المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العقل الإسلامي بين الانغلاق والانفتاح



moar741
10-09-2003, 03:18 PM
الهوية الصافية

العقل الإسلامي بين الانغلاق والانفتاح

لا مراء في أن الناس يختلفون في نظرتهم إلى الآخر وفي طريقة تعاملهم معه. ونعني بالآخرهنا، كل من ينتمي إلى هوية مجتمعية أخرى، أيا كان نوعها وطابعها. والعقول تتراوح في هذا الصدد بين موقفين هما على طرفي نقيض: فإما انغلاق كلي، وإما انفتاح أقصى


فالمنغلق ينظر إلى غيره من خلال هويته الدينية العقائدية، أو القومية اللغوية، أو الحضارية الثقافية .. وهو يحاكمه ويحكم عليه على هذا الأساس. فإن كان يتفق معه بالعقيدة أو المذاهب أو العرق أو الثقافة أو النمط الحضاري، قبله وتماهي معه، وإلا نبذه إلى خارج يمثل البدعة والكفر، أو العمالة والخيانة ، أو التأخر، والتخلف ، أو الغرابة والهمجية، أو أي اسم آخر يدل على المغايرة الكلية أو على الاختلاف الوحشي

إذن فالمنغلق على ذاته ومعتقده ينفي الآخر ولا يعترف له بحقه في أن يكون مختلفاً عنه، إذ الاختلاف في نظره هو نقيض الهوية وضدها الذي يتهددها ويعمل على استتباعها أو تسخيرها أو تصفيتها

لهذا فالآخر لا حقوق له كإنسان، بموجب هذه النظرة التي نرى إليها من خلال التصنيفات الضيقة والتسميات الجاهزة واليقينيات المطلقة

هكذا يستبعد صاحب العقل المغلق القابع في هويته الصافية، كل اختلاف أو مغايرة ، مع أن الاختلاف الوحشي هو الوجه الآخر للهوية الصافية العمياء، بل هو مبرر وجودها وعلة تماسكها


وأما المنفتح فإنه ينظر إلى غيره من ذوي الهويات الأخرى ، نظرة مغايرة ، فيتقبله ويرى فيه مكملاً أو مماثلاً ، فقد يتماهى معه أو يتوحد به ، وذلك بصرف النظر عن فوراق اللغة أو العرق أو الدين أو الثقافة ، أو أي انتماء آخر

ذلك أن الآخر، بحسب هذه النظرة المنفتحة ، لا تستهلكه هوية معينة .. ولا تستنفد كينونته صفة خاصة ولا ينطق بحقيقته اسم واحد أو رمز واحد. بل هو يملك هوية واسعة مركبة ، لها وجوه مختلفة وأبعاد متعددة . إنه عين وجودية واحدة، ولكنها ذات نسب وإضافات لا تحصى


ولا يخلو معتقد أو مذهب أو جماعة ثقافية من صنف من هذين الصنفين. على أن أهل العقول المغلقة هم الغالبون والأكثرية الساحقة. والأصح القول إن أهل العقول المنفتحة هم الأقلية الساحقة. والأصح القول أن أهل العقول المنفتحة هم الأقلية النادرة

وبوسعنا التعرف على نماذج ، من كل صنف ، نختارهم من بين علماء الإسلام ومفكريه ما دام الكلام يدور في هذه المقالات على الإسلام بفكره ومؤسساته وأحداثه ووقائعه


فيما يخص أهل الانغلاق هناك سلسلة، إذا لم نقل سلالة، تبدأ بأهل النص والخبر وتشمل الأعلام الكبار أمثال الغزالي والشهرزوري وابن تيمية وابن بابويه وابن خلدون .. لكي تنتهي حديثاً بالإسلاميين المعاصرين على اختلاف تسمياتهم وانتماءاتهم أمثال علي سامي النشار وحمد تقي المدرسي .. أما أهل الانفتاح فمن أبرز ممثليهم أعلام كابن رشد وابن عربي والشريف الرضي قديما، ومصطفى عبد الرزاق ومحمود قاسم ومحمد حسين الطباطبائي حديثاً. فالأسماء كثيرة داخل كل صنف ، ولهذا أكتفي بذكر النماذج البارزة أو الدالة


ولا يخفى على القارئ المطلع، ما بين هذه الأسماء المندرجة في كل صنف ، من الفوارق من حيث المكانة الفكرية أو العلمية ، خاصة بين القدماء والمحدثين، كما لا يخفى من جهة أخرى الاختلاف بين أصحاب هذه الأسماء المذكورة من حيث العقيدة والمذاهب . فهم ينتمون إلى سلالات فقهية وكلامية مختلفة . ومع ذلك فقد جمعتهم في صف واحد

ذلك أنني لا أعني ههنا بتصنيف العلماء على أساس طبقاتهم ومراتبهم . والأهم أنني لا أصنفهم على أساس اختلافاتهم العقائدية والمذهبية ، بل أعمد بالدرجة الأولى إلى تصنيفهم انطلاقاً من التمييز بين نموذجين عقائدين: مغلق ومنفتح

ولكل نموذج سماته أيا كانت هويته الاعتقادية، كما اتضح من قبل . ولهذا فقد أدرجت قسماً من العلماء في خانة واحدة ، أكانوا سنة أو شيعة ، وبصرف النظر عن أصولهم الكلامية واجتهاداتهم الفقهية

