المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عائد إلى الشمس - مجموعة قصصية من الجليل



فادي عاصلة
19-02-2004, 11:37 AM
عائد الى الشمس



امي الغالية …

يا زهرة الرمق الأخير في خريفي ، يا نبض الاحساس المرهف في حروفي ، يا ذاكرتي الأجمل ، ورفيقتي الأمثل …

أمي أقسم ، أقسم بالحليب الذي رضعته ، أقسم بحضنك الحنون الذي أبداً ما خنته ، أنك شمعي ودمعي وضيائي ، وحب يسري في دمائي ، وشمس أشرقت في غياهب سمائي …

أمي رسالتك او وصيتك قد وصلتني ، وصلتني هنا ، هنا حيث أنا ، حيث ابكي لوحدي ، وأضحك لوحدي ، وأجن لوحدي ، هنا حيث لا صديق يؤنس وحدتك ، ولا قريب يزيل حرقتك ، هنا حيث ضاعت البسمة بين أروقة العاصمة ، هنا حيث شب في بركان الرجوع عاصفة ، هنا حيث اموت كل يوم ، واحترق كل يوم ، هنا جحيم الكون وجحيم التراب ، حين يزال الستار عن امل الشباب ليغدو وهماً خداعاً وسراب ، وتذوق النفس أصناف العذاب ، هنا حيث حصون البعد تحميني ، من غزوات الذكرى وتنجيني من عذاب الماضي وترسيني وتنسيني لموانيء النسيان ان ارسيت مرساتي وتأويني وترميني ...

أمي قرأت الرسالة الأخيرة ، نعم قرأتها حتى العظام ، ونزفت دمعاً حتى الفراغ ، قرأتها أمي بكل عيوني بعدد سنوني ، لكني اقرأها الآن مرة أخرى أمامك ، لتعرفي أني لم انساها ولن انساها فهي الرسالة الوحيدة التي فعلاً متأكد ، متأكد انها خرجت من قلب يخفق باسمي ، هي الرسالة الوحيدة التي ما خانني مرسلها ، هي الرسالة الوحيدة التي بقي صاحبها على العهد ، وفياً وافياً ولم يكذب في أي كلمة ، هي الرسالة الوحيدة التي لم يغب صاحبها وينساني ،هي الرسالة التي اقسم بالله انها جمرات لاظية من قلب مستعر ، حيث كتبت تقولين بلغتك العذبة : -

" بني الغالي ، يا اغلى من الغلى واحلى من الحلى ، عد بني ، عد حبيبي ، عد الي ، عد لامك التي ما كفت عن ذرف الدموع منذ تنسمت هواء باريس ،ووطأت قدماك أرضاً لم تعرفها من قبل " ...

بني عد ارجوك ، استحلفك بالرب الذي تصليه ، استحلفك بالارض بالعرض ، بالقمح بالكينا ، بتراب الجليل بعنب الخليل بسينا ، عد بني لتجفف دموعي وتطفأ لهيب انتظاري ...

بني افتش عنك ازور غرفتك أعد الغداء ، اشعل كانون النار ، احضر ابريقاً من الشاي ، وانتظر عودتك في المساء ، فتعود كل شباب القرية وانت أبداً لا تعود ...

ارقب آخر بيت يطفأ قنديله ، وآخر محزن يرخي منديله ، ارقب نجوم السماء واستجدي من الرب اللقاء ، حين زرعك الحزن تمرداً في غرس الجفاء ، لا صورك تخمد ثورة الأم ، ولا ماضيك يسكن اندفاعات الهم ...

فيزرع الأمل في جراحاً لا تعرف لها قرار ،ويشب في عروقي ناراً ونوراً وجمار ، ويفتك حبك أوصالي ويجول في الدماء ، ألبس للوجه الخمار ،لأزيل ايماءات الحزن وأخفي بصمات المرار ...

لكن لا يفت بي الصمود وأقول غداً سيعود ، ويأتي غدي المنشود ،جرحاً آخر ، صدعاً خر ، وأشلاء صبر وشظايا وعود ، آه لن يعود...

بني لن استحلفك بالغالي ، نعم لن أستحلفك بالامل الذي كان شطراً من القلب ، حين ذبت وهماً في لظى الحب ، لكني استحلفك بالغالي بالرب، استحلفك بصبري بعمري ، فان لم تقرر بعد الاياب فليزرعني الموت نعشاً تحت أطباق الغياب ، ولينصب على كل شبر وطأته قبري ...

بني والقلب فاض لذكراك ،وتلهف الروح لنضارة مرآك ،آه والاخاديد كل يوم تحيك في الدروب ، في عروق عنقي الذي يحن ليداك تلتفان حوله ، وصدري الذي يحن لوجهك الأسيل يداعب أطرافه ...

بني دموع الارض أبكيها ، وهم السنون أحكيها ، وطعنات القدر ، ودمعات البشر ، والهم يلويني ، والجمر يكويني ، والروح احتلتها المنية ، وضاعت ايامي الهنية ...

بني ها العيد قد أتى ، ليجدد في الذكرى ويعز في الفكرة ، وتهوي صفائح الحسرة ، طعنات في الجسد المحتل ، لتصبغ بدمائي حد السيف المستل ...

بني ثياب العيد تبحث عنك ،والعيد أخذ فرحته منك ، فعد الي ، عد لوجه امك العابس ، عد لثيابك التي تبحث عن لابس ، بني عشرة من اعياد وانا اشتري لك الثياب والحلوى وأدخر النقود واحترف السلوى ، فلا كان يطفك يهل ولا كانت روحي الانتظار تمل ...

آه بني عشرة من أعياد ، زرد العيد اشتكا غيابك ، وفطائر الجبنةحنت لايابك ، عشرة اعياد وانا دون الاعياد انتظر عودة الغالي في غد آت وانت لا تبالي ...

بني أتى العيد وعيدي عودتك ، وسماء الدنيا تشرق ببسمتك ، الوحدة تكبل كل أطرافي ، لا مؤنس لا صديق يخفف الألم ولا قريب يمسح الكلم ، آه آه آه ان تبقى تنهيد في الحناجر الغاصة بدم الثؤى حتى الوريد ...

بني ، كلي أمل ما قبل المنون أن أرى دون الجفاء العيون بومضة برمقة ، تكسر أصفاد المسافات ، بكلمة حب اوخلود ، تمحو غبار المآساة وتحط ملظى السنون ، تنزع أشواكالبعد ، تروي غرس الموجد ، وتصرح :" بني فليكن ما يكون فكل من اجل الحب يهون " ...

بني لا تتركني اقاسم الليل السواد ، لا تتركني أنزف دموعي قهراً كيراع شاحب دون المداد ، لا تتركني في ساح القدر دون عتاد ...

انت جراحي انت سلاحي ، انت دمي الذي يجري ، انت عمري الذي يسري ، انت روحي ،انت دمعي الذي يروي ، غرس المآساة ويلوي بسمات الوجه ويهوي ...!!!

بني ان تبقى في لساني كلمات ، ان تبقى في حنجرتي صرخات ، ان تبقى في تنهيدي اهات اخطها لك وصيتي قبل الممات :

بني رجاء عد ، عد ، عد الي ...!!!

هاذا ما كتبته أمي ، نعم قلت عد ، قلت بكل ما في قلبك من حنان الأم وطلبت أن أعود ، أمي قلت عد ، حرفين غارقين في الطلب ، لكن أين أعود ولمن أعود ، بالله عليك دليني ؟ ، أأعود لزرد العيد ، وفطائر الجبن ، هذا هو الوطن ؟ هذه هي قريتي ؟ ، أهذه هي فلسطين التي تأملت ان اكون ذات يوماً جزءاً بناء فيها ...

أمي انا اعرف وأعي انك قلتيها بكل ما اتسع صبرك من احاسيس بكل ما امتلأ صدرك من حنان وحنو وحنين ...

لكن لمن أعود ، لأي قرية تلك ، وأنت تعلمين ، تعلمين كم من طعنة طعنت في وطني ، وكم من مرة بارزت أيوب صبري ، وجاورت قيس بقبري ، تعرفين سهر الليالي وتعب الغوالي ، وجراحاتي انا وجراحات الخوالي ...

