المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مأســــاة طفلــــة خادمــة سقطــت مـن النافذة



القعقاع100
04-07-2003, 10:16 PM
مأســــاة طفلــــة خادمــة سقطــت مـن النافذة


بـــين تنكـــــر مشغلهــــــا وخـــــــوف أسرتهـــا
رحمة دندان فتاة في سن العاشرة ترقد على سرير وهي منهوكة القوى، لا يستطيع زوارها تمييز ملامح وجهها من شدة الانتفاخ والكدمات التي تعلوه، رجلها اليسرى مكسورة، ولا تقوى على الكلام إلا بشق الأنفس.

علامات استفهام كثيرة تفجرها حالة الخادمة الصغيرة، لماذا ترقد رحمة بالمستشفى؟ ومن هي الأيدي التي نسجت قصتها؟ وما حكايتها؟ وما سر سقوطها من نافذة شقة بعمارة؟

رحمة لم تدخل المدرسة قط، ولم تعش طفولتها كسائر الأطفال، مما حال دون التواصل الجيد معها، وهو ما دفعنا لبذل جهد كبير حتى نضبط أقوالها جيدا، حكت لنا ـ كما حكى والدها ـ بتفصيل عن حياتها وعن حادث سقوطها، وحاولنا الاتصال بمشغليها، فتحدث لنا السيد ''ح.ع'' ( مشغلها) عبر الهاتف، في حين تعذر علينا الاتصال بمشغلتها ''ربة البيت''، وهي المعنية الأولى بالاستطلاع الآتي:



كسور ورضوض على جسد نحيف

''رحمة'' فتاة بدوية من مدينة ''سوق الأربعاء''، قال والدها إن خالها أحضرها إلى مدينة تمارة لتشتغل خادمة، تحكي لنا قصة سقوطها من النافذة، فتقول وهي تقاوم آلامها الناتجة عن الكدمات والكسور التي تبدو على جسدها النحيف: ''في أحد الأيام تعبت من العمل، وتنظيف أرضية المنزل (يوجد في الطابق الثاني)، فنمت، وفي الصباح نهضت باكرا، وبدأت أنظف، فاستيقظت مشغلتي وهي ترغي وتزبد، ولامتني على عدم قيامي بهذا العمل بالأمس، ثم سحبتني من شعري وأخذت تضرب برأسي الجدار ولم ترحم صراخي، فانفلتت منها وقصدت النافذة لأستغيث بحارس العمارة، لكنها واصلت ضربي بعصا المكنسة، ودفعتني من النافذة فتعلقت بأسلاكها، فضربتني على يدي، ولم أشعر حينها حتى استفقت وأنا بالمستشفى''، وحاولنا التأكد من هذه المعلومات بإعادة السؤال على رحمة أكثر من مرة، فكانت تكرر: ''هي التي دفعتني''.

وقائع هذا الحادث تمت يوم 8 يونيو ,2003 يوم دخول ''رحمة'' إلى المستشفى، كما تبين ذلك شهادة طبية تثبت عجزها لمدة شهرين.

عند وجود رحمة بمستشفى الأطفال ترددت عليها الأسرة التي كانت تشتغل عندها، تقول رحمة: >سيدي كان يزورني ويقول لي، إذا سألك رجال الأمن قولي إنك أنت التي سقطت لوحدك''، غير أن رحمة أخبرتنا أنها صرحت للأمن بالحقيقة<، أي أن ''سيدتها'' هي التي أسقطتها. ويعلق السيد ''ح ـ ع'' على هذا الكلام بقوله: ''زوجتي أعرفها أكثر من أي أحد، فهي لا يمكن أن تفعل ذلك .. كيف يمكن ذلك.. فهي بمجرد أن ترى صرصورا (سراق الزيت) داخل البيت لا تنام، وهي لحد الآن ما تزال تعاني من صدمة ما حدث''، ويضيف: ''الفتاة تعيش كالأميرة، اشترينا لها ملابس وتفطر بـ''دانون''، وهل ستنعم بهذا الوضع عند رجوعها إلى البادية؟'' ويضيف مشغل الخادمة مستغربا: ''كيف يمكن أن تسقطها زوجتي وتضع لها الشكولاطة مع ملابسها''.



حكايات الضرب المتكرر

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها رحمة للاعتداء، فقد سبق لها أن زارت مركز أمن ''مارشي النوار''، حسب قول أبيها، وعن سبب هذه الزيارة تحكي لنا رحمة قائلة: ''في أحد الأيام غسلت زربية، فضربتني مشغلتي مدعية أني لم أتقن تنظيفها، وأعطتني نقودا لاقتناء بعض المواد من الدكان، فاستقللت حافلة ظننت أنها ستوصلني إلى بيتنا، ورجوت صاحب الحافلة أن يساعدني وبكيت بكاء مرا، فأخذني صاحب الحافلة إلى مركز الأمن، وهناك سألوني عن مكان عملي، فأخبرتهم، وأمضيت ليلة كاملة عندهم رفقة خادمتين، أفترش الأرض، وفي الصباح اتصلوا بالسيد الذي كنت أشتغل عنده فأتى ليصطحبني إلى بيته، واشترى لي مرهما لأعالج به الكدمات.

هكذا أمضت رحمة الليلة عند رجال الأمن تتقاسم همومها مع خادمات في مثل سنها يعانين ظلم النساء، إحداهن تبلغ من العمر 12 سنة، تحكي لنا عنها رحمة قائلة: ''كانت تشتغل عند سيدة عندما تشرب الخمر رفقة زوجها تبدأ في ضربها، إلى أن عضتها من كتفها، ولقد أرتني آثار العض، ففرت إلى مركز الأمن بعد أن خبأت ملابسها في القمامة''، وعند سؤالنا مشغل رحمة عن حكاية ذهابها عند رجال الأمن، أجاب: ''إن الأمر لا يعدو أن يكون فرارا بعد أن سرقت لزوجتي بعض المال والذهب، وبلغت الأمن عن فرارها، ووجدتها في حالة يرثى لها من شدة الجوع''. أما أبوها فحدثنا عن ذهابه إلى مركز الأمن السابق قائلا: ''ذهبت إلى مركز شرطة ''مارشي النوار'' فقالو لي إن ملف ابنتي قد نقل إلى مدينة تمارة''.



الأمن هو الذي أخبرني

عند سقوط رحمة والتحاقها بالمستشفى، اتصل أمن مدينة تمارة بأبيها فأخبره بما حدث لها، وبعد مجيء سليمان ـ وهو اسم والد الضحية للرباط ـ ذهب عند مشغل ابنته، فرافقه هذا الأخير للمستشفى، لأنه لم يكن يعرف حيث يتوجه، يقول سليمان:''عندما شاهدت ابنتي طلب مني مشغلها أن أبقيها عنده، ولما رفضت، عرض علي أن يكتري لها مكانا لتقيم فيه حتى تتعافى أو يلحقها ببيت والديه، مقنعا إياي أنه ما دام أخذها في حالة صحية جيدة فلن يرجعها إلي إلا كما كانت''.

ويتابع السيد سليمان: >أنا لا أفهم شيئا في القانون، فمشغلها هو الذي أخذني عند الأمن، ورافقني إلى المستشفى<.

ويعلق سليمان على واقعة سقوط ابنته قائلا: ''لقد دبرت مشغلتها حيلة عندما أسقطت ابنتي ورمت لها ثيابها، كي تقنع الأمن بأنها هي التي رمت بنفسها'' وعند استفسارنا السيد ''ح ـ ع'' قال: >فلتقل عائلة الخادمة ما أرادت، لقد ساومتنا كي نعطيها نقودا، لو كنا بالفعل ارتكبنا أخطاء، كان من الممكن أن ندفع المال لتصحيحها، فنحن لنا دراية بحقوق الطفل<.



رب البيت ينفي المعاناة

رحمة لم تنبس بكلمة سوء في حق مشغلها الذي كانت تشعر بالأمان إذا كان موجودا بالبيت، لكن ما أن يولي ظهره باب الشقة حتى تبدأ معاناة الطفلة، ويبدأ السب والقذف والضرب لأتفه الأسباب، ورحمة الصغيرة بكل قوتها، التي تخار لبعض الوقت، تحت تأثير الألم، حاولت أن تصف لنا يوما واحدا من أيام الجحيم الذي تعددت صوره وانعكاساته النفسية، فقالت بصوتها المبحوح: >تطلب مني سيدتي أن أهيء حليب الطفلة، وقد أكون مشغولة بعمل آخر، فأقول لها سأفعل بعدما أنتهي مما بيدي، لكنها تعتبر هذا الكلام تمردا وعصيانا، فتقوم نحوي وتهوي علي بالضرب واللكمات''.

رحمة الخادمة التي دفعتها الفاقة وقلة ذات اليد لدى الأسرة ـ المتكونة من ثمانية أفراد ـ إلى أن تتنكر لطفولتها قهرا، وتلتحق بالمدينة لتعمل، وتتحمل مسؤولية البيت وربته وابنتها البالغة من العمر خمسة أشهر، لينعم الجميع بالراحة، باتت تخشى أي خطإ مهما كان صغيرا أو تافها لأنه سيجعلها عرضة للتأنيب والتوبيخ والرفس، وعجيبة هي الطريقة التي تحكي بها الصغيرة عن مشغلها، الذي ـ وكما أسلفنا الذكر ـ تشعر إلى جانبه بالحنان، فبوجوده تأكل رحمة جيدا وتنام جيدا وفي مكان جيد، وعند غيابه تنام في المطبخ على سرير من ''البونج''. فوجود رب الأسرة يجعلها تشعر بالراحة والأمان وعند غيابه تنقلب حياة رحمة إلى ''جحيم'' حسب تعبيرها. يقول السيد ''ح ـ ع'' عن الوضعية التي كانت عليها رحمة بالبيت: ''لقد زار رجال الأمن البيت، ودخلوا غرفة نوم رحمة الخاصة، ووجدوا بها تلفازا، وآلة التسجيل، إنها تتوفر على مستلزمات العيش الكريم، التي قد لا تجدها في مكان آخر وهي البدوية''.

وعن المعاملة السيئة التي أكدت رحمة أنها تتعرض لها عند غياب مشغلها، يؤكد هذا الأخير قائلا: ''إنني آتي البيت دائما بدون سابق إخبار، وأجد الوضع عاديا، كما أن هذه الفتاة جئنا بها لتؤنس زوجتي فقط، ولكي تقوم ببعض الخدمات البسيطة، وبعد الحادث التي تعرضت له رحمة ـ يضيف المشغل ـ اشتغلت عندنا أربع خادمات، لكن بعض تصرفاتهن لم تعجنبي''.



منع من المغادرة رغم الإصرار

عندما أمضت رحمة شهرين من العمل، أتى أبوها لزيارتها، فالتصقت رحمة بثيابه ـ كما صرحت لنا ـ غير أن مشغلها انتزعها من أبيها انتزاعا وقال لها:'' إذا أردت أن تذهبي لمنزلكم، فأنا الذي سأوصلك، وليس أبوك''.

ويحكي لنا والد الطفلة عن هذه الزيارة بقوله: ''بعد مرور شهرين ذهبت لزيارة ابنتي، فأعطاني مشغلها 500 درهم مقابل شهرين من العمل، وأخبرني أن ابنتي أسقطت ''ميزان الحرارة'' وكسرته، وعندما هممت بالمغادرة أخذت ابنتي تلتصق بي وتبكي كي ترافقني، وتقبل يدي مشغلها، فكان جواب هذا الأخير: ''إلى ما بغيتيش تحشمي انديك انت واباك للحبس''، ويتابع أبو رحمة قوله: ''خفت منه لأنه يشتغل مع ''المخزن''، وأنا رجل بدوي لا أفهم شيئا، فانصرفت لحال سبيلي''.

هذا غير صحيح، هذا كذب.. بهذا الكلام المرفق بالقهقهات، علق السيد >ح ـ ع< على هذا القول، ثم قال: >عندما تخطئ ''رحمة'' في البيت، أصرخ في وجهها لكي لا تكرر الخطأ مرة أخرى<، وأما عن تسليم الطفلة يقول''ح ـ ع'': ''اتفقت مع أب الخادمة أن يعود لأخذ ابنته بعد أسبوع، لأننا سنسافر، غير أن الوقت الذي كنا ننتظر فيه قدوم والدها وقع الحادث''.



توبة عن عمل الخادمات

معاناة رحمة مع رحلتها القصيرة في عالم الاشتغال خادمة في البيوت جعلها تقرر الانقطاع عن هذا العالم الذي خرجت منه مكسورة الخاطر والأطراف، وأن لا تلج بيتا آخر طلبا للمال، وتتذكر رحمة، وهي الآن ما تزال طريحة الفراش، تلك السيدة التي دشنت في بيتها أول لقاء لها مع عالم الخادمات، تلك السيدة التي قالت عنها رحمة إنها لا تشبه مشغلتها الحالية، بل كانت لطيفة معها، لأنها كانت تعاملها كابنتها، وتشاركها الأكل، وتشتري لها لباسا كالذي يرتديه أبناؤها، وتشتري لها ـ تضيف رحمة ـ ''دانون'' دون تمييز بينها وبين أطفالها، وتعاملها كما لو كانت أما لها، غير أن زيارتها لوالديها بالبادية مع اقتراب العيد جعلت تلك السيدة تبحث لها عن خادمة أخرى.

هذه حكاية خادمة تنضاف إلى مئات من حكايات المعاناة التي تعرفها البيوت المغربية، فمنها ما يشق طريقها إلى العدالة، ومنها ما يبقى حبيس الأنفس والصدور، ولو افترضنا أن رحمة قد سقطت لوحدها من النافذة، فإنها ما تزال مجرد طفلة، والأكيد أن وراء قصة سقوطها ألغازا تحتاج إلى دراسات نفسية واجتماعية لكشفها، وإن كانت مشغلتها هي التي فعلت، فالعدالة ستقول كلمتها لا محالة.

خديجة عليموسى