المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العشق ..حقيقته.خطره. أسبابه.علاجه



عز()وز
13-07-2003, 01:38 AM
قال ابن فارس - رحمه الله - في مادة عشق: " العين، والشين، والقاف أصل صحيح يدل على تجاوز حدِّ المحبة.
تقول: عَشِقَ يَعْشَق، عِشْقاً وعَشَقاً ".
وقال ابن منظور - رحمه الله -: " العشق فرط الحب، وقيل: هو عُجْبُ المحبِّ بالمحبوب يكون في عفاف الحبِّ، ودعارته، عَشِقه يَعْشَقه عِشْقاً، وعَشَقاً، وتعشَّقه.
وقيل: التَّعَشُّقُ تكلُّف العشق، وقيل: العِشْق الاسم، والعَشَق المصدر ".
وقال: " ورجل عاشق من قوم عُشَّاق، وعِشِّيق مثال فسِّيق كثير العِشق، وامرأة عاشق بغير هاء وعاشقة.
والعَشَقُ، والعسق بالشين، والسين المهملة: اللزوم للشيء لا يفارقه.
ولذلك قيل لِلْكَلِف: عاشق; للزوم هواه ".
وقال: " وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن الحب والعشق أيهما أحمد?
فقال: الحبُّ; لأن العشق فيه إفراط، وسمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدة الهوى كما تذبل العَشَقَةُ إذا قطعت.
والعَشَقَةُ شجرة تَخْضَرُّ، ثم تَدِقُّ، وتَصْفَرُّ ".
وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: " سئل بعض الحكماء عن العشق، فقال: شغل قلب فارغ ".
وقال أفلاطون: " العشق حركة النفس الفارغة ".
وقال أرسطو: " العشق جهل عارض صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل، والمعرفة; فإن العاشق يُخَيَّل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبَه ما يصيبُه من داء العشق ".

من أسماء العشق:
هناك أسماء عديدة ترادف العشق، وتدل عليه، ويعبر بها عنه، وإن كان هناك فروق دقيقة يختص بها كل اسم على حدة.
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في كتابه روضة المحبين خمسين اسماً للعشق، وهي:
" المحبة، والعلاقة، والهوى، والصَّبْوة، والصبابة، والشَّغف، والمِقَة، والوَجْد، والكَلَف، والتَّتَيُّم، والعِشْق، والجوى، والدَّنَف، والشَّجو، والشَّوق، والخلابة، والبلابل، والتباريح، والسَّدم، والغَمرات، والوَهَل، والشَّجَن، واللاعج، والاكتئاب، والوصب، والحُزْن، والكَمَد، واللَّذْع، والحُرَق، والسُّهْد، والأرَق، واللَّهف، والحنين، والاستكانة، والتَّبالة، واللوعة، والفُتون، والجُنون، واللَّمم، والخَبل، والرَّسيس، والداء المخامر، والود، والخُلَّة، والخِلْم، والغرام، والهُيام، والتّدْليه، والوَله، والتَّعَبُّد ".
ثم شرع - رحمه الله - في شرح كل اسم على حدة.
ولما وصل إلى اسم العشق، قال: " وأما العشق فهو أمرُّ هذه الأسماء، وأخبثها، وقلَّما ولعت به العرب، وكأنهم ستروا اسمه وكَنَّوا عنه بهذه الأسماء، فلم يكادوا يفصحون به، ولا تكاد تجده في شعرهم القديم، وإنما أولع به المتأخرون، ولم يقع هذا اللفظ في القرآن، ولا في السنة إلا في حديث سويد بن سعيد ".
أنواع العشق
العشق يقع بين طرفين: عاشقٍ ومعشوق، وقد يكون كلُّ واحدٍ منهما عاشقاً لصاحبه، وقد يكون العشق من أحد الطرفين دون الآخر.
وأنواع العشق التي تقع لا تكاد تخرج عن أربعة أنواع وهي:
1 - عشق الرجال للنساء: وهذا هو الأعم، والأغلب، وإذا ذكر العشق انصرف إلى هذا النوع.
2 - عشق النساء للرجال: وهذا النوع يقع، ولكنه دون الأول; إذ النساء وصفهن الحياء، والتخفُّر، والتمنُّع.
3 - عشق الرجال للرجال: وهذا يقع كثيراً، ولكنه شذوذ، وانحراف، وارتكاس، كحال من يَتَعَشَّق المردان، ويتعلق بهم.
4 - عشق النساء للنساء: وهذا لم يكن يعرف في السابق إلا على وجه الندرة النادرة، ولكنه شاع، وانتشر في هذا العصر الذي فتحت فيه الأبواب على مصاريعها; فأصحبتَ تسمع أن هذه الفتاة تعلقت بزميلتها وعشقتها، وتلك أخرى قد هامت بمعلمتها وشغفت بها، وثالثة متيمة بتلميذتها مستهامة بها، وهكذا دواليك.
فتجد الواحدة تَكْلَف بمن تحبها غايةَ الكلَف، وتراعيها أشد المراعاة، وتتمنى الظفر منها بابتسامة، أو نظرة، أو محادثة.
وتجدها تؤمل بالحصول على هدية منها، أو تتمنى لو ظفرت بشيء من مقتنياتها، بل ربما تعمدت الجلوس في مكانها إذا قامت منه، وتسارع إلى المرور في الطريق الذي مرّت به.
والأخبار والوقائع في هذا الباب يطول ذكرها، ويصعب حصرها.
والحديث في هذا الكتاب يتناول هذه الأنواع كلها.
خطر العشق وضرره
العشق مسلك خطر، وموطئ زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها.
وأهل العشق من أشقى الناس، وأذلِّهم، وأشغلهم، وأبعدهم عن ربهم.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: " فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم، وفساد الدين والخلق، والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود.
وأصدقُ شاهدٍ على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم، وسماع أخبار الناس في ذلك; فهو يغني عن معاينة ذلك وتجربته، ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية; فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته ".
وقال - رحمه الله -: " وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى; فدوام تعلق القلب بها أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب، ويزول أثره من قلبه.
وهؤلاء يُشَبَّهون بالسكارى والمجانين كما قيل:

سكْران: سُكْرُ هوىً وسُكر مدامةٍ ومتى إفاقةُ مَنْ به سكــران

وقيل:

قالو: جننت بمن تهوى فقلت لهم: العشق أعظم مما بالمجانيــن
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يُصْرَعُ المجنونُ في حين

وقال - رحمه الله - متحدثاً عن حقيقة العشق: " قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة; فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق.
ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة ".
وقال: " وقيل: إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب; فإذا أفرط فيه كان مذموماً فاسداً مفسداً للقلب والجسم ".
ولقد تظاهرت أقوال أهل العلم، والشعراء، والأدباء، ومَنْ وقعوا في العشق في بيان خطورته، وعظيم ضرره.
" قالوا: وإذا اقتحم العبد بحر العشق، ولعبت به أمواجه - فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة " .
وقال بعض الحكماء: " الجنون فنون، والعشق من فنونه ".
وقالوا: وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله، وعرضه، ونفسه، وضَ-يَّع أهله، ومصالحَ دينِه ودنياه ".
وقالوا: " والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح، ولا يقع مع الارتياح، بل هو بحر من ركبه غرق; فإنه لا ساحل له، ولا نجاة منه ".
* قال أحدهم:

العشق مشغلةٌ عن كل صالحةٍ وسكرةُ العشق تنفي لذة الوسنِ

* وقال أبو تمام:

أما الهوى فهو العذاب فإن جرت فيه النوى فأليم كـل عذاب

* وقال ابن أبي حصينة مبيناً ضرر العشق، غابطاً مَنْ لم يقع في أشراكه:

والعشق يجتذب النفوس إلى الردى بالطبع واحَسَدِي لمن لم يعشقِ

* وقال عبد المحسن الصوري:

ما الحب إلا مسلك خطر عسر النجاة وموطئٌ زَلَقُ

قالوا: " والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً ".
قالوا: " ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص، ولات حين مناص ".
قال الخرائطي: أنشدني أبو جعفر العبدي:

إنِ الله نجاني من الحب لم أعُدْ إليه ولــم أقبل مقالة عاذلــي
ومن لي بمنجاةٍ من الحب بعد ما رمتني دواعي الحبِّ بين الحبائل

وقال منصور النمري:

وإنَّ امرءاً أودى الغرام بُلُبِّه لعريانُ من ثوب الفلاحِ سليبُ

قال ابن القيم - رحمه الله - مبيناً خطر العشق على الدين: " ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد.
وكلما كان أكثر إخلاصاً، وأشدّ توحيداً كان أبعد من عشق الصور.
ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق; لشركها، ونجا منه يوسف الصديق - عليه السلام - بإخلاصه.
قال - تعالى -: ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) [يوسف: 24].
فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا; فالمخلص قد خَلُص حُبُّه الله، فخلَّصه الله من فتنة عشق الصور، والمشرك قلبه متعلق بغير الله، فلم يخلص توحيده وحبه الله - عز وجل – ".



وقال - رحمه الله - في موضع آخر: " وهذا داء أعيا الأطباء دواؤه، وعزَّ عليهم شفاؤه، وهو - لعمر الله - الداء العضال، والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعزَّ على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره إلا وصعب على الخلق تخليصه من ناره.
وهو أقسام; تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه ندَّاً يحبه كما يحب الله; فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه? فهذا عشق لا يغفر لصاحبه; فإنه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك.
وعلامة العشق الشركي الكفري أن يقدم رضا معشوقه على رضا ربه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه، وحظُّه، وحقُّ ربه وطاعتُه - قدَّم حقَّ معشوقه على حقِّ ربه، وآثر رضاه على رضاه، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه - إن بذل - أردأ ما عنده، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه، وجعل لربه - إن أطاعه - الفضْلَة التي تفْضُل عن معشوقه من ساعاته; فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله ورسوله ويطابق العدل " .
وقال - رحمه الله - متحدثاً عن أضرار العشق: " قالوا: وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّت من نقمة، وكم أنزلت من معْقل عزِّهِ عزيزاً فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلّت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء; فقلَّ أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طُروق بلية، أو حدوث رزية; فلو سألت النِّعم ما الذي أزالك? والنِّقم ما الذي أدالك? والهمومَ والأحزان ما الذي جلبك? والعافية ما الذي أبعدك وجنَّبك? والستر ما الذي كشفك? والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك? والحياة ما الذي كدَّرك? وشمس الإيمان ما الذي كوَّرك? وعزة النفس ما الذي أذلَّك? وبالهوان بعد الإكرام بدَّلك - لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً.
هذه - والله - بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ".
وقال - رحمه الله - في موضع آخر متحدثاً عن مكايد الشيطان ومصايده: " ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور.
وتلك - لعمر الله - الفتنة الكبرى، والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاَّقها، وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيَّرت القلب للهوى أسيراً، وجعلته عليه حاكماً وأميراً، فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي في غرف الجنان، فضلاً عمّا هو فوق ذلك من القرب من الرحمن; فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألَمُها به أضعاف لذتها، ونيلُه والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها; فما أوْشَكَهُ حبيباً يستحيل عدواً عن قريب، ويتبرأ منه مُحِبُّه لو أمكنه حتى كأن لم يكن له حبيب، وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لا سيما إذا صار ( الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ) إلى أن قال - رحمه الله -: " فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة ذهبت لذتها، وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها; فذهبت الشهوة، وبقيت الشقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة; فوارحمتاه لصبٍّ جُمع له بين الحسرتين: حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم.
فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن مَنْ كان يملك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع; فأي مصيبة أعظم من مصيبة مَلِكٍ أُنزل عن سرير ملكه، وجُعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكَه أسيراً، وجُعل تحت أوامره ونواهيه مقهوراً? فلو رأيته وهو في يد محبوبه لرأيته:

كعصفورة في كف طفلٍ يسومها حياض الردى والطفل يلهو ويلعب

ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت:

وما في الأرض أشقى من محـبٍّ وإن وجد الهوى حُلْوَ المـذاقِ
تراه باكياً فـي كـل حيـــن مخافـةَ فرقـةٍ أو لاشتيــاقِ
فيبكـي إن نـأوا شـوقاً إليهــم ويبكي إن دنوا حذرَ الفـراقِ

ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا أنْ ليس يلتقيان، ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت:

سبحان ربِّ العرش مُتقنِ صُنْعه ومؤلِّفِ الأضداد دون تعاند
قطر تولَّد عـن لهيب فـي الحشا ماء ونـارٌ في محل واحـد

ولو شاهدت مسلك الحبِّ في القلب، وتغلغله فيه - لعلمت أن الحب ألطف مسلكاً فيه من الأرواح في أبدانها.
فهل يليق بعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب? ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه، ولا بد له منه - أعظم الحجاب?
فالمحب بمن أحبه قتيل، وهو له عبد خاضع ذليل، إن دعاه لَبَّاه، وإن قيل له: ما تتمنى? فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس، ولا يسكن إلى سواه; فحقيق به ألا يُمَلِّك رقَّه إلا لأجلِّ حبيب، وألا يبيع نصيبه منه بأبخس نصيب ".

ومن الأضرار الناجمة عن العشق - الظلم; " فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم، وربما كان أعظم ضرراً على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله; فإنه يعرض المعشوق - بهتكه في عشقه - إلى وقوع الناس فيه، وانقسامهم إلى مصدق ومكذب، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة، وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو فلانة كذَّبه واحد، وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعون ".
ومن أنواع الظلم في هذا الباب - أيضاً -: أن في إظهار المبتلى عشقَ مَنْ لا يحل له الاتصال به مِنْ ظلمه وأذاه - ما هو عدوان عليه، وعلى أهله، وتعريضه لتصديق كثيرٍ من الناس ظنونَهم فيه.
فإن استعان عليه بمن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم، وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديُّوثاً ظالماً، وكفى بالدياثة إثماً، فيتساعد العاشق والديوث على ظلم المعشوق، وظلم غيره ممن يتوقف حصول غرضه على ظلمه في نفس، أو مال، أو عِرْض; فكثيراً ما يتوقف المطلوب فيه على قتل نفس تكون حياتُها مانعةً من غرضه، وكم من قتيل أُهدِرَ دَمُهُ بهذا السبب من زوج، وسيد، وقريب، وكم أُفسِدَت امرأة على بعلها; فإذا كان للمعشوق زوج تضاعف الأذى وازداد; فظلم الزوج بإفساد حبيبه، والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله; ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله، ولا يعدل ذلك عنه حتى سفك دمه.
فإن كان ذلك حقَّاً لغازٍ في سبيل الله وُقِفَ له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: " خذ من حسناته ".
كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فما ظنكم? ".
أي: فما تظنون يبقي له من حسناته?
فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جاراً، أو ذا رحم محرَّم - تعدد الظلم، فصار ظلماً مؤكِّداً لقطيعة الرحم، وأذى الجار.
فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين من الجن - إما بسحر، أو استخدام، أو نحو ذلك - ضَمَّ إلى الشركِ والظلمِ كُفْرَ السحر.
فإن لم يفعله هو، ورضي به - كان راضياً بالكفر، غير كاره لحصول مقصده به، وهذا ليس ببعيد عن الكفر.
والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان.
وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه بمعاونته على الفاحشة، وظلمه لنفسه - ما فيه، وكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه، وظلمهما مُتَعدٍّ إلى غيرهما كما تقدم.
ثم إن المعشوق قد يُعرِّض العاشق للتلف; حيث يطمعه في نفسه، ويتزين له، ويستميله بكل طريق; حتى يستخرج منه ماله، ونفعه.
والعاشق ربما قتل معشوقه; ليشفي نفسه منه، ولا سيما إذا ج-اد بالوصال لغيره.
فكم للعشق من قتيل من الجانبين، وكم أزال من نعمة، وأفقر من غنى، وأسقط من مرتبة، وشتَّت من شمل.
وكم أفسد من أهل للرجل وولده; فإن المرأة إذا رأت زوجها عاشقاً لغيرها - ربما قادها ذلك إلى اتخاذ معشوق لها; فيصير الرجل متردداً بين خراب بيته بالطلاق وبين أن يرضى بالدياثة والخنا في أهله.
يقول ابن حزم - رحمه الله -: " وكم مصون الستر، مسبل القناع، مسدول الغطاء، قد كشف الحبُّ ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه، فصار بعد الصيانة عَلَماً، وبعد السكون مثلاً ".
ومن الأضرار التي يجرها العشق فاحشتي الزنا إن كان المعشوق امرأة، واللواط إن كان المعشوق رجلاً; فالعشق سبيل إليهما، وكثيرًا ما يقترن بتلك الفاحشتين العظيمتين اللتين لا يخفى ضررهما على دين الإنسان، وعقله، وماله، وخلقه، وصحته.
قال ابن القيم - رحمه الله - متحدثاً عن تلك الفاحشتين: " فليس في الذنوب أفسد للقلب، والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصِّيَّة في تبيعد القلب من الله; فإنهما من أعظم الخبائث; فإذا انصبغ القلب بهما بَعُد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثاً ازداد من الله بُعدًا ".
وقال - رحمه الله - مبيِّناً أضرار اللواط: " فإنه يحدث الهم، والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.
وأيضًا فإنه يسوِّد الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة.
وأيضاً فإنه يوجب النفرة، والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.
وأيضاً فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدهما كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضاً، وتلاعناً.
وأيضاً فإنه من أكبر زوال النعم، وحلول النِّقَم; فإنه يوجب اللعن، والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه; فأيُّ خير يرجوه بعد هذا? وأي شرٍّ يأمنه? وكيف حياةُ عبدٍ حلَّت عليه لعنة الله، ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه.
وأيضاً فإنه يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب; فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده.
وأيضًا فإنه يُحيل الطباع عمَّا ركَّبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيب حينئذٍ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله، وعمله، وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً فإنه يورث من الوقاحة، والجرأة ما لا يورثه سواه.
وأيضاً فإنه يورث من المهانة، والسِّفال، والحقارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً فإنه يكسو العبد من حلة المقت، والبغضاء وازدراء الناس، واحتقارهم إيّاه، واستصغارهم له - ما هو مشاهد بالحس ".
ولقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن لهذه الفعلة أضراراً كثيرة على نفوس مرتكبيها، وعقولهم، وأبدانهم; فمما تسببه هذه الفعلة القبيحة كثرة الوساوس والأوهام، وربما أصيب صاحبه بمرض الهوس الجنسي الذي يجعل صاحبه الشهواني مشغولاً بتخيلات شهوانية غريزية.
ومن أضرارها التأثير على الأعصاب، والمخ، وأعضاء التناسل، والدوسنتاريا، والتهاب الكبد الفيروسي.
بل كثيراً ما يؤدي إلى أمراض الشذوذ الخطيرة كالزهرى، والسيلان، والهربس، والإيدز، بل هو على رأس الأسباب المؤدية لتلك الأمراض.
وأكثر هذه الأضرار يشترك فيها الزنا مع اللوط.
ثم إن الزنا فساد كبير، وشر مستطير، وله آثاره الكبيرة، وتنجم عنه أضرار كثيرة، سواء على مرتكبيه، أو على الأمة بعامة; فالزنا يجمع خلال الشرِّ كلها من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، ووأد الفضيلة.
والزنا سبب للفقر، ولذهاب حرمة فاعله، وسقوطه من عين ربه، وأعين عباده.
والزنا يسلب صاحبه اسم البرِّ، والعفيف، والعدل، ويعطيه اسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن.
ومن أضرار الزنا الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه; فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنْس، ومن جالسه استأنس به، والزاني بالعكس من ذلك تماماً.
ومن أضراره ضيقة الصدر، وحرجُه; فإن الزناة يعاملون بضد مقاصدهم، فإن من طلب لذة العيش، وطيبه بمعصية الله عاقبه الله بنقيض قصده; فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سببًا إلى خير قط.
ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة، والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعافُ أضعافِ ما حصل له.
والزنا يجرئ على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة المال، والأهل، والعيال.
والزنا يذهب بكرامة الفتاة، ويكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها; حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، وتنكِّس به رؤوسهم بين الخلائق.
وإذا حملت المرأة من الزنا، فقتلت ولدها جمعت بين الزنا، والقتل.
وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها، وأهله أجنبياً ليس منهم، فورثهم، ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم، وهو ليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها.
والزنا جناية على الولد; فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المُخَلَّقة منها مقطوعة النسب إلى الآباء.
والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون، والتعاضد; فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلت به نعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه.
كذلك في الزنا جناية على الولد، وتعريض به لأن يعيش وضيعاً بين الأمة، مدحوراً من كل جانب; فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طباعهم، ولا يرون له من الهيئة الإجتماعية اعتباراً; فما ذنب هذا المسكين? وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير?
فهذا نزر يسير من أضرار الزنا تلك الجريمة التي يجر إليها العشق.
فكل هذه الآفات، وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور، وتحمل على الكفر الصريح; فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها.
أسباب العشق
وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، وقبل الدخول في الحديث عن وجوب التوبة منه، وذكر الأسباب المعينة على ذلك - لابدّ من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له; ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته; فهناك أسباب تثير العشق، وتبعث-ه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجرّ إليه جراً.
وفيما يلي ذكر لبعض تلك الأسباب:
1 - الإعراض عن الله - عز وجل -: ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله - عز وجل - جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.
2 - الجهل بأضرار العشق: وقد مرَّ شيء من أضراره; فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.
3 - الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.
قال ابن عقيل - رحمه الله -: " وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة; فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية? ".
وقال ابن عبد البر - رحمه الله -: " سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: " شُغل قلب فارغ ".
وقال أفلاطون: " العشق حركة النفس الفارغة ".
وقال أرسطو: " العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة ".
وقال غيره: " هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة ".
ومن الفراغ - أيضاً - فراغ القلب من محبة الله - عز وجل -.
قال ابن القيم - رحمه الله - : " وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله - تعالى - المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه; فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ".
وقال: " ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته، وفراغه; فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد ".
4 - وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة; فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلى الهاوية إذا هي انحرفت; فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.
وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح.
وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية; حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منواله.
وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية; فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة.
5 - التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق.
وربما رأى من حوله يبثُّون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة; فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمَضَّه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.
وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعزّ خلاصه، ويصعب استنقاذه.
* ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:

أول العشق مـزاحٌ وولـع ثـم يزداد فيزداد الطمـع
كل من يهوى وإن عالت به رُتبةُ الملكِ لمن يهوى تبع

* وقيل:

تولع بالعشق حتى عشق فلما استقلَّ به لم يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنها موجةً فلما تمكَّن منها غرق
ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره فلم يستطعها ولم يستفق

6 - الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه; حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادرًا في غيّه، لا يكاد يفيق من سكره.
فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم، ونحو ذلك.
ومن لم يعشق، ويحبَّ ذلك الحبَّ فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجردٌ من الفضائل، كما قال قائلهم:

إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى فكن حجراً من جامد الصخر جلمدا

* وكما قال الآخر:

إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى فأنت وعَيْرٌ في الفلاة سواءُ

* وكما قال الآخر:

إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى فمالك في طيب الحياة نصيبُ

ولا ريب أن المتجرد في عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.
ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زواية حُبِّ الصور المحرمة - جهل وانحراف; ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعمّ، وصوره أشمل.
وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها; فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وحب الطبيعة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.
ولهذا يجد أهل العلم من اللذة في العلم، ما لا يحاط به، أو يقدر على وصفه.
يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - مبينًا عظيم اغتباطه بالعلم، ولذته، وفرحه به:

سهري لتنقيح العلوم ألـذُّ لـي من وصْلِ غانيةٍ وطيب عناقِ
وصرير أقلامي على صفحاتها أحلى من الدوكاء والعشــاق
وألـذُّ مـن نـقر الفتاة لـدفِّها نقريْ لألقيْ الرمل عن أوراقي
وتمايلي طربـاً لـحلِّ عويصةٍ في الدرس أشهى من مدامة ساقي
وأبيت سهران الـدُّجـى وتبيته نومـاً وتبغي بعد ذاك لحـافي

بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله - عز وجل - فهو أصل المحابِّ المحمودة، بل كل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.
قال ابن القيم - رحمه الله - : " فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله - تعالى - واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله - تعالى - أو تنقصها; فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق.
فمحبة الله - عز وجل - أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها ".
وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله - عز وجل -: " ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها الله - تعالى - وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه; فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.
فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له; فهذا الحب - وإن سمي عشقاً - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله; فلا يحب إلا الله ".
ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ".
قال ابن القيم - رحمه الله - عن هذا الحديث: " فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت الله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مضعفة لها.
وتَصْدُق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة; فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر - كان الله أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهرًا وباطناً.
وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان ".
وقال - رحمه الله -: " والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع:
أحدها: محبة القرآن; بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم - سبحانه - منه.
وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه; فمن أحب محبوباً أحب كلامه ".
وقال: " وكذلك محبة ذكره - سبحانه وتعالى - من علامة محبته; فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه; فيحتاج إلى من يذكِّره.
وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه; فَعِشْقُ ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق.
وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق.
ولو صُوِّر العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر.
ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية.
فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقَدْرَه فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة ".
وصدق من قال:

ونفاسة الأِشياء في غاياتها فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا



7 - الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق: فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخُّص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق، أو بحجة أن للعشق بعضَ الفضائل; حيث ذَكَرَ بعضُهم أنه يزيد في رقة الطبع، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحَمْلِها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر.
ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته.
والجواب عما مضى: أن تلك الإيراداتِ والأقوالَ لا تقوم بها حجة; فالقول بإباحته، ونَقْلُ ذلك عن السلف قول غير مقبول; لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقولٍ لا تصح، أو نقولٍ لا تدل على ما ذهبوا إليه.
قال ابن القيم - رحمه الله - في شأن تلك النقول: " وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاث أقسام:
أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها.
والثاني: نقول كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه.
والثالث: نقول مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه ".
ثم شرع - رحمه الله - في تفصيل ذلك.
* وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني - رحمه الله - مسألة عن العشق، وحُكْمِ مواصلة العاشق للمعشوق، وكان السؤال شعرًا مكتوباً في رقعة، فأجابه أبو الخطاب قائلاً:

يا أيها الشيخ الأديب الذي قد فاق أهل العصر في شعره

ثم قال:

من فارق الفتنة ثم ادعى الـ ـعصمة قد نافق في أمره
ولا يجيز الشرعُ أسباب مـا يـورِّط المسلم في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى عساك أن تسلم مـن شره
هـذا جواب الكلـوذانيِّ قـد جاءك يرجو الله في أجره


* وسئل ابن الجوزي - رحمه الله - بأبيات عن جواز العشق مطلعها:

يا أيها العالم ماذا ترى في عاشق ذاب من الوجد

فأجابه ابن الجوزي قائلاً:

ياذا الذي ذاب مـن الوجـد وظلَّ في ضر وفي جهد
اسمه فدتك النفس من ناصح بنصحه يهدي إلى الرشد

إلى أن قال:

وكـل مــا تذكـر مستفتياً حـرمـه الله عـلى العبـد
إلا مــا حـلَّـلـه ربـنـا فـي الشرع بالإبرام والعقد
فَعَدِّ مِنْ طُرْق الهوى معرضاً وقـف بباب الواحـد الـفرد
وسلْـه يشفيك ولا يبتـلـي قلبك بـالـتعذيـب والصـد
وعَـفَّ في الـعشق ولا تُبْدِهِ واصبر وكـاتـم غاية الجهد
فإن تمت محتسباً صابـراً تفز غــداً فـي جنة الخلـد

وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم - فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارئ على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه.
بل إن ابن حزم - رحمه الله - لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: "وأنا أستغفر الله - تعالى - مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه - استغفارَ مَنْ يعلم أن كلامه من عمله.
ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو - إن شاء الله - من اللمم المعفو ".
* وقال - رحمه الله - على سبيل الوعظ:

رأيت الهوى سهل المبادي لذيذَهـا وعقباه مرّ الطعم ضَنْك المسالك
ومن عرف الرحمن لم يعصِ أمرَه ولـو أنـه يعطى جميع الممالك

وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور.
وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه; إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به.
وليس في ذلك حجة لمن أراد أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به.
وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة.
ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أرْبَتْ على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه - فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه.
وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: "من عشق، فعف، وكتم،وصبر، ثم مات كان شهيداً " .
وهذا الحديث باطل موضوع كما بيَّن ذلك العلماء.



8 - التهتك والتبرج والسفور: فذلك من أعظم محركات العشق; فهو سبب للنظرات الغادرة، التي تعمل عملها في القلب.
9 - إطلاق البصر: فبداية العشق في الأغلب تكون عند النظر إلى المحاسن; فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب; فإذا أطلق الإنسان بصره أطلق القلب شهوته، ومن أطلق بصره دامت حسرته; فأضر شيء على القلب إرسال البصر; فإنه يريه ما يشتد طلبه له، ولا صبر له عنه، ولا سبيل إلى الوصول إليه، وذلك غاية ألمه، وعذابه.
ثم إن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس - كما جاء في الحديث - وشأن السهم أن يسري في القلب، فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم، فإن بادر، واستفرغه، وإلا قتله ولابد.
وكذلك النظرة فإنها تفعل في القلب ما يفعله السهم في الرمية; فإن لم تقتله جرحته.
والنظرة بمنزلة الشرارة التي ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:

كل الحوادث مبداها مـن النظـر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بـلا قوس ولا وتـر
والمرء مـا دام ذا عين يقلبهـا في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته مـا ضـر مهجتـه لا مرحباً بسرور عـاد بـالضرر

والناظر يرمي من نظره بسهام غَرضُها قلبه وهو لا يشعر، قال الفرزدق:

تزوَّد منها نظرة لم تدع له فؤاداً ولم يشعر بما قد تزوَّدا
فلم أرَ مقتولاً ولم أرَ قاتـلاً بغير سلاح مثلها حين أقْصَدا

* وقال آخر:

ومن كان يؤتى من عدوٍّ وحاسد فإني من عيني أُتيتُ ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكـرة فما أبقيا لـي من رقادٍ ولا لُبِّ

* وقال المتنبي:

وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه فَمَنِ المطالَبُ والقتيلُ القاتلُ

قال ابن القيم - رحمه الله - : " ولما كان النظر أقرب الوسائل إلى المحرم اقتضت الشريعة تحريمه، وأباحته في موضع الحاجة.
وهذا شأن كل ما حُرِّم تحريم الوسائل; فإنه يباح للمصلحة الراجحة ".
قال جرير بن عبد الله - رضي الله عنهما - : "سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري".
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ونظر الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصد; فما لم يتَعَمَّده القلب لا يعاقَب عليه; فإذا نظر الثانية تَعَمُّداً أثم; فأمره النبي – صلى الله عليه وسلم - عند نظر الفجأة أن يصرف بصره، ولا يستديم النظر; فإن استدامته كتكريره ".
10 - المعاكسات الهاتفية: فهي من أعظم ما يجر إلى العشق; فقد تكون الفتاة حَصَانًا رزاناً لا تُزْنُّ بريبة، ولا تحوم حولها شبهة، وهي من بيت طهر وفضيلة، قد جلله العفاف، وأُسْدِل عليه الستر.
فما هي إلا أن تتساهل في شأن الهاتف، وتسترسل في محادثة العابثين حتى تقع فيما لا تحمد عقباه، فربما وافقت صفيقاً يغْترُّها بمعسول الكلام، فَتَعْلَقُه، وتقع في أشراكه; ولا يخفى أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.
وربما زاد الأمر عن ذلك، فاستجر الفتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها، وتركها بعد أن يلبسها عارها.
وربما كانت المبادرة من بعض الفتيات; حيث تمسك بسماعة الهاتف، وتتصل بأحد من الناس إما أن يكون مقصوداً بعينه، وإما أن يكون الاتصال خبط عشواء; فتبدأ بالخضوع له بالقول، وإيقاعه في حبائلها.
والحامل على المعاكسات في الغالب تساهل كثير من الناس في شأن الهاتف، أو الجهل بعواقب المعاكسات، أو من باب التقليد الأعمى، أو حب الاستطلاع، أو غير ذلك من الأمور التي يجمعها الجهل، وعدم النظر في العواقب، وقلة المراقبة الله - تعالى -.
والحديث عن المعاكسات الهاتفية وما تجرّه من فساد يطول ذِكْرُه، وليس هذا مجال بسطه.
والمقصود من ذلك الإشارة إلى أن المعاكسات الهاتفية من أعظم الأسباب التي تقود إلى العشق والتعلق; فسَدُّ هذا الباب واجب متعين.
هذه - على سبيل الإجمال - هي الأسباب الحاملة على العشق.



كيفية التوبة من العشق
وبعد أن تبيَّن فيما مضى خطورة العشق، وعظيم جنايته - نصل إلى بيت القصيد في هذه المسألة، ألا وهي التوبة من العشق، وكيفية ذلك.
فعلى من وقع في العشق أن يتوب إلى الله - عز وجل - سواء كان عاشقاً، أو معشوقاً، أو معيناً على ذلك.
فتوبة العاشق تكون بترك العشق، والعزم والمجاهدة على ذلك، وبألا يُظْهر أمرَه، ولا من ابتلي بعشقه; فلا يذكره، ولا يشبِّبُ به، ولا يسير إليه، ولا يمد طرفه إليه، وأن يقطع الصلاتِ المُذَكِّرةَ به، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك، وأن يصبر على ما يلاقيه خصوصاً في بداية أمره.
وعلى المعشوق أن يتوب إلى الله إن كان مشاركاً، أو متسبباً في غواية العاشق; فيتوب إلى الله من استمالة العاشق، والتزين له، والتحبب إليه، واللقاء به، ومحادثته، ومراسلته.
وعلى من أعان على العشق بالتقريب بين العاشقين بالباطل أن يتوب إلى الله، وأن يدَعَ ما كان يقوم به، وأن يعلم أن ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وأنه بذلك يذكي أوار العشق، ويسعر نيرانه; فهو يفسد أكثر مما يصلح، وسعيه مأزور غير مشكور; فعمله ليس من عمل الخير، ولا من ارتكاب أخف الضررين; لدفع أعلاهما.
بل إن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب، وفساد الدين، وأي مفسدة أعظم من هذه ? وغاية ما يقدَّر من مفسدة الإمساك عن مواصلة المعشوق سقم الجسد أو الموت; تفادياً عن التعرض للمحرم.
وإلا فالغالب أن العاقبة تكون نجاة وسلامة
الأسباب المعينة على التخلص من العشق
فمع عظم شأن العشق، وصعوبة الخلاص منه إلا أن ذلك ليس متعذراً ولا مستحيلاً; فلكل داء دواء، ولكن الدواء لا ينفع إلا إذا صادف مَحَلاً قابلاً; فإذا رام المبتلى بهذا الداءِ الشفاءَ، وسعى إليه سعيه - وفق لما يريد، وأعين على بلوغ المقصود، وإلا استمر على بلائه، بل ربما زاد شقاؤه.
يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: " إنما يوصف الدواء لمن يقبل; فأما المخلِّط فإن الدواء يضيع عنده ".
وفيما يلي ذكر لبعض الأسباب المعينة على ترك العشق:
1 - الإخلاص الله - عز وجل -: فالإخلاص أنفع الأدوية، فإذا أخلص المبتلى بداء العشق، وصدق في توجهه إلى ربه - أعانه الله، وأمده بألطاف لا تخطر له ببال، وصرف عنه كلَّ ما يصده عن توبته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذ، ولا أمتع، ولا أطيب.
والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحبَّ إليه، أو خوفاً من مكروه; فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال الله – تعالى - في حق يوسف: ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) [ يوسف: 24].
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه الله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية الله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها; فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر بلا علاج ".
وقال: " وإذا كان العبد مخلصًا لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من ضد ذلك.
بخلاف القلب الذي لم يخلص الله; فإن فيه طلباً، وإرادة، وحبَّاً مطلقاً، فيهوى كل ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مرَّ به عطفه وأماله ".
وقال ابن القيم - رحمه الله -: " ففي القلب شعثٌ لا يَلُمُّهُ إلا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيرانُ حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسَدَّ تلك الفاقة منه أبداً ".
2 - الدعاء: والتضرع إلى الله - عز وجل - وصدق اللجأ إليه، والإخلاص له، وسؤاله السلوَّ; فإن المبتلى بهذا الداء مضطر، والله يجيب المضطر إذا دعاه، والدعاء عدو البلاء، يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل.

3 - غض البصر: فغض البصر يورث الراحة، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، قال - تعالى -:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) [النور: 30].
قال ابن تيمية - رحمه الله -: " فجعل - سبحانه - غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب وغير ذلك ".
وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: " والواجب على من وقع بصره على مُسْتَحْسَن، فوجد لذة تلك النظرة في قلبه أن يصرف بصره; فمتى ما تَثَبَّت في تلك النظرة، أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً.
فإن قيل: فإن وقع العشق بأول نظرة فأي لوم على الناظر?
فالجواب: أنه إذا كانت النظرة لمحة لم تكد توجب عشقاً، إنما يوجبه جمود العين على المنظور بقدر ما تثبت فيه، وذلك ممنوع منه، ولو قدَّرنا وجوده باللمحة; فأثَّر محبةً سَهُلَ قمعُ ما حصل".
إلى أن قال: " فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة?
قيل: علاجه الإعراض عن النظر; فإن النظر مثل الحبة تلقى في الأرض; فإذا لم يلتفت إليها يبست، وإن سقيت نبتت; فكذلك النظرة إذا ألحقت بمثلها ".
وقال: " فإن جرى تفريط بإتْباع نظرة لنظرة فإن الثانية هي التي تخاف وتُحذر; فلا ينبغي أن تحقر هذه النظرة; فربما أورثت صبابةً صبَّت دَمَ الصبِّ ".
وقال ابن القيم - رحمه الله -: " فعلى العاقل ألا يحكِّم على نفسه عشق الصور; لئلا يؤدِّي-ه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرها، أو بعضها; فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه، المغرور بها; فإذا هلكت فهو الذي أهلكها; فلولا تكراره النظر إلى وجه معشوقه، وطمعه في وصاله - لم يتمكن عشقُه من قلبه ".
وقد يقول بعض الناس: إذا نظرت نظرةً، فاشتد تعلقي بمن نظرت إليه; فهل لي أن أكرر النظر; لعلي أراه دون ما في نفسي; فأسْلُوَ عنه?
والجواب: أن ذلك من تلبيس الشيطان، ولا يجوز هذا الصنيع; لعشرة أوجه:
أحدها: أن الله - سبحانه - أمر بغض البصر، ولم يجعل شفاء القلب فيما حرمه على العبد.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن نظر الفجأة، وقد علم أنه يؤثر في القلب; فأمر بمداواته بصرف البصر، لا بتكرار النظر.
الثالث: أنه صرح بأن الأولى له، وليست له الثانية، ومحالٌ أن يكون داؤه مما له، ودواؤه فيما ليس له.
الرابع: أن الظاهر أن الأمر كما رآه أول مرة; فلا تحسن المخاطرة بالإعادة.
الخامس: أنه ربما رأى ما هو فوق الذي في نفسه; فزاد عذابه.
السادس: أن إبليس عند قصده للنظرة الثانية يقوم في ركائبه، فَيُزَيِّنُ له ما ليس بحسن; لِتتمَّ البلية.
السابع: أنه لا يعان على مطلوبه إذا أعرض عن امتثال أمر الشرع، وتداوى بما حرَّمه عليه، بل هو جدير أن تتخلف عنه المعونة.
الثامن: أن النظرة الأولى سهمٌ مسموم من سهام إبليس، ومعلوم أن الثانية أشدُّ سُمَّاً; فكيف يتداوى من السم بالسم?!
التاسع: أن صاحب هذا المقام في مقام معاملة الحق - عز وجل - في ترك محبوب - كما زعم - وهو يريد بالنظرة الثانية أن يتبين حال المنظور إليه; فإن لم يكن مَرْضِيَّاً تركه; فإذاً يكون تَرَكَه; لأنه لا يلائم غرضه، لا لله - تعالى - فأين معاملة الله - سبحانه - بترك المحبوب لأجله?!
العاشر: يتبين بضرب مثلٍ مطابقٍ للحال، وهو أنك إذا ركبت فرساً جديداً، فمالت بك إلى درب ضيِّق لا ينفذ، ولا يمكنها أن تستدير فيه للخروج; فإذا همَّت بالدخول فيه فاكبحها; لئلا تدخل; فإذا دخلت خطوة أو خطوتين فَصِحْ بها وردَّها إلى وراءٍ عاجلاً قبل أن يتمكن دخولها، فإذا رددتها إلى ورائها سَهُل الأمر، وإذا توانيت حتى ولَجَتْ، وسقتها داخلاً ثم قمت تجذبها بذنبها عسُر عليك أو تعذر خروجها; فهل يقول عاقل: إن طريق تخليصها سوقُها إلى داخل?!
فكذلك النظرة إذا أثَّرت في القلب; فإن عجَّل الحازم، وحسم المادة من أولها سَهُل علاجُه، وإن كرَّر النظر، ونقَّب عن محاسن الصور، ونقلها إلى قلب فارغ، فنقشها فيه - تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة; فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب، ويُعرض عن الفكر فيما أمر به; فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التلف.
والسبب في هذا أن الناظر الْتَذَّتْ عينه بأول نظرة; فطلبت المعاودة، ولو أنه غض أولاً لاستراح قلبه، وسلم.
* هذا وإن لغض البصر فوائدَ عظيمةً منها:
الفائدة الأولى: تخليص القلب من ألم الحسرة.
الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نوراً، وإشراقاً يظهر في العين، وفي الوجه، وفي الجوارح.
الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة; فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة; لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلُوَّة تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها; فإذا أطلق العبد نظره تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها، كما قيل:

مرآة قلبك لا تريد صلاحَه والنفس فيها دائماً تتنفَّس

والله - سبحانه وتعالى - يجازي العبد على عمله بما هو من جنسه; فمن غضَّ بصره عن المحارم عوَّضه الله إطلاق بصيرته; فلما حبس بصره الله أطلق نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.
الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم، وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب; فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشفت له بسرعة، ونفذ من بعضها إلى بعض.
ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه، وأظلم، وانسدَّ عليه باب العلم، وطرقه.
الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب، وثباته، وشجاعته; فَيُجْعَل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة.
الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سرورًا، وفرحاً، وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر; وذلك لِقَهْرِه عَدُوَّه بمخالفته، ومخالفة نفسه، وهواه.
ثم إنه لما كفَّ لذته، وحبس شهوته الله وفيها مسرَّةُ نفسه الأمَّارة بالسوء أعاضه الله مسرةً، ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: والله للذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب.
ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحاً، وسروراً ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسرْ الشهوة; فإن الأسير هو أسير شهوته، وهواه.
الفائدة الثامنة: أنه يسدُّ عنه باباً من أبواب جهنم; فإن النظرة باب الشهوة الحاملة على مواقعة الإثم.
الفائدة التاسعة: أنه يقوي العقل، ويزيده، ويثبته; فإن إطلاق البصر، وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل، وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب.
الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سُكر الشهوة، ورقدة الغفلة.
وبالجملة ففوائد غض البصر، وآفات إرساله أضعاف أضعافِ ما ذكر.
فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغضَّ طرفه عمّا تشتهيه نفسه من الحرام، وليكن له في ذلك الغضِّ نيةٌ يحتسب بها الأجر، ويكتسب بها الفضل، ويدخل في جملة من نهى النفس عن الهوى.



4 - التفكر والتذكر: وذلك باب واسع جداً، والمقام لا يتسع إلا لأقل القليل; فليتفكر العاشق في خطواته إلى لقاء محبوبه، وأنها - مع ما فيها من ضم جراح إلى جراح - مكتوبة عليه، وهو مطالب بها.
وليتفكر في مكالمته محبوبَه; فإنه مسؤول عنها، مع فيها من إلهاب نار الحب.
وليتذكرْ هادم اللذات، وشدة النزع، وليتفكر في حال الموتى الذي حبسوا على أعمال تجاوزوا فيها; فليس منهم من يقدر على محو خطيئة، ولا على زيادة حسنة; فلا تَعْث يا مطلق!.
وليتصور عَرْضَه على ربه، وتخجيله له بمضيض العتاب.
وليتخيل شهادة المكان الذي وقعت فيه المعصية.
وليمثل في نفسه عند بعض زلله كيف يؤمر به إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.
وليتصور نفاد اللذة، وبقاء العار والعذاب.
وليتذكر أنه لا يرضى لأحد من محارمه أن يكون معشوقاً، إذا كان ذا غيرة; فكيف يرضى ذلك المصير لغيره?!
5 - البعد عن المحبوب المعشوق: فكل بعيد عن البدن يؤثِّر بعدُه في القلب; فليصبر على البعد في بداية الأمر صبر المصاب في بداية مصيبته، وليبتعد عن المحبوب، فلا يراه، ولا يسمع كلامه، ولا يرى ما يذكِّره به.
ثم إن مرَّ الأيام يهون الأمر، قال زهير بن الحباب الكلبي:

إذا ما شئت أن تسلو حبيباً فأكثر دونه عدد الليالي
فما سلَّى حبيبك غير نأيٍ ولا أبلى جديدك كابتذالِ

* وقال امرؤ القيس:

وإنك لم تقطع لبانة عاشق بمثل رواح أو غدوٍّ مأوّبِ

6 - الاشتغال بما ينفع: فقد مرَّ قبل قليل أن من أسباب العشق الفراغَ; لذلك فكل ما يشغل القلب من المعاش، والصناعات، والقيام على خدمة الأهل، ونحو ذلك - فإنه يسلي العاشق; لأن العشق شغل الفارغ - كما مر -
فهو يمثل صورة المعشوق في خلوته; لشوقه إليها; فيكون تمثيله لها إلقاءًا في باطنه; فإذا تشاغل بما يوجب اشتغال القلب بغير المحبوب - درس الحبُّ، ودثر العشق، وحصل التناسي.
7 - الزواج: ولو بغير من عشقها; فإن في الزواج كفايةً وبركة وسلوة.
وإن كان متزوجاً فليكثر من الجماع; فإنه دواء.
" ووجه كونه دواءًا أنه يقلل الحرارة التي منها ينتشر العشق، وإذا ضعفت الحرارة الغريزية حصل الفتور، وبرد القلب; فخمد لهب العشق ".
فإن كان المعشوق امرأة يمكن الزواج بها فليفعل; فذلك من أنفع الدواء; لأن النكاح يزيل العشق، وإن تعسر فليلجأ إلى الله في تسهيله، وليعامله بالصبر على ما نهى عنه، فربما عجل مراده.
وإن عجز عن ذلك، أو كان المعشوق لا سبيل إلى تحصيله كذات الزوج - فليلازم الصبر; وليسأل الله السلوَّ.
8 - عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، والنظر إلى الموتى، والتفكر في الموت وما بعده; فإن ذلك يطفئ نيران الهوى كما أن سماع الغناء واللهو يقويه; فما هو كالضد يضعفه.
9 - مواصلة مجالس الذكر: ومجالس الزهاد، وسماع أخبار الصالحين.
10 - قطع الطمع باليأس، وقوة العزم على قهر الهوى: فإن أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولَّد عن نظر، أو سماع، فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك - لم يحدث له العشق.
فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره، ولم يشتغل قلبه به - لم يحدث له ذلك.
فإن أطال مع ذلك الفكرَ في محاسن المعشوق، وقارنه خوفُ ما هو أكبر عنده من لذة وصاله، إما خوف من دخول النار، وغضب الجبار، وإدخار الأوزار، وغلب هذا الخوف على هذا الطمع - لم يحدث له العشق.
فإن فاته هذا الخوفُ، فقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه، أو ماله، أو ذهاب جاهه، وسقوط مرتبته عند الناس، وسقوطه من عين من يعزّ عليه، وغلب هذا الخوف لداعي العشق - دفعه.
وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه، وأنفع من ذلك المعشوق، وقدم محبته على محبة المعشوق - اندفع عنه العشق.
11 - المحافظة على الصلاة: وإعطاؤها حقها من الخشوع، والتكميل لها ظاهراً وباطناً.
قال - تعالى -: ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [العنكبوت: 45].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب وهو ذكر الله ".
12 - زجر الهمة الأبية: عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل; فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية; فإن ذا الهمة يأنف أن يملك رقَّه شيء، وما زال الهوى يذل أهل العز.
وهذا الذل لا يحتمله ذو أنفة; فإن أهل الأنفة حملهم طلب علو القدر على قتل النفوس، وإجهاد الأبدان في طلب المعالي، ونحن نرى طالب العلم يسهر ويهجر اللذات; أنفة من أن يقال له: جاهل، والمسافر يركب الأخطار; لينال ما يرفع قدره من المال; حتى إن رُذالة الخَلْق ربما حملوا كثيراً من المشاق; ليصير لهم قدر، وهذا القائل يقول:

وكل امرئ قاتل نفسه على أن يقال له : إنه

فأما من لا يأنف الذل وينقاد لموافقة هواه - فذاك خارج عن نطاق المتميزين.
13 - شرف النفس، وزكاؤها، وحمِيَّتُها: فذلك يوجب أن تنأى عن الأسباب التي تحطّ قدرها، وتخفض منزلتها.
وإنما تعلو قيمة المرء، وتسمو مكانته بقدر نصيبه من شرف النفس، وزكائها، وحميتها; فإذا علمت نفس طاب عنصرها، وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية، وحياة وراء حياتها الطبيعية لم تقف بسعيها عند طمع بوصال، أو أمل بنظرة.
بل لا تستفيق جهدها، ولا يطمئن بها قرارها إلا إذا بلغت مجداً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء.
فلا يكون - إذاً - من وراء العشق إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة، والتسفل; أو ليس من الذل أن تكون حياة الإنسان معلقة بغيره، وسعادته بيد سواه; فهو مضطر إليه، وهولعبة في يديه، إن أقبل سَعُد، وإن أعرض شقي، وإن مال إلى غيره اسودت الدنيا في عينيه?
هذا - والله - الصغار بعينه، وهذا هو الذل الذي لا ينفع معه المال الكثير، ولا الجاه العريض.
أليست هذه هي حقيقة الحب، والعشق الذي ألّهه الشعراء? أليست هذه هي حال من غايةُ طموحه أن يواصله معشوقه بكلمة، أو إشارة، أو ما هو أدنى أو أعلى من ذلك?!
* قال الأعشى:

أرى سفهاً للمرء تعليق قلبه بغانية خودٍ متى تدن تبعد

* وقال أبو فراس الحمداني مفتخرًا بشرف نفسه، عائباً على من سفلت همته، واسترقه هواه:

لقد ضلَّ من تحوي هواه خَرِيدةٌ وقد ذل مَنْ تقضي عليه كَعابُ
ولـكـنـني والحمد لله حـازم أعـزُّ إذا ذلـت لهن رقـابُ
ولا تملك الحسناء قلبي كـلّـَه ولـو شمَّلَتْها رقّـَة وشبـاب

* وقال أبو علي الشبل:

وآنف أن تعتاق قلبي خريـدةٌ بلحظ وأن يروي صداي رضاب
وللقلب مني زاجر من مروءةٍ يُجَنِّبُه طُـرْقَ الـهـوى فيجـاب

* وقال منصور الهروي:

خُلِقْتُ أبيَّ النفس لا أتبع الهوى ولا أستقي إلا من المشرب الأصفـى
ولا أحمل الأثقال في طلب العلا ولا أبتغي معروفأ من سامني خسفـا
ولست على طبع الذباب متى يُذَدْ عن الشيء يَسقُطْ فيه وهو يرى الحتفا

* وقال ابن المقفع: " اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة، والوقار - الغرامَ بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفكُّ يأجم ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
وإنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون، والقلوب من فضل مجهولات على معروفات باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن".
وقال: " ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلُبِّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن، والجمال، حتى تَعْلَقَ بها نفسه من غير رؤية، ولا خبر مُخبر، ثم لعله يهجم منها على أدَمِّ الدمامة، فلا يعظه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزل مشغوفاً بما لم يَذُق حتى لو لم يَبْقَ في الأرض غيرُ واحدة لظن أن لها شأناً غير ما ذاق.
وهذا هوالحمق، والشقاء، والسفه ".
وبالجملة فشرف النفس وزكاؤها يقود إلى التسامي، والعفة، والجلالة; ذلك أن المرء بين عاطفة تخدعه، وشهوة تتغلب عليه; فمتى ما لم يجد من عقله سائساً، ومن دينه وازعاً يقاومان الضعف، ويصارعان الميول والأهواء - وقع في الخطايا، وانغمس في الشرور والرذائل.
وإن قوي على عصيان الهوى، والنفس، والشيطان، والشهوة، وثبت في مواقف هذا الصراع الهائل - كان في عداد المجاهدين، وترتب على انتصاره وفوزه جميع المكارم والفضائل التي تنتهي به إلى خيري الدنيا والآخرة.

ومن كان ذا نفس ترى الأرض جولةً فلا بدَّ يوماً للسموات يرتقـي



14 - التفكر في عيوب المحبوب: فمحبوبك ليس كما في نفسك; فأعمل فكرك في عيوبه تسْلُ.
قال ابن الجوزي - رحمه الله - : " فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً; لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر، يغطي المعايب، فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حسناً ".
وقال: " وقال الحكماء: عين الهوى عوراء.
وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن.
والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِنْ له، وقد تكشفها المخالطة.
ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً - ملَّ، وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له ".
وقال - رحمه الله -: " فاستعمال الفكر في بدن الآدمي وما يحوي من القذارة، وما تستر الثياب من المستقبح - يُهَوِّنُ العشق; ولهذا قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها.
وقال بعض الحكماء: من وجد ريحاً كريهة من محبوبه سلاه، وكفى بالفكر في هذا الأمر دفعاً للعشق " .
* قال أبو نصر بن نباتة:

ما كنت أعرف عيبَ من أحببتُه حتى سلوت فصرت لا أشتاق
وإذا أفاق الوجد واندمل الهـوى رأت القلوب ولم تـر الأحداق

ولهذا تجد العاشق يغالي في معشوقه، ويُصوِّر له في قلبه ما يصور; لأن عقله شبه غائب، مع أن أقرب الناس للمعشوق، وأعرفهم به - لا يرون له ذلك الشأن; بل ربما رأوه أقل من ذلك بكثير، بل ربما لم يروا له فضلاً البتة.
15 - تصوُّر فقدِ المحبوب: إما بموته، أو بفراق يحدث عن غير اختيار، أو بنوع ملل، فيزول ما أوجب من المحن الزائدة على الحدِّ التي خسر بها المحب جاه الدنيا والدين.
16 - النظر في العاقبة: فالعاقل - إذاً - هو من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونُغْصَة; فنُغصُهُ كثيرة، وأذاه شديد، وغالب لذَّاته محرم، ثم هي مشوبة بالغموم، والهموم، وخوف الفراق، وفضيحة الدنيا، وحسرات الآخرة; فيعلم الموازنُ بين الأمرين، الناظرُ في العاقبة - أن اللذة مغمورة في جنب الأذى.

وأعقل الناس من لم يرتكب سبباً حتى يفكر ما تجني عواقبه

17 - أن يعلم المبتلى أن الابتلاء سبب لظهور جواهر الرجال: فربما ابتلي الإنسان بذلك، فإن صبر ظهر فضله، وكمل سؤدده، ونقل إلى مرتبة أعلى، وربما نال محبة خالقه، تلك المحبة التي تملأ قلبه، وتغنيه عن كل محبة.
18 - النظر فيما يُفَوِّته التشاغل بالعشق من الفضائل: فإن أرباب اليقظة عشقُهم للفضائل من العلوم، والعفة، والصيانة، والكرم، وغير ذلك من الخلال المحمودة - أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس; لأن شهوات الحس حظ النفس، وتلك الخلال حظ العقلِ، والنفسُ الناطقة الفاضلة إلى ما يُوثر العقلُ أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسية.



14 - التفكر في عيوب المحبوب: فمحبوبك ليس كما في نفسك; فأعمل فكرك في عيوبه تسْلُ.
قال ابن الجوزي - رحمه الله - : " فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً; لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر، يغطي المعايب، فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حسناً ".
وقال: " وقال الحكماء: عين الهوى عوراء.
وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن.
والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِنْ له، وقد تكشفها المخالطة.
ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً - ملَّ، وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له ".
وقال - رحمه الله -: " فاستعمال الفكر في بدن الآدمي وما يحوي من القذارة، وما تستر الثياب من المستقبح - يُهَوِّنُ العشق; ولهذا قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها.
وقال بعض الحكماء: من وجد ريحاً كريهة من محبوبه سلاه، وكفى بالفكر في هذا الأمر دفعاً للعشق " .
* قال أبو نصر بن نباتة:

ما كنت أعرف عيبَ من أحببتُه حتى سلوت فصرت لا أشتاق
وإذا أفاق الوجد واندمل الهـوى رأت القلوب ولم تـر الأحداق

ولهذا تجد العاشق يغالي في معشوقه، ويُصوِّر له في قلبه ما يصور; لأن عقله شبه غائب، مع أن أقرب الناس للمعشوق، وأعرفهم به - لا يرون له ذلك الشأن; بل ربما رأوه أقل من ذلك بكثير، بل ربما لم يروا له فضلاً البتة.
15 - تصوُّر فقدِ المحبوب: إما بموته، أو بفراق يحدث عن غير اختيار، أو بنوع ملل، فيزول ما أوجب من المحن الزائدة على الحدِّ التي خسر بها المحب جاه الدنيا والدين.
16 - النظر في العاقبة: فالعاقل - إذاً - هو من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونُغْصَة; فنُغصُهُ كثيرة، وأذاه شديد، وغالب لذَّاته محرم، ثم هي مشوبة بالغموم، والهموم، وخوف الفراق، وفضيحة الدنيا، وحسرات الآخرة; فيعلم الموازنُ بين الأمرين، الناظرُ في العاقبة - أن اللذة مغمورة في جنب الأذى.

وأعقل الناس من لم يرتكب سبباً حتى يفكر ما تجني عواقبه

17 - أن يعلم المبتلى أن الابتلاء سبب لظهور جواهر الرجال: فربما ابتلي الإنسان بذلك، فإن صبر ظهر فضله، وكمل سؤدده، ونقل إلى مرتبة أعلى، وربما نال محبة خالقه، تلك المحبة التي تملأ قلبه، وتغنيه عن كل محبة.
18 - النظر فيما يُفَوِّته التشاغل بالعشق من الفضائل: فإن أرباب اليقظة عشقُهم للفضائل من العلوم، والعفة، والصيانة، والكرم، وغير ذلك من الخلال المحمودة - أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس; لأن شهوات الحس حظ النفس، وتلك الخلال حظ العقلِ، والنفسُ الناطقة الفاضلة إلى ما يُوثر العقلُ أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسية.





كلمة أخيرة
وفي نهاية المطاف هذه كلمة وداع أخيرة توجه إلى أدباء الأمة، وشعرائها، وكتابها; فيقال لهؤلاء: إن أمتنا اليوم ليست بحاجة إلى مزيد من العشاق، وليست بحاجة إلى من يذكي أوار نيران العشق; فلدى الأمة من الأمراض ما يكفيها; فكيف نزيدها وهناً على وهن?!
إن أمتنا بأمسِّ الحاجة إلى الأقلام الجادة، والهمم العلية، والعزائم القوية، والعقول المستنيرة; فنحن في عصرٍ: شعارُه:

(إن لم تكن آكلاً كنت مأكولاً، وكُنْ قَوِيَّاً تحترمْ)

وبذلك يرجع للأمة سالف مجدها، وتتبوأ مكانها اللائق بها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجنبنا طرق الردى، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.




منقول من موقع :الشيخ محمد الحمد (http://www.toislam.net/arb/index.asp?order=2&num=994)

Rikki
14-07-2003, 10:52 AM
مشكور أخوي عزوز على الموضوع الراااااااااائع ;-)

الله يعطيك العافيه :)

هذا الموضوع مهم واااايد لأنه يتكلم عن العشق و ......

جاء هذا الموضوع مفصل عن كل شيء عن العشق من شتى النواحي ...

مشكور أخوي :)