المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملف عاشوراء



سيف الأسلام
13-03-2003, 12:04 PM
أولا: تعريف وبيان:

قال ابن منظور: "عاشوراء وعشوراء ممدودان اليوم العاشر من محرم، وقيل: التاسع"([1]).

وذكر الحافظ أنه بالمد على المشهور، وحكي فيه القصر، وردَّ قول من زعم أنه اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية([2]).

قال القرطبي: "هو معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم"([3]).

وما ذُكر([4]) من أنه سمي بذلك لأن الله تعالى أكرم فيه عشرة من الأنبياء بعشر كرامات أو لأنه عاشر كرامة أكرم الله بها هذه الأمة لا دليل صحيح عليه.

ولم يُسمع على هذا المثال فاعولاء إلا هذا، والضاروراء الضراء، والساروراء السراء، والدالولاء الدلال. وقال ابن الأعرابي: الخابوراء موضع، وقد ألحق به تاسوعاء([5]).


ثانياً: أيُّ الأيام هو؟

اختلف أهل الشرع في تعيينه على قولين:

القول الأول: أنه اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو قول جماهير العلماء من السلف والخلف، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق, وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ([1]).

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء، يوم العاشر([2]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((عاشوراء يوم العاشر))([3]).

قال القرطبي: "هو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها, فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة, إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية، فاستغنوا عن الموصوف، فحذفوا الليلة، فصار هذا اللفظ علَما على اليوم العاشر"([4]).

وقال الزين بن المنير: "الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم, وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية"([5]).

القول الثاني: أنه اليوم التاسع من المحرم، وهو ظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما، وعليه يكون اليوم مضافا لليلته الآتية.

فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن يوم عاشوراء, قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما, قلت: أهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه؟! قال: نعم([6]).

قال النووي: "هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا"([7]).

وقيل: إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل، كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا: وردنا عِشرا بكسر العين, وكذلك إلى الثلاثة([8]).

وخرَّج الزين بن المُنَيِّر كلام ابن عباس فقال: "قوله: (إذا أصبحت من تاسعه فأصبح) يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح من تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهو الليلة العاشرة".

قال الحافظ ابن حجر: "ويقوِّي هذا الاحتمال ما رواه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))([9])، فمات قبل ذلك. فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر، وهمَّ بصوم التاسع، فمات قبل ذلك"([10]).

وذكر ابن القيم توجيها آخر لكلام ابن عباس، فقال ـ مستنبطا من قوله رضي الله عنهما: (صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود) ـ: "وهو يبين أن قول ابن عباس: (إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائما) أنه ليس المراد به أن عاشوراء هو التاسع، بل أمره أن يصوم اليوم التاسع قبل عاشوراء. فإن قيل: ففي آخر الحديث قيل: كذلك كان يصومه محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال: نعم، فدل على أن المراد به نقل الصوم لا صوم يوم قبله. قيل: قد صرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))، فدل على أن الذي كان يصومه هو العاشر، وابن عباس راوي الحديثين معاً، فقوله كان يصومه محمد أراد به – والله أعلم – قوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) عزم عليه، وأخبر أنه يصومه إن بقي. قال ابن عباس: هكذا كان يصومه، وصدق رضي الله عنه، هكذا كان يصومه لو بقي، فتوافقت الروايات عن ابن عباس، وعلم أن المخالفة المشار إليها بترك إفراده، بل يصام يوم قبله أو يوم بعده"([11]).

ثالثاً: ما ورد في صيامه:

1- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشّهر, يعني رمضان([1]).

قال الحافظ ابن حجر: "هذا يقتضي أنّ يوم عاشُوراء أفضلُ الأيّام للصّائم بعد رمضان, لكنّ ابن عبّاس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرُدُّ علم غيره, وقد روى مُسلم من حديث أبي قتادة مرفُوعًا: ((إنّ صوم عاشُوراء يُكفّر سنةً, وإنّ صيام يوم عرفة يُكفّر سنتين))، وظاهره أنّ صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشُوراء... وإنّما جمع ابن عبّاس بين عاشُوراء ورمضان - وإن كان أحدُهُما واجبًا والآخر مندُوبًا - لاشتراكهما في حُصُول الثّواب, لأنّ معنى (يتحرّى) أي: يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرّغبة فيه"([2]).

2- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه))([3]).

3- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة, وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضـان قال: ((من شـاء صامه ومن شاء تركه))([4]).

قال النووي: "اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنّة ليس بواجب... وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه"([5]).

وقال الحافظ ابن حجر: "وأمّا صيام قريش لعاشوراء فلعلّهم تلقّوه من الشّرع السّالف، ولهذا كانوا يعظّمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك. ثمّ رأيت في المجلس الثّالث من مجالس الباغنديّ الكبير عن عكرمة أنّه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهليّة فعظم في صدورهم, فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفّر ذلك. هذا أو معناه"([6]).

4- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان يوم عاشوراء تعظّمه اليهود وتتّخذه عيدا, فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((صوموه أنتم))([7]).

قال النووي: "والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه، وجاء الإسلام بصيامه متأكدًا، ثم بقي صومه أخف من ذلك التأكيد، والله أعلم"([8]).

وقال أيضًا: "قال المازري: خبر اليهود غير مقبول، فيُحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به. قال القاضي عياض ـ ردًا على المازري ـ: قد روى مسلم أن قريشًا كانت تصومـه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال"([9]).

5- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء, فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى, قال: ((فأنا أحقّ بموسى منكم)), فصامه وأمر بصيامـه([10]).

قال الحافظ: "قوله: (قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم) في رواية لمسلم: (فوجد اليهود صيامًا)... وقد استُشكل ظاهر الخبر لاقتضائه أنّه صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، وإنّما قدم المدينة في ربيع الأوّل، والجواب عن ذلك أنّ المراد أنّ أوّل علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة لا أنه قبل أن يقدمها علم ذلك، وغايته أن في الكلام حذفا تقديره: قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا، ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السّنين الشّمسيّة, فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليومَ الّذي قدم فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى عليه الصلاة والسلام؛ لإضلالهم اليوم المذكور وهداية الله للمسلمين له ولكن سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل، والاعتمادُ على التأويل الأول... قوله :(وأمر بصيامه)... استُشكل رجوعه إليهم ـ أي: اليهود ـ في ذلك، وأجاب المازريّ باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك, زاد عياض: أو أخبره به من أسلم منهم كابن سلام, ثمّ قال: ليس في الخبر أنّه ابتدأ الأمر بصيامه, بل في حديث عائشة التّصريح بأنّه كان يصومه قبل ذلك, فغاية ما في القصّة أنّه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم, وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، ولم تختلف الروايات عن ابن عباس في ذلك، ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أنّ أهل الجاهليّة كانوا يصومون كما تقدّم, إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السّبب في ذلك، قال القرطبيّ: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه احتمل ذلك أن يكون ذلك استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك، وعلى كلّ حال فلم يصمه اقتداء بهم, فإنّه كان يصومه قبل ذلك, وكان ذلك في الوقت الّذي يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه"([11]).

وقال في عون المعبود في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ أولى بمُوسى)): "أي نحنُ أثبت وأقرب لمُتابعة مُوسى صلّى اللّه عليه وسلّم منكُم، فإنّا مُوافقُون لهُ في أُصُول الدّين، ومُصدّقُون لكتابه، وأنتُم مُخالفُون لهُما بالتّغيير والتّحريف"([12]).

6- وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى, فقال: ((إذا كان عام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم([13]).

قال الشوكاني: "قوله: (تعظّمه اليهود والنّصارى) استشكل هذا بأنّ التّعليل بنجاة موسى وغرق فرعون ممّا يدلّ على اختصاص ذلك بموسى واليهود، وأجيب باحتمال أن يكون سبب تعظيم النّصارى أنّ عيسى كان يصومه, وهو ما لم ينسخ من شريعة موسى; لأنّ كثيرا منها ما نسخ بشريعة عيسى لقوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وأكثر الأحكام إنّما يتلقّاها النّصارى من التّوراة، وقد أخرج أحمد عن ابن عبّاس أنّ السّفينة استوت على الجوديّ فيه, فصامه نوح وموسى شكرا للّه تعالى, وكأن ذكر موسى دون غيره لمشاركته له في الفرح باعتبار نجاتهما وغرق أعدائهما"([14]).

7- وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه, ومن لم يكن أكل فليصم, فإنّ اليوم يوم عاشوراء([15]).

8- وعن علقمة أنّ الأشعث بن قيس دخل على عبد اللّه رضي الله عنه وهو يطعَم يوم عاشوراء, فقال: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ اليوم يوم عاشوراء! فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان, فلمّا نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرا فاطعَم([16]).

9- وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام, ومن شاء فليفطر))([17]).

10- وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))([18]).

قال ابن القيم: "إن قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل: فيه وجهان:

أحدهما أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام، بخلاف عاشور.

الثاني أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم. والله أعلم"([19]).

وقال الحافظ ابن حجر: "وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل"([20]).

وقد استشكل بعضهم هذا الحديث بأنه إذا كان دأب العبد صيام يومي عرفة وعاشوراء، فماذا عسى أن يكفر صيام عاشوراء وقد تقدمه صيام يوم عرفة الذي يكفر سنة ماضية وأخرى آتية؟! وقد أجاب عن ذلك ابن القيم فقال: "وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرا كاملا، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: ((إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة))، قالوا: فإذا كان دأبه دائما أنه يصوم يوم عرفه فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كلَّ سنة؟! وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات، ويا لله العجب، فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه، فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها، فحينئذ يقع التكفير، وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوَفّ حقّه، ولم يقدره حق قدره، فأي شيء يكفر هذا؟! فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه، من عجب أو رؤية نفسه فيه أو يمن به أو يطلب من العباد تعظيمه به أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه أو يعادي من لا يعظمه عليه ويرى أنه قد بخسه حقه وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه"([21]).

11- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده([22]).

12- وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائمًا فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه))، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوّم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار. وفي رواية: ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم([23]).

قال النووي: "العهن: هو الصوف مطلقًا، وقيل: الصوف المصبوغ... وفي هذا الحديث تمرين الصبيان على الطاعات، وتعويدهم العبادات، ولكنهم ليسوا مكلفين"([24]).

13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عاشوراء عيد نبي كان قبلكم، فصوموه أنتم))([25]).

قال المناوي: "روي أنه يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيدا لهم، قال ابن رجب: وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيدا، وعلى ندب صوم أعياد الكفار"([26]).

رابعا: حكم صيامه:

1- حكمه قبل أن يفرض رمضان:

اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه كان واجبا، وهو قول أبي حنيفة ووجه عند الشافعية([1])، وروي عن أحمد([2]).

واستدلوا: بحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذّن في النّاس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه, ومن لم يكن أكل فليصم, فإنّ اليوم يوم عاشوراء([3]).

وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة, وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر النّاس بصيامه، فلمّا فرض رمضـان قال: ((من شـاء صامه، ومن شاء تركه))([4]).

وذلك من وجهين: أولهما أن الأمر في قوله: (فليصم) وفي قولها: (وأمر بصيامه) للوجوب، والثاني أن قولها: فلمّا فرض رمضـان قال: ((من شـاء صامه، ومن شاء تركه)) يشعر أن صيامه كان واجبا قبل فرض رمضان.

القول الثاني: أنه لم يزل سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، وهو أشهر الوجهين عند الشافعية([5])، وإليه ذهب القاضي وقال: هذا قياس المذهب([6]).

واستدلوا: بحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام, ومن شاء فليفطر))([7]).

وردَّ ذلك الحافظ فقال: "قوله: ((ولم يكتب الله عليكم صيامه...)) إلخ استدل به على أنه لم يكن فرضًا قط، ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته أنه عام خُصَّ بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه، أو المراد أنه لم يدخل في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخا، ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح, والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني, ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبًا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: لما فرض رمضان ترك عاشوراء، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باقٍ، فدل على أن المتروك وجوبه.

وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم حيث يقول: ((لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر))، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟!"([8]).

فائدة الخلاف: قال النووي: "وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء، ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه، وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار"([9]).

والحقيقة أنه لا يلزم من القول بأنه كان واجبا صحة صيام الفرض بنية من النهار، قال ابن قدامة: "وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه فيحتمل أن نقول: من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه، كما قلنا فيمن أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان"([10]).

2- حكمه بعد أن فرض رمضان:

نقل النووي الاتفاق على أنه اليوم سنة وليس بواجب([11]).

وقال: "قال القاضي عياض: وكان بعض السلف يقول: كان صوم عاشوراء فرضا، وهو باق على فرضيته لم ينسخ، قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب، وروي عن ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للأحاديث، وأما قول ابن مسعود: (كنا نصومه ثم ترك) فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب"([12]).

وضعَّف الحافظ قول من قال: إن المراد بالترك في كلام ابن مسعود ترك تأكُّد الندب، والصحيح أن المتروك هو الوجوب، وأما تأكد الاستحباب فباق، والله أعلم([13]).

خامسا: الحكمة من صيامه:

يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكرا لله تعالى، وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال: ((نحن أحقّ بموسى منكم)).

فرسول الإسلام والمسلمون هم أولى الناس وأحق الناس بموسى عليه السلام وبسائر الأنبياء والمرسلين، لأنهم آمنوا بما جاءت به الرسل ولا يفرقون بين أحد منهم، يؤمنون بهم جميعا، ويحبونهم ويعظمونهم ويحترمونهم، وينصرون دينهم الذي هو الإسلام لله رب العالمين.

فصيام يوم عاشوراء سنَّه نبينا صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة ورغَّب فيه، وفي ذلك من الحكم هذه الحكمة العظيمة، وهي أن دين الله تعالى واحد، ونبينا صلى الله عليه وسلم بُعث لإقامته، فهو ليس بدعا من الرسل، بل جاء مصدِّقا لما قبله من الكتاب، وأن الرسل إخوة لعلات، دعوا إلى الإسلام الذي أساسه توحيد الله تعالى والإخلاص له، وأنه لا عصبية في الإسلام، وفي ذلك أيضا أكبر علامة على عالمية هذا الدين وسعة رحمته، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ} [الأنبياء:107].
سادسا: مسائل متفرقة:

1- هل يكره إفراده بالصوم؟

عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى, فقال: ((إذا كان عام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم([1]).

قال ابن تيمية: "لا يكره إفراده بالصوم, ومقتضى كلام أحمد أنه يكره، وهو قول ابن عباس وأبي حنيفة"([2]).

قال الحافظ: "ما همَّ به من صوم التاسع يحتمل معناه: أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطا له، وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح, وبه يشعر بعض روايات مسلم, ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعاً: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود؛ صوموا يوما قبله أو يوما بعده)), وهذا كان في آخر الأمر.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولا سيما إذا كان فيما يخالف فيه أهل الأوثان, فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما ثبت في الصحيح, فهذا من ذلك, فوافقهم أولا وقال: ((نحن أحق بموسى منكم)), ثم أحب مخالفتهم فأمر بأن يضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافا لهم... وقال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: ((لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)) يحتمل أمرين:

أحدهما: أنه أراد نقل العاشر إلى التاسع.

والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم, فلما توفي صلى الله عليه وسلم قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين.

وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم"([3]).

وقال ابن القيم: "والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر لا نقل اليوم، لما روى أحمد في مسنده من حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خالفوا اليهود؛ صوموا يوما قبله أو يوما بعده))، وقال عطاء عن ابن عباس: صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. ذكره البيهقي... ويدل عليه أن في رواية الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع – يعني لصوم عاشوراء – وخالفوا اليهود فصوموا قبله يوماً وبعده يوماً)) فذكرُ هذا عقب قوله: ((لأصومن التاسع)) يبين مراده وبالله التوفيق"([4]).

وقال: "فمراتب صومه ثلاثة: أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم. وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.

وقد سلك بعض أهل العلم مسلكا آخر فقال: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة مع الإتيان بها، وذلك يحصل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع، أو بصيامهما معا، وقوله: ((إذا كان العام المقبل صمنا التاسع)) يحتمل الأمرين، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتبين لنا مراده، فكان الاحتياط صيام اليومين معا، والطريقة التي ذكرناها أصوب إن شاء الله، ومجموع أحاديث ابن عباس عليها تدل"([5]).

وجاء في أجوبة اللجنة الدائمة للإفتاء ما نصه: "يجوز صيام يوم عاشوراء يوما واحدا فقط، لكن الأفضل صيام يوم قبله أو يوم بعده، وهي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني مع العاشر)"([6]).

وقال الشيخ ابن باز: "صوم التاسع مع العاشر أفضل، وإن صام العاشر مع الحادي عشر كفى ذلك لمخالفة اليهود، وإن صامهما جميعا مع العاشر فلا بأس لما جاء في بعض الروايات: ((صوموا يوما قبله ويوما بعده))، أما صومه وحده فيكره، والله ولي التوفيق"([7]).

2- إذا وافق عاشوراء يوم سبت:

عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه))([8]).

قال ابن القيم: "وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديما وحديثا:

فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به، فقال: أما صيام يوم السبت يفرد به فقد جاء فيه ذلك الحديث حديث الصماء، يعني: حديث ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)).

قال أبو عبد الله: يحيى بن سعيد ينفيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم.

قال الأثرم: حجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر:

منها حديث أم سلمة حين سئلت: أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها؟ فقالت: السبت والأحد.

ومنها حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((أتريدين أن صومي غدا؟!)) فالغد هو يوم السبت.

وحديث أبى هريرة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة إلا مقرونا بيوم قبله أو يوم بعده، فاليوم الذي بعده هو يوم السبت.

وقال: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال))، وقد يكون فيها السبت.

وحث على صيام الأيام البيض، وقد يكون فيها السبت، ومثل هذا كثير.

فقد فهم الأثرم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به على الكراهة، وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد وكان ينفيه وأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث.

واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني أن يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره، وحديث النهي على صومه وحده، وعلى هذا تتفق النصوص.

وهذه طريقة جيدة لولا أن قوله في الحديث: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم)) دليل على المنع من صومه مفردا أو مضافا؛ لأن الاستثناء دليل التناول، وهو يقتضي أن النهي عنه يتناول كل صور صومه إلا صورة الفرض، ولو كان إنما يتناول صورة الإفراد لقال: لا تصوموا يوم السبت إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده، كما قال في الجمعة، فلما خص الصورة المأذون في صومها بالفرضية علم تناول النهي لما قابلها.

وقد ثبت صوم يوم السبت مع غيره بما تقدم من الأحاديث وغيرها، كقوله في يوم الجمعة: ((إلا أن تصوموا يوما قبله أو يوما بعده))، فدل على أنه غير محفوظ وأنه شاذ، وقد قال أبو داود: قال مالك: هذا كذب، وذكر بإسناده عن الزهري أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت يقول: هذا حديث حمصي، وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتما له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا.

وقالت طائفة منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ.

وقالت طائفة وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه. قالوا: وجواب أحمد يدل على هذا التفصيل، فإنه سئل في رواية الأثرم عنه فأجاب بالحديث، وقاعدة مذهبه أنه إذا سئل عن حكم فأجاب فيه بنص يدل على أن جوابه بالنص دليل على أنه قائل به؛ لأنه ذكره في معرض الجواب، فهو متضمن للجواب والاستدلال معا، قالوا: وأما ما ذكره عن يحيى بن سعيد فإنما هو بيان لما وقع من الشبهة في الحديث، قالوا: وإسناده صحيح، ورواته غير مجروحين ولا متهمين، وذلك يوجب العمل به، وسائر الأحاديث ليس فيها ما يعارضه؛ لأنها تدل على صومه مضافا، فيحمل النهي على صومه مفردا كما ثبت في يوم الجمعة.

ونظير هذا الحكم أيضا كراهية إفراد رجب بالصوم، وعدم كراهيته موصولا بما قبله أو بعده، ونظيره أيضا ما حمل الإمام أحمد عليه حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة في النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان، أنه النهي عن ابتداء الصوم فيه، وأما صومه مع ما قبله من نصفه الأول فلا يكره.

قالوا: وقد جاء هذا مصرحا به في صوم يوم السبت، ففي مسند الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة حدثنا موسى بن وردان، عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني: الصماء أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت وهو يتغدى، فقال: ((تعالَي تغدي))، فقالت: إني صائمة، فقال لها: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((كلي، فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك)). وهذا وإن كان في إسناده من لا يحتج به إذا انفرد لكن يدل عليه ما تقدم من الأحاديث، وعلى هذا فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت)) أي: لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده.

وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا المقارنة بينه وبين غيره، وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك.

قالوا: وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره، فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أخرجت بالدليل الذي تقدم، فكلا الصورتين مخرج، أما الفرض فبالمخرج المتصل، وأما صومه مضافا فبالمخرج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها، ولا مخرج لها من عمومه، فيتعين حمله عليها.

ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة، فعللها ابن عقيل بأنه يوم يمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك، وهو ترك العمل فيه، والصائم في مظنة ترك العمل، فيصير صومه تشبها بهم، وهذه العلة منتفية في الأحد.

ولا يقال: فهذه العلة موجودة إذا صامه مع غيره ومع هذا فإنه لا يكره، لأنه إذا صامه مع غيره لم يكن قاصدا تخصيصه المقتضي للتشبه، وشاهده استحباب صوم يوم قبل عاشوراء وبعده إليه، لتنتفي صورة الموافقة.

وعلله طائفة أخرى بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه، فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك، كما كره إفراد يوم عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب، وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون. وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد فإنه يوم للنصارى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اليوم لنا، وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى)) ومع ذلك فلا يكره صومه. وأيضا فإذا كان يوم عيد فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياما؟ فقالت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: ((إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم))، وصححه بعض الحفاظ، فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم، فكيف نعلل كراهة صومه بكونه عيدا لهم؟! وفي جامع الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه. وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره إفراد السبت بالصوم.

وعلله طائفة بأنهم يتركون العمل فيه، والصوم مظنة ذلك، فإنه إذا ضم إليه الأحد زال الإفراد المكروه، وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم، وزال عنها صورة التعظيم المكروه بعدم التخصيص المؤذن بالتعظيم، فاتفقت بحمد الله الأحاديث، وزال عنها الاضطراب والاختلاف، وتبين تصديق بعضها بعضا"([9]).

وقال الطحاوي: "ذهب قوم إلى هذا الحديث, فكرهوا صوم يوم السبت تطوعا، وخالفهم في ذلك آخرون, فلم يروا بصومه بأسا.

وكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم أو بعده يوم. وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا, فاليوم الذي بعده هو يوم السبت.

ففي هذه الآثار المروية في هذا إباحة صوم يوم السبت تطوعا, وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها.

وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء وحض عليه, ولم يقل: إن كان يوم السبت فلا تصوموه، ففي ذلك دليل على دخول كل الأيام فيه.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود عليه السلام, كان يصوم يوما ويفطر يوما))، وسنذكر ذلك بإسناده في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى. ففي ذلك أيضا التسوية بين يوم السبت وبين سائر الأيام.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا بصيام أيام البيض... وقد يدخل السبت في هذه كما يدخل فيها غيره من سائر الأيام، ففيها أيضا إباحة صوم يوم السبت تطوعا.

ولقد أنكر الزهري حديث الصماء في كراهة صوم يوم السبت, ولم يعده من حديث أهل العلم بعد معرفته به... سئل الزهري عن صوم يوم السبت فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهته, فقال: ذاك حديث حمصي, فلم يعده الزهري حديثا يقال به, وضعفه.

وقد يجوز عندنا ـ والله أعلم إن كان ثابتا ـ أن يكون إنما نهي عن صومه لئلا يعظم بذلك فيمسك عن الطعام والشراب والجماع فيه كما يفعل اليهود، فأما من صامه لا لإرادة تعظيمه ولا لما تريد اليهود بتركها السعي فيه فإن ذلك غير مكروه.

فإن قال قائل: فقد رخص في صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم, وهي أيام البيض, فهذا دليل على أن لا بأس بالقصد بالصوم إلى يوم بعينه، قيل له: إنه قد قيل: إن أيام البيض إنما أمر بصومها لأن الكسوف يكون فيها ولا يكون في غيرها, وقد أمرنا بالتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والعتاق ليلتَه وغير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه الأيام ليكون ذلك برا مفعولا بعقب الكسوف, فذلك صيام غير مقصود به إلى يوم بعينه في نفسه، ولكنه صيام مقصود به في وقت شكرا لله عز وجل لعارض كان فيه, فلا بأس بذلك.

كذلك أيضا يوم الجمعة إذا صامه رجل شكرا لعارض من كسوف شمس أو قمر أو شكرا لله عز وجل, فلا بأس بذلك, وإن لم يصم قبله ولا بعده يوما"([10]).

وقال في المنهاج: "(ويكره إفراد) يوم (الجمعة) بالصوم لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده))، ولكونه يوم عيد... (وإفراد السبت) أو الأحد بالصوم كذلك بجامع أن اليهود تعظم الأول، والنصارى تعظم الثاني، فقصد الشارع بذلك مخالفتهم, ومحل ما تقرر إذا لم يوافق إفراد كل يوم من الأيام الثلاثة عادة له، وإلا كأن كان يصوم يوما ويفطر يوما، أو يصوم عاشوراء أو عرفة، فوافق يوم صومه فلا كراهة كما في صوم يوم الشك، ذكره في المجموع, وهو ظاهر وإن أفتى ابن عبد السلام بخلافه, ويؤخذ من التشبيه أنه لا يكره إفرادهما بنذر وكفارة وقضاء، وخرج بـ(إفراد) ما لو صام أحدهما مع يوم قبله أو يوم بعده، فلا كراهة لانتفاء العلة؛ إذ لم يذهب أحد منهم لتعظيم المجموع, وقضية التعليل بالتقوي بالفطر في كراهة إفراده أنه لا فرق بين إفراده وجمعه, لكنه إذا جمعهما حصل له بفضيلة صوم غيره ما يجبر ما حصل فيه من النقص قاله في المجموع".

3- إذا نوى صيام عاشوراء مع قضاء أو نذر:

قال العراقي: "(ومنها) أن ينوي صوم عاشوراء مع قضاء أو نذر أو كفارة، فالقياس عدم الصحة، وأفتى شرف الدين البارزي بحصوله عنهما, وهو مشكل، أما إذا نوى في يوم عاشوراء الصيام عن نذر أو كفارة أو قضاء وأطلق، فالقياس حصول الفرض فقط، وأفتى البارزي بحصولهما, وهو بعيد وقال صاحب المهمات: القياس أن لا يصح لواحد منهما, وهو مردود أيضا، بل الصواب حصول الفرض فقط".

وجاء في أجوبة اللجنة الدائمة ما نصه: "إذا صام اليوم العاشر والحادي عشر من شهر محرم بنية قضاء ما عليه من الأيام التي أفطرها من شهر رمضان جاز ذلك، وكان قضاءً عن يومين مما عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))"([11]).

4- هل يقضي من صام التاسع والعاشر ثم تبين له أنه ليس هو يوم عاشوراء؟

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "ليس عليه القضاء، وله الأجر إن شاء الله كاملا على حسب نيته، لأنه ظن أن هذا هو التاسع والعاشر حسب التقويمات، فله أجره إن شاء الله، وليس عليه قضاء، وله أجر صوم اليومين".

وفي حالة ما إذا تبين له في اليوم الثاني الذي ظنه العاشرَ أن غدا عاشوراء، فهل يواصل صيام ثلاثة أيام، قال الشيخ رحمه الله: "الأفضل له أن يواصل حتى يصوم العاشر يقينا، هذا هو الأفضل، وإن لم يصم فلا حرج، ويفوته صوم العاشر"([12]).


سابعا: بدع ومخالفات:

1ـ بدعة الحزن واتخاذ يوم عاشوراء مأتما:

وهي بدعة أحدثتها الرافضة([1]) في هذا اليوم، ومن مظاهرها النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية وسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

قال ابن تيمية: "وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنتهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب، حتى يُسب السابقون الأولون، وتُقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة؛ فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله"([2]).

وقال أيضا: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة، إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية. والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى: {وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ % ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ % أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157]، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية))، وقال: ((أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة))، وقال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب))، وفي المسند عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي أنه قال: ((ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها))، وهذا من كرامة الله للمؤمنين، فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله، ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها، وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟! فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين وكثرة الكذب والفتن في الدنيا، ولم يُعرف [في] طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين"([3]).

2ـ بدعة الفرح واتخاذ يوم عاشوراء عيدا:

وهي بدعة أحدثتها النواصب([4]) في هذا اليوم، ومن مظاهر ذلك إظهار الفرح والسرور والاغتسال والتجمل والاكتحال والتطيب وإعداد المطاعم وذبح الذبائح والتوسعة على العيال إلى غير ذلك.

وقد سئل شيخ الإسلام عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك إلى الشارع: فهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح أم لا؟ وإذالم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش, وغير ذلك من الندب والنياحة وقراءة المصروع وشق الجيوب: هل لذلك أصل أم لا؟

فأجاب: "الحمد لله رب العالمين. لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه, ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا, لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين, لا صحيحا ولا ضعيفا, لا في كتب الصحيح, ولا في السنن ولا المسانيد, ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام, ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام, وأمثال ذلك. ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء, ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم, واستواء السفينة على الجودي, ورد يوسف على يعقوب, وإنجاء إبراهيم من النار, وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك. ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة))، ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب, ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته. وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيه طائفتان:

طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت, وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة, وإما جهال وأصحاب هوى.

وطائفة ناصبة تبغض عليًا وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى... وكان في الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال، فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية, وأكرم الله الحسين بالشهادة, كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته، أكرم بها حمزة وجعفر وأباه عليا وغيرهم, وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته, وأعلى درجته, فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة, والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء... فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية, ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب, فإنهما ولدا في عز الإسلام, وتربيا في عز وكرامة, والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما, ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز, فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما, كما ابتلي من كان أفضل منهما, فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما وقد قتل شهيدا.

وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس, وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم، ولهذا جاء في الحديث: ((ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي , وقتل خليفة مصطبر، والدجال)).

وكان ما كان, إلى أن ظهرت الحرورية المارقة, مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم, فقاتلوا أمير المؤمنين عليا ومن معه, فقتلهم بأمر الله ورسوله... فكانت هذه الحرورية هي المارقة, وكان بين المؤمنين فرقة, والقتال بين المؤمنين لا يخرجهم من الإيمان... ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين, قتل أمير المؤمنين عليا فصار إلى كرامة الله ورضوانه شهيدا, وبايع الصحابة للحسن ابنه, فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))، فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين, وكان هذا مما مدحه به النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه, ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله، ويحمده الله ورسوله، ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه, وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر, ولم يكونوا من أهل ذلك, بل لما أرسل إليهم ابن عمه أخلفوا وعده, ونقضوا عهده, وأعانوا عليه من وعدوه أن يدفعوه عنه, ويقاتلوه معه. وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم, ولا يقبل منهم, ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة, ولا يترتب عليه ما يسر, وكان الأمر كما قالوا, وكان أمر الله قدرا مقدورا.

فلما خرج الحسين رضي الله عنه، ورأى أن الأمور قد تغيرت, طلب منهم أن يدعوه يرجع, أو يلحق ببعض الثغور, أو يلحق بابن عمه يزيد, فمنعوه هذا وهذا حتى يستأسر, وقاتلوه فقاتلهم، فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه.

وأوجب ذلك شرًا بين الناس، فصارت طائفة جاهلة ظالمة إما ملحدة منافقة, وإما ضالة غاوية, تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة, وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود, وشق الجيوب, والتعزي بعزاء الجاهلية... فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته, وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد, والكذب بالكذب, والشر بالشر, والبدعة بالبدعة, فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم, فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الأحزان والأتراح.

وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة, وإن كان أولئك أسوأ قصدا، وأعظم جهلا, وأظهر ظلما, لكن الله أمر بالعدل والإحسان...

ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئا من هذه الأمور, لا شعائر الحزن والترح, ولا شعائر السرور والفرح.

وأما سائر الأمور مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة, إما حبوب وإما غير حبوب, أو تجديد لباس وتوسيع نفقة, أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم, أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به, أو قصد الذبح, أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب, أو الاكتحال والاختضاب, أو الاغتسال أو التصافح, أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك, فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون, ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، لا مالك ولا الثوري ولا الليث بن سعد ولا أبو حنيفة ولا الأوزاعي ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل ولا إسحاق بن راهويه ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين.

وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك ويروون في ذلك أحاديث وآثارا, ويقولون: إن بعض ذلك صحيح، فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة بحقائق الأمور، وقد قال حرب الكرماني في مسائله: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: ((من وسع على أهله يوم عاشوراء)) فلم يره شيئا. وأعلى ما عندهم أثر يروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه أنه قال: بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، قال سفيان بن عيينة: جربناه منذ ستين عاما فوجدناه صحيحا، وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة, ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه, فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة.

وأما قول ابن عيينة فإنه لا حجة فيه, فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه, وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء, وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه. وهذا كما أن كثيرا من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها, فيقضي الله حاجته, فيظن أن النذر كان السبب, وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر, وقال: ((إنه لا يأتي بخير, وإنما يستخرج به من البخيل))، فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر فقد كذب على الله ورسوله...

وقد اتفق أهل المعرفة والتحقيق أن الرجل لو طار في الهواء, أو مشى على الماء, لم يتبع إلا أن يكون موافقا لأمر الله ورسوله, ومن رأى من رجل مكاشفة أو تأثيرا فاتبعه في خلاف الكتاب والسنة كان من جنس أتباع الدجال...

ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن لا نعبد إلا الله, وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110]، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله, وهو المشروع المسنون, ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا, ولا تجعل لأحد فيه شيئا)"([5]).

وقال ابن القيم: "أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء والتزين والتوسعة والصلاة فيه وغير ذلك من فضائل لا يصح منها شيء، ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء غير أحاديث صيامه، وما عداها فباطل.

وأمثل ما فيها: ((من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته))، قال الإمام أحمد: لا يصح هذا الحديث.

وأما أحاديث الاكتحال والادهان والتطيب فمن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان على السنة، وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع"([6]).

3- تخصيصه بإخراج الزكاة فيه:

قال ابن الحاج رحمه الله: "ثم إنهم يضمون إلى ذلك بدعة أو محرما، وذلك أنه يجب على بعضهم الزكاة مثلا في شهر صفر أو ربيع أو غيرهما من شهور السنة، فيؤخرون إعطاء ما وجب عليهم إلى يوم عاشوراء، وفيه من التغرير بمال الصدقة ما فيه، فقد يموت في أثناء السنة أو يفلس، فيبقى ذلك في ذمته، وأقبح ما فيه أن صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه شهد فيه بأنه ظالم بقوله عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم))، وفيه بدعة أخرى وهو أن الشارع صلوات الله عليه وسلامه حدَّ للزكاة حولا كاملا وهو اثنا عشر شهرا، وفي فعلهم المذكور زيادة على الحول بحسب ما جاءهم يوم عاشوراء، فقد يكون كثيرا وقد يكون قليلا، وعند بعض من ذُكر نقيض ذلك، وهو أن يخرج الزكاة قبل وقتها لأجل يوم عاشوراء، فيكون ذلك قرضا منه للمساكين، ومذهب مالك رحمه الله أن ذلك لا يجزيه كما لو أحرم بصلاة الفرض قبل وقتها فإنه لا يجزيه عند الجميع، فكذلك فيما نحن بسبيله، وعند الشافعي رحمه الله يجزيه بشرط أن يكون دافع الزكاة وآخذها باقيين على وصفيهما من الحياة والجدة والفقر حتى يتم حول ذلك المال المزكى عنه، وفي هذا من التغرير بمال الصدقة كالأول"([7]).

4- زيارة القبور فيه:

قال ابن الحاج: "ومما أحدثوه فيه من البدع زيارة القبور، ونفس زيارة القبور في هذا اليوم المعلوم بدعة مطلقا للرجال والنساء"([8]).

5- من بدع النساء في هذا اليوم:

قال ابن الحاج: "ومن البدع التي أحدثها النساء فيه استعمال الحناء على كل حال، فمن لم يفعلها منهن فكأنها ما قامت بحق عاشوراء.

ومن البدع أيضا محرهن([9]) فيه الكتان وتسريحه وغزله وتبييضه في ذلك اليوم بعينه، ويشلنه ليخِطن به الكفن، ويزعمن أن منكرا ونكيرا لا يأتيان من كفنُه مخيطٌ بذلك الغزل، وهذا فيه من الافتراء والتحكم في دين الله ما هو ظاهر بيِّن لكل من سمعه، فكيف بمن رآه؟!

ومما أحدثوه فيه من البدع البخور، فمن لم يشتره منهن في ذلك اليوم ويتبخر به فكأنما ارتكب أمرا عظيما، وكونه سنة عندهن لا بد من فعلها وادخارهن له طول السنة يتبركن به ويتبخرن إلى أن يأتي مثله يوم عاشوراء الثاني، ويزعمن أنه إذا بخر به المسجون خرج من سجنه، وأنه يبرئ من العين والنظرة والمصاب والموعوك، وهذا أمر خطر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى توقيف من صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه، فلم يبق إلا أنه أمر باطل فعلنه من تلقاء أنفسهن"([10]).


ثامنا: ما جاء في كسوة الكعبة في عاشوراء:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوما تُستَر فيه الكعبة([1]).

قال الحافظ ابن حجر: "يفيد أن الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور ويقومون بها... ويستفاد من الحديث أيضا معرفة الوقت الذي كانت الكعبة تكسى فيه من كل سنة، وهو يوم عاشوراء، وكذا ذكر الواقدي بإسناده عن أبي جعفر الباقر أن الأمر استمر على ذلك في زمانهم، وقد تغير ذلك بعد، فصارت تكسى في يوم النحر، وصاروا يعمدون إليه في ذي القعدة، فيعلقون كسوته إلى نحو نصفه، ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوه الكسوة"([2]).

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقوله الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي فيسألونه، فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه([3]).

قال الحافظ ابن حجر: "قال شيخنا الهيثمى في زوائد المسانيد: لا أدري ما معنى هذا، قلت: ظفرت بمعناه في كتاب الآثار القديمة لأبي الريحان البيروني، فذكر ما حاصله أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم، فالسنة عندهم شمسية لا هلالية، قلت: فمن ثم احتاجوا إلى من يعرف الحساب ليعتمدوا عليه في ذلك"([4]).

وقال في شرح قول ابن عباس رضي الله عنهما: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء): "استشكل هذا لأن قدومه صلى الله عليه وسلم إنما كان في ربيع الأول، وأجيب باحتمال أن يكون علمه بذلك تأخر إلى أن دخلت السنة الثانية، قال بعض المتأخرين: يحتمل أن يكون صيامهم كان على حساب الأشهر الشمسية، فلا يمتنع أن يقع عاشوراء في ربيع الأول، ويرتفع الإشكال بالكلية، هكذا قرره ابن القيم في الهدي، قال: وصيام أهل الكتاب إنما هو بحساب سير الشمس، قلت: وما ادعاه من رفع الإشكال عجيب؛ لأنه يلزم منه إشكال آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يصوموا عاشوراء بالحساب، والمعروف من حال المسلمين في كل عصر في صيام عاشوراء أنه في المحرم لا في غيره من الشهور، نعم وجدت في الطبراني بإسناد جيد عن زيد بن ثابت قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس، إنما كان يوم تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي يسألونه، فلما مات أتوا زيد بن ثابت فسألوه. فعلى هذا فطريق الجمع أن تقول: كان الأصل فيه ذلك، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء رده إلى حكم شرعه، وهو الاعتبار بالأهلة، فأخذ أهل الإسلام بذلك، لكن في الذي ادعاه أن أهل الكتاب يبنون صومهم على حساب الشمس نظر، فإن اليهود لا يعتبرون في صومهم إلا بالأهلة، هذا الذي شاهدناه منهم، فيحتمل أن يكون فيهم من كان يعتبر الشهور بحساب الشمس، لكن لا وجود له الآن، كما انقرض الذين أخبر الله عنهم أنهم يقولون، عزير ابن الله تعالى الله عن ذلك"([5]).

قال الحافظ: "حكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات, فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان... وسيأتي في أوائل غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان"([6]).

وقال في أوائل غزوة الفتح في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: ((هذا يوم يعظِّم الله فيه الكعبة، ويومٌ تُكسى فيه الكعبة))([7]): "قيل: إن قريشا كانوا يكسون الكعبة في رمضان فصادف ذلك اليوم, أو المراد باليوم الزمان كما قال: يوم الفتح, فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام, ووقع ذلك"([8]).


تاسعا: مساجلة علمية لطيفة حول التوسعة على العيال يوم عاشوراء:

بمناسبة يوم عاشوراء ننقل فيما يلي مساجلة علمية لطيفة، حصلت بين عالمين كبيرين من علماء الجزائر الداعين إلى السنة والمحاربين للبدع، حول مسألة التوسعة على العيال في هذا اليوم، وفيها من الفوائد والدروس ما لا يخفى على اللبيب:

ورد على قسم الفتوى من جريدة البصائر العدد (15)([1]) ـ لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ـ استفتاءٌ هذا نصه:

"سأل السيد محمد بن عبد الله الطنجي الساكن في البُلَيدة بقوله: أفتى بعض الطلبة بجواز التوسعة على العيال يوم عاشوراء، واعتمد في فتواه تلك حديث: ((من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته))، وهل هذا الحديث الذي استدل به صحيح أو حسن أو ضعيف أو موضوع؟ أفيدونا تؤجروا".

فأجاب على هذا الاستفتاء الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله ـ وكان هو المتولي قسم الفتوى بالجريدة ـ فأجابه بالتالي:

"أصاب من أفتى بذلك، وإن التوسعة على العيال مطلوبة في المواسم كلها، وفي غير المواسم، قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ ٱللَّهُ} [الطلاق:7]، والحديث في معجم الطبراني ولفظه: ((من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه في سنته كلها)).

قلت: وأجبنا هذا السائل أخذًا لخاطره فقط، ومن حيث السؤال على الحديث، وإلا فإن الإنفاق على العيال لا يُستفتى فيه، إنما يستفتى في عدم الإنفاق إن استطاع وبخل".

وفي العدد (20)([2]) ورد مقال للشيخ عمر بن البسكري بعنوان: (وتعانوا على البر والتقوى. كتاب كريم إلى أخ كريم) وهذا نصّه:

"من عبد ربه عمر بن البسكري إلى أخيه بل والده الإصلاحي شيخ المصلحين، ومصلح الشيوخ سيدي أبي يعلى سعيد الزواوي أمد الله في عمره لنفع المسلمين، السلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فقد اطلعت لفضيلتكم بجريدة "البصائر" على ما يتحتم التنبيه عليه؛ والدعوة إلى إصلاح خلله، لما في الأثر: ((المؤمن للمؤمن كالمرآة))، ولما في الصحيح: ((المؤمن لأخيه المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)).

