المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "القتل الخطأ".. عذر أقبح من ذنب /تمييز عنصري في أرواح الناس



ابو فيصل احمد
19-03-2003, 05:06 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله

"القتل الخطأ".. عذر أقبح من ذنب

والواقع أن هذا الخطاب يتردد بشكل ببغائي، كلما ثار الحديث عن استخدام السلاح الأمريكي في قتل أبرياء في الساحات التي تشهد نشاطًا عسكريًّا أمريكيًّا بشكل مباشر، كما هو الحال في العراق أو بشكل غير مباشر بأيدي الحلفاء على نحو ما يحدث في فلسطين.. وبناء على هذه الحقيقة، فقد أضحى على سكان هذه البلاد أن يتوقعوا الموت بسبب القتل الخطأ في أية لحظة.

ومن جانبهم فإن مستخدمي هذا السلاح -مرتكبي جرائم القتل هذه- يوقنون بأنهم في مأمن من العقاب بمختلف معانيه. فبالمعنى الحقوقي مثلاً، تكفلت واشنطن بحمايتهم من الملاحقة حين أصرت على استثناء قواتها من الخضوع للمحكمة الدولية لجرائم الحرب، وكان لها ما أرادت رغم أنف القانون الدولي والساهرين عليه.

وبالمعنى المادي الصرف، تبدو عمليات القتل الخطأ غير مكلفة بالمرة، قياسًا على تعويضات ضحايا عرس كاكراكي. ولا ريب أن ما ينطبق على الأمريكيين ينطبق على حلفائهم الإسرائيليين الذين يعيثون قتلاً في الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي، مطمئنين إلى إفلاتهم من التبعات، طالما أنهم يخطون برعاية واشنطن ومعاييرها الحقوقية والمادية العوراء.

وفي تقديرنا أن المنظورين القضائي والمادي ليسا - على أهميتهما - بكافيين لإيفاء قضية استخدام أدوات القوة الأمريكية في إزهاق أرواح الناس حقها من المقاربة، ذلك أن الخطاب الأمريكي الذي يميز بين قتل خطأ وآخر صحيح يستبطن مضامين ومحمولات عنصرية بالمنظور الثقافي أيضًا، وهو ما يحتاج إلى الإضاءة حوله والتنديد به.

نقول بصيغة أخرى: إن من يطالع الخطاب الأمريكي بخصوص هذه القضية من زاوية مدى الصحة والخطأ في عمليات القتل، قد يقع في إسار هذا الخطاب ذاته، الذي يرى أن عمليات القصف الأمريكية -في أفغانستان أو العراق- صحيحة ولا غبار عليها قانونيًّا، لكنها تقع "أحيانًا" في أخطاء تحديد الهدف! هذا على حين أن سياسة الولايات المتحدة لا تحظى بعملياتها أو وجود قواتها العضوي في تلك البلاد بغير شرعية القوة.. وعليه فإنها مسؤولة عن كل الأرواح والخسائر التي تقع جراء تلك العمليات هناك، بما فيها أرواح الأمريكيين أنفسهم.

إن التأكيد على هذه الزاوية مهم لصيانة الضمير القانوني من التزوير، غير أن الساسة الأمريكيين وهم يعرضون القضية حتى بشكلها الملفق، إنما يعبرون عن استهانة لا حدود لها بأرواح ضحاياهم من "الآخرين" في أفغانستان والعراق وغيرها، وضحايا سلاحهم في أيدي الإسرائيليين أيضًا. البيانات الأمريكية بخصوص هؤلاء الضحايا لا تنطوي على وخزٍ للضمير الإنساني ولا على شعورٍ بالأسى العميق المشفوع بالنظر مليًّا في كيفية عدم حدوث هذا القتل ولو كان بالخطأ.

ويستنكف أصحاب هذه البيانات حتى عن إبداء الاعتذار، لما قد يترتب عليه من مسئولية أخلاقية (أو قانونية ومادية!). ورغم آلاف الأسر المشردة والمكلومة والمصدومة بفعل أخطاء معلومات تكنولوجيات التصويب والقتل، فإن أقصى ما يذهب إليه أمراء الحرب الأمريكيون هو التعبير عن الأسف البحت.

وفيما يتعلق بحادثة العرس الذي حولته القاذفات الثقيلة إلى مأتم جماعي لـ 48 قتيلاً و118 جريحًا من سواد الشعب الأفغاني المعذَّب، فإن مصدرًا أمريكيًّا مسؤولاً واحدًا مدنيًّا كان أم عسكريًّا، لم يتحدث عن فضيلة التعويض المادي المعقول عن هؤلاء الضحايا ولو من باب الاحتمال والتكهن – وكان هذا وما زال هو أضعف الإيمان.

القتلى.. مجرد أرقام صماء!



الذين يموتون بأدوات القتل الأمريكية هم على ما تشي به الأحداث وردود الأفعال والأقوال، مجرد أرقام صماء. حيث يرد ذكرهم في البيانات الرسمية أو الإعلامية متبوعًا ببعض الحيثيات التبريرية السطحية شديدة الاستخفاف بالحياة الإنسانية، ثم لا يؤبه لهم أو بهم بعد ذلك. وتمضي سياسة واشنطن في طريقها المرسوم (أم هو العشوائي!) وكأن شيئًا لم يكن حتى وإن بلغ الضحايا الألوف.

ومع ذلك تحاول واشنطن تغليف خطابها الخارجي المتعلق بالحملة الأفغانية الجارية أو الحملة العراقية المزمعة بصبغة "طوباوية" وأبعادٍ إنسانية؛ فهي تزعم أنها تصول في بلاد الأفغان وتجول لتخليص الدنيا بأسرها من فلول الإرهابيين، وأنها باستعداداتها لمهاجمة بغداد إنما تسعى لإزاحة نظام طغياني يراكم أسلحة الدمار الشامل، التي يمكنه بها تهديد السلم والأمن الدوليين، فضلاً عن التهديدات التي يشكلها هذا النظام للأمن القومي الأمريكي!

والواقع أن القناعة بهذا الخطاب تتناقص على الصعيد الدولي باضطراد كبير. وفي الشارع الأفغاني يتساءل كثيرون عما إذا كانت الحملة الأمريكية صادقة في نواياها. ومنهم من يرى أن عدد ضحايا هذه الحملة بأيدي القوات الأمريكية ومحاسبيها الداخليين (قوات التحالف الشمالي) يوشك أن يعادل ضحايا عهد طالبان والقاعدة.

ويمضي هؤلاء إلى أن أوضاع بلادهم لم تطرأ عليها تحولات إيجابية لا أمنيًّا ولا اقتصاديًّا.. ولو كان الأمريكيون صادقين في خطابهم المعلن المفعم بالمثالية والطهرية، لكان الأفغان أول من أحس بذلك.

مؤدى هذا القول أن أبناء الشعب الأفغاني ما زالوا يعانون في حضور "المخلص الأمريكي" مثلما عانوا من قبل في غيابه. ولا يمثل الموت استثناءً من هذه القناعة العامة، ففي زمن طالبان والقاعدة كانوا يموتون تحت وطأة نمط خاطئ من أنماط الحكم والسلطة، وهم يموتون الآن بفعل ما تقترفه قوات هذا "المخلص" من أخطاء.

وفي هذا السياق، لا معنى لادعاء القائد الأمريكي ماكنيل بأن "الولايات المتحدة لا تستهدف إلحاق الأذى بالمدنيين"؛ لأن النتيجة تبقى واحدة، وهي أن الناس يموتون هناك بالجملة قبل الحملة الأمريكية وبعدها.

تمييز عنصري في أرواح الناس

إن الخطاب الأمريكي "غير الاعتذاري" بخصوص عمليات القتل الخطأ في أفغانستان يبرر هذه المشابهة.

وهناك ما يفضح فجاجة هذا الخطاب بصورة أكثر وضوحًا وبشاعة.. فالسياسة الأمريكية لا تبدي أي درجة من التساهل أو الاستهانة عندما يتعلق الأمر بحياة الأمريكيين. إنها على استعداد لأن تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا ما سقط واحد من رعاياها ضحية حدث ما في مكان ما.. وهي في هذه الحالة لا تتساءل مطلقًا عما إذا كان هذا الأمريكي الواحد قد سقط قتيلاً أو جريحًا أو مفقودًا أو سجينًا… بطريق الصواب أم الخطأ!

من ذلك أن الإدارة الأمريكية قامت مؤخرًا بتحويل قضية طيار أمريكي، سقطت طائرته أثناء عملية قتالية ضد العراق عام 1991، من ملفات القتلى إلى ملفات المفقودين. وذلك كي تصبح هذه القضية مفتوحة على مطالب معينة من بغداد!

وهكذا، فإنه بعد مرور أكثر من عشر سنوات، لم تتجاهل واشنطن مصير جندي واحد لها، وهي التي تريد من بقية الخلق طي مصائر الآلاف ممن تحصدهم أسلحتها على مدار الساعة في أفغانستان وفلسطين والعراق.. ألا تنطوي هذه المقاربة على نوع من التمييز العنصري القح في تثمين أرواح الناس؟!

وبالمناسبة، يقول وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد: "إن العمليات الأمريكية في أفغانستان قد تستمر لثلاثة أعوام…" وقياسًا على مسار الأحداث، فقد لا تنتهي هذه المدة الزمنية إلا وقد أبيد الشعب الأفغاني "عن طريق الخطأ".. من يدري؟!

ولأن الآلة العسكرية الأمريكية الجبارة هي حاليًّا في حالة تربص وجهوزية للانقضاض على العراق بحملة ساحقة، فإن علينا أن نتوقع تضخم قوائم الذين سيلاقون حتفهم هناك عبر الأسلوب اللعين ذاته، إذا ما قدر لهذه الحملة أن تنطلق.

ولا بد أن أمراء الحرب الأمريكيين يعدون البيانات التبريرية المناسبة لذلك، فهم على ما نرى ونسمع أصحاب خبرة غنية في هذا الإطار.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته