المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السلطة والاستقامة وإمكانية التعايش في القرآن



soe_lover
27-12-2003, 04:34 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين

السلطة والاستقامة وإمكانية التعايش في القرآن
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ربما يتصوّر بعض الناس، أن السلطة لا تنفتح - في تعقيداتها وتفاصيلها - على خط الاستقامة، لأنها تفرض على الإنسان أن يدخل في الكثير من الصراعات المتنوعة والحروب المختلفة، وأن يتحرك في متاهات اجتماعية وسياسية وثقافية تنحرف به عن الصراط المستقيم.

وهذا ما جعل بعض المؤمنين العارفين، من العلماء وغيرهم، يبتعدون عن تجربة السلطة وحركة السياسة، باعتبار أنهما يجران الإنسان إلى المزالق ويؤديان به إلى الانحراف عن مواقع رضا الله.

وقد استطاع هذا التحفّظ الاحتياطي السلوكي أن يعزل الواقع الإسلامي الملتزم في كثير من نماذجه عن ساحة الصراع في قضية الحكم والسياسة، لتكون النتيجة هي عزلة الإسلام عن حركة الحياة، واعتبار البعد عن المواقع الحادة قيمة روحية من القيم الدينية الاجتماعية.

وأصبح الحديث عن الجهاد حديثاً عن إلقاء النفس إلى التهلكة، وعن الدخول في حرب مع الكفر والضلال جرأة على سفك الدماء، ليكون السائرون في هذا أو ذاك من الجماعات البعيدة عن تقوى الله.

الحكم والقدرة

وإذا تحدثت مع أصحاب هذا المنطق عن مسألة تطبيق شريعة الله والحكم بما أنزل الله، قالوا لك: إن ذلك مشروط بالقدرة، ولا قدرة لنا إلا بالوسائل الدامية التي هي من المحرمات، ولا يجوز للمؤمن أن يطيع الله من حيث يعصى.

وإذا حدثتهم عن حروب النبي (ص)، والإمام علي (ع) والإمام الحسين (ع)، قالوا لك: لا تحدثنا عن المعصومين، فإن لهم تكاليف خاصة لا نعرفها، فهم يختلفون عنا في تكاليفهم كما يختلفون عنا في أسرارهم، وإن عصمتهم تمنعهم من الخطأ، فلا مجال للدخول في القياس معهم.

ولكننا نلاحظ خطأ هذا المنطق، لأن الله حدّ حدوداً للإنسان المسلم في حربه وسلمه، كما حدّ له حدوداً في عباداته ومعاملاته، وأراد له أن يقف عندها في سكونه، وحركته، ولم يكلفه العلم بالغيب على مستوى النتائج الإيجابية أو السلبية، بل تركه للوسائل الفكرية العملية في اجتهاداته وخبراته، ليعرف الرشد في هذا الاتجاه، والغيّ في الاتجاه الآخر، ليتقدم في خط الرشد، وليتأخر عن خط الغيّ، لأن الله لا يريد للحياة أن تتجمَّد أمام المخاوف والتحفظات إلا في الحالات التي تفرض الخطة الحكيمة فيها ذلك، ولا يريد للإنسان أن يعيش في ظل الحكم العادل في مرحلة معينة، ثم ينطلق مع الحكم الظالم إلى ما قبل نهاية العالم، ولم يحكم النبي (ص) والإمام علي (ع) ولم يتحرك الأئمة (ع) في كل حركتهم السلبية والإيجابية في الحكم والثورة والمعارضة من موقع الغيب، بل من موقع الشهود والحضور، من خلال الوسائل الجاهزة بين أيديهم، وقد يقع الخطأ من خلال الخلل في التطبيق من تصرفات أتباعهم، أو قد تضطرهم الظروف الصعبة القاسية إلى ما لا يريدونه مما لا ينسجم مع الخطة الحكيمة التي تصل بهم إلى الأهداف الكبرى.