اه يا امي وانت تعرفين ، هذا القلب الذي يعصر خلاصة قتاد ايامه كلمات ، هذا القلب الذي نزف كل ارضه حباً وطعنات ، تعرفين هذا القلب كم أحب الارض وكم احب الحب ، تعرفين اماه قلبي كم نبض وكيف طعن ذات يوم فربض وكيف شهق شهقته الاخيرة فانتفض ، تعرفين أماه شمس ، تعرفين يا اماه شمسي ، فشمسي ليس كتلك التي تأتينا صباحاً لتهم وتغرف في اليم آخر النهار ، شمسي أماه شمس لا تغيب ، لا تعرف حدود النهار او الليل ، ان كان محال ان يلتقي الشمس والقمر ، فشمسي قد القت القمر مراراً وتكراراً ...

آه يا امي كم كانت حلوة ، تلك الصغيرة التي احببت ، كان شحوب القمح في بيادر الوطن المتآكل على نقمة متفجرة يتمثل في وجهها ، وكان جهوم الليل الذي يعتلي جبال الجليل ، ياخذ سواده وقهره من خصلات شعرها ، وكانت حمرة الشفق في شفاهها ، وجذوع الشجر الصامد في لحاظها ، ونعيم الجنان في رياضها ، كانت شمس رمز النور الاول في حياتي ، كانت شمس ، شمس بكل ما تحمله الكلمة من ضياء .

وحين كان الهم الوطني لا يعرف مسرباً بين كلمات العشاق ، لا يعرف السهرات الليلة ، التي يحياها العشاق ، كان الهم الوطني يعترينا نحن الاثنين ، من قال ان دموع العشاق هي حرام حرام ، حين يكون الوطن يحترق ، فقد اخطا ، فقد كانت دموعنا ليست كدموع اي عشاق ، ليس كمن يذرف ألف دمعة لينادي في الليل العميق حبيبة ، بل كانت دموعنا الأولى على شهداء عشرة وتبعوهم ثلاثة ،حينها لم تكن الدموع حرام حين يكون الوطن يحترق ، حينها كانت حلالاً حلالاً لأنه وببساطة تكون حلالاً حين نكون نحن والوطن معاً نحترق ...

وجاء معنى التضحية الحقيقية ، حين يعرف المناهض من المتواطيء ، حين يكون الامر بحاجة الى من يملك قلباً يتجذر في الارض كتجذر الزيتون في " مقلس" الصامد عبر السنين ، بحاجة إلى من يملك مساحة واسعة للنضال مساحة واسعة من الاباء ، " كالمل " حين يتفتح باخضرار زهور نضرة ، باخضرار دماء " خضر " يعانق "رجا " ويشد " محسن " بحنوغريب ، كالمل حين يقف خافضاً رأسه ذرافاً حزنه ، لا يملك العناق ولا التقبيل كالمل حين يقف مطأطأ رأسه ، ذارفاً دمعتين وزهرة ، دمعة لخديجة ، ودمعة لشيخة ، وزهرة للوطن لا تذبل ، إن ذبل كل ضمير ...

وحينها كانت كلماتي تختلج الصدور تخترق الجدران والاجساد والقلوب ، كانت كلمات تمرد ناجمة عن فيض الألم ، تخرج من فاهي لتستقر بقلوب ألوف من الصامتين الرابضين على بركان يتأهب ، كانت كلماتي تلسعهم تحفزهم ، تستحث فيهم انتفاضهم ، كنت ألقي كلماتي مرة ليرجع صداها بألوف قد رددتها معلنتاً رفضها ، لا الجراد ولا العقارب عادت تخيفها ، فليأكلوالاخضر واليابس ، ،وليحرقوا الارض وما تحتها ، لكن لن يحرقوا ضمير صبي بقليل من الشواقل يرمونها اليه في اخر الشهر ، او قلب عجوز ، قد خطت الاخاديد في عروق عجزها ملحمة الحرقة الخالدة ، لن يحرقوا ضمير عجوز سلبوها كل ما تملك ، كل ما شذبته بيديها الخشنتين عبر السنين ، لن يسلبو ضميرها بشواقل حقيرة ، اومدفأة لا ترد برد الليل ،حين يذيب قلباً متوقد يحرق كل الذكريات .

كانت كلماتي ترن ، تعتصر خلاصة القلوب تهيج الضمائر ، كان الكل يرد يهتف ينادي يصرخ يبكي : " دم الشهدا بينادي حرة يا ارض بلادي .... اذا الشعب يوماً اراد الحياة فلا بدان يستجيب القدر ... ولا بد لليل ان ينجلي ولا بد للقيد ان ينكسر "

كننا نردد والصراخ يعلو ، والحناجر تضطرب ، والصوت لم يعد يعرف سوى النداء حين طعن الصمت بخناجر الصوت وأتى الموت ...

عندها أطلت أماه شمس من بين الحشود ، وقالت بصوتها الحنون وهي تحييني :

- كيفك اليوم وين ه الغيبة " - فقلت وسعادة غامرة تطرق ابواب قلبي

- والله بالدنيا وين بدو يروح الاعمى من الزاوية ايانا من هم لهم

- شوهاللي مشغلك ، احكيليل فضفض "

- لا ولا اشي بس حرام الوطن هيك يصير فيو

- معلش رح كل اشي يتصلح ،طول ما في ناس زيك ، وزي هاي الناس اللي عم تهتف ، ما رح يضيع اشي ، ما في حق بضيع ، المهم كيفك انت ؟ "

- عايشين من قلة الموت - فقالت لي بغنج

- " بعدين معك ، مالك اليوم ،سلامتك من الموت انا ولا انت – فقلت فزعاً

- لأ لأ انت لا

فابتسمت وسارت ببطيء وسرت الى جانبها ، حتى اتكئنا جنباً إلى جنب على حافة جدار قديم يعود إلى خمسة عقود أو كثر بني على طرقة الرصف ،حيث رصفت أحجار مربعة قديمة ، يفصل بينها طبقة من الطين ويعلو الجدار سياج من حديد صديء قد تآكل على مر السنين ...

فقلت لها وقد استقرينا هناك ...

" شمس في سؤال حابب اسئلك ايا ... ؟ "

فقالت بوله ودهشة ..

" سؤال ؟ "

فقلت :

" أيوا سؤال ؟ "

فقالت بابتسام :

" اسئل اللي بدك ايا "

فقلت لها وقد تعمدت ألا انظر في عيناها :

" شو شعورك اتجاهي ؟ "

فقالت باتسامة مستغربة :

" يعني مش عارف ؟ "

فقلت :

" يمكن ؟ بس حابب اسمع منك "

فقالت :

" طيب رح اقلك ،أنا الصراحة ، أنا الصراحة ... "

فقلت مقاطعاً :

" يلا احكي بلا حرب اعصاب ..."

ضحكت ونظرت الي بشفقة ظاهرة وقالت :

" بحبك والله بحبك بحبك "

فصمت ولم أدري بما أرد ، شعرت ان اي كلمة قد تكون صغيرة ولا تفي حق فتاة قد سلمت لشخص قلبها ، شعرت ان كل كلمات ومعناي الرد ومفردات العشق والغزل والهيام ، قد تكون قزماًُ أمام كلمة حب صادقة تقرأها بين لحاظ فتاة ...

فقطعت جريات تفكيري بقولها :

" مالك ساكت احكي ... "

فقلت :

" شو احكي ؟ "

فقالت باستغراب ودهشة ، وعيناها تحاول ان تدرس ملامح وجهي :

" شو رأيك ؟ "

فقلت بكل ما يحمله قلبي من فرح وسعادة وتعجب :

"احلى كلمة سمعتها ،من احلى صبية شفتها ، باحلى محل ... "

ثم تابعت قولي ... :

" كنت حاسس اني رح اشوفك "

فقالت :

" وانا كنت متاكدة اني رح اشوفك بس مكنتش متوقