المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المدخل إلى تقييم التجربة الصوفية



GECOS
03-03-2003, 03:49 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
أود في البداية أن أشكر إدارة المنتدى على تقديم هذه الصفحة التي تجمع كل المهتمين بالفكر الاسلامي وتجعل تواصلهم بالأفكار والمناقشات أمرا ميسرا وسهلا، وإذ كانت هذه الصفحة مكسبا مهما من مكاسب الحياة الانسانية فلا يجمل بنا أن نحول منتدياتنا إلى صفحات للسباب والشتم وتعميق الخلافات بين أبناء الأمة الاسلامية، بل الأولى من ذلك أن نجعلها منبرا للحديث عن مشاكله وهمومه، تتقاطع فيه كل الاتحاهات والمدارس التي عرفتها الامة الاسلامية دون أن تنزل بنا الخلافات بيننا إلى مستوى الاسفاف في القول والتشنيع على الناس.
من هذا المنطلق أحببت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع، واخترت موضوعا سبق لي نشره في إحدى المواقع الاسلامية وقد كثر فيه النقاش خاصة في المنتديات الاسلامية في مختلف المواقع، وأردت من خلال طرحي هذا أن أحاول أن أفهم تجربة التصوف ودورها في الحياة الاسلامية، دون أن اتورط في تلك الاحكام المسبقة التي تدعي الضلال المطلق لأصحابه أو النجاة المطلقة لأتباعه.
وإذ أتقدم بهذا الموضوع إلى المنتدى الاسلامي فإني أهيب بالاخوة الذين يرغبون في مناقشته أن يتقدموا إلى ذلك، فإن رأي المشير زيادة في رأي المستشير، على أن يكون نقدهم مبنيا على أساس علمي لا على أساس الهوى والمذهب، وأسأل الله أن يوفقنا للخير وهو الهادي إلى سواء السبيل.

***************************************************
المدخل إلى تقييم التجربة الصوفية
توطئة
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه محمد المصطفى، وبعد:
فلا يشك الملاحظ المتتبع لمسيرة الحياة العقلية في التاريخ الإسلامي وما أفرزته من نتائج أن عهد ما قبل التدوين كان عهدا لا تتمايز فيه المجالات المعرفية للعلوم تمايزا حديا فاصلا،و ذلك لقرب العهد من النبي الذي كان المصدر الأولي لهذه العلوم، ثم ما لبثت أن توزعت علومه بعد وفاته على صحابته ثم على التابعين من بعدهم، وهكذا اختص كل عالم بمجال معرفـي برز فيه: كالإقراء أو التحديث أو الفقه أو الزهد.
ثم التف حول كل عالم لفيف من التلامذة والأتباع واختصوا بنشر ذلك العلم حتى تشكلت مجموعة هامة من المدارس في هذه العلوم وفي مختلف مدن وحواضر العالم الإسلامي، وكان من هذه المدارس مدرسة الزهد التي اتخذت موقعا فعالا ومؤثرا ضمن القوى الفعالة في المجتمع الإسلامي لتتطور بعد ذلك إلى ما عرف باسم مدرسة التصوف .
فقد لعبت هذه المدرسة دورا أساسيا في تطوير حركة هذا المجتمع بتوفيرها لبعض القيم المحفزة على النمو، وفي وقت آخر وفرت مناخا جيدا لنشأة القيم المثبطة عن النمو في هذا المجتمع، وبين هذين الدورين تولدت مواقف متباينة تجاه هذه المدرسة: ففريق نفاها عن دائرة الإسلام أصلا وجعلها أمًّا للبلايا التي حلت بهذه الأمة ، وفريق آخر جعلها مركز دائرة الإسلام وممثلا وحيدا للحق، وسبيلا أوحدا للنجاة.
وفي غضون هذا التباين تضيع حقيقة هذه المدرسة ، و يتوارى جهدها وأثرها في المجتمع: فإما أن يقزمها من يعاديها فيبخسها حقها، أو يعملقها من يواليها فيعطيها أكثر من مستحقها، فكيف السبيل إلى الخروج من هذه المشكلة دون الوقوع في فخ الذاتية؟
هذا السؤال يملي علينا ضرورة عودة جديدة لإعادة قراءة التصوف قراءة خالية من الأحكام المسبقة من أجل تقييم موضوعي لمدى إسهامه -ونوع هذا الإسهام وحجمه - في تطوير المجتمع الإسلامي.
وسنحاول في هذه الورقة تقديم مساهمة في هذا الصدد؛ لا من أجل تقييم هذه التجربة بل من أجل محاولة تبيين مداخل منهجية لعملية التقييم هذه، ولهذا اخترنا عرض إشكالات التصوف تحت مستويات مشتركة تسهيلا لعملية توضيح هذه المداخل، وعلى هذا الاعتبار لا ندعي -ولا يحق لنا الإدعاء - أن هذه الورقة هي ورقة من قرأ التصوف قراءة المستوعب، بل هي أمل في إسهامٍ،إسهام في بناء نموذج تقييم لمثل هذه التجربة تصلح بعد التطوير والنقد والإثراء أن يكون معيارا مرجعيا تبنى عليه أحكام التقييم .

المستوى الأول: إشكالات الانطلاق
تمهيد:
يعبر هذا المستوى عن الأسئلة الواردة في لحظة التأسيس التي صاحبت نشوء مدرسة التصوف، فاللحظات الأولى من عمر أية مدرسة مهما كانت،تعتبر من الأهمية بالمكان الأول؛ إذ قيمة وحجم التأثير و فعالية هذه المدرسة علىمدح النجاح في الإجابة عن تلك الأسئلة، و يتناسب أداء هذه المدرسة تناسبا مطردًا مع دقة ومشروعية تلك الإجابات.

الإشكالية الأولى :إشكالية تحديد المفهوم
1-1/تعبر هذه الإشكالية عن تحديد ماهية التصوف،حيث أن المفهوم كان و لا يزال مما يثير جدلا و نقاشا واسعين،والذي يكون في كثير من الأحيان نقاشا و جدالا غير مثمر بسبب عدم تحرير المفهوم.ومما يدلك على هذا أن النقاش قد اتخذ بعدا متطورا ذا دلالة عميقة،و ذلك حينما انصرف إلى "مشروعية التصوف لا كاسم بل كمفهوم-و لكنه غير محرر -، فتطرفت فيه الآراء من الإقصاء الكلي إلى القبول التام .
1-2/ ذلك أن الممارسة الصوفية الأولى مرت بسلام ودون ضجيج، بل صوحبت بترحاب كبير، ومع تطور الزمان ظهر نوع من التحفظ على الممارسة، ليتطور بعد ذلك في شكل موقف من طرف أصحاب الرسوم، وهو الاسم الذي أطلق على الفقهاء المنكرين على التصوف.
وفي المقابل اتخذ طرف آخر يعتمد التأويل سعيا منه في ضم الممارسات الشاذة لبعض المتصوفة، ووظف لأجل ذلك مجموعة من القيم الحارسة لهذا التأويل [كعدم الإنكار على الشيوخ / تسليم الحال / التحليل بالجذب أو الشهود …]، و سيكون هذا كله مفهوما لو فهم على أساس أنه رد فعل،لكن الأمر الذي أثار حفيظة "أصحاب الرسوم " هو اعتماد بعض التصرفات الشاذة مرجعية يدافع عنها، هذه التصرفات هي تصرفات صادرة عن أفراد حكم على بعضهم بفقدان العقل في بعض الأحيان أو بالكفر و البدعة في أحيان أخرى.
1-3/و امتد هذا الخلط في تحديد المفهوم إلى خلط في ضبط موضوع التصوف، و الذي حكم عليه بالتعدد من تهذيب النفس و تربيتها، إلى الوصول إلى معرفة الحق، إلى وحدة الوجود، أو الاختلاف بين التصوف لأجل الحصول على الكرامة إلى التصوف لأجل الحصول على المكانة .
نــتـــيجة
إِنَّ تَحدِيدَ المَوقِفِ مِنَ التَّصَوُفِ و تَقيِيمَهُ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى تَحدِيدِ مَفهُومِهِ مِن خِلاَلِ المُمَارَسَةِ وَالتَّنظِيرِ اللَّذَانِ أَنشَأَتهُمَا هَذِهِ المَدرَسَةُ خِلاَلَ تَطَوُرِهَا التَّارِيخِي .

الإشكالية الثانية : إشكالية تحديد المرجعية.
2-1/ تعبر هذه الإشكالية عن تحديد مصادر التصوف وترتيبها ترتيبا تعاقبيا، و قد كان لهذه الإشكالية الفضل في تأسيس حوار طويل امتد على جبهتين: الأولى مقدار نقاء و صفاء و سلامة التصوف و التي اتخذت اسم أصالة التصوف ، والثانية: ترتيب مصادر هذا التصوف والتي تسمَّت باسم العلاقة بين الشريعة والحقيقة.
2-2/ فقد أثار بعض من تكلم في التصوف عن ضبابية لحقت التصوف جراء خلط كثير من المصادر الدخيلة مع المصدر الأساسي مما يجعل التصوف خليطا من طقوس أديان و نحل مختلفة.
ويسلم هؤلاء المعترضون بأن في المرجعية الأم (الإسلام) شواهد تحدد صلاحيتها لتكون منطلقا لممارسة التصوف، ذلك أن هذه المرجعية تكلفت ببيان الطريق إلى تهذيب الخلق و تربية النفس، واحتل هذا المحور من مجمل منظومتها جزءا كبيرا.
كما يلاحظ أن كل الأديان سواء منها السماوية أم الوضعية يوجد فيها جزء كبير من السمو الروحي، قد يكون متطورا عن فكرة الرهبانية في الدين السماوي أو عن فكرة التسامي الروحي في الدين الوضعي، وهذان المصدران يشكلان خطرا على الجانب الإسلامي باعتبار خلوه من مضامينهما، وباعتبارهما مصدرا مزاحما للمصدر الأم،و من هنا جاء الاعتراض.
2-3/ بيد أن من لم ير هذا الرأي لا يرى غضاضة في الاستفادة من تجربة الأمم السابقة ما لم تعارض أصول الشريعة ومقاصدها باعتبار الوحدة الغائية التي يسعى إليها كل دين، وهي غاية تهذيب خلق الإنسان ، وعلى هذا فلا ضير في الاستفادة من تجربة الأمم السابقة في تحقيق هذه الغاية .
2-4/ وفي خضم هذا النقاش الدائر حول تحديد الضرورة في استدعاء هذه التجارب ومعايير هذا الاستدعاء و ضوابطه ، تنحشر مسألة أخرى لا تنفك عن إشكالية المرجعية هذه ، وهي التجربة الذاتية للمتصوف ، وإلى أي مدى يمكن الاعتماد عليها.
ورغم أن هذه المسألة تبدو هينة بادي الرأي إلا أن الواقع التاريخي للممارسة يثبت حجما غير طبيعي لهذه المسألة، والذي تجلى إما في التساؤل حول مدى الاعتماد على هذه التجربة – والتي اصطلح عليها باسم الكشف – في إنشاء تصرفات الرجل المنخرط في التصوف، وإما في التساؤل حول التعارض بين الكشف والشرع وأيهما يقدم، وإما في التساؤل حول مدى تعدي ثمرة هذا الكشف إلى الغير إذا سُلِّم أنه حجة في نفسه.
2-5/ أما الجبهة الثانية من جبهات الحوار فهي امتداد للأسئلة الآنفة [ الفقرة:2/4] حيث يتحدد مفهوم هذه الجبهة في الترتيب التعاقبي للمرجعيات: أيهم يبتدأ به ويقدم على غيره؟ :أ الشريعة أم الذوق؟ أ النص أم الكشف؟…ورغم أن حسن الظن بالصوفية يحملنا على القول أن طرح مثل هذه الموازنات طرحَ الجاد غير الهازل هو نوع من أنواع التشكيك في دينهم- لأنه لا يتصور بالمسلم أن يستشكل مثل هذه العلاقة حتى يغمض لديه ترتيب عناصرها – إلا أن الواقع قد أثبت مقدار الغبش والضباب الكثيف الذي أحاط هذه العلاقة،ليس من عامة المتصوفة فحسب بل من بعض مقدميها الكبار.
2-6/ في زاوية أخرى تبرز جبهة ثالثة للنقاش لم يبرأ منها التصوف وهي سؤال أثير قديما حول الحاجة إلى البقاء تحت حكم الشرع بدعوى أن النفس قد تهذبت وذاك غاية و مراد الشرع، وتعبر هذه الإشكالية عن خلل فكري خطير على مستوى إيمان الفرد الذي يتساءل مثل هذا السؤال تساؤل الراغب في الإجابة بنعم !!
2-7/كل هذه الإشكالات تعبر حقا عن قيمة المرجعية في الفكر والممارسة الصوفية ، وتبين أيضا أن تمرير مشروع التصوف دون إزعاج قد تناسب تناسبا طردا مع مقدار الصفاء الذي صاحب تحديد المرجعية فكرا وسلوكا.
نـــــتـــــيجة
إِنَّ تَحدِيدَ المَوقِفِ مِنَ التَّصَوُفِ وتَقيِيمِهِ يَتَحَدَّدُ بِنَاءً عَلَى تَحدِيدِ مَوقِعِ ودَورِ المَرجِعِيَاتِ الرَّافِدَةِ لِلمَرجِعِيَّةِ الأُمِّ فِي مَدرَسَةِ التَّصوُفِ مِن خِلاَلِ التَّطَوُّرِ التَّارِيخِي لِلمُمَارَسَةِ والتَّنظِيرِ الصُّوفِي.

الإشكالية الثالثة : إشكالية تحديد الغاية.
3-1/لا بد لكل سلوك يصدر من العاقل من أن يكون مغيَّا بغاية دقيقة يتجه إليها السلوك، و يقيم من خلالها، و تحديد الغايات يكون بناء على تداخل مستويات متعددة ذات مركز واحد تكون كل غاية فيها خادمة لغاية أخرى أعلى منها إلى أن ينتهي هذا التسلسل إلى غاية الوجود.
3-2/و الصوفية باعتبارهم مسلمين يدينون بالإسلام فإن غاية الوجود تتحدد بالعبادة التي يجب على كل مسلم أن يتحقق بها و يسعى لأجلها، و قد جعلها الصوفية فعلا قبلة يدنون حولها في كلامهم وتقعيداتهم.
فالتصوف في حد ذاته نوع من التعبد بمفهوم واسع تتحدد من خلاله جملة علاقات مع الله و النفس و الناس ثم مع الدنيا لِيُكَوِنَ بعد ذلك تصورا كليا لهذا الوجود.
3-3/ و لتحقيق هذا الهدف لابد من المرور عبر أهداف مرحلية أخرى هي تحديد دقيق لنوع العلاقات مع الموجودات الخمس (الله –النفس – الناس – الدنيا – الآخرة ) كل على حدة باعتباره منفصلا عن غيره، أو ككل واحد باعتبار وحدة الخالق وحدة المصير، وقد قامت مدارس ونشط أئمة يشرحون نمط هذه العلاقات، وكان حضور المتصوفين هنا حضورا كليا وقويا، ولذا فإن المُرَاجع لكل ما كتب حول هذه العلاقات لابد وانه واجد فيها شخصياتهم وأقوالهم و حكاياتهم ولو كان الكاتب من أكبر أعدائهم.
ولئن كان هذا مسلما فما بال الغاية تصنف إشكاليةً؟ وسمة الإشكالية وجود التعدد في الرأي!
3-4/ والإجابة عن هذا تتحد من خلال الواقع ؛ فحين نظر من نظر في العلاقة الكلية بين الموجودات الخمس نظرة شعورية أملتها أنواع من الأحاسيس الراقية؛وقع في طرق التعبير عن ذلك الشعور نوع من القصور أدى إلى تعدد الأفهام من تلك العبارة، ثم تطور إلى شكل من أشكال النزاع بين الصوفية وخصمائهم التقليديين.
ذلك أن حالة الفناء التي يستشعرها الصوفي يحس أن الله خالق الناس والنفس وخالق الدنيا والآخرة، ويرى أن كل ما يصدر فيها أو كل ما يرد عليها: منه تعالى، هذه الحالة تجعله في غيبة عن السوى -باصطلاحهم-،فتراه لا يضبط ألفاظه ولا يتحكم فيما يخرج من فيه حتى ليظن الظان أن كلامه كلام مؤمن باتحاد الخالق بالمخلوق .
ومن هنا بدأ التنازع وظهر التطرف،فتدين قوم ممن انتحل التصوف بالاتحاد و دعوا إليه ورأوه الغاية - وزاده فلاسفة الإشراق الذين تصوفوا إثراء وتعميقا- ورفضه غيرهم رفضا قاطعا،واحتدم النقاش طويلا،وزاده سوءا أنه تشخص.
ثم ظهر نوع من مدعي التصوف جعل التصوف حرفة من الحرف التي تجمع بها الأموال فاستشكل الكثير غاية التصوف:هل هي مرضاة الله أم حيلة لاستجلاب الدنيا؟
3-5/وقبل هذا ظهر نقاش حول غاية التعبد هل هو لأجل الفوز بالجنة والنجاة من النار؟ أم هو لمجرد امتثال الأمر فقط لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار؟ أم هو لأجل الشوق لله تعالى والأنس به ولذة النظر إلى وجهه الكريم ؟
3-6/وكان لمثل هذا النوع من النقاش والملاحظات أثر بالغ في تفكيك غاية التصوف الأولى إلى مجموع غايات متنازع حولها بين المدارس والطرق والمؤلفين.
نــــتــــيــجــة
إِنَّ تَحدِيدَ المَوقِفِ مِن التَّصوُفِ وتَقِييمَهُ لاَبُدَّ مِن أَن يَمُرَّ عَلَى تَحدِيدِ غَايَتِهِ الأَسَاسِيَّةِ التِّي نَشَأَ مِن أَجلِهَا و التَّي مَارَسَهَا خِلاَل مَسِيرَتِهِ.

الإشكالية الرابعة : إشكالية تحديد الوسائل.
4-1/لم تكن إشكالية الوسائل إشكالية مستقلة بل كانت تحت طائلة إشكالية المفاهيم التي أثارها الصوفية كمفاهيم مستقلة ذات دلالات خاصة، فوسائل التصوف [ الجوع – السهر - العزلة - الصمت (+ الذكر)] كانت معروفة ومشهورة قبل أن يظهر لبس الصوف لكن بظهوره أصبح لديها دلالات جديدة قد تختلف بقدرٍ ما – قد يكبر أو يصغر - عن الدلالات التقليدية لهذه المفاهيم سابقا.
4-2/ فلقد كان السلف رضي الله عنهم يطرحون الصوم بدل الجوع، والتهجد بدل السهر ، ومفهومهم للعزلة والصمت يختلف عن المفهوم الممارس عند متأخري الصوفية وبعض متقدميهم.
فالتهجد مثلا هو قيام الليل بالعبادة والسهر هو قيام بالمراقبة، بمعنى أن المتهجد مشغول بملء وقته بالتنفل والذكر وقراءة القرآن…بينما الساهر مشتغل بما يرد على قلبه من الواردات والخواطر والفيوضات؛ والصوم امتناع عن المفطرات بنية، وهذا مفهوم فقهي يزينه مفهوم خلقي أعمق كالامتناع عن المعاصي في رتبة ثانية والامتناع عن فضول المباح في رتبة ثالثة، ولكن الجوع يختلف عن الصوم بعمومه أولا– لعدم تقيده بزمن فقهي- وبغايته ثانيا حيث أن الصائم يمتنع عن المفطرات رغبة في ثواب أو خوفا من عقاب أو طمعا في وصول … بينما الجائع يمتنع عن ذلك لإضعاف القوى الشهوانية في نفسه حتى تجد الفيوضات والواردات هذه النفس أهلا لأن تَرِدها فتترقى بذلك في معارج القدس.
وكذلك الأمر في الباقي :الصمت والعزلة والذكر.
4-3/ ثم إن الفرق الأساسي بين الوسائل كما يطرحها مُنَّظِرُو الصوفية وكما مارسها من قبلهم يكمن في الغاية أساسا ثم في أجزاء المفهوم التي استبدلت عن سابقتها–إضافة أو إنقاصا- تبعا لتحديد هذه الغاية ، وهنا يمكن أن يكون النقاش – وقد كان فعلا- في مشروعية الوسائل بالمفاهيم المقترحة ثم في فعالية هذه الوسائل تبعا لدرجة مشروعيتها.
نـــتــــيـــجــة
إِنَّ تَحدِيدَ المَوقِفِ مِنَ التّصَوُفِ وَتَقيِيمَهُ لاَ بُدَّ مِن أَن لاَ يهُمِلَ الوَسَائِلَ المُتَبَعَةَ فِيهِ بِقِيَاسِ دَرَجَةِ مَشرُوعِيَتِهَا وَفَعَالِيَتِهَا فِي تَأدِيَةِ مَا أُنِيطَ بِهَا.


المستوى الثاني: إشكالات السير
1-0/ يعبر هذا المستوى عن قضية مهمة في حياة أية مدرسة فكرية ، ونعبر عنه بالسؤال التالي: "إلى أي مدى حافظت هذه المدرسة على مفاهيمها الابتدائية والتي تشكل معيار التمييز بينها وبين غيرها من المدارس وذلك خلال نموها واحتكاكها بالواقع؟"
وهو سؤال يحيل على مقدار المحافظة على المفاهيم التي تشكل شخصية المنتمي إلى الجماعة، والإجابة عليه يفترض أن لا تكون حَدِّيَةً تعتمد على الـنعم أو الـلا بقدر ما تعتمد حكما نسبيا بين النفي والإثبات المطلقين، وفي خلال ذلك نبحث عن الأسباب التي أدت إلى ذلك الحكم ،ثم النظر في المفاهيم الطارئة التي لحقت بالمدرسة.
كما نبحث أيضا عن انعكاسات ذلك الحكم على شخصية المتصوف،والمقارنة بينها وبين الشخصيات النموذجية التي سبقته، وغاية ذلك معرفة مدى تمثيلها للإسلام أولاً، ولقناعات مدرسة التصوف ثانيًا:

أولا : المفاهيم الابتدائية كموضوع للتقييم.
1-1/ تعبر المفاهيم الابتدائية عن المبادئ الأساسية التي تعطي لمدرسة التصوف مسمىً يميزها عن غيرها من المدارس النشطة في المجتمع الإسلامي،هذه المفاهيم الابتدائية تتمثل في:
1-2/ المفهوم: ومبرر سؤالنا عن محافظة التصوف على مفهومه الابتدائي جملة من الملاحظات تؤدي إلى تكون احتمال تبلور مفهوم جديد للتصوف ، ولعل أهمها هو كثرة تعاريف التصوف لدرجة أنه أصبح لدينا الحق في إبداء ملاحظة من نوع أن التصوف هو نزعة فردية غير منضبطة بمبادئ خاصة استنادا إلى التعاريف التي يذكرها أبو نعيم في أكبر موسوعة لنساك هذه الأمة "حلية الأولياء"،مُصَدِّراً بها كل ترجمة من تراجمه تتناسب مع حال المترجم له،والأهم في الأمر أن مضامين هذه التعاريف يظهر منها تباين واضح إذا ما قورن بعضها ببعض .
1-3/الغاية : ونفس الملاحظة تنطبق على موضوع التصوف،إذ أن الوصول إلى الله أصبح له مدلول غير المدلول الذي تكلم عنه الأوائل،إذ أصبح عند طائفة حلولا واتحاد،وعند أخرى تصرفا في الكون واستخداما لخواص الأسماء ...وهذه الملاحظة تبرر التساؤل حول تطور غاية التصوف.
1-4/المرجعية:وتبرير التساؤل حول تطور المرجعية يرجع إلى المناقشات الأولى حول إمكانية الاستفادة من تجارب الأمم السابقة والديانات والمذاهب، والذي تصاعد حجمه عبر الزمن بل تطور حتى نوعه.فترى كثرة لقاء المتصوفة للرهبان، وترى أيضا أن إقليم بلخ -كما جاء في الروايات- كان أكثر بلاد الله صوفية وهو بلد تغذت فيه ديانات ونحل متعددة.

ثانيا :التعبير عن المفاهيم.
2-1/يعبر هذا المبدأ عن أسلوب التعبير الصوفــــي عــن المفاهيم التي يعتمدها في قامـــوســـه: إلى أي مدى توافـقت–أو تتوافق- مع الإطار المرجعي العام ؟"
ومن أجل الكلام على هذا يجب التنبه إلى ثلاثة حقائق لها تأثير بالغ على مصداقية أحكامنا التقييمية:
2-2/أولا:أن كثيرا ممن انتسب إلى المدرسة الصوفية لم يكونوا يعبرون عن مفاهيمهم بحق ودقة، بل يسكتون عن ذلك إما غيرة على الحق وإما غيرة على التصوف من أن يُسمعَ ممن ليس أهلا له،بل إن طائفة منهم كانت تعتمد خلاف قناعاتها -الملامتية -.
2-3/ثانيا: أن المنتسبين إلى هذه الطريق - كما في كل جماعة أو مدرسة - فيهم من الأدعياء عدد ليس بالقليل وفيهم من أهل الصدق والديانة كثير ممن هم خلو عن العلم، فالنظر إلى معاملتهم على أساس أنهم جهال أخطؤوا أولى من معاملتهم على أساس أنهم يمثلون مدرسة كبيرة .
2-4/ ثالثا: أنه لما كان للمتصوفين رغبة صادقة في الوصول فإنه كانت تعتريهم أحوال هي أقرب إلى حالات عدم التمييز وانعدام العقل من حالات الوعي والإدراك، ولذا وجب تمييز الحال التي يصدر فيها تمثيل رسمي لمذهب التصوف من الحال التي لا تكون كذلك.
2-5/وانطلاقا من هذه الملاحظات الثلاث سنكون أقرب إلى الإنصاف عند كلامنا على أشكال التعبير عن المفهوم والتي سنقتصر على ثلاثة منها فقط:
2-6/ العبارات المنقولة:وأوجب النظر فيها عدة جهات: فمن جهة أولى: إلى أي مدى كانت هذه العبارات تعبر عن مضمون التصوف بلغة أهله -أي باللغة الاصطلاحية لهذا العلم -لا بغيرها من اللغات؟.ومن جهة ثانية: إلى أي مدى كانت هذه اللغة واضحة في التعبير عن المقصد؟ أي ما درجة الإلغاز فيها؟ وفي جهة ثالثة: إلى أي مدى كانت هذه العبارات سلفية؟ أي منسجمة مع أصول وقواعد ولغة المرجعية الأم (الإسلام)؟
2-7/الكتب المؤلفة: فالكتابة في التصوف ظاهرة طارئة عليه، لأن التصوف آنئذ لم يكن علوما أو رسوما بل كان أخلاقا ولذلك احتاج الكاتب في التصوف إلى الإذن.
والكلام في الكتب فرع عن الكلام في المنقولات لكنها تنفرد بجهات أخرى في النظر غير ما للعبارة، منها ظاهرة الإسناد المتصل بمشايخ الطريقة: كيف تكونت؟ وما مدى صحة هذا الإسناد -بلغة أهل الحديث-؟ ثم: ما الحاجة إليه؟، ومنها أيضا في عرض التصوف في هذه المؤلفات والطريقة التي بُلوِر فيها هذا العلم.
2-8/شخصية المتصوف:يعبر المتصوف عن التصوف شاء أم أبى، فإلى أي مدى كان المتصوفون يعبرون عن التصوف؟ إن هذا السؤال يحيل على جملة قضايا ذات دلالة هامة في عملية التقييم منها:
أولا: أن حكم الناس والفقهاء على التصوف انبنى في كثير من الأحيان على تمثيل الشخصية للتصوف، فحين مثله يحيى بن معاذ و ذو النون المصري والجنيد وإبراهيم بن أدهم... حُمِدَ ، وحين مثله العفيف وابن سبعين...ذُمَ.
ثانيا: أن مدارس التصوف وشيوخه مسؤولون إلى حد كبير في صياغة نماذج أتباعهم وشخصياتهم، فلا بد من معرفة أثر هذه المناهج على تكوين شخصية المتصوف.
ثالثا: أن الواقع الذي عاشته الصوفية عموما ومشايخهم خصوصا تراوح بين محنة امتحنوا فيها، وبين دولة تسلطوا فيها، وكان لهذا أثر كبير في تكوين شخصياتهم .
2-9/إن هذه القضايا الثلاث هي محددات أساسية في صياغة شخصية المتصوف وتطور نمائها عبر الزمان والمكان، وأن كثير ممن تكلم في التصوف مدحا أو ذما إنما تكلم -حقيقة- في المتصوفة مدحا أو ذما، ولذا فإننا سنحدد كلامنا على هذه الشخصية من خلال العلاقات التي ارتبطت بها وتأثير ذلك عليها. بيد أنَّأ سنشير إلى ومضات فقط تعرِّف مبررات طرحها موضوعا للتقييم:
2-10/ العلاقة بالله: وهنا نسأل :إلى أي مدى تدل المصطلحات الآتية على علاقات تحمل مضامين جديدة: الشوق، الأنس، العشق، الفناء، الشهود، الجمع…، ونحيل على الأسئلة في الفقرة (2-6).
العلاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم: إن تطورا نوعيا ظهر في تعلق الصوفية بالنبي ترجمه أشعار المديح وقصائد الشوق إلى المدينة، حيث نلاحظ ميلا إلى الإفراط في الحب لدرجة أثارت حفيظة الفقهاء، ثم إن ظهور فكرة الحقيقة المحمدية والحقيقة العيسوية مما يستدعي تأملا عميقا في هذه العلاقة.
العلاقة بالمجتمع:حيث يجب أن نفسر في هذا الصدد جملة من الظواهرمنها:اهتمام الحكام والولاة المتأخرين بالصوفية عناية شديدة،وهل لذلك علاقة بحفظ نظام الدولة؟هل كان هناك اتفاق -ولو ضمني- بينهما على منح أوقاف وخوانق وتعمير زوايا مقابل سكوت عن السياسة؟
المحن والفتن،ظاهرة أخرى تستحق الاهتمام فهي نمط العلاقة بين الصوفية والمجتمع العام:وكيفية تأثيرها عليهم،وتفسير سر نجاح المتصوفة في جلب وتجميع عدد كبير جدا من المحبين والمنتسبين،وتفسير أساليب الدعوة والاتصال بين الطرفين ومحتواهما.
العلاقة مع الذات:حيث يجب أن نفسر أيضا حملة الصوفية على أسلافهم التاريخيين من الزهاد والملامتية، ويجب أن نفسر أيضا الظاهرة العجيبة التي أثارت اهتماما وجدلا واسعا ألا وهيظاهرة العلاقة بين المريد والشيخ والتي اتخذت منحى تطوريا ابتدأ بعلاقة طبيعية لينتهي بعلاقة التقديس الذي يشبه علاقة " الساموراي" بالحاكم قبل عهد الميجي في اليابان.
إن هذه العلاقة بالذات كان ولا يزال لها تأثير كبير على مدى الأجيال حيث طغت وتعممت على كل العلاقات الثنائية تقريبا: حاكم/محكوم، أب/ابن، زوج/زوجة، سيد/عبد، أستاذ/ طالب، كبير/صغير... ولا تزال تداعياتها حاضرة إلى الآن.
كما يحيل هذه العلاقة على ضرورة تفسير أسباب تسلط الشيخ على مريديه، وتفسير قابلية المريد أن يتسلط عليه.
ثم لابد من البحث أيضا في علاقة الزمالة: صوفي/صوفي، وإلى أي مدى كانت صافية، وهل كان لانتماء الصوفي إلى طريقة أو انتسابه إلى شيخ معين أثر في هذه العلاقة.
وقبل الختام يجب أن نبحث أيضا عن نظرة الصوفي إلى نفسه ومدى تقبله لذاته - خاصة ذا كان ممن يلبس الصوف والمرقع- في مجتمع يصفه هو بالمجتمع المتهالك على الدنيا والمتكالب عليها، ثم تأثير نظرته هذه على وعيه بوظيفته الاجتماعية.


الخاتمة
إن هذه الأسئلة وغيرها تجعل المنصف لا يتسرع بالجزم على التصوف -كتعبير عن نوع من أنواع التدين- بأنه بدعة أو ضلال، ولا بأنه نور وهدى إلا إذا قام بتحليل موضوعي وحيادي لهذه الظاهرة مستخدما في ذلك كل ما يمكن أن يعينه على الفهم من مناهج وتقنيات العلوم الإنسانية [خاصة: علم التاريخ، وعلم الاجتماع التاريخي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاتصال، وعلم النفس بفروعه المتعددة] التي تتيح للعقل فهما علميا مبنيا على أسس واضحة وقابلة للنقاش والتعقيب.
والله نسأل في البدء والختام أن يتقبل منا أعمالنا ويرزقنا إخلاصا في النية وصوابا في العمل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.اهـ..
------------------------------------------------------------------------------------
للمراسلة على الايميل: tahaaar@yahoo.co.uk

GECOS
17-03-2003, 07:48 AM
up
لتعميم المناقشة

yosef_mohd2006
17-03-2003, 08:06 AM
هل تعرف معنى اسمك؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟



وبعد ذلك نناقش معك

moKatel
19-03-2003, 02:00 AM
السلام عليكم

أشكرك أخي علي الموضوع و لكن أريدك أن توضح بعد هذا النقل الجميل ما هو مفهوم الصوفية عند الشخص الفرد لا الجماعة و ما هي الأثار المسلكية المترتبة علي التصوف و توضح أيضا ما هو شروط أن يكون الإنسان متصوفا ؟

و شكرا يا أخي لحرصك علي فائدة المسلمين و أسأل الله أن نكون علي صراطه الذي أختاره لنبيه و صحابته .

والسلام :-)