انا مسلم
07-02-2004, 04:38 AM
قال الله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهراً في كِتَابِ اللَّهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم وقَاتِلُوا المُشرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم كَافَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ }.
بداية لابد أن نعلم أن الآية تحتمل وجهين من التفسير، كلاهما صحيح، فباعتبار أن ('كافة) حال من الفاعل يكون المعنى الإجمالي للآية: قاتلوا المشركين جميعُكم، وباعتبار أن (كافة) حال من المفعول يكون المعنى الإجمالي للآية: قاتلوا المشركين جميعَهم، قال النسفي في (كافة): (حال من الفاعل أو المفعول) (التفسير:2/88)، وقال صاحب روح المعاني: ( فمعنى )قاتلوا المشركين كافة( لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم، أو لا تتركوا قتال واحد منهم) (01/39).
ولأن نتيجة الحرب بين الجماعة المسلمة وأولياء الشيطان قد تصل في بعض أيام التدافع إلى تهديد الوجود الفعلي للأمة الإسلامية، فإن من الضروري أن تتنادى الأمة في مثل هذه الظروف إلى إعلان حالة من الاستنفار القصوى لحشد كافة القدرات الممكنة، وتفعيل جميع الطاقات المدخرة، في عملية تجاوب إيجابي مع متطلبات المرحلة، ليتحرك الجميع من موقع الإحساس بالمسؤولية المباشرة عن القضية الجهادية.
ولاشك أن نصرة الإسلام واجبة على جميع المسلمين، بل إنها الدليل العملي على صدق الانتماء إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} (الصف:41)، وهذا يفرض أن يكون القتال -باعتباره واحداً من أهم مفردات هذه النصرة- مسؤولية عامة تشمل كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} (التوبة:63)، قال ابن كثير: (أي جميعُكم) (التفسير:2/653)، فالجميع مسؤول عن نصرة الدين، وليس الأمر خاصاً بأفراد دون آخرين.
ولأن الخطاب القرآني في هذه القضية خطاب عام يشمل جميع أفراد هذه الأمة ويحملهم جميعا مسؤولية قتال الأعداء لم تكن قوة الإلزام في حكم الجهاد أقل من الوجوب، فهو إما واجب عيني لا تبرأ ذمة فرد من أفراد هذه الأمة إلاّ بالأداء الشخصي له، أو واجب كفائي لا يسقط عن أحد من هذه الأمة إلاّ بأداء البعض له وحصول الكفاية عند القيام به، وإلاّ فإن الجميع يتحمل تبعة التقصير، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} (التوبة:63)، وقال الشوكاني: (فيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض) (فتح القدير:2/953).
ولكن لعل الظروف الموضوعية التي دعت فقهاء السلف إلى الكلام عن الواجب كفائي من حكم الجهاد قد دخلت في خبر كان، بل لم يبق منها إلاّ ذكريات العز المسلوب، فكل بلاد الإسلام اليوم ترزح تحت وطأة الاحتلال الأجنبي أو عملائه من الطواغيت المرتدين، مما يجعل المنطق الفقهي المتبع في تحديد الحكم الشرعي يستبعد أي موقف لا ينطلق من الوجوب العيني للجهاد، ويدعو إلى المشاركة العامة لكافة أفراد الأمة، وأن يبحث كل واحد فيها عن موقع في الجهاد يبرئ به الذمة، وقد قال تعالى {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} (التوبة:93).
ومما يزيد من عمق الإحساس بالمسؤولية المباشرة عن الجهاد ملاحظة المشاركة الجادة لكافة الأعداء في الحرب الدائرة بين معسكري الإسلام والكفر، إذ من الصعب أن يرى المرء مشاركة كافة الأعداء واجتماعَهم على قتال أمته ثم يكتفي هو بالمراقبة عن بعد وينتظر في سلبية كاملة ما عسى أن تسفر عنه نتائج المعركة، لأن الموقف المطلوب في مثل هذه الظروف هو التحرك العام واستنفار الجميع لمواجهة الخطر الداهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة:63) قال القرطبي: (فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم) (التفسير:8/631).
ويضاف إلى هذه العوامل كلها الحقيقة القدرية التي تنطق باستهداف الأعداء لجميع المسلمين، وأنهم لا يستثنون من ذلك إلاّ من اتبع ملتهم، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} (البقرة:712)، ولعل ما وصلت إليه يد الحملة الصــليبية من إرادة الإجهاز على الجمعيات الخيرية، ومدارس العلوم الشرعية خير دليل على أن من تأخر دوره اليوم ليس لأن اللائحة لا تستوعبه ولكن لأن منطق ترتيب الأولويات يفرض على الأعداء تقديم الانشغال بخط الدفاع الأول ليسهل عليهم بعد ذلك الخلوص إلى الداخل والتحرك بحرية، ولاشك أن هذه الحقيقة تفرض على كافة المسلمين الاهتمام بالصراع الدائر بين المعسكرين، بل ودخول دائرة الحرب للمشاركة الفعلية في الدفع.
ومن المعلوم أن الفهم الصحيح للإسلام يتطلب التوازن الدقيق بين العلم والعمل، وإلاّ فإن مجرد النظر من موقع الفكر في أجواء القعود لا يمكن أن يعمق حقيقة الإسلام في الداخل الفكري والوجداني للشخص، ومادامت الحركة على طريق الجهاد هي المسار الصحيح للعمل بهذا الدين، فإنها تعد الأداة الأساسية للتفقه فيه، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} (التوبة:221) ، ولذلك لو لم يكن الجهاد إلاّ واجباً كفائياً لكان من المطلوب أن يذهب الجميع إلى الجهاد في عملية تناوبية تمكن كافة المسلمين من فهم الدين وتوقفهم على المعاني العميقة لمفهوم العبادة، وإلاّ فإن (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ) (رواه الإمام أحمد).
إن الجهاد قضية من القضايا التي يجب أن تسترعي اهتمام جميع المسلمين، فهو مسؤولية من المسؤوليات العامة التي أنيطت بكافة أفراد الأمة، وهذا ما يفرض على كل واحد منها البحث عن موقع قدم في ساحة الحرب، وجدية هذا البحث تقتضي الإقدام على الجهاد بنفسية عازمة على مواصلة السير حتى وإن تخلف الغير عن أداء الواجب، فقوة الدافع يجب أن تُستمد من قوة الإلزام في التكليف الرباني، وقد قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَك} (النساء:48)، قال القرطبي: (ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده) (التفسير:5/393).
إلاّ أن الإحساس بالمسؤولية الفردية اتجاه قضية الجهاد لا ينبغي أن يولد نوعاً من السلوك الارتجالي الذي يترجم الجهاد في شكل تحرك عفوي، ويجعل من القضية تياراً متسيبا ينسج فيه كل واحد على منواله، فإن الإحساس بالمسؤولية لا يعني تجسيد الجهاد في أعمال فردية متناثرة، وإنما المطلوب أن يعمق هذا الإحساس الحرص على التحرك المدروس الذي ينطلق من موقع العمل الجماعي، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة}(التوبة:63)، قال القرطبي: (معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة) (التفسير:8/631).
نعم قد تفرض المتطلبات الكثيرة للعمل الجهادي نوعاً من التعدد في المواقع، مما يقتضي توزع الطاقات المجاهدة على جوانب مختلفة لتلبية احتياجات كلٍ من تلك المواقع، في عملية تقاسم للأدوار تمكن المجاهدين من الوقوف على كافة الجبهات المفتوحة للحرب، فالقتال وإن كان هو الجبهة الأصلية للجهاد إلاّ أنه ليس هو الجبهة الوحيدة لـه، إذ كل جبهة من جبهات الحرب تعد جزءاً من الجهاد، وتستحق أن تنال حظها من الطاقة البشرية التي تسد الثغر، قال عليه الصلاة والسلام: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ) (رواه الإمام أحمد). على أن هذا التعدد في المواقع لا يعني مطلقاً إلغاء الخصوصية المتميزة التي يتمتع بها القتال في مفردات الأحكام الشرعية.
أما إذا أقيمت الدولة الإسلامية فإن من الطبيعي أن تحتاج الجماعة المسلمة إلى تثبيت التمكين، وهو ما يستدعي أن تتوزع الجهود في الجهاد وغيره، فيتحرك البعض في موقع الحرب على اختلاف جبهاتها، ويتحرك البعض الآخر خارج هذا الإطار من باقي شؤون الحياة التي تقيم البناء الداخلي للأمة، وتمكّن من الاستجابة لمختلف احتياجاتها الذاتية، إذ من المعلوم أن متطلبات موقع الدولة ليست هي متطلبات موقع الحركة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (التوبة:221)، لكن الحقيقة هي أن الكلام عن هذا النوع من توزيع الجهود إنما يتناسب مع واقع للأمة لا يقضي إلاّ بالوجوب الكفائي للجهاد، أما في مثل معطيات واقعنا المعاصر فإن التكييف الشرعي لحركة المسلم لا يقبل منه إلاّ الوقوف على جبهة من جبهات الحرب الدائرة بين المعسكرين.
ولعل هذا ما يدعو إلى ضرورة المراجعة لكثير من مفردات العمل الإسلامي المعاصر، ومحاولة البحث عن علاقة كل جانب من جوانب هذا العمل بالحرب القائمة بين المعسكرين، فإن مفهوم الجهاد وإن كان يتسع في تجلياته العملية لأكثر من جبهة القتال إلاّ الحقيقة الشرعية لدلالة اللفظ ترفض أن ينتسب إليه أي عمل لا يعد جزءاً من الحرب ويتناسب مع مقاصد القتال في سبيل الله!!
طبعاً يضع الاستحضار الجدي للدلالات العميقة التي تختزنها آية الموضوع واجباً ثقيلاً على عاتق الجماعات العاملة، هو واجب إثارة القضية في حياة الأمة، وتحويلها إلى فكر عام يحمله أكبر عدد ممكن من المسلمين، في عملية تعبوية عميقة ومدروسة، تجعل الأمة تحمل هَم المواقف العملية للقضية الجهادية بكل متطلباتها، من موقع الوعي العميق بالمبادئ والدوافع والمقاصد، وليس من موقع التعاطف السطحي فحسب. وهو عمل يتطلب بدوره الاهتمام بتطوير الجهود الدعوية، بإعطائها مساحة أكبر للمشروع الحركي، والارتقاء بآليات الخطاب الدعوي ليصل إلى مستوى التناسق الدقيق مع الأهداف العامة للعمل الإسلامي.
وتبقى الآية تحمل في طياتها معنى آخر باعتبار أن (كافة) حال من المفعول، إذ يصبح المعنى العام للآية هو (قاتلوا المشركين جميعَهم)، وهو معنى يختزن دلالات كثيرة، تتناسب مع الدور الأساسي للأمة الإسلامية، وتتماشى مع المقاصد المناطة بها، على أن البحث الفقهي قد تكفل بضبط مفردات التنزيل العمل
حسام ياسين
بداية لابد أن نعلم أن الآية تحتمل وجهين من التفسير، كلاهما صحيح، فباعتبار أن ('كافة) حال من الفاعل يكون المعنى الإجمالي للآية: قاتلوا المشركين جميعُكم، وباعتبار أن (كافة) حال من المفعول يكون المعنى الإجمالي للآية: قاتلوا المشركين جميعَهم، قال النسفي في (كافة): (حال من الفاعل أو المفعول) (التفسير:2/88)، وقال صاحب روح المعاني: ( فمعنى )قاتلوا المشركين كافة( لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم، أو لا تتركوا قتال واحد منهم) (01/39).
ولأن نتيجة الحرب بين الجماعة المسلمة وأولياء الشيطان قد تصل في بعض أيام التدافع إلى تهديد الوجود الفعلي للأمة الإسلامية، فإن من الضروري أن تتنادى الأمة في مثل هذه الظروف إلى إعلان حالة من الاستنفار القصوى لحشد كافة القدرات الممكنة، وتفعيل جميع الطاقات المدخرة، في عملية تجاوب إيجابي مع متطلبات المرحلة، ليتحرك الجميع من موقع الإحساس بالمسؤولية المباشرة عن القضية الجهادية.
ولاشك أن نصرة الإسلام واجبة على جميع المسلمين، بل إنها الدليل العملي على صدق الانتماء إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} (الصف:41)، وهذا يفرض أن يكون القتال -باعتباره واحداً من أهم مفردات هذه النصرة- مسؤولية عامة تشمل كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} (التوبة:63)، قال ابن كثير: (أي جميعُكم) (التفسير:2/653)، فالجميع مسؤول عن نصرة الدين، وليس الأمر خاصاً بأفراد دون آخرين.
ولأن الخطاب القرآني في هذه القضية خطاب عام يشمل جميع أفراد هذه الأمة ويحملهم جميعا مسؤولية قتال الأعداء لم تكن قوة الإلزام في حكم الجهاد أقل من الوجوب، فهو إما واجب عيني لا تبرأ ذمة فرد من أفراد هذه الأمة إلاّ بالأداء الشخصي له، أو واجب كفائي لا يسقط عن أحد من هذه الأمة إلاّ بأداء البعض له وحصول الكفاية عند القيام به، وإلاّ فإن الجميع يتحمل تبعة التقصير، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة} (التوبة:63)، وقال الشوكاني: (فيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض) (فتح القدير:2/953).
ولكن لعل الظروف الموضوعية التي دعت فقهاء السلف إلى الكلام عن الواجب كفائي من حكم الجهاد قد دخلت في خبر كان، بل لم يبق منها إلاّ ذكريات العز المسلوب، فكل بلاد الإسلام اليوم ترزح تحت وطأة الاحتلال الأجنبي أو عملائه من الطواغيت المرتدين، مما يجعل المنطق الفقهي المتبع في تحديد الحكم الشرعي يستبعد أي موقف لا ينطلق من الوجوب العيني للجهاد، ويدعو إلى المشاركة العامة لكافة أفراد الأمة، وأن يبحث كل واحد فيها عن موقع في الجهاد يبرئ به الذمة، وقد قال تعالى {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} (التوبة:93).
ومما يزيد من عمق الإحساس بالمسؤولية المباشرة عن الجهاد ملاحظة المشاركة الجادة لكافة الأعداء في الحرب الدائرة بين معسكري الإسلام والكفر، إذ من الصعب أن يرى المرء مشاركة كافة الأعداء واجتماعَهم على قتال أمته ثم يكتفي هو بالمراقبة عن بعد وينتظر في سلبية كاملة ما عسى أن تسفر عنه نتائج المعركة، لأن الموقف المطلوب في مثل هذه الظروف هو التحرك العام واستنفار الجميع لمواجهة الخطر الداهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة:63) قال القرطبي: (فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم) (التفسير:8/631).
ويضاف إلى هذه العوامل كلها الحقيقة القدرية التي تنطق باستهداف الأعداء لجميع المسلمين، وأنهم لا يستثنون من ذلك إلاّ من اتبع ملتهم، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} (البقرة:712)، ولعل ما وصلت إليه يد الحملة الصــليبية من إرادة الإجهاز على الجمعيات الخيرية، ومدارس العلوم الشرعية خير دليل على أن من تأخر دوره اليوم ليس لأن اللائحة لا تستوعبه ولكن لأن منطق ترتيب الأولويات يفرض على الأعداء تقديم الانشغال بخط الدفاع الأول ليسهل عليهم بعد ذلك الخلوص إلى الداخل والتحرك بحرية، ولاشك أن هذه الحقيقة تفرض على كافة المسلمين الاهتمام بالصراع الدائر بين المعسكرين، بل ودخول دائرة الحرب للمشاركة الفعلية في الدفع.
ومن المعلوم أن الفهم الصحيح للإسلام يتطلب التوازن الدقيق بين العلم والعمل، وإلاّ فإن مجرد النظر من موقع الفكر في أجواء القعود لا يمكن أن يعمق حقيقة الإسلام في الداخل الفكري والوجداني للشخص، ومادامت الحركة على طريق الجهاد هي المسار الصحيح للعمل بهذا الدين، فإنها تعد الأداة الأساسية للتفقه فيه، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} (التوبة:221) ، ولذلك لو لم يكن الجهاد إلاّ واجباً كفائياً لكان من المطلوب أن يذهب الجميع إلى الجهاد في عملية تناوبية تمكن كافة المسلمين من فهم الدين وتوقفهم على المعاني العميقة لمفهوم العبادة، وإلاّ فإن (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ) (رواه الإمام أحمد).
إن الجهاد قضية من القضايا التي يجب أن تسترعي اهتمام جميع المسلمين، فهو مسؤولية من المسؤوليات العامة التي أنيطت بكافة أفراد الأمة، وهذا ما يفرض على كل واحد منها البحث عن موقع قدم في ساحة الحرب، وجدية هذا البحث تقتضي الإقدام على الجهاد بنفسية عازمة على مواصلة السير حتى وإن تخلف الغير عن أداء الواجب، فقوة الدافع يجب أن تُستمد من قوة الإلزام في التكليف الرباني، وقد قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَك} (النساء:48)، قال القرطبي: (ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده) (التفسير:5/393).
إلاّ أن الإحساس بالمسؤولية الفردية اتجاه قضية الجهاد لا ينبغي أن يولد نوعاً من السلوك الارتجالي الذي يترجم الجهاد في شكل تحرك عفوي، ويجعل من القضية تياراً متسيبا ينسج فيه كل واحد على منواله، فإن الإحساس بالمسؤولية لا يعني تجسيد الجهاد في أعمال فردية متناثرة، وإنما المطلوب أن يعمق هذا الإحساس الحرص على التحرك المدروس الذي ينطلق من موقع العمل الجماعي، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة}(التوبة:63)، قال القرطبي: (معنى هذه الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة) (التفسير:8/631).
نعم قد تفرض المتطلبات الكثيرة للعمل الجهادي نوعاً من التعدد في المواقع، مما يقتضي توزع الطاقات المجاهدة على جوانب مختلفة لتلبية احتياجات كلٍ من تلك المواقع، في عملية تقاسم للأدوار تمكن المجاهدين من الوقوف على كافة الجبهات المفتوحة للحرب، فالقتال وإن كان هو الجبهة الأصلية للجهاد إلاّ أنه ليس هو الجبهة الوحيدة لـه، إذ كل جبهة من جبهات الحرب تعد جزءاً من الجهاد، وتستحق أن تنال حظها من الطاقة البشرية التي تسد الثغر، قال عليه الصلاة والسلام: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ) (رواه الإمام أحمد). على أن هذا التعدد في المواقع لا يعني مطلقاً إلغاء الخصوصية المتميزة التي يتمتع بها القتال في مفردات الأحكام الشرعية.
أما إذا أقيمت الدولة الإسلامية فإن من الطبيعي أن تحتاج الجماعة المسلمة إلى تثبيت التمكين، وهو ما يستدعي أن تتوزع الجهود في الجهاد وغيره، فيتحرك البعض في موقع الحرب على اختلاف جبهاتها، ويتحرك البعض الآخر خارج هذا الإطار من باقي شؤون الحياة التي تقيم البناء الداخلي للأمة، وتمكّن من الاستجابة لمختلف احتياجاتها الذاتية، إذ من المعلوم أن متطلبات موقع الدولة ليست هي متطلبات موقع الحركة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} (التوبة:221)، لكن الحقيقة هي أن الكلام عن هذا النوع من توزيع الجهود إنما يتناسب مع واقع للأمة لا يقضي إلاّ بالوجوب الكفائي للجهاد، أما في مثل معطيات واقعنا المعاصر فإن التكييف الشرعي لحركة المسلم لا يقبل منه إلاّ الوقوف على جبهة من جبهات الحرب الدائرة بين المعسكرين.
ولعل هذا ما يدعو إلى ضرورة المراجعة لكثير من مفردات العمل الإسلامي المعاصر، ومحاولة البحث عن علاقة كل جانب من جوانب هذا العمل بالحرب القائمة بين المعسكرين، فإن مفهوم الجهاد وإن كان يتسع في تجلياته العملية لأكثر من جبهة القتال إلاّ الحقيقة الشرعية لدلالة اللفظ ترفض أن ينتسب إليه أي عمل لا يعد جزءاً من الحرب ويتناسب مع مقاصد القتال في سبيل الله!!
طبعاً يضع الاستحضار الجدي للدلالات العميقة التي تختزنها آية الموضوع واجباً ثقيلاً على عاتق الجماعات العاملة، هو واجب إثارة القضية في حياة الأمة، وتحويلها إلى فكر عام يحمله أكبر عدد ممكن من المسلمين، في عملية تعبوية عميقة ومدروسة، تجعل الأمة تحمل هَم المواقف العملية للقضية الجهادية بكل متطلباتها، من موقع الوعي العميق بالمبادئ والدوافع والمقاصد، وليس من موقع التعاطف السطحي فحسب. وهو عمل يتطلب بدوره الاهتمام بتطوير الجهود الدعوية، بإعطائها مساحة أكبر للمشروع الحركي، والارتقاء بآليات الخطاب الدعوي ليصل إلى مستوى التناسق الدقيق مع الأهداف العامة للعمل الإسلامي.
وتبقى الآية تحمل في طياتها معنى آخر باعتبار أن (كافة) حال من المفعول، إذ يصبح المعنى العام للآية هو (قاتلوا المشركين جميعَهم)، وهو معنى يختزن دلالات كثيرة، تتناسب مع الدور الأساسي للأمة الإسلامية، وتتماشى مع المقاصد المناطة بها، على أن البحث الفقهي قد تكفل بضبط مفردات التنزيل العمل
حسام ياسين