المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من أسباب الإنحـراف و الصدود عن الحق : الغرور الفكـري



أسد الحق
04-02-2003, 03:32 AM
السلام عليكم



الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على رسوله الأمين و جميع الأنبياء و المرسلين ، و من تبعهم بإحسـان إلى يوم الدين و بعد.
فللصدود عن الحـق أسباب عديدة ، و موانع كثيرة ، منها الغرور الفكري ، و التقليد عن غير بينة و بصيرة ، و تحكم العادات السيئة فـي النفوس ، و الأنفة و الاستكبار ، و الحسد الممقوت ، و طـاغوت الافـتتـان بالمركز و الجـاه و كثرة المـال ، و مـا إلـى ذلك ، و كلها أمراض أخلاقية وبـيلة ، و أدواء مستعصية فـتاكة ، و الحديث عنها يـطول ، فليكن حديثي في هذه الحلقة عن الغرور الفكري :

الغرور الفــكري هو إعجـاب الإنسان بعـقله ، و افتـتانه برأيـه ، و إنزالـه فوق منزلته ، و إعـطاؤه من القداسة مـا ليس بأهل له ، حـتى يدخل فيمـا لا يعنيه و ما ليس في حدود وسعه ، و حدود طـاقته ، فيعـارض العبد ربه فـي خلقه و تشريعه فضلاً عن مـعارضته لنظـرائه و مَن هو أوسـع منه فكراً و أكثر تجربـة من العلمـاء .

لقد وجد الشيطـان منفذا لوسوسته فـي اغتـرار قوم في عقـولهم و عــلومهم فاستهواهم و زيَّن لهم أن يخـضوا فيما ليس من شأنهم ، و أن يهجموا عـلى بحث مـا ليس في وسعهم بحثه.

من ذلك تفـاصيل القضـاء و القدر ، و أسمـاء الله و صفاته و كيفيات ذلك ، فاضطربت أفـكارهم ، و تفرقت بهم السبل عن الجادة و الصراط المستقيم ، فمنهم من غَـلا في نفي القدر زعمًا منه أنه سلك مسلك العدل و التنزيه لله عن الظلم و الجـور ، و عارضوا بذلك نصوص الإثـبات للقضاء و القدر ، و منهم من غَـلا في الإثـبات حتى سلب المكلـفين إختــيارهم و أعمـالهم ، زعما منهم أن نصوص عمــوم مشيئة الله و اقتداره تُنـافي الاختـيار و الكسب للمكلفين ، فعارضوا بذلك الحس و أدلة الشرع و العقل ، و لم يكن باب البحث في كنه الله و كيفـيات صفاته فغَلـوا في ذلك نفيا أو إثباتا بأهدى سبيلا من هؤلاء ، بل وقع الجميع في حيرة و متاهات لا نجاة لهم منها إلا بمعرفتهم قدر أنفسهم ، و الحدود التي يجب أن تنتهي إليها أفكارهم و يعملوا أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ً ، و يلزموا ما جاء في الشريعة الله فما تبين من ذلك وجب اعتقاده ، و ما لم يتبين من التفاصيل و الكيفيات وجب التسـليم له ، و القول بما قال الراسخون في العلم { آمنا به كلٌ من عندِ ربنا }[آل عمران:7] .و حرم الخوض فيه ، لقوله تعالى :{ و لا تقفُ ما ليس لك به علمٌ إن السَّمع و البصر و الفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء :36]

و استهوى الشيطـان من هؤلاء المغرورين طائفة أخرى ، فزيَّـن لها أن تسـن قوانين من عند أنفسها لتتحاكم إليها ، و تفصل بها في خصوماتها ، و سوَّل لها أن تضع قواعد بمحض تفكيرها و هواها ، تنظم بها اقتصادها و سائر معاملاتها ، محادة لكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ، و انتقاصا لتشريعهما و زعمًا منها أن تشريع الله لا يصلح للتطبيق و العمل به في عهدهم ، و لا يكفل لهم مصالحهم ، و لا يعالج ما جد من مشاكلهم ، حيث اختلفت الظروف و الأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحي و اتسع نطاق المعاملات ، و كثرت المشكلات ، فلا بد لتنظيم المعاملات ، و الفصل في الخصومات من قواعد و قوانين جديدة ، يضعها المفكرون من أهل العصر الواقفون على أحوال أهله ، المطلعون على المشاكل العارفون بأسبابها و طرق حلها لترتكز على واقع الحياة ، و تتناسب مع أحوال الناس و ظروفهم الحاضرة ، و مع مستوى ثقافتهم و حضارتهم الراهنة.

فهؤلاء لم يقدروا عقولهم قدرها ، و لم ينزلـوها منـزلتها ، و لم يقدروا الله حق قدره ، و لم يعرفوا حقيقة شرعه ، و لا طريق تطبيق منهجه و أحكامه ، و لم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علمًا ، فعلم ما كان و ما سيكون من اختلاف الأحوال و كثرة المشاكل ، و أنه أنزل شريعة عامة و شاملة ، و قواعد كلية محكمة ، و قدرها بكامل علمه ، و بالغ حكمته فأحسن تقديرها ، قد جعلها صالحة لكل زمان و مكان ، فمهما اختلفت الأزمنة و الحضارات ، و تباينت الظروف و الأحوال فهي صالحة لتنظيم معاملات العباد و تبادل المنافع بينهم ، و الفصل في خصوماتهم و حل مشاكلهم ، و صلاح جميع شؤونهم في عبادتهم و معاملاتهم .

إن العقول التي منحها الله ليعرفوه بها ، و ليهتدوا بفهمها لتشريعه إلى ما فيه سعادتهم في العاجل و الآجل قد اتخذوا منها خصما لدودًا لله فأنكروا حكمته ، و حسن تدبيره و تقديره ، و ضاق صدرهم ذرعًا بتشريعه و أساءوا الظن به فانتقصوه و ردوه ، و قد يصابون بذلك و هم لا يدرون ، لأنهم بغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق و العدل فكانوا من الأخسرين أعمالاً {الذين ظل سعيُهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا }[الكهف:104] و كانوا ممن قال الله فيهم {ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمت الله كفرا و أحلوا قومَهُم دار البوار جهنم يصلونها و بئس القرار }[إبراهيم: 28،29]

إن الله سبحانه كثيرا ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين الهالكين ، و يحثهم على أن يسيروا في الأرض لينظروا ما كانوا فيه من قوة و رغد عيش و حضارة ، و بسطة في العلم نظر عظة و اعتبار ، ليتنكبوا طريقهم السيئ اتقـاء لسوء مصيرهم ، و لفت النظر في بعض السور إلـى جريمة الغـرور الفكري ، لشدة خطره ، و بيَّـن أنه الفتنة الكبرى التي دفعوا في صدور الرسل و ردوا بها دعوتهم ، ليعرفوا بقصور عقول البشر أنها لا تصلح لمقـاومة دعوة الرسل و ليحذرنا من خطر الغرور الفكري الذي هلك به من قاوم المرسلين قال تعالى :{ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم و أشد قوة و آثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلُهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنَّا به مشركون فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنَّت الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون }[غافر:82-85]

إن اعتبار الإنسان لفكره و اعتداده به درجات ، منها المحمود و منها المذموم ، فما جاوز الحد و بلغ درجة الإعجاب بالرأي و العصبية له ، و دفع الحق به بعد ما يتبين على نحو ما مضى الحديث عنه فهو الممقوت ، و ما وقف بالمفكر عنده حده فاعتقد ما فهم من الدليل عن بيِّنة و بصيرة ، و اعتز به لكونه الحق في نظره دون أن يعارض به صريح كتاب ، و لا صحيح سنة ، و لا إجماع أمة فليس بممقوت ، بل هو الواجب عليه ، و على تمسكه به يحمد ، لكن ينبغي له أن ينصف مناظره من نفسه ، و يحترم فكر صاحبه كما يجب أن يقابله بمثل هذا الاحترام ليستمر البحث و المناظرة ، و يتبين الحق من قريب مع المحافظة على الأخوة ، و أواصر المحبة و الوئام .و الله الموفق . و صلى اللع على نبينا محمد و آله و سلم.



مع تحياتى