، قال :[ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان ] و قال الرسول صلى الله عليه و سلم :[ المجالس بالأمانة ] حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع رقم ( 6678).
و ما جاء في فتح الباري ج11 ص 82 ( قرص مضغوط ):
قوله باب حفظ السر أي ترك إفشائه :
قوله: معتمر بن سليمان ،هو التيمي ،قوله أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا، في رواية ثابت عن أنس عند مسلم في أثناء حديث "فبعثني في حاجة ،فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت ما حبسك"، ولأحمد وابن سعد من طريق حميد عن أنس "فأرسلني في رسالة، فقالت أم سليم ما حبسك"، قوله "فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم"، في رواية ثابت" فقالت ما حاجته؟ قلت إنّها سر، قالت لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا"، وفي رواية حميد عن أنس" فقالت احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية ثابت:" والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت"، قال بعض العلماء: كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه، وقال بن بطال: الذي عليه أهل العلم، أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة ،وأكثرهم يقول انه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته، إلا أن يكون عليه فيه غضاضة، قلت الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة، أو منقبة أو نحو ذلك، وإلى ما يكره مطلقا، وقد يحرم، وهو الذي أشار إليه بن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه، كان يعذر بترك القيام به، فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه ان يفعل ذلك …. فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره .إهـ
الرسول صلى الله عليه و سلم يربي أصحابه على حفظ الأسرار
و هذا مقام يطول فيه الحديث عنه ، فإن الدروس العملية في الكتمان التي يستطيع المسلمون عموما و المجاهدون خصوصا أن يتعلموها من الرسول القائد صلى الله عليه و سلم أكثر من أن تعد و تحصى ، و سأقتصر بحول الله على نماذج قليلة من الدروس العملية المستنبطة من غزوات النبي صلى الله عليه و سلم و سراياه حتى يعرف المجاهدون حفظهم الله كيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يعتمد أقصى درجات الكتمان في أعماله العسكرية ، فقد يكون في ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار …
عرف الرسول عليه الصلاة و السلام أهمية حفظ السر فكتمه في معظم حروبه، حتى عن ألصق الناس به، ولم يصرح لأحد بقصده إلا في غزوة تبوك، لبعد الشقة، و ثقل المؤونة الداعيان للإستعداد، و لصعوبة إيصال الأخبار إلى أهل تبوك قبل غزوة الخندق التي عبأ فيها المشركون عشرة آلاف مقاتل عدى اليهود لمهاجمة المدينة، كان النبي عليه الصلاة والسلام على علم بنوايا أعدائه من خلال رجال استخباراته في مكة ، و القبائل العربية ،حفر المسلمون خندقا حول المدينة، فكان مفاجأة للمشركين حتى قالوا و الله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها .
هذه الوقعة لا تدل على نجاح استخبارات النبي صلى الله عليه و سلم التي عرفته بنوايا أعدائه مبكرا فحسب، و إنما تدل على حفظ السر الذي كان النبي عليه الصلاة و السلام يحرص عليه، و يعلم أصحابه بحفظه ، و على الرغم من أن حفر الخندق استغرق حوالي عشرين يوما في المتوسط إذ كانت كافية جدا لكفار قريش و اليهود لكشفه و الإعلان عنه .
و لقد عمل الرسول عليه الصلاة و السلام بمبدا السرية في العام الثاني من الهجرة ، لما خرج بأصحابه و دنى من بدر أمر أصحابه أن يقطعوا الأجراس من أعناق الإبل حتى لا يعلم بهم أحد .
إن الرسالة التي كتبها حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بخبر الفتح لدليل على عناية الرسول عليه الصلاة و السلام بكتمان الأسرار فلما علم بالرسالة أرسل من استردها من حاملتها و أحضر إليه حاطبا ليحاسبه ، فاعتذر له مؤكدا إسلامه فعفا عنه .
كما بعث النبي صلى الله صلى الله عليه و سلم سرية من المهاجرين قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه للقيام بواجبات استطلاعية .
و توجهت تلك السرية نحو هدفها في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم و مع قائدها رسالة ( مكتومة ) أمره الرسول صلى الله عليه و سلم ألا يفتحها إلا بعد يومين من من مسيره فإذا فتحها و فهم ما فيها مضى في تنفيذها غير مستكره أحدا من أفراد قوته على مرافقته .و كان مضمون تلك الرسالة ( المكتومة ) " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل ( نحلة )، مكان بين مكة و الطائف ، فترصد بها قريشا و تعلم من أخبارها " ، و بعد يومين من مسيرة عبد الله بن جحش عن قاعدة المسلمين بالمدينة المنورة ، فض تلك الرسالة ( المكتومة ) و أطلع رجاله على كتاب النبي صلى الله عليه و سلم ، و أخبرهم بأن النبي صلى الله عليه و سلم نهاه ان يستكره أحدا منهم على مرافقته ، فلم يتخلف رجل من رجاله ، و سارعوا إ لى تنفيذها سمعا و طاعة( * ) و هنا إشارة أو ملاحظة و ددت ذكرها مع هذا الدرس النبوي من عبق سيرة رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم : هل يسير تنفيذ أعمالنا العسكرية خصوصا و مهامنا الجهادية عموما على وفق ما تم مع عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه ؟ نترك البحث عن الإجابة للإخوة المجاهدين !.
لقد ابتكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب الرسائل المكتومة للمحافظة على الكتمان الشديد ، و لحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين، و بذلك أخفى نياته عن العدو و الصديق ، لقد سبق المسلمون غيرهم في ابتكار هذا الأسلوب الدقيق للكتمان ، قبل أن يفطن إليه الألمان و يستعملونه في الحرب العالمية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) ، و في قصة غزو الصحابة لبني أسد درس آخر في الكتمان حيث أمرهم بالسير ليلا و الاستخفاء نهارا و سلوك طريق غير مطروقة ، حتى لا يطلع أحد على أخبارهم و نياتهم ، فباغتوا بذلك بني أسد في وقت لا يتوقعونه ، و غنموا منهم الغنائم الكثيرة ، و الطريقة نفسها استخدمها الرسول صلى الله عليه و سلم في غزوة دومة الجندل ، ممّا جعل النصر حليف المسلمين ، وكذلك في غزوة الأحزاب كتم النبي صلى الله عليه و سلم إسلام نعيم بن مسعود و أمره بكتمه و قال له : إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فعمل نعيم رضي الله عنه على تفريق كلمة الأحزاب و زوال الثقة بينهم .
و من كتمانه صلى الله عليه و سلم أنه إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، ففي غزوة بني لحيان أظهر أنه يريد الشام ثم اتجه جنوبا حتى يباغتهم :" … ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ذا الحجة و المحرم و صفرا و شهري ربيع ، و خرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدي و أصحابه رضي الله عنهم ، و أظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة ، فخرج من المدينة فسلك على غراب ، ( جبل بناحية المدينة ) على طريقه إلى الشام ثم على محيص ثم على البتراء ثم صفق ( عدل و انصرف ) ذات اليسار ، فخرج على بين ( واد قرب المدينة )ثم على صخيرات اليمام ، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة … حتى نزل على غران و هي منازل بني لحيان .
و في فتح مكة المكرمة كانت السرية كبيرة جدا ، حتى أن زوج النبي صلى الله عليه و سلم عائشة الصديقة و أبوها الصديق رضي الله عنهما ، لم يعلما أين ومن يقصد حتى أخبرهما مع الناس جميعا ، عند بدء المسير مما جعل الجيش يداهم قريشا قبل أن تعد له أي عدة و في قصة إفشاء أبي لبابة لسر رسول الله صلى الله عليه و سلم عندما ذهب أبو لبابة إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و معاقبته لنفسه بيان مدى إحساس أحد الصحابة بأهمية حفظ السر و إثم إفشائه ، قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 27 الأنفال، قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد أنزل الله توبته على رسوله فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله فقال يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة فقال يجزيك, و القصة كاملة في تفسير بن كثير ج3 ص 333 .
هذا طرف يسير من أخباره صلى الله عيه و سلم ، و إلا فالدروس العملية من حياته صلى الله عليه و سلم كثيرة و التي تبين أهمية حفظ السر و خطورة إفشائه .
أما خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام ملئت وصاياهم إلى قادتهم بنصائح كثيرة تحض على كتمان السر و معرفة الأسرار عن الأعداء ، و أهمها وصية أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام و وصيته إلى خالد بن الوليد في قتال أهل الردة ، وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما .
أخي المجاهد الواجب عليك أن تحترس ما استطعت في كتمان سرك في حربك ، فإن في ذلك بإذن الله إمضاء تدبيرك ، و قطع مكيدة من يكيدك ، و اكفف لسانك عن فلتة كل منطق ، ينكشف به ما تضمر من أمرك أو تخفيه من سرك ، و اعلم أنه قد يستدل بلحن المنطق على حصون السر و مكنون الضمير ، و لاتستهن في إظهار سرّك بصغير لصغره و لا بأعجميّ لعجمته ، فربّ سرّ مصون قد أذاعوه و اطلعوا عليه .
قال ابن المبارك رحمه الله : " تعاهد لسانك إنّ اللّسان سريع إلى المرء في قتله و هذا اللسان يرد الفؤاد يدل الرجال على عقله " و لقد قيل قلوب الأبرار قبور الأسرار، وكتمان الأسرار قد تطابق على الأمر به الملل ، و قيل قلب الأحمق في فيه و لسان العاقل في قلبه ، و قيل لبعضهم كيف أنت في كتم السر قال أستره و أستر أني أستره… أخي المجاهد الواجب عليك أن تحافظ على أسرار جماعتك و أعمالك و ذلك بعدم البوح بشيء منها ولا يجوز إعطاء الكافرين أسرار المؤمنين ، يقول تعالى لاَ يَتَخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهَ فِي شَيْءٍ آل عمران 28 .
كما قال أحد الحكماء : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة ، و كانت الحكماء تقول : سرك من دمك ، و العرب تقول من ارتاد لسره موضعا فقد أذاعه ، و أختم بمقولة اللواء الركن محمود شيت خطاب حول الكتمان ، حيث يقول : ( إن كتمان النبي صلى اله عليه و سلم نياته حتى عن أقرب الناس إليه و كتمان و قت حركته و تعداد جيشه و تنظيمه و تسليحه ، هو الذي أدى الفتح القريب : ( من كتاب دروس في الكتمان ) ، إذا كتمان الأسرار من أكبر أسباب انتصار الجيش و إفشاء أسراره من أكبر هزائمه و الله أعلم .
و صلّى الله على سيّدنا محمّد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا مزيدًا و السّلام عليكم ورحمة الله و بركاته .
الإعلام الإسلامي العالمي
Global Islamic Media
http://groups.yahoo.com/group/abubanan
فهذا موضوع حول فضيلة من أسمى الفضائل و خصلة من أكرم الخصال و خلة من خلال المروءة و النبل الحميدة ، و آية من آي الشرف و العقل و سمة من سمات المجد و الرشد ، تلك هي صيانة السر و المبالغة في كتمانه و الحرص أن يمس ، و حسبك دليلا على منزلة هذه الخصلة في قلوب الناس قاطبة إجماعهم على امتداح صاحبها و وزنهم عقل الرجل و شرفه و همته و مروءته بميزان حفظ السر و دفنه له ، و مما لا ريب فيه أن الناس على حفظ الأموال أقدر منهم على حفظ الأسرار و أأمن ، فليس كل أمين على المال حفيظا على السر، و لذلك يبلغ المرء من الجهد و النصب في تخير من يستودعه مكنون سره ، ما لا يبلغ معشاره فيمن يستودعه نفيس ماله ،و يخاف على سره أن يذاع أكثر مما يخاف على ماله من الضياع ، لأن المال غاد و رائح ، و أما السر فقد يكون في إفشائه إزهاق روح ؟ أو انتهاك عرض ؟؟ …
و لما رأيت أنه قد تفشى في المجاهدين عادة عدم كتمان الأسرار العامة و الخاصة ، و أصبح الحديث عنها عند القريب و البعيد أمرا غير مستنكر ، و ما نتج عن ذلك من تأذي المجاهدين و أهاليهم و ما يحصل للذين يأوون و ينصرون .. . دون أن نغفل مصالح الجهاد و الدين ، فكم من مهمة تعطل تحقيقها وذهبت أدراج الرياح بسبب بسيط ألا وهو انتشار خبرها بشكل مريع فظيع ، وكم من إخوة مجاهدين تأذوا بسبب فشو سر ما تنقلوا لأجل القيام به ، و قد يتساءل معي أخي المجاهد الفاضل ما السبب في ذلك يا ترى ؟ و ما علاجه يا أخي ؟
و الإجابة على ذلك لا يمكن بحال أن بعد المتابعة و الدراسة و البحث ، و ما يمكنني نقله من إجابة حول هذا السؤال من خلال هذه الأسطر ، هو الإشارة ابتداء إلى الآداب الشرعية في التعامل مع السر و ما ينبغي لنا أن نتحلى به . و من ذلك أحببت أن أقدم هذه النّقول حول موضوع الأسرار و كيفية التعامل معها و مسؤولية المجاهد اتجاه ذلك ، من حفظها و عدم إفشائها سواء كانت أسرارا سمعها أو أسرارا ائتمن عليها ، و ليعلم أيضا أنه ليس كل ما يعرف يقال ، يقول الله تعالى : وَ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَو الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ، و قوله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ، وفقنا الله إلى ما فيه الخير الصلاح .
