المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حسن التخلص ( بين الأدب و السياسة)



إدواردو يانس
26-04-2003, 12:55 AM
بين الأدب والسياسة وجوه غريبة من الاتفاق والتماثل لا يفطن لها كثير من الناس، بل ربما ظن كثيرون انهما كالخطين المتوازيين لا يلتقيان ابدا، فهما كما قيل:
راحت مشرّقة ورحت مغرّبا
شتّان بين مشرّق ومغرّب!!

لكن ذلك نظر حسير لا يتغلغل الى بواطن الأمور وانما يقف عند ظواهرها التي لا ينخدع بها اهل التدقيق، اول هذه الوجوه: ان الاديب والسياسي يتطلب عمل كل منهما من الناحية الفنية الصرفة التخلي عن فضيلة الصدق والتحلي برذيلة الكذب! فقوام الشعر المبالغة والشطط والاغراق في التخييل وقلب حقائق الواقع حتى راجت في الوسط الادبي مقولة اعذب الشعر اكذبه، بل ان النقاد القدامى يقررون ان الشعر اذا دخل في باب الخير لان وضعف, واما السياسة فهي فن الكذبة المتقنة التي ينطلي امرها على الكثيرين لا سيما حين تستند الى آلة إعلامية ضخمة تطير الاخبار بكل مكان فلا تدع بيت مدر ولا وبر الا ودخلته، ومعلوم ان اولى ضحايا المبدأ الميكافيلي الشائع (الغاية تسوغ الوسيلة) هي بلا ريب فضيلة الصدق.
الوجه الثاني ان الاثنين يسلكان في مقام الجدل والحجاج منهجا واحدا يقوم اساسا على المغالطة العقلية بالالتفاف على الحقيقة عبر تحكيم الاقيسة المقلوبة للتوصل الى النتائج المطلوبة الموافقة لمراد كل منهما، فلهما في فنون الاحتيال وضروب الختل والمماحكة اللفظية باع كبير ييسر لهما ترويج افكارهما في اوساط عريضة كثيرة، ولهذا فإن المناطقة اهل الجدل العقلي الملتزم يصفون هذا النوع من الحجج الملتوية الخادعة بالحجج الشعرية!
وثالثة الاثافي: التأنق والتفنن في طريقة العرض والربط بين مكونات المشروع الادبي او السياسي بطريقة تجعل الانتقال من مرحلة الى اخرى انتقالا سلسا هادئا لتكتمل حلقات المشروع على اتم وجه, فالشعراء يهتمون ابتداء بمطالع القصائد لأنها اول ما يطرق المسامع والقلوب ولهم في (براعة الاستهلال) احتفاء بالغ، كما انهم يعتنون بالمقاطع وهي الخواتم.
لأنها صانعة الانطباع الاخير في ذهن المتلقي، واما الانتقال من غرض الى غرض في وسط القصيدة ففن قائم بنفسه يسمونه (حسن التخلص) لا يتقنه إلا المهرة منهم، وهم قلة قليلة.
وفي السياسة الاميركية الدولية تسير الامور بصورة مقاربة لهذا النحو، فمن اجل القضاء على الانظمة المارقة لا بد من افتتاح المواجهة بحملة اعلامية مكثفة تشن عليها وتهيئ الرأي العام الدولي للمصير الحالك الذي ينتظر المنطقة التي تعشعش فيها تلك الانظمة الغرابية، ولا تخلو هذه الحملة عادة من تصريح خطير يمثل براعة استهلالية كتصريح الرئيس بوش بالدعوة الى شن حملة (صليبية) على الارهاب وهو التصريح الذي تطلب اصدار عشرات التصريحات للتملص من دلالاته المزعجة! واما تجليات الكذب المتقن فشواهدها في عالم السياسة اكثر من ان تحصر، ولعل من ابرزها ان يكون مفهوم (الاحتلال) مساويا تماما لمفهوم (التحرير) واما الحجج الشعرية فكتلك التي تساق لإثبات امتلاك بعض الدول العربية لأسلحة الدمار الشامل في الوقت الذي تعلن فيه تلك الحجج نفسها وفقاً لقياس المعايير المزدوجة أن لاسرائيل الحق بامتلاك الأسلحة النووية للدفاع عن نفهسا والدفاع ـ هنا ـ يساوي الهجوم لأنه خير وسيلة للدفاع!
العقبة الكؤود التي تواجه السياسة الاميركية تتمثل في عقدة (حسن التخلص) فبعد ان انتهت قواتها من القضاء على نظام صدام غير المأسوف عليه وحررت ـ على حد قولها ـ العراق منه، فإنها لا تملك القدرة على الانتقال الى المرحلة التالية من مخططها بطريقة سلسة منسابة لا سيما مع تنامي المظاهرات الشعبية المطالبة برحيل القوات الاميركية بوصفها قوات اجنبية غازية كما حصل عقب صلاة الجمعة الماضية، وما صاحب ذلك من تعثر خطتها في تنصيب حكومة موالية لها، وهو ما يدعو للتساؤل: كيف سيتمكن الاميركيون من الخروج من المأزق السياسي العراقي بطريقة تحقق مصالحهم بأقل الخسائر والاضرار مع ان تجاربهم الكثيرة ناطقة بأنهم اجهل خلق الله في فن حسن التخلص؟

بقلم: د. جاسم الفهيد
كاتب وأستاذ جامعي كويتي