ذلك سيدي ما أفتيتم به في العدد الخامس عشر من الجريدة المذكور تحت عنوان: (قسم الفتوى) من تأييد من يقول بجواز التوسعة على العيال يوم عاشوراء، ومعتمد كل منكما على حديث: ((من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)) لقولكم حرفيًا: أصاب من أفتى بذلك وإن التوسعة على العيال مطلوبة في المواسم كلها وفي غير المواسم قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ ٱللَّهُ}، والحديث في معجم الطبراني ولفظه: ((من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه في سنته كلها)) هكذا قلتم حرفيًا.

سيدي أحيط جنابكم علمًا بأن الحديث المذكور يقول فيه حجة الإسلام ابن تيمية ما نصه حرفيًا في كتابه منهاج السنة (ج 4/ص 114): وقد يروي كثير ممن ينتسب إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة وهي كذب، كالأحاديث المروية في فضل عاشوراء ـ غير الصوم ـ وفضل الكحل فيه والاغتسال والحديث والخضاب والمصافحة وتوسعة النفقة على العيال فيه ونحو ذلك، وليس في أحاديث عاشوراء حديث صحيح غير الصوم ـ هكذا يقول حرفيًا ـ وتبعه تلميذه ابن القيم وابن رجب وغيرهم. ثم لا يخفى على جنابكم أن الجرح مقدم على التعديل.

وأما الآية التي استدللتم بها فهي غير مطابقة لمحل النزاع لأنها في أصل النفقة العامة في سائر الأيام التي تقل وتكثر بحسب رزق المنفق، وهي لم يسألكم عنها السائل وإنما تبرعتم بها توسعة للإفادة العلمية، وذلك حسن ولكن بعد الإفادة المسئول عنها؛ لأن السائل إنما سألكم عن توسعة مخصوصة، في يوم مخصوص، كما لا يخفى ذلك عليكم وما ورد عاما لا يستدل به على أمر خاص، ولو كان ذلك الخاص داخلاً تحت ذلك العام في الجملة كمسألتنا هذه.

فإذا سأل سائل آخر مثلاً عن التقرب بصلاة مخصوصة ليلة المولد النبوي أو القراءة عند القبور فلا يجاب بأن الصلاة مطلوبة في كل وقت لقوله تعالى: {وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء:79]، ولا بأن تلاوة القرآن مطلوبة لقوله تعالى: {فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، أو بقوله تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ ٱلْقُرْءانَ} [النمل:92].

هذا ومما زاد في تشجيعي على إسداء هذه الكلمة والنصيحة لجنابكم قولكم حرفيًا في العدد السابع عشر من البصائر: (وعلى كل حال فإنني لست ممن يقول: لا أقبل النصيحة ـ إلى أن قلتم ـ: بل إني أقبل النصيحة من أهلها بشرطها).

وختامًا سيدي أرجو إقرار كتابي إن كان حقًا، أو رده إن كان خطأ، والسلام عليكم. معاد من أخيكم".

وفي العدد الذي بعده([3]) أجاب الشيخ أبو يعلى على تعقب الشيخ عمر، وذلك تحت عنوان: (وتعاونوا على البر والتقوى. إلى أخ فاضل) وكان نص جوابه:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي يعلى إلى أخيه في الله ومحبه من أجله سيدي عمر بن البسكري، كثير السلام وبعد: فقد اطلعت على خطابكم الموجه إلي في شأن ذكري الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط جوابًا إلى السائل عن توسعة النفقة على العيال في عاشوراء إلخ ما وقفتم عليه، فالجواب: إني معتمدٌ ذلك كما اعتمده جملة من شراح المختصر الذي به الفتوى في مذهبنا المالكي مثل الدسوقي والعدوي على الخرشي وقال الدسوقي تعليقًا على قول الدردير: ونَدْبُ توسعة على الأهل ما لفظه: (قوله وندب فيه توسعة على الأهل إلخ) اقتصر عليها مع أنه يندب فيه عشر خصال جمعها بعضهم في قوله:

صُم صَلِّ صِل زُرْ عالمًا ثم اغتسل رأس اليتيم امسح تصدَّق واكتحل

وسِّع على العيـال قلم ظفـرًا وسـورة الإخلاص قل ألفًا تَصِل

لقوة حديث التوسعة" اهـ بالحرف، وقال العدوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وسع...)) الحديث، وذكر الحديث بلفظه ولم يعزه للطبراني، وذكره الشرنوبي في خُطَبه، وإني نفسي راجعت الجامع الصغير بعد أن بعثت بالفتيا إلى الجريدة فوجدت الشارح العزيزي يقول بضعف أسانيد الحديث، وهكذا تساهلوا في إيراد الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال فتساهلنا، والحق أن لا يتساهل في الحديث على الإطلاق، وأن لا يعتبر إلا الصحيح تحفظًا من الخطأ والوقوع في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ما الحيلة وقد طفح الكيل في كتب الفقهاء ولذلك أقول لك ما قال الأول: وجدت آجرًا وجصًا فبنيت ومكان القول ذا سعة، فإن معضلة الحديث ومشاكله والخلاف فيه أعيى الفحول، وأعجبني ابن كثير الذي تكلم في أصنافه حيث يقول: لا يلزم تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، إنما يلزم اعتبار الصحيح والضعيف فقط. يعني رحمه الله: لا يلزم في الحديث إلا الصحيح حبذاك.

ألا ترون إلى ما جرى ويجري في شأن الحديث الذي أورده ابن حبيب من أتباع مالك في القراءة على الجنازة وهو ـ الحديث ـ ضعيف ثم اعتمده جميع شراح المختصر وكادوا يضربون بذلك على قول إمامهم مالك القائل بالكراهة، والحال أنهم عالمون أن ابن حبيب ضعيف في الحديث كما ذكروا ذلك في ترجمته في الديباج المذهب في أعيان المذهب وقال ابن رشد في بداية المجتهد في باب الجمعة: وأحاديث ابن حبيب لا يحتج بها لأنه ضعيف، ومع ذلك فنحن في ردود مستمرة على هذا الشأن. وإنه مما يجب التحري في الاستدلال [ألاّ يستدل] بالحديث إلا إذا كان صحيحًا وهو صواب ولكنه صعب.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وألهمنا وألهم الأمة للصواب أن تتحفظ وتحذر من الوقوع في الكذب على نبيها. والله المستعان وعليه التكلان".


( منقول ) .......