المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأشعري يرجع إلى عقيدة السلف ( ويعلن انتماءه لمذهب أحمد بن حنبل )



moKatel
16-06-2003, 06:16 AM
أبو الحسن الأشعري أشهر من نار على علم ، فهو العلامة النظار المتكلم ذو الصدى الرنان ، والاسم الطائر في كتب العقيدة الإسلامية ، ولست الآن بصدد الحديث عن حياته ونشأته ، وتقلب الدنيا بأمره ، فقد تحدثت كتب التراجم عن ذلك بما لا مزيد عليه ، ولكنى أسلط الضوء على مسألة جوهرية من مسائل تفكيره يجب أن تكون موضع مناقشة الباحثين ، إذ غم الأمر فيها على الكثيرين ، وهي من الوضوح بحيث لا تحتمل هذه الحيرة المستطيلة ، وأي وضوح أبين من أن نرجع إلى مؤلف كتبه الرجل ، وخطه بيده وختم به مؤلفاته الكثيرة ! أي وضوح أبين من أن نقرأ ما قال أبو الحسن في كتاب

( الإبانة ) الذي لم يشك واحد من الباحثين في نسبته إليه ، ليصبح الأمر كما قال الشاعر :

إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر

ومن هذا الكتاب ( الإبانة ) يعلم الباحثون جميعا ، أن الأشعرى أبا الحسن شيء ، والأشاعرة أتباعه شيء آخر ، وهذا غير غريب في دنيا العلم ، فقد قرأنا في كتب الفقه عمن ينتسب إلى إمام من الأئمة ، وآراؤه تختلف عن آرائه ، في عصرنا هذا ينتسب التلميذ إلى أستاذ، ويجاهر بأستاذيته ، ثم يخالفه في أكثر ما يكتب ، دون غضاضة ما .

كان التفكير المعاود المتكرر من ديدن أبي الحسن ، فهو لا يفتأ يفكر في كل ما يقرأ ، وفي كل ما يراه صوابا ، لاحتمال أن يكون الخطأ مستورا فيما تقرر صوابه ، وقد نشأ الرجل معتزليا ، يقرأ على أئمة هذا المذهب ، حتى صار من كبار رؤسائه وكان شيوخ المعتزلة يرسلونه إلى حلقات الجدل لينافح عن آرائهم حتى تمت له السيطرة البالغة ولكن طبيعة التفكير المعاود المتكرر لم تتركه ، إذ جعل يخلو بنفسه متأملا ما يحيك من الشبه في قوله فرأى في عزلته الفكرية الهادئة أن أكثر ما يقرره خطأ يحتاج إلى صواب ، ولمس صوت الحق يجلجل في أعماقه ، داعيا إياه ، أن يجاهر الناس بما اهتدى إليه ، ولكنه في حاجة إلى أن يؤكد اتجاهه بأدلة حاسمة تقطع الشك ، فجمع أسلحته الدفاعية ، وظهر للقوم بعد احتجاب في صومعة التفكير ، متجها إلى مسجد البصرة يوم الجمعة في الحفل المشهود ،حتى إذا وجد الجمع الحاشد صعد إلى المنبر في وثوق المفكر المطمئن ، وخطب قائلا : " أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن ، وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار ، وأن أفعال الشر أنا الذي أفعلها ، وأنا تائب مُقلع ، متصدَّ للرد على المعتزلة ومخرج لفضائحهم، معاشر الناس : إنما تغيبت عنكم هذه المدة ، لأني نظرت فتكافأت الأدلة ، ولم يترجح عندي شيء على شيء ، فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ، ودفع للناس ما كتبه على طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين .

هذا الموقف الجديد نقل الرجل من حال إلى حال ، ولقي من خصومه اتهامات كثيرة جعلها دبر أذنه ، لأن الذي يستمع كلام الناس لا يزداد إلا ترددا ، وأخذ الناس يطالعون مذهبه الجديد ، فرأوه وسطا بين النفي والإثبات ، والمتحدثين لأطراف النزاع من المعتزلة والحشوية والجبرية ، فهو إذن في هذه المرحلة لم يكن مع أهل السنة من السلف ، ولكنه توسط بين طريقة الاعتزال وطريقة السلف ، وبخاصة حين سلك مسلك المعتزلة في اتخاذ منطق أرسطو ، وسيلة للحجاج ، وهذا المنطق لا يهدي إلى الحق دائما لأنه يفترض صحة المقدمات ويبني عليها صحة النتائج، والأصل أن نبحث في صحة المقدمات قبل أن نجعلها أمراً مسلما ، وهذا ما جعل المنطق الحديث يرفض المنطق الصوري ويميل إلى طريقة الاستقراء ، لا إلى تأليف القضايا ، وترسيخ مدلولات الموضوع والمحمول .

هنا نأتي إلى اللباب مما عقدنا هذا البحث عليه، فنتساءل : هل ظل الأشعري على مذهبه الذي اصطنعه الأشاعرة من بعده كالرازي والباقلاني والعضد الإيجي والتفتازانى وغيرهم أو أنه ترك هذا الاتجاه برمته ، واهتدى إلى الرأي النهائي في اتخاذ عقيدة السلف مذهبا له ؟ لقد بحث هذه المسألة بعض المستشرقين ، ولم ينتهوا فيها إلى رأي حاسم ، ثم كانت مجال نقاش بمجلة الأزهر بين الأستاذ الكبير محب الدين الخطيب ، والأستاذ الدكتور حمودة غرابة أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين ، ومؤلف كتاب ( أبو الحسن الأشعري) ، وبالحياد التام من المعارضين والمؤيدين ، تتبعت هذه المسألة تتبعا منهجيا ، فرأيت أن أدلي بدلوي في الدلاء مؤكدا ما أرى أنه الصواب .