صحيح أن هناك خطأ أصولياً عقائدياً واحداً يربط بين علماء السنة ، وخطأ آخر يربط بين علماء الشيعة. ولكن أهل الانغلاق ينتمون، في نظري، إلى عقلية واحدة ويؤلفون نمطاً وجودياً واحداً، أكانوا شيعة أم سنة، مسلمين أم غير مسلمين

كذلك أهل الانفتاح يجمعهم موقف وجودي واحد، أيا كانت اتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم العقائدية أو الشرعية


هكذا فأنا أصنف العلماء والمفكرين تصنيفاً مغايراً لتصنيف أهل الملل والنحل . إني لا أقوم بفرزهم على أساس أيديولوجي عقائدي ، ولا حتى على أساس علمي ابستمولوجي

وإنما تصنيفي لهم هو تصنيف انطولوجي يقوم على التمييز بين نظرتين أو موقفين من الحقيقة ومن الذات والغير

فإما انغلاق على الأنا واستبعاد لوجود الآخر، وإما انفتاح على الغير واعتراف بأن له حقه وقسطه من الوجود ، إما الاكتفاء الذاتي واعتبار الذات مصدر كل علم ومعرفة ، وإما التفاعل مع الغير بالاقتباس عنه والإفادة منه فكراً وعلماً وثقافة


وتوخياً للإيضاح، فلنستعد مواقف كل من الصنفين، بادئين بالصنف الأول

فابن تيمية قد جزم بأن العلم الموروث عن النبي "وحده يستحق أن يسمى علما" مستبعداً بصورة نهائية كل علم لا تكون النبوة مصدره

والشهرزوري قد أفتى بأن "الفلسفة أس السفه والانحلال "ومادة الحيرة والضلال ومثار الزيغ والزندقة

أما الغزالي فهو الأسبق والأكثر فعالية في صياغته لهذا الموقف السلبي والعدائي من الفلسفة وعلوم الغير، إذ كان أول من حمل على الفلاسفة ورد عليهم بصورة منهجية منظمة، مع أنه أطلع على علومهم وأفاد منها ، ولكنه بدعهم وكفرهم بحجة أن آراءهم تخالف أصول الإسلام

ولم يقتصر موقفه العدائي على العلوم الإلهية ، بل شمل ًأيضا علوماً حيادية لا تتعلق في ذاتها بالدين نفياً أو إثباتا كالعلوم الرياضية، بحجة تأثيرها الخداع على الدين، لأن من يطلع عليها، وهي ما هي عليه من الوضوح والوثوق والإحكام ، يحسن اعتقاده في الفلاسفة ويكفر بالتقليد

حتى ابن خلدون العلامة الفذ والمفكر الكبير، مكتشف علم العمران، قد وقف هو الآخر موقفاً سلبياً من الفلسفة وأهلها، وتحدث عن معايبها وأخطارها على العقائد الدينية الإيمانية ممارساً بذلك نوعا من الازدواجية بين عقلانيته العملية من جهة ، وبين معتقده الأشعري من جهة أخرى

نقول معتقده الأشعري وليس الإسلامي، لأنه لا يمكن لأي معتقد أو مذهب أن يدعي احتكار الإسلام ، ولنقل بالأحرى احتكار الحقيقة القرآنية

إذ القرآن نص لا يمكن لأي تفسير أو مذهب أن يستنفده أو يغلقه . فلكل تصوره وفهمه ، ومن ثم لكل مذهبه وإسلامه

غير أن النموذج العقائدي المغلق يسعى إلى احتكار المعنى والحقيقة في النص ، مدعياً أن إسلامه ، وحده من دون سواه هو الإسلام الصحيح


ولهذا فإنه إذا كان هؤلاء الذين استعرضنا بعض مواقفهم، لم يتسع عقلهم لأهل الديانات والثقافات الأخرى ، فإنه لم يتسع أيضاً لأصحاب المذاهب الأخرى داخل الملة الإسلامية نفسها : فقد استبعد الأشعري الإمامي من الإسلام واستبعد الظاهري الأشاعرة ، واستبعد الإمامي كل من عداه

وأياً يكن الأمر، فإن مواقف أهل الصنف الأول لا تتفق مع الفطرة والحس السليم ، وهي تصادر العقل لحساب المعتقد والتقليد ، فضلاً عن كون النص لا يؤيدها

فالقرآن، وإن كان نصاً وأمراً، فقد نص على النظر والتفكير والاعتبار، وهو أوسع من المذاهب التي تدعي تفسيره والوقوف على مراده

كذلك جاء في الحديث النبوي: "ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل" . وهذا الحديث، نجد صداه الحديث عند رائد الفلسفة الحديثة - ديكارت - في السطر الأول من كتابه (خطاب المنهج) ، حيث يقول : "العقل هو أفضل "الأشياء قسمة بين الناس


على الضد من ذلك يقف أهل الانفتاح من ثقافات الغير وعلومهم . ويعد ابن رشد أبرز من يمثلهم في موقفهم المنفتح ، وكان فقيهاً وقاضياً للقضاة إلى جانب كونه فيلسوفاً

وبالفعل فإن قاضي قرطبة وفيلسوفها ، قد صاغ موقف هذا الصنف من العلماء والمفكرين المسلمين صياغة سمحة ومرنة ، عقلانية وبناءة ، كما عبر عن ذلك في كتابه فصل المقال : يجب علينا . . . أن ننظر في الذي قالوه أي القدماء من غير المسلمين - من ذلك وما أثبتوه في كتبهم . فما كان منها موافقاً للحق قبلناه وسررنا به وشكرناهم عليه. وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم فيه

منقول