و بداية أنقل إليكم هذه التعريفات للفظة السر و الكتمان :
الكتمان هو ضبط النفس ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها ، و ذلك لا يتم إلا بالصبر الأخلاق الإسلامية ج2 ص358.
السر هو كل ما تكتمه و تخفيه في نفسك و لا تطلع عليه أحدا لدفع ضرر أو لجلب مصلحة ، أو تخص به من تثق به دون سواه المنهاج ج2 ص48 .
السر هو ما يكتمه الإنسان في صدره و جمعه أسرار ، و السريرة مثله ، و جمعها سرائر . الأخلاق في الإسلام ص201 .
كتمان السر هو أن يضبط الكلام من الإنسان عن إظهار ما يضمره مما يضر به إظهاره وإبداؤه قبل وقته ( فضل الله الصمد ص 48 )
كتمان السر هو الصبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام عدة الصابرين و ذخيرة الشاكرين لابن القيم ص17 .
ــ السر في القرآن الكريم :
جاءت في كتاب الله عز و جل آيات تحث على حفظ السر و آيات كثيرة تحكي عن أناس حفظوا أسرارهم فكانت لهم نجاة ن مما يدل ما لحفظ الأسرار من فوائد عظيمة ، فضلا عن الآيات الكثيرة التي تأمر الإنسان بعدم الإكثار من الكلام ، و تبين أن الإنسان محاسب على كل كلمة يقولها ، إن خيرا فخير و عن شرا فشر ، و إليك أخي المجاهد الفاضل بعض الآيات الآمرة بحفظ و كتمان الأسرار :
ـ يقول الله تعالى آمرا بحفظ العهد : (و أَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )، و السر عهد عهد إليك صاحبه بحفظه ، فيجب عليك الوفاء بالعهد بكتمان سره .
ـ و جاء في موضع آخر من كتاب الله العتاب على من أفشى سرا و ذلك في قصة النبي صلى الله عليه و سلم مع بعض أزواجه ، التي نزل بسببها صدر سورة التحريم ، قال الله تعالى : ( َو إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فلَمَّا نَبَأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللهَُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) الآيات ، لقد عاتب الله عز و جل المرأة التي أفشت سر النبي صلى الله عليه وسلم و هددها هي و التي اتفقت معها و أفشت لها السر بالطلاق إلا أن يتوبا إلى الله تعالى. وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه يعني حفصة حديثا حديث تحريم مارية أو تحريم العسل وقيل حديث إمامة الشيخين فلما نبأت به أفشته إلى عائشة رضي الله عنها وأظهره الله عليه وأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على إفشائها الحديث على لسان جبرئيل عليه السلام عرف بعضه بتشديد الراء في قراءة أي أعلم حفصة ببعض الحديث وأخبرها ببعض ما كان منها وأعرض عن بعض أي لم يعرفها إياه ولم يخبرها به تكرما قال سفيان ما زال التغافل من فعل الكرام والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية أو تحريم العسل وأعرض عن بعض فلما نبأها به أي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بما أفشت من السر وأظهره الله عليه قالت حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنبأك هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر قال نبأني العليم بالسرائر الخبير بالضمائر إن تتوبا إلى الله خطاب لحفصة وعائشة .
ـ أما القصص الواردة في كتاب الله تعالى في ذكر أناس حفظوا أسرارهم ، فكانت سببا لسعادتهم أو نجاح أعمالهم فهي كثيرة نذكر منها :
ـ كتمان يوسف عليه السلام عندما رأى رؤيًا، قال الله تعالى مبينا ما أمر به يعقوب ابنه يوسف عليه السلام :( َقالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الآية 5يوسف.
ـ كتمان لوط عليه السلام خبر الملائكة عن قومه و امرأته ، فقال تعالى: : ( َقالُوا يَاُلوطُ إِناَّ رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلٍِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ )الآية81 هود .
ـ الكتمان عن قوم مريم عليها السلام ، لقوله تعالى : ( فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِّنَ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا ) الآية 26 مريم .
ـ كتمان الخضر عليه السلام على موسى عليه السلام بسبب عمله ، و في هذا مغزى عظيم ، قال الله تعالى : (قَــالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا68 قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَ لاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا69 قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا70 الآيات من سورة الكهف .
و هناك آيات كثيرة عدة في هذا الباب ، اكتفينا بنقل ما سبق منها ، و للفائدة فقد وردت مادة سر في القرآن الكريم حوالي اثنين و ثلاثين مرة ، في صور مختلفة .
السر في السنة :
جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم يحث فيها المسلمين على الكتمان و يحذر فيها من إفشاء السر ، إليك طرفا منها قال الرسول صلى الله عليه و سلم :[استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود ] ،رواه البيهقي في شعب الإيمان و صححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 943 ) .
و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :[ إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة ] ،رواه أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي . إذا ما دام أن السر أمانة فيجب حفظه و عدم إفشائه و إلا كان فيمن يضيع هذه الأمانة صفة من صفات المنافقين ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم ، قال :[ آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا ائتمن خان ] و قال الرسول صلى الله عليه و سلم :[ المجالس بالأمانة ] حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع رقم ( 6678).
و ما جاء في فتح الباري ج11 ص 82 ( قرص مضغوط ):
قوله باب حفظ السر أي ترك إفشائه :
قوله: معتمر بن سليمان ،هو التيمي ،قوله أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا، في رواية ثابت عن أنس عند مسلم في أثناء حديث "فبعثني في حاجة ،فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت ما حبسك"، ولأحمد وابن سعد من طريق حميد عن أنس "فأرسلني في رسالة، فقالت أم سليم ما حبسك"، قوله "فما أخبرت به أحدا بعده، ولقد سألتني أم سليم"، في رواية ثابت" فقالت ما حاجته؟ قلت إنّها سر، قالت لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا"، وفي رواية حميد عن أنس" فقالت احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية ثابت:" والله لو حدثت به أحدا لحدثتك يا ثابت"، قال بعض العلماء: كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنسا كتمانه، وقال بن بطال: الذي عليه أهل العلم، أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة ،وأكثرهم يقول انه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته، إلا أن يكون عليه فيه غضاضة، قلت الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة، أو منقبة أو نحو ذلك، وإلى ما يكره مطلقا، وقد يحرم، وهو الذي أشار إليه بن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه، كان يعذر بترك القيام به، فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه ان يفعل ذلك …. فلا يحل لأحد أن يفشي على صاحبه ما يكره .إهـ
الرسول صلى الله عليه و سلم يربي أصحابه على حفظ الأسرار
و هذا مقام يطول فيه الحديث عنه ، فإن الدروس العملية في الكتمان التي يستطيع المسلمون عموما و المجاهدون خصوصا أن يتعلموها من الرسول القائد صلى الله عليه و سلم أكثر من أن تعد و تحصى ، و سأقتصر بحول الله على نماذج قليلة من الدروس العملية المستنبطة من غزوات النبي صلى الله عليه و سلم و سراياه حتى يعرف المجاهدون حفظهم الله كيف كان النبي صلى الله عليه و سلم يعتمد أقصى درجات الكتمان في أعماله العسكرية ، فقد يكون في ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار …
عرف الرسول عليه الصلاة و السلام أهمية حفظ السر فكتمه في معظم حروبه، حتى عن ألصق الناس به، ولم يصرح لأحد بقصده إلا في غزوة تبوك، لبعد الشقة، و ثقل المؤونة الداعيان للإستعداد، و لصعوبة إيصال الأخبار إلى أهل تبوك قبل غزوة الخندق التي عبأ فيها المشركون عشرة آلاف مقاتل عدى اليهود لمهاجمة المدينة، كان النبي عليه الصلاة والسلام على علم بنوايا أعدائه من خلال رجال استخباراته في مكة ، و القبائل العربية ،حفر المسلمون خندقا حول المدينة، فكان مفاجأة للمشركين حتى قالوا و الله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها .
هذه الوقعة لا تدل على نجاح استخبارات النبي صلى الله عليه و سلم التي عرفته بنوايا أعدائه مبكرا فحسب، و إنما تدل على حفظ السر الذي كان النبي عليه الصلاة و السلام يحرص عليه، و يعلم أصحابه بحفظه ، و على الرغم من أن حفر الخندق استغرق حوالي عشرين يوما في المتوسط إذ كانت كافية جدا لكفار قريش و اليهود لكشفه و الإعلان عنه .
و لقد عمل الرسول عليه الصلاة و السلام بمبدا السرية في العام الثاني من الهجرة ، لما خرج بأصحابه و دنى من بدر أمر أصحابه أن يقطعوا الأجراس من أعناق الإبل حتى لا يعلم بهم أحد .
إن الرسالة التي كتبها حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش بخبر الفتح لدليل على عناية الرسول عليه الصلاة و السلام بكتمان الأسرار فلما علم بالرسالة أرسل من استردها من حاملتها و أحضر إليه حاطبا ليحاسبه ، فاعتذر له مؤكدا إسلامه فعفا عنه .
كما بعث النبي صلى الله صلى الله عليه و سلم سرية من المهاجرين قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه للقيام بواجبات استطلاعية .
و توجهت تلك السرية نحو هدفها في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم و مع قائدها رسالة ( مكتومة ) أمره الرسول صلى الله عليه و سلم ألا يفتحها إلا بعد يومين من من مسيره فإذا فتحها و فهم ما فيها مضى في تنفيذها غير مستكره أحدا من أفراد قوته على مرافقته .و كان مضمون تلك الرسالة ( المكتومة ) " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل ( نحلة )، مكان بين مكة و الطائف ، فترصد بها قريشا و تعلم من أخبارها " ، و بعد يومين من مسيرة عبد الله بن جحش عن قاعدة المسلمين بالمدينة المنورة ، فض تلك الرسالة ( المكتومة ) و أطلع رجاله على كتاب النبي صلى الله عليه و سلم ، و أخبرهم بأن النبي صلى الله عليه و سلم نهاه ان يستكره أحدا منهم على مرافقته ، فلم يتخلف رجل من رجاله ، و سارعوا إ لى تنفيذها سمعا و طاعة( * ) و هنا إشارة أو ملاحظة و ددت ذكرها مع هذا الدرس النبوي من عبق سيرة رسولنا محمد صلى الله عليه و سلم : هل يسير تنفيذ أعمالنا العسكرية خصوصا و مهامنا الجهادية عموما على وفق ما تم مع عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه ؟ نترك البحث عن الإجابة للإخوة المجاهدين !.
لقد ابتكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب الرسائل المكتومة للمحافظة على الكتمان الشديد ، و لحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين، و بذلك أخفى نياته عن العدو و الصديق ، لقد سبق المسلمون غيرهم في ابتكار هذا الأسلوب الدقيق للكتمان ، قبل أن يفطن إليه الألمان و يستعملونه في الحرب العالمية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) ، و في قصة غزو الصحابة لبني أسد درس آخر في الكتمان حيث أمرهم بالسير ليلا و الاستخفاء نهارا و سلوك طريق غير مطروقة ، حتى لا يطلع أحد على أخبارهم و نياتهم ، فباغتوا بذلك بني أسد في وقت لا يتوقعونه ، و غنموا منهم الغنائم الكثيرة ، و الطريقة نفسها استخدمها الرسول صلى الله عليه و سلم في غزوة دومة الجندل ، ممّا جعل النصر حليف المسلمين ، وكذلك في غزوة الأحزاب كتم النبي صلى الله عليه و سلم إسلام نعيم بن مسعود و أمره بكتمه و قال له : إنما أنت رجل واحد ، فخذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة ، فعمل نعيم رضي الله عنه على تفريق كلمة الأحزاب و زوال الثقة بينهم .
و من كتمانه صلى الله عليه و سلم أنه إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، ففي غزوة بني لحيان أظهر أنه يريد الشام ثم اتجه جنوبا حتى يباغتهم :" … ثم أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ذا الحجة و المحرم و صفرا و شهري ربيع ، و خرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدي و أصحابه رضي الله عنهم ، و أظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة ، فخرج من المدينة فسلك على غراب ، ( جبل بناحية المدينة ) على طريقه إلى الشام ثم على محيص ثم على البتراء ثم صفق ( عدل و انصرف ) ذات اليسار ، فخرج على بين ( واد قرب المدينة )ثم على صخيرات اليمام ، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة … حتى نزل على غران و هي منازل بني لحيان .
و في فتح مكة المكرمة كانت السرية كبيرة جدا ، حتى أن زوج النبي صلى الله عليه و سلم عائشة الصديقة و أبوها الصديق رضي الله عنهما ، لم يعلما أين ومن يقصد حتى أخبرهما مع الناس جميعا ، عند بدء المسير مما جعل الجيش يداهم قريشا قبل أن تعد له أي عدة و في قصة إفشاء أبي لبابة لسر رسول الله صلى الله عليه و سلم عندما ذهب أبو لبابة إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و معاقبته لنفسه بيان مدى إحساس أحد الصحابة بأهمية حفظ السر و إثم إفشائه ، قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 27 الأنفال، قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد أنزل الله توبته على رسوله فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله فقال يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة فقال يجزيك, و القصة كاملة في تفسير بن كثير ج3 ص 333 .
هذا طرف يسير من أخباره صلى الله عيه و سلم ، و إلا فالدروس العملية من حياته صلى الله عليه و سلم كثيرة و التي تبين أهمية حفظ السر و خطورة إفشائه .
أما خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام ملئت وصاياهم إلى قادتهم بنصائح كثيرة تحض على كتمان السر و معرفة الأسرار عن الأعداء ، و أهمها وصية أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام و وصيته إلى خالد بن الوليد في قتال أهل الردة ، وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما .
أخي المجاهد الواجب عليك أن تحترس ما استطعت في كتمان سرك في حربك ، فإن في ذلك بإذن الله إمضاء تدبيرك ، و قطع مكيدة من يكيدك ، و اكفف لسانك عن فلتة كل منطق ، ينكشف به ما تضمر من أمرك أو تخفيه من سرك ، و اعلم أنه قد يستدل بلحن المنطق على حصون السر و مكنون الضمير ، و لاتستهن في إظهار سرّك بصغير لصغره و لا بأعجميّ لعجمته ، فربّ سرّ مصون قد أذاعوه و اطلعوا عليه .
قال ابن المبارك رحمه الله : " تعاهد لسانك إنّ اللّسان سريع إلى المرء في قتله و هذا اللسان يرد الفؤاد يدل الرجال على عقله " و لقد قيل قلوب الأبرار قبور الأسرار، وكتمان الأسرار قد تطابق على الأمر به الملل ، و قيل قلب الأحمق في فيه و لسان العاقل في قلبه ، و قيل لبعضهم كيف أنت في كتم السر قال أستره و أستر أني أستره… أخي المجاهد الواجب عليك أن تحافظ على أسرار جماعتك و أعمالك و ذلك بعدم البوح بشيء منها ولا يجوز إعطاء الكافرين أسرار المؤمنين ، يقول تعالى لاَ يَتَخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهَ فِي شَيْءٍ آل عمران 28 .
كما قال أحد الحكماء : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة ، و كانت الحكماء تقول : سرك من دمك ، و العرب تقول من ارتاد لسره موضعا فقد أذاعه ، و أختم بمقولة اللواء الركن محمود شيت خطاب حول الكتمان ، حيث يقول : ( إن كتمان النبي صلى اله عليه و سلم نياته حتى عن أقرب الناس إليه و كتمان و قت حركته و تعداد جيشه و تنظيمه و تسليحه ، هو الذي أدى الفتح القريب : ( من كتاب دروس في الكتمان ) ، إذا كتمان الأسرار من أكبر أسباب انتصار الجيش و إفشاء أسراره من أكبر هزائمه و الله أعلم .
و صلّى الله على سيّدنا محمّد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا مزيدًا و السّلام عليكم ورحمة الله و بركاته .
الإعلام الإسلامي العالمي
Global Islamic Media
http://groups.yahoo.com/group/abubanan