المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أثر الفضائيات على المجتمعات المغلقة



كن وحيدا
14-06-2003, 02:02 PM
بقلم: حسن المصطفى

كاتب سعودي



يعدُ الإعلام الفضائي، والصورة المرئية في عالم اليوم أكثر الآليات تغييراً وتأثيراً على الرأي العام، سواء العالمي، أو المحلي الذي يخص كل مجتمع من المجتمعات. هذا التأثير بدأ يزداد وبشكل مضطرد بعد تطور علم الاتصالات والتكنولوجيا، وأخذ بعدهُ الأكبر مع التقنية الرقمية فائقة الجودة والدقة، والتي دخلت كافة مجالات صناعة الإعلام من الصورة الفوتوغرافية إلى السينمائية والتلفازية الفضائية.

هذا الإعلام الفضائي المعتمد على "الميديا"، التي تحولت إلى أدلوجة حاكمة ومؤثرة، والتي أسماها روجيه دوبريه بـ "الميديالوجيا"، لما لها من السطوة والتأثير، بات هذا الإعلام يمارس فعله الاجتماعي والنفسي والسياسي، ويترك آثاره وبصماته على المجتمعات كافة، مدشِناً لمرحلة وحقبة تاريخية امتزجت فيها الثقافات، وضاقت فيها الخصوصيات، وباتت المفاهيم والممارسات ذات طابع معولم استهلاكي في مغلبه، معتمداً على ثقافة الميديا، التي هي ثقافة رأس المال والقيم الليبرالية المفصلة والمنسوجة بنسيج السوق والعرض والطلب.

ما يهمنا في كل ذلك هو أثر هذا الكم الهائل من القنوات على المجتمعات المغلقة والمحافظة، ومجتمعات الخليج بشكل عام، والتي تمتاز بكونها مجتمعات ذات ثقافة دينية تقليدية في معظمها، ترتكز على التقاليد والعادات الاجتماعية والممارسة الشعبية للدين، إضافة لكونها مجتمعات ذات طابع فحولي ذكوري قبليٌ في جزء كبير منه، قائم على سلطة الرجل، وتُعاملُ فيه المرأة وفق مقاييس وعادات اجتماعية المنشأة تأطر دينياً، وفق فهم محدود.

هذه المجتمعات الخليجية ذات الطابع المغلق، المعتمد على البنية المحافظة، والطابع الأحادي التفكير والسلوك، وإن أُختلف في بعض التفاصيل، ظلت لوقت قريب جداً وما زال تسير ببطيء في مسيرة التحديث وبناء الدولة الحديثة المؤسساتية. هذه المسيرة نحو التحديث وجدت نفسها أمام تعقيدات اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة، مما جعلها تراوح بين التحرك السريع والبطيء وفق الظروف الموضوعية المحيطة. ولكن هذه المسيرة وهذا المجتمع المحافظ وجد نفسه فجأة أمام تحدي خطير وقوي، تمثل بالتطور السريع والهائل في تكنولوجيا الاتصالات، وولوج القنوات الفضائية لبيوت وزوايا ذلك المجتمع، وكأنه فوجئ بنور شديد السطوع فجأة ودون أي مقدمات. ففي بعض المناطق التي لا توجد بها سوى قناتين تلفازيتين فوجئ الناس وإذا هم أمام 22 قناة فضائية، وبعد فترة وجيزة أمام مئات القنوات التي تحمل كل ما هو جديد ومختلف، بل كل ما هو مفاجئ وصادم.

هذا الحضور الكثيف وغير المحدود لهذا الكم الهائل من المحطات الفضائية، أدى لحدوث تصدعات في البنى الاجتماعية والسلوكية لهذه المجتمعات المحافظة، نظرا لعدم استعداد هذه المجتمعات لاستقبال مثل هذه الثقافات الوافدة، وإن كانت عربية مثلها، إلا أنها في كثير منها كانت غريبة للغاية على هذه المجتمعات.

سبب هذه التصدعات يعود لكون هذه المجتمعات اتبعت أسلوباً محافظاً ومغلقاً جداً في تعاملها مع ذاتها، بدوافع المحافظة على الذات وحفظ القيم والتمسك بالإسلام، مما دفعهم للتضييق على المرأة وعلى الشباب بالذات وعلى الكثير من الأنشطة الاجتماعية بهدف الحفاظ على الهوية.

هذه الممارسات الوقائية، لم تكن إلا كالقشرة الخارجية التي أزاحتها الفضائيات وكشفت عما يدور في الأسفل منها، وإذا نحن أمام تناقضات شديدة وحادة، وأمام أفراد وجماعات اجتماعية تحمل وجهين وخطابين، خاص وعام. خاص يمارسه المرء مع ذاته وخواصه من الأصدقاء وفي عالمه الذاتي، وعام يمارسه مع المجتمع. أي تكونت لدينا شخصية مزدوجة بخطابين وسلوكين متضاربين بل ومتناقضين للغاية. فالفرد أمام المجتمع ذا سلوك محافظ وكلاسيكي، وبينه وبين خواصه يمارس إستمتاعاته الخاصه وعوالمه السفلي. وسبب ذلك كله كما أسلفنا هو التركيبة الخاطئة وأسلوب التربية العقيم، والفهم المغلوط للحياة.

لن تقتصر هذه التصدعات على الجانب السلوكي وحسب، بل ستمتد لمستويات أعمق وأشمل، تشمل نواحي فكرية واقتصادية وسياسية، وستجعل الفرد أمام كم هائل من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي لا حد لها.

ولاستجلاء المشهد، سنأخذ نموذجين من القنوات الفضائية العربية، ونحاول بشكل مقتضب، أن نستجلي أثرهما على الإنسان الخليجي، وهما:

قناة الجزيرة:
ذات الطابع السجالي السياسي الساخن. فهذه القناة عبر برامجها الحوارية وبالخصوص "الاتجاه المعاكس"، وعبر نشراتها الإخبارية وأسلوب العرض الإخباري، وبرامج البث المباشر التي تستقبل المكالمات المباشرة من المشاهدين، وعبر استضافتها لشخصيات إشكالية ومشاكسة، استطاعت أن تستقطب اهتمام المشاهد الخليجي، وأن تكسبه لجانبها، وذلك لما وجده فيها من متنفس وحرية نسبية يفتقد لجزء منها في ممارسته الذاتية. مما أثر ذلك على سلوكيات الخليجيين وجعلهم أكثر جرأة على القول والبوح، ورفع من سقف الحرية أكثر مما كان عليه، وجعل اهتمامات الناس أكثر سعة ووعياً، ويظهر ذلك من طبيعة اتصالات المشاهدين، وما يتداولونه في ديوانياتهم الخاصة، وما بات يكتب وينشر في الجرائد اليومية الخليجية، مما حدا بضرورة التسريع في العمل السياسي والمدني ودفعَ المؤسسات الرسمية والشعبية لمرونة أكبر في التعامل والحوار، وما حدث في البحرين من انفتاح ديمقراطي ليس ببعيد من ذلك -هذا مع وجود أسباب أخرى بالطبع-.

القنوات اللبنانية:
وبالخصوص قناتي "المستقبل" و"LBC"، اللتان أثرتا أكثر من سواهما في البنية الاجتماعية والسلوكية. عبر خطابهما المنفتح والمتحرر للغاية، وخرقهما لكثير من المحظورات الاجتماعية والمحرمات السلوكية. مما جعل العديد من الظواهر تبرز للسطح، ومنها:

أ- التبدل السريع في نوعية الحجاب المستخدم من قبل الفتيات الخليجيات، وتطور هذا الحجاب بشكل واضح وملفت. وتحوله من لباس للتستر للباس للزينة والاستعراض الجسدي. والتخفف من كثير من أعبائه عبر اختراع موديلات جديدة تمتاز بحداثتها.

ب- تطور لباس الفتيات الخليجيات. سواء اللباس المنزلي منه، أو اللباس الذي يرتدى عند الخروج للسوق أو أثناء الزيارات. فلم يعد اللباس في كثير منه كالسابق، وإنما أخذ ينحو نحو القصير، والتي شورت، والسبورت، والجينز، والموديلات الحديثة. بحيث تجد أن اللباس الذي تلبسه فرضاً جوليا روبورتس أو نوال الزغبي، أو كلوديا شيفر، أو باسكال مشعلاني، يرتدينه الفتيات الخليجيات، مما أدى لانحسار في أنماط اللباس المحلي، وازدياد في شعبية الألبسة الحديثة. ويمكن قياس ذلك من خلال الذهاب لأي سوق مركزي ومشاهدة متاجر الألبسة العالمية، ونوعية البضائع المتوفرة في السوق.

وليس الفتيان ببعيدين عن هذا التأثر من حيث اللباس، حيث تجدهم يرتدون مثل نظرائهم في أوربا وأمريكا. بحيث لا تفرق بينهم وبين أي شاب أوربي من حيث الشكل واللباس وقصة الشعر ونوعية النظارة والحذاء.

ج- إعادة صياغة علاقة الفتيات مع الفتيان. فالنموذج الذي يقدم من خلال هاتين القناتين، لعلاقة الشباب بالصبايا من خلال برامج مثل "يا ليل يا عين" و"عَ الباب يا شباب"، يمثل أسلوباً جديداً من التعامل لم تعهده المجتمعات الخليجية، بل تعتبره أمراً خطراً ومحرماً، لكنها ورغم مقاومتها الشديدة لهذه المظاهر، إلا أنها تظلُ عاجزة عن المجابهة. لأن أساس العلاقة بين الجنسين في هذه المجتمعات خاطئ. فليس من المستغرب أن تجد العلاقات الحميمية وإن بشكل غير علني عبر المعاكسات في الأسواق "الغزل"، أو الحديث عبر الهواتف المحمولة والمنزلية، وعبر الإنترنت، بعيداً عن أعين الأهل والمجتمع.

د-كسر الحاجز النفسي عند الفرد الخليجي. وذلك عبر رفع مستوى وسقف المشاهدة لديه. ففي السابق كان المشاهد الخليجي يشاهد الفتاة على التلفاز شبه سافرة، أي لا يظهر منها سوى وجهها وشعرها وجزء يسير جداً من جسدها، وكان من المستحيل أن يشاهد شيئاً أبعد من ذلك. أما الآن فمفاتن المرأة تعرض بشكل واضح وصريح، واصبح معتاداً أن تظهر على شاشات الفضائيات فتيات يرتدين مايوه البحر "البكيني"، الأمر الذي كان محالاً سابقاً. والمهم في الأمر أن المشاهد الذي كان لا يرى شيئاً في السابق، وكان يغيرُ القناة أو يطفئ التلفاز عندما تظهر فتاة شبه سافرة، نجدهُ ذاته يشاهد ودون أي حرج فتيات البكيني ولقطات الحب الحميم.

هـ- تغيير نمط تفكير الشباب والفتيات لمفهوم الهوية والعادات والتقاليد. فلم يعد ينظر باهتمام بالغ للهوية الخليجية وخاصة من قِبلِ جيل الشباب، بل بات الأمر الهام هو كيف يحقق كل من الشاب والشابة حلمهما، وكيف يجاريان الفتيات اللبنانيات مثلاً في تغنجهن ودلالهن ولباسهن الأنيق. وبالتالي ضعفت العلاقة بين الشباب والفتيات وبيئتهم المحلية، وباتوا ينظرون لما هو موجود في الخارج، ويبحثون عن نمط حياة ومعيشة وعلاقات كما تعرض له الشاشات الفضائية. وهذا كله سيقود لتبدل على المستوى الفكري لرؤية هؤلاء لمفاهيم كالهوية والقيم والأخلاق والالتزام.

و-شيوع الثقافة الاستهلاكية والثقافة الصورية. ويقصد بذلك تحويل ثقافة الجيل الشاب نحو مناحي استهلاكية غير منتجة، عبر إغراقه في بحر من الإعلانات التجارية ذات النكهة الشبقية الحارة والخاصة. وعبر تقديم نماذج سلوكية لشباب على الطراز الأوربي أو الليبرالي أو العبثي أو الشباب المستمتع بحياته وملذاتها وفقط. وعندما يقارن الشاب الخليجي بين وضعه وما يقدم له عبر هذه الأقنية، سيقع ضحية مقارنة مغلوطة وخادعة، مما يجعله مقلداً ومنقاداً بشكل لا شعوري نحو هذه الثقافة، اعتقاداً منه بكمالها وصحتها ومقدرتها على إسعاده، فيما هو يسير نحو الاستهلاك والهدر. ومثال ذلك الاستخدام المفرط للهواتف الجوالة، والاستعراض بالسيارات الحديثة، واستخدام الفتيات للملابس الباهظة الثمن، والماركات العالمية من المكياج والعطورات والمجوهرات، لكي يصل جميع هؤلاء لحلمهم المنشود.

هذا بشكل سريع وموجز، رصد لبعض المظاهر التي أحدثتها الفضائيات على المتلقي الخليجي. وجزء يسير جداً من المشهد، الذي لا يُعلم لهُ نهاية. والمهم في ذلك كله، أن هذه المجتمعات ستدفع ثمن انغلاقها الخاطئ غالياً، بسبب تمسكها بعادات بالية وقديمة، وما لم تسعى هذه المجتمعات لإعادة صياغة وبلورة نظمها الاجتماعية فإن الزمن والفضائيات لن يمهلانها، لأن الزمن والثقافة والسطوة في عالم اليوم للصورة والقنوات الفضائية، ولا سبيل للمقاومة بالمنع والإكراه، وإنما بالمرونة والتحصين والتربية الذاتيين.


أخوكم

كن وحيداً