إن كتب الأشعري المتداولة منها الصريح في الالتجاء إلى الأسلوب المنطقي في الحجاج ، مثل كتابه (( مقالات الإسلاميين )) ومثل كتابه (( استحسان الخوض في علم الكلام )) ، الذي قال في مقدمته :

" إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، مالوا إلى التخفيف والتقليد ، وطعنوا على من فتش عن أصول الدين ، ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والجزء والطفرة ، وصفات الباري عز وجل بدعة وضلالة ، وقال لو كان ذلك هُدى ورشادا لتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه"

ونضيف إلى ذلك كتاب ( اللمع ) وهو يتفق مع كتاب ( مقالات الإسلاميين ) في صور الحجاج العقلي ، والحديث عن الصفات على غير مذهب أهل السنة ، ثم يأتي بعد ذلك كتاب ( الإبانة ) وهو نقض صريح لكل ما سبقه من كتب الأشعري إذ يعلن إعلانا صريحا غير خاف أو مُقنَّع ، أنه في هذا الكتاب قد رجع إلى أهل السنة واتخذ مذهب الإمام أحمد بن حنبل وهذا قول صريح .

لقد تشبث الأستاذ محب الدين بما جاء في كتاب ( الإبانة ) وعدة المرحلة النهائية التي رست عليها سفينة الأشعري ، وعنده أن مراحل تفكيره ثلاث ، هي المرحلة الاعتزالية التي بدأ بها تعليمه على يد أستاذه الجبائي ، ثم المرحلة الثانية التي تلت إعلانه عن مفارقة الاعتزال وفيها ألف كتبه التي أشرنا إليها من قبل ، ثم المرحلة الثالثة التي ألف فيها كتاب ( الإبانة ). هكذا قال الأستاذ محب الدين، وهو كلام قد يريح ، ولكنه غير مقنع ، لأننا نتطلب الدليل على أن كتاب

( الإبانة ) هو آخر ما ألفه الأشعري أبو الحسن ! وهذا ما لم يفت الأستاذ محب الدين ، فقد واصل البحث حتى اهتدى إلى أن الحافظ بن عساكر نقل عن الأشعري ثنبت مؤلفاته الذي أورده في كتاب ( العمد في الرؤية) ، وقد كتبه سنة 320هـ ، وليس في هذا الثبت كتاب ( الإبانة ) كما نقل الأستاذ محب الدين عن ( شذرات الذهب ) لابن العماد قوله : إن كتاب ( الإبانة ) آخر ما ألفه أبو الحسن ! فإذا كان كتاب الإبانة قد تأخر عما ذكر في ثبت مؤلفات الأشعرى من أمثال ( اللمع ) ، ( ومقالات الإسلاميين ) ، (واستحسان الوخض في علم الكلام ) وهو مخالف تمام المخالفة لاتجاه البحث الكلامي عند المعتزلة والأشاعرة معا فمعنى ذلك في وضوح ، أن الرجل المتأمل دائما في أحوال نفسه كما هو ديدنه من قبل قد وقف وقفة ثانية بعد وقفته الأولى التي أخرجته من الاعتزال ، وقف الرجل ثانية متأملا حقيقة أمره في ماضيه البعيد ، في ماضيه القريب ، فوجد أنه لم يسترح إلى كل ما صنع ، وأن الحق يوجب عليه أن يجهر بقوله الصريح في كتاب ( الإبانة ) . وأنقل للقارئ من كتاب ( الإبانة ) ما يؤكد هذا الاتجاه السلفي الحميد، حيث قال أبو الحسن الأشعري :

" إن كثيرا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ، ومن قضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ، ولا أوضح به برهانا ، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين ، ولا عن السلف المتقدمين ، فخالفوا رواية الصحابة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤيته بالأبصار ، وقد جاء في ذلك الروايات من الجهات المختلفات ، وتواترت الآثار ،وتتابعت الأخبار ، وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين ، وجحدوا عذاب القبر ، وأن الكفار في قبورهم يعذبون ، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ، ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا ( إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر:25].) وأثبتوا وأيقنوا أن العباد يخلقون الشر ، نظيرا لقول المجوس الذين يثبتون خالقين ، أحدهما للشر ، والآخر للخير، وزعموا أن الله عز وجل يشاء مالا يكون ، ويكون ما لا يشاء خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، وردا لقوله تعالى :(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الإنسان:30] ، وبعد إفاضة وافيه في ضلالات أهل هذه المذاهب ، قال أبو الحسن وهو ما أعنيه فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له : قولنا الذي نقول وديانتنا التي ندين ، بها هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، ومما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ، ورفع درجته وأعلى مثوبته ، لأنه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال ، وأوضح به المنهاج ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشك الشاكين ، رحمه الله تعالى من إمام مقدم ، وكبير مفهم، ورحمته على جميع أئمة المسلمين .

وإذا كان كتاب ( الإبانة ) قد أبان عن الوجهة الأخيرة للإمام الأشعري ، فليس لنا أن نعتبره إلا منتميا لمذهب أهل السنة والجماعة ولإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، وما بعد الشك إلا اليقين .

منقول

والسلام