وهذا ما لاحظناه في بعض حروب النبي (ص)، أو في بعض أوضاع المسلمين معه فيما كان يريد تأكيده، أو يخطط له، وفي تجربة الإمام علي (ع) في حروبه وفي حركة خلافته.

وإذا كان هذا الحديث عن المطلق في حركة الحق والعدل في الحرب والسلم، فإن المطلق لا واقعية له في عالم الحدود، في الحياة والإنسان، الذي لا يمكن أن يبلغ الغاية القصوى في كل شيء، باعتبار أن الحدود الداخلية والخارجية تمنعه من الوصول إلى الكمال المطلق، وبذلك نستطيع أن نؤكد أن الواقعية الإسلامية في مسألة القيمة الروحية والأخلاقية في الجوانب الفردية والسياسية والاجتماعية والأمنية، تتحرك، في بعدها الأسمى، بالنسبة الكبرى لا بالنسبة المطلقة، لأن قيم الإنسان العامة تمثل القمم التي يصبو الإنسان إليها محاولاً بلوغها أو الدنو منها، أو التحرك نحوها، لتكون الحياة تجربة متحركة في طريق القيمة بين هبوط وصعود، وتقدم وتأخر.

ولا بد للإنسان أن يخلص في كل عناصر التجربة، وشروط الحركة، وظروف الواقع ووسائل المعرفة، بحيث لا يقصِّر الإنسان في المقدمات عند استخلاص النتائج، فيكون معذوراً إذا أخطأ في اجتهاده في الحكم أو في الموضوع، إذا أخذ بالقواعد التي يرتكز عليها الاجتهاد، وهذا هو الذي يضمن للحياة سلامتها في حركة القيادة، ويمنح الإسلام حيويته وحركيته واستمراره وامتداده في واقع الإنسان.

إشكالية الاستقامة والسلطة

أما مسألة إمكانية التعايش بين الاستقامة والسلطة، ومدى واقعيتها في التجربة الإنسانية، فإن الأساس فيها، هو أن الله لم يشرّع أحكامه بالطريقة المثالية البعيدة عن الواقع، بل شرّعها في منهج واقعي يقترب من إمكانات الإنسان وتطلعاته، ويوازن بين حركة الغريزة في ذاته وحركة الرسالة في واقعه، فلا يكبت الغريزة ولا يهمل الرسالة. ولذلك فإن انفتاح السلطة المسؤولة في حدود أخلاقية المسؤولية على الاستقامة في خطوطها الواقعية، ليس بالأمر الغريب عن السلوك الواقعي للإنسان، فإذا أمكن للتجربة الناجحة أن تقدم لنا إنساناً أميناً صادقاً في الجزئيات الصغيرة، فإن معنى ذلك أن ينجح هذا الإنسان أو غيره في تجربة الصدق والأمانة في القضايا الكبيرة، وإذا رأينا إنساناً ينكر ذاته في التضحية ببعض غرائزه أو أطماعه أو نوازعه أو مصالحه المادية لحساب رسالته، فإن هذا برهان واضح على وجود إنسان آخر بهذا المستوى في مواجهة كل سلبيات السلطة وتعقيداتها الذاتية والموضوعية لحساب دينه وأمته.

وإذا كان الضعف الإنساني ذاتياً في وجود الإنسان في تحريكه لأكثر من نقطة ضعف تؤدي إلى أكثر من فشل في التجربة، أو انحراف في خط السير، فإن الله أعطى الإنسان الفرصة التي يستطيع فيها أن يحوّلها إلى عناصر قوة، بالمعرفة والتجربة والإرادة.

وإذا كانت الممارسة تفرض الخطأ في كثير من الأقوال والأفعال، فإن ذلك لا يلغي الفكرة ولا يسقط التجربة، بل يدفعها إلى محاولة التصحيح، بعد مراجعة الأخطاء، وإلى دراسة الظروف الجديدة التي يشارك الإنسان في صناعتها، من أجل الوصول إلى الصواب في عملية تجاوز الخطأ.

وهذا هو الذي أراد الله للإنسان أن يأخذ به في حساب نفسه وجهادها، وفي مراقبة المسؤول وتحذيره ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فلا يجد غضاضة في تنبيه الناس له على بعض الأخطاء، ولا يرى نقصاً في دعوته للتراجع عنها، بل قد يرتفع في وعي مسؤوليته بأن يطلب من الناس أن يراقبوه وينقدوه ويقولوا له كلمة الحق، ويشيروا عليه بخط العدل، كما جاء في حديث الإمام علي (ع) للناس في عهد خلافته عندما قال لهم:

«فلا تكلّموني بما تُكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقلَ عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست بفوق أن أخطىء، ولا آمن ذلك من نفسي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منه».

وتلك هي مسألة الحكم الإسلامي العادل، والحاكم المسلم الشرعي، فإن الشرعية لا تفرض العصمة، وإن العدالة لا تمنع من الخطأ، ولكن المطلوب هو التراجع عن الخطأ عند اكتشافه، والاستقامة عند معرفة الانحراف، على هدى قوله تعالى: "إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" [الأعراف/201].

وإذا لاحظنا حديث القرآن الكريم عن الاستقامة في دعوته إليها، وحديثه عن عناصرها وعن نماذجها، فإننا نستفيد من ذلك أنه حديث عن عنوان واقعي يملك الكثير من عناصر الواقعية العملية إلى جانب الواقعية الفكرية، كما أنه يتمثل بالتجسد الإنساني في مضمونه من خلال الناس الذين تتلقاهم الملائكة بالكرامة والترحيب، وتؤمنهم من كل خوف، وتنقل إليهم السلام من الله. وهذا ما نستوحيه من الآيات التالية:

1 - "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير" [هود/112].

2 - "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون$ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون* نزلاً من غفور رحيم" [فصلت/30-32].

3 - "فلذلك فادع واستقم كما أمرت " [الشورى/15].

4 - "وان هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبّل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصّاكم به لعلكم تتقون" [الأنعام/153].

5 - "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" [الفاتحة/6-7].

6 - "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً" [الجن/16].

استقامة في مفردات الدعوة

إن هذه الآيات التي تدعو إلى الاستقامة في الدعوة، والاستقامة على خط أمر الله ونهيه، والاستقامة على الصراط المستقيم المتمثل بالقرآن كله وبالإسلام كله، الذي ينطلق المؤمنون منه ليطلبوا من الله الهداية لهم، والابتعاد عن خط المغضوب عليهم والضالين، والذي يأمر الله باتباعه وترك اتباع السبل الأخرى، وعن المؤمنين الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على خط التوحيد وانسجموا مع كل مواقعه ومراحله ومفرداته... إن هذه الآيات تنفتح على الشمولية في خط الاستقامة، بحيث لا يشذ عنه أي قول أو عمل أو علاقة أو موقف أو موقع مما يتصل بحياة الإنسان الخاصة والعامة، ولعلَّ من الواضح أن الدعوة إلى الأخذ بأي شيء في خط الاستقامة، والحديث عن الذين يتمثلون ذلك، يوحي بالواقعية الإنسانية العملية في القدرة عليه، والتحرك نحوه، وذلك في مواقع الحكم والسلطة، والحرب والسلم، والسياسة والأمن والاقتصاد، وما إلى ذلك.

وقد حدثنا الله في القرآن عن الصابرين والصادقين والموفين بعهدهم، والمحسنين والمتقين والشهداء - الذين يرتفعون إلى مستوى الشهادة على أمتهم - والصديقين والصالحين، وعن المجاهدين والمهاجرين في سبيل الله، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعن الأشدّاء على الكفار والرحماء بينهم، التائبين والراكعين والساجدين والخاشعين والقانتين والصائمين والمصلين والذاكرين الله كثيراً والحافظين لأنفسهم ولحدود الله، وأمثال هؤلاء ممن يتحركون بهذه العناوين في كل المواقع التي تتحرك فيها مسؤولياتهم في الحياة في القضايا العامة والخاصة، وحدثنا عن الدعوة إلى اكتشاف الوسائل التي تمنحنا القوة والثبات والسير في خط القرب من الله والحصول على رضاه، بالتفكير الهادىء العميق، والمعرفة الواسعة والشاملة، والممارسة الواعية المتحركة، مما يقودنا إلى الفكرة الإسلامية الحاسمة التي تؤكد أن الحق ليس عنواناً معلقاً في الهواء، وأن العدل ليس فكرة ضائعة في المطلق، وأن القيم الأخلاقية والروحية الإنسانية ليست مجرد أفكار مثالية يستريح الإنسان إليها في الأفق التأملي الوجداني اللذيذ من دون أن يلامس الواقع الحي، بل هي عناوين وأفكار وخطوط تتصل بمواقع الإمكانات الواقعية للقدرة الإنسانية في كل التجارب المرتبطة بالإنسان نفسه، أو بالإنسان الآخر في المسؤوليات الصغيرة والكبيرة.

وفي ضوء هذا، نستطيع أن نقرر، أن القيم الكبيرة في الإسلام ليست بعيدة عن التجربة الحية التي قد تصل إلى النتائج في بعض الظروف، كما قد تنفصل عنها في ظروف أخرى.

وإذا كان التاريخ الإنساني قد عاش الواقع السلبي المنحرف في دائرة السلطة، فإنه عاش الواقع الإيجابي المستقيم في هذه الدائرة بالدرجة التي يمكن للواقع أن يجسدها بشكل فاعل بارز في نطاق الإمكانات المتوفرة لديه، مما لا يسمح بالقول بأن التاريخ يمثل عناوين الإسقاط للخطوط المستقيمة والمبادئ القويمة، لأن ذلك قد يكون وارداً في المسألة الكلية، ولكنه ليس وارداً في الخطوط التفصيلية المتنوعة.

وقد أراد الله للواقع الإنساني أن يتمرد على كل عوامل الانحراف وأدواته بمختلف الوسائل التي تملكها حركة التغيير، ولا سيما الوسائل الفكرية منها، التي تضع الحياة في دائرة الصورة التي يتمثل فيها الإنسان، داخلياً وخارجياً، فكرياً وعملياً، في الجانب السلبي والإيجابي، فالواقع هو صورة الإنسان في الخير والشر على مستوى النتائج، الأمر الذي يجعل التغيير في صورة الحياة خاضعاً لتغيير الإنسان نفسه، وذلك هو قوله تعالى: "إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" [الرعد/11].

"ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" [الأنفال/53].

الدوافع النفسية للتغيير

فهي سنّة من سنن التاريخ الإنساني المتحركة داخل الوجود الإنساني في عناصره المؤثرة في الواقع، حتى أن الآلام التي تعرض للإنسان، تمثل النتيجة العميقة لأعماله، فليست مجرد قضاء وقدر مفصولين عنه، بل هي واقع منبثق عنه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" [النحل/112].

"ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" [الروم/41].

وقد نستوحي من الآيتين، أن الله أراد لخصائص الانحراف العملي السلبي أن تفترس وجود الإنسان في أمنه وراحته وطمأنينته، ليكون ذلك حافزاً مؤثراً في انطلاق إرادة التغيير لديه، مما قد يؤدي إلى الخروج من دائرة الاهتزاز إلى دائرة الاستقرار، ومن ساحة الانحراف إلى ساحة الاستقامة، بطريقة ذاتية على مستوى الفرد والمجتمع، من خلال وعي النتائج في حركة المقدمات.

هذا كله، بالإضافة إلى الحوافز الأخرى التي تدفع الإنسان إلى التغيير الإيجابي، وهي مسألة العقاب والثواب على مستوى الدنيا والآخرة، في نطاق رضوان الله وسخطه، وفي أجواء الجنة حيث النعيم الخالد، وأجواء النار حيث العذاب الخالد، فإن الإنسان يبقى في حركته سائراً في خط الترغيب والترهيب، بحيث يكفل له ذلك إمكانية الثبات على قاعدة الاستقامة والبعد عن الانحراف، بما يمثله «الوازع الديني» أو «الضمير الروحي» من عنصر ضاغط على اختيارات الإنسان الإيجابية في اتجاه التقوى التي تمثل الانضباط في طاعة الله فلا يفقده الله، حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه، سواء كان ذلك في علاقته بنفسه أو بالناس أو في ارتباطه بالله في مواقع رضاه.

وهذا هو ما يتمثل في كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن النتائج السلبية والإيجابية في الدار الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فلا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله "فمن يعمل مثقال ذر ة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" [الزلزلة/112].

"فأما من ثقلت موازينه* فهو في عيشة راضية* وأما من خفّت موازينه فأمه هاوية * وما أدراك ما هي نار حامية" [القارعة/11].

"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد" [آل عمران/30].

فإذا تجاوزنا الإنسان في ذاته إلى الواقع الاجتماعي في حركة المسؤولية، فإننا نرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كعنوانين كبيرين شاملين لكل خطوط الاستقامة والانحراف في القضايا العامة والخاصة، ووسيلتين من وسائل إيجاد الرقابة الاجتماعية في كل مجالات الواقع، لا سيما في قضايا الحق والباطل، والعدل والظلم، على صعيد الحكم والحاكم والقانون، وفي ساحة الناس الذين يتحمّلون مسؤولياتهم في سلوكهم الذاتي، وفي موقفهم من الشأن العام، فيكون المجتمع رقيباً على بعضه البعض في نطاق الإحساس بالمسؤولية، بالطريقة التي لا تتحول فيها الأمور إلى ما يشبه الفوضى، لأنها تخضع لضوابط الشرعية التي لا تخل بنظام الناس العام، لأن حفظ النظام الذي تستقيم به أمور الناس واجب على الجميع، فلا يجوز لأي فرد أو جماعة ممارسة الحرية الذاتية بما يؤدي إلى اختلال النظام، فإن ذلك قد يكون في موقع الخطيئة الكبرى.

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل الفريضة الحركية المنفتحة على كل مواقع الانحراف والاستقامة في حركة المجتمع، بحيث يتعرض تاركها للعذاب الأليم من الله، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في أكثر من آية.

"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" [آل عمران/104].

"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" [آل عمران/110].

"لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" [المائدة/78-79].

وقد ورد في الحديث عن رسول الله محمد (ص) أنه قال: «لتأمُرنّ بالمعروف أو لتنهُنّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله شراركم على خياركم فلا يستجاب لهم».

وقد جاء في «نهج البلاغة» عن الإمام علي (ع) أنه قال: «فمنهم المنكِر للمنكر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكِر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيّع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميت الأحياء، وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله، عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا كنفثة في بحر لجيّ. وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكِر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر»، و«لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع».

إن هذه النصوص - من الكتاب والحديث - توحي بأن المجتمع كله مسؤول عن تغيير الواقع المنحرف بكل الوسائل العملية، ولو بالعنف في نطاق الضوابط الشرعية المرسومة، أو على مستوى الثورة على الحاكم الظالم، والقانون الكافر، والحكم المنحرف عن الحق والعدل، فلا يقتصر على الأفعال الجزئية التي يترك فيها الناس واجباتهم الفردية أو يرتكبون فيها المحرمات الذاتية، بل يشمل الواقع العام كله.

وقد جاء في حديث السيرة الحسينية، أن الإمام الحسين (ع) قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مضمون الإصلاح في أمة جده، الذي هو سرّ الشرعية لحركته، فقد جاء في خطبته المعروفة: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، ولكن خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

وجاء في خطبة أخرى له: «أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيّر».

إن هذا النص الحسيني المتركز على النص النبوي، يعني انفتاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الخط التغييري في القضايا العامة على مستوى مواجهة السلطة غير الشرعية لمصلحة السلطة الشرعية، لتكون هذه المسؤولية في المواجهة بالقوة هي الضمانة الحادة لانسجام السلطة الحاكمة في خط الاستقامة.

وخلاصة الفكرة التي نريد إثارتها - باختصار - هي أن الإسلام في عقيدته وشريعته ومنهجه، هو الدين الذي أنزله الله ليتحرك رسوله والمسلمون من بعده في الدعوة إليه والجهاد في سبيله، من أجل أن يتحول إلى واقع حي متحرك في الحياة العامة للإنسان، فيكون قاعدة للفكر والعاطفة والحياة.

وقد أثار القرآن الكريم، كما انطلقت السيرة النبوية، الأحاديث المتنوعة في تخطيط الخطط، وتشريع الشرائع، وتحريك التحدي، وتأكيد المسؤولية، وتربية الناس وتعليمهم وتوجيههم، من أجل إيجاد الأرضية الصالحة لانطلاق الحكم الإسلامي وسلامته واستمراره، وتهيئة الأجواء، وتعبئة الأفكار من أجل ذلك كله.

أحكام الإسلام والسلطة

وإذا كان التاريخ الإسلامي قد عاش بعض الانحرافات في السلطة، أو بعض الاهتزاز في المجتمعات الإسلامية، فإن ذلك لم يكن ناشئاً من فقدان الإمكانات العملية الواقعية لاستقامة السلطة في خط الإسلام، ليتحدث بعض الناس بأن الإسلام لا يملك واقعية التطبيق الصحيح في حركة الواقع السياسي على صعيد الحكم الشامل للحياة، بل لأن الظروف الموضوعية التي أحاطت بالإسلام والمسلمين لم تسمح له باستكمال خطته، وتنفيذ أحكامه، ولكن الجو العام للواقع كان جواً إسلامياً، فلا يزال المسلمون يتحركون في الخطوط الإسلامية في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم حتى في خارج الدولة، ولا تزال التطلعات الإسلامية السياسية تفرض نفسها على حركة المسلمين في ساحات الصراع على مستوى التحدي في خط المواجهة، ورد التحدي في الدفاع ضد العدوان.

وقد استطاع الإمام الخميني (قده) في عصرنا الحاضر، أن يؤسس الدولة الإسلامية، وأن يثبت واقعية الطرح الإسلامي في نطاق الدولة، وأن يؤكد الخطوط العامة للاستقامة في تجربته وتجربة تلاميذه ومساعديه.

وإذا كانت هناك أخطاء وهفوات وانحرافات مما يتحدث عنه بعض الناس في التجربة، فإنها تمثل النتيجة الطبيعية للظروف القاسية التي عاشت فيها الثورة والدولة معاً، بالإضافة إلى فقدان العصمة، وعدم استكمال العملية التغييرية في المجتمع، والحصار الذي يفرضه الاستكبار الكافر على الجمهورية الإسلامية الجديدة.

إن الإسلام أثبت واقعيته في أكثر من تجربة في التاريخ، وهو لا يزال يتحرك من أجل تركيز هذه الواقعية في تجارب جديدة.

وإذا كان أعداء الإسلام يتحدثون عن بعض التجارب الفاشلة أو المنحرفة، فإن المنطق الموضوعي يفرض عليهم الالتفات إلى أن الله لم يرد للإسلام أن يؤكد وجوده بالغيب، ولكن بالوسائل الإنسانية الواقعية، وبذلك، فإن الإسلام يتحرك كما يتحرك غيره من الأفكار والتيارات والمبادئ الأخرى، في خضوعه للقوانين الموضوعة في الحياة من السنن التاريخية في حركة المجتمعات، والظروف المتنوعة التي قد تفتح الساحة على الفكرة وقد تغلقها عنها، وقد تهيىء لها مساحة محدودة في عالم النظرية والتطبيق.

وصدق الله حيث يقول: "وتلك الأيام نداولها بين الناس" [آل عمران/140]
منقول
أخوكم Soe_Lover :jester: :cool: