المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رثاء بلقيص



اميرة الكرام
17-02-2003, 09:43 PM
قصيده للرائع نزار قباني عندما قتلت زوجته في الاحداث
شكرا لكم..

شكرا لكم...

فحبيبتي قتلت..وصار بوسعكم أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة..

وقصيدتي اغتيلت..

وهل من أمة في الأرض -الا نحن- تغتال القصيدة؟

2

بلقيس..كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل

بلقيس..كانت أطول النخلات في أرض العراق

كانت إذا تمشي..ترافقها طواويس،وتتبعها أيائل

بلقيس..يا وجعي ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

هل ياترى من بعد شَعرَك سوف ترتفع السنابل،

يا نينوى الخضراء..

يا غجريتي الشقراء..

يا أمواج دجلة تلبس في الربيع بساقها أحلى الخلاخل..

3

قتلوك يا بلقيس..

أية أمة عربية تلك التي تغتال أصوات البلابل؟

أين السموأل،والمهلهل.. والغطاريف الأوائل؟

فقبائل أكلت قبائل..

وثعالب قتلت ثعالب..

وعناكب سحقت عناكب..

قسما بعينيك اللتين إليهما تأوي ملايين الكواكب..

سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب

فهل البطولة كذبة عربية

أم مثلنا التاريخ كاذب؟؟

4

بلقيس..لا تتغيبي عني..

فان الشمس بعدك، لاتضيئ على السواحل

سأقول في التحقيق ،إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل..

وأقول في التحقيق إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول

وأقول أن حكاية الإشعاع أسخف نكتة قيلت..

فنحن قبيلة بين القبائل..

هذا هو التاريخ ..يا بلقيس..

كيف يفرق الإنسان ما بين الحدائق..والمز ابل؟…

5

بلقيس أيتها الشهيدة، والقصيدة، والمطهرة النقية

سبأ تفتش عن مليكتها ..فردي للجماهير التحية..

يا أعظم الملكات..يا امرأة تجسد كل أمجاد العصور السومرية

بلقيس يا عصفورتي الأحلى..

ويا أيقونتي الأغلى..

ويا دمعا تناثر فوق خد المجدلية..

أترى ظلمتك إذ نقلتك ذات يوم من ضفاف الأعظمية.؟

بيروت تقتل كل يوم واحدا منا .. وتبحث كل يوم عن ضحية…

والموت في فنجان قهوتنا…

وفي مفتاح شقتنا.. وفي أزهار شرفتنا…

وفي ورق الجرائد.. والحروف الأبجدية

ها نحن ، يابلقيس ، ندخل مرة أخرى لعصر الجاهلية

ها نحن ندخل في التوحش ، والتخلف، والبشاعة، والوضاعة،

ندخل مرة أخرى عصور البربرية

حيث الكتابة رحلة بين الشظية..والشظية..

حيث اغتيال فراشة في حقلها..

صار القضية...

6

هل تعرفون حبيبتي بلقيس ؟.

فهي أهم ما كتبوه في كتب الغرام

كانت مزيجاً رائعاً .. بين القطيفة و الرخام

كان البنفسج بين عينيها ينام .. و لا ينام

بلقيس .. يا عطراً بذاكرتي .. و يا قبراً يسافر في الغمام

قتلوك في بيروت مثل أي غزالة

من بعد ما قتلوا الكلام..

بلقيس .. ليست هذه مرثية

لكن .. على العرب السلام …

7

بلقيس .. مشتاقون .. مشتاقون .. مشتاقون

و البيت الصغير يسائل عن أميرته المعطرة الذيول

نصغي إلى الأخبار .. و الأخبار غامضة .. و لا تروي فضول

بلقيس .. مذبوحون حتى العظم ..

و الأولاد لا يدرون ما يجري .. و لا أدري أنا ماذا أقول؟

هل تقرعين الباب بعد دقائق ؟

هل تخلعين المعطف الشتوي ؟

هل تأتين باسمة .. و ناضرة .. و مشرفة كأزهار الحقول ؟





8

بلقيس ..

إن زروعك الخضراء ما زالت على الحيطان باكيةً..

و وجهك لم يزل متنقلاً بين المرايا و الستائر

حتى سيجارتك التي أشعلتها لم تنطفئ ..

و دخانها ما زال يرفض أن يسافر

بلقيس .. مطعونون .. مطعونون في الأعماق ،

و الأحداق يسكنها الذهول

بلقيس .. كيف أخذت أيامي ، و أحلامي ، و ألغيت الحدائق والأغاني

يا زوجتي .. و حبيبتي .. و قصيدتي .. و ضياء عيني

قد كنت عصفوري الجميل فكيف هربت يا بلقيس مني ؟…

9

بلقيس ..

هذا موعد الشاي العراقي المعطر.. و المعتق كالسلافة

فمن الذي سيوزع الأقداح .. أيتها الزُرافه

و من الذي سيقبِّل الأولاد عند رجوعهم؟

و من الذي نقل الفرات لبيتنا ..

و ورود دجلة و الرصافة ..

بلقيس .. إن الحزن يثقبني ..

و بيروت التي قتلتك .. لا تدري جريمتها

و بيروت التي عشقتك تجهل أنها قتلت عشيقتها ..

و أطفأت القمر

10

بلقيس .. يا بلقيس .. يا ‎بلقيس

كل غمامة تبكي عليك فمن ترى يبكي عليَّأ؟

بلقيس .. كيف رحلت صامتةً ، و لم تضعي يديك على يديَّا ؟

بلقيس .. كيف تركتنا في الريح ، نرجف مثل أوراق الشجر ؟

و تركتنا – نحن الثلاثة - ضائعين كريشة تحت المطر

أتراك ما فكرتِ بي ؟

و أنا الذي يحتاج حبك .. مثل ( زينب ) أو ( عمر )…

بلقيس .. يا كنزاً خرافياً .. و يا رمحاً عراقياً .. و غابة خيزران

يا من تحديت الغيوم ترفعاً ..

من أين جئت بكل هذا العنفوان ؟

بلقيس .. أيتها الصديقة ، و الرفيقة ، و الرقيقة مثل زهرة أقحوان

ضاقت بنا بيروت .. ضاق البحر .. ضاق بنا المكان ..

بلقيس : ما أنت التي تتكررين ..

فما لبلقيس اثنتان ….

12

بلقيس ..

تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا ، و تجلدني الدقائق و الثواني ..

فلكل دبوس صغير .. قصة

و لكل عقد من عقودك قصتان ..

حتى ملاقط شعرك الذهبي ، تغمرني كعادتها بأمطار الحنان

و يعرِّشُ الصوت العراقي الجميل ، على الستائر ، و المقاعد و الأواني..

و من المرايا تطلعين .. من الخواتم تطلعين .. من القصيدة تطلعين ..

من الشموع ، من الكؤوس ، من النبيذ الأرجواني ..

بلقيس .. يا بلقيس .. لو تدرين ما وجع المكان ..

في كل ركن أنت حائمة كعصفور .. و عابقة كغابة بيلسان

فهناك كنت تدخنين .. هناك كنت تطالعين .. هناك كنت كنخلة تتمشطين ..

و تدخلين على الضيوف ، كأنك السيف اليماني ..

بلقيس .. أين زجاجة ( الفيرلان ) ؟ و الولاعة الزرقاء ..

أين سيجارة الـ ( كنت ) التي ما فارقت شفتيك ..

أين ( الهاشمي ) مغنياً فوق القوام المهرجان ..

تتذكر الأمشاط ماضيها فيكرج دمعها

هل يا ترى الأمشاط من أشواقها أيضاً تعاني ؟..

بلقيس .. صعبٌ أن أهاجر من دمي ..

و أنا المحاصر بين ألسنة اللهيب .. و بين ألسنة الدخان

13

بلقيس.. أيتها الأميرة

ها أنت تحترقين في حرب العشيرة .. و العشيرة

ماذا سأكتب عن رحيل مليكتي ؟

إن الكلام فضيحتي ..

ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا ..

عن نجمة سقطت .. و عن جسد تناثر كالمرايا ..

ها نحن نسأل يا حبيبهْ

إن كان هذا القبر قبرك أنت … أم قبر العروبة ؟؟

14

بلقيس : يا صفصافة أرخت ضفائرها علي .. و يا زرافة كبرياء

بلقيس إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عربٌ ..

و يأكل لحمنا عرب .. و يبقر بطننا عرب .. و يفتح قبرنا عرب

فكيف نفر من هذا القضاء ؟

فالخنجر العربي ليس يقيم فرقاً ..

بين أعناق الرجال .. و بين أعناق النساء

بلقيس : إن هم فجروك .. فعندنا ..

كل الجنائز تبتدي في كربلاء .. و تنتهي في كربلاء

15

لن أقرأ التاريخ بعد اليوم ..

إن أصابعي اشتعلت .. و أثوابي تغطيها الدماء ..

ها نحن ندخل عصرنا الحجري .. نرجع كل يوم ، ألف عام للوراء ..

16

البحر في بيروت .. بعد رحيل عينيك استقال

و الشعر يسأل عن قصيدته التي لم تكتمل كلماتها ..

و لا أحد يجيب على السؤال ..

الحزن يا بلقيس ، يعصر مهجتي كالبرتقالة

الآن أعرف مأزق الكلمات .. أعرف ورطة اللغة المحالة ..

و أنا الذي اخترع الرسائل .. لست أدري كيف أبتدئ الرسالة

17

السيف يدخل لحم خاصرتي .. و خاصرة العبارة

كل الحضارة ، أنت يا بلقيسُ ، و الأنثى حضارة

بلقيسُ : أنت بشارتي الكبرى فمن سرق البشارة

أنت الكتابة قبلما كانت كتابة .. أنت الجزيرة و المنارة

18

بلقيسُ : يا قمري الذي طمروه ما بين الحجارة ..

الآن ترتفع الستارة .. الآن ترتفع الستارة ..

سأقول في التحقيق ، إني أعرف الأسماء .. و الأشياء ..

و السجناء .. و الشهداء .. و الفقراء .. و المستضعفين

و أقول : إني أعرف السيَّاف قاتل زوجتي .. و وجوه كل المخبرين ..

و أقول : إن عفافنا عهرٌ .. و تقوانا قذارة

و أقول إن نضالنا كذب ..

و أنْ لا فرق ما بين السياسة و الدعارة …

سأقول في التحقيق إني قد عرفت القاتلين

و أقول إن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين ..

و بقتل كل الأنبياء .. وقتل كل المرسلين

19

حتى العيون الخضر .. يقتلها العرب

حتى الضفائر .. و الخواتم .. و الأساور .. و المرايا .. و الُّللعب ..

حتى النجوم تخاف من وطني و لا أدري السبب ..

حتى الطيور تفر من وطني .. ولا أدري السبب

حتى الكواكب .. و المراكب .. و السحب

حتى الدفاتر .. و الكتب .. و جميع أشياء الجمال .. جميعها ضد العرب

20

لما تناثر جسمك الضوئي ، يا بلقيسُ ، لؤلؤةً كريمة

فكرت : هل قتل النساء هواية عربية

أم أننا في الأصل محترفو جريمة ؟

21

بلقيسُ : يا فرسي الجميلة إنني.. من كل تاريخي خجول

هذي بلاد يقتلون بها الخيول .. هذي بلاد يقتلون بها الخيول

22

من يوم أن نحروك ، يا بلقيسُ ، يا أحلى وطن ..

لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن

لا يعرف الإنسان كيف يموت في هذا الوطن

23

ما زلت أدفع من دمي أعلى جزاء ..

كي أسعد الدنيا .. و لكن السماء

شاءت بأن أبقى وحيداً مثل أوراق الشتاء

هل يولد الشعراء من رحم الشقاء

و هل القصيدة طعنة في القلب .. ليس لها شفاء

أم أنني وحدي الذي عيناه تختصران تاريخ البكاء ؟ ..

24

سأقول في التحقيق ، كيف غزالتي ماتت بسيف أبي لهب

كل اللصوص من الخليج إلى المحيط ..

يدمرون .. و يُحرقون .. و يأكلون .. و يسكرون .. على حساب أبي لهب

25

لا قمحةُ في الأرض تنبت دون رأي أبي لهب

لا طفل يولد عندنا .. إلا و زارت أمه يوماً فراش أبي لهب

لا سجنٌ يفتح دون رأي أبي لهب .. لا رأس يقطع دون أمر أبي لهب

26

سأقول في التحقيق ، كيف أميرتي أغتصبت .

و كيف تقاسموا فيروز عينيها .. و خاتم عرسها ..

و أقول كيف تخاطفوا الشَّعر الذي يجري كأنها ، الذهب

سأقول في التحقيق كيف سطوا على آيات مصحفها الشريف

و أضرموا فيه اللهب ..

سأقول كيف استنزفوا دمها .. و كيف إستملكوا فمها

فما تركوا به ورداً .. و لا تركوا عنب

هل موت بلقيس هو النصر الوحيد بكل تاريخ العرب ؟؟

27

بلقيسُ يا معشوقتي حتى الثمالة ..

الأنبياء الكاذبون .. يقرفصون ، و يركبون على الشعوب .. و لا رسالة

لو أنهم حملوا إلينا من فلسطين الحزينة ، نجمةً .. أو برتقالة

لو أنهم حملوا إلينا من شواطئ غزة حجراً صغيراً .. أو محارة

لو أنهم من ربع قرن حرروا زيتونة .. أو أرجعوا ليمونةً ..

و محوا عن التاريخ عاره

لشكرت من قتلوك ، يا بلقيس ، يا معبودتي حتى الثمالة ..

لكنهم تركوا فلسطيناً .. ليغتالوا غزالة …

28

ماذا يقول الشعر ، يا بلقيسُ ، في هذا الزمان ؟

ماذا يقول الشعر في العصر الشعوبيّ ، المجوسي ، الجبان ؟

و العالم العربي .. مسحوقٌ .. و مقموعٌ .. و مقطوع اللسان ..

نحن الجريمة في نفوقها .. فما ( العقد الفريد ) .. و ما ( الأغاني ) ؟

أخذوك أيتها الحبية من يدي .. أخذوا القصيدة من فمي ..

أخذوا الكتابة ، و القراءة ، و الطفولة ، و الأماني ..

بلقيسُ .. يا بلقيسُ .. يا دمعاً يُنقط فوق أهداب الكمان

علمت من قتلوك أسرار الهوى ..

لكنهم .. قبل انتهاء الشوط .. قد قتلوا حصاني ..

29

بلقيسُ .. أسألك السماح ، فربما كانت حياتك فديةً لحياتي

إني لا أعرف جيداً أن الذين تورطوا في القتل ، كان مرادهم أن يقتلوا كلماتي !!

30

نامي بحفظ الله ، أيتها الجميلة ..

فالشعر بعدك مستحيل و الأنوثة مستحيلة

ستظل أجيالٌ من الأطفال تسأل عن ضفائرك الطويلة

و تظل أجيالٌ من العشاق تقرأ عنك .. أيتها المعلمة الأصيلة

و سيعرف الأعراب يوماً .. أنهم قتلوا الرسولة


اميرة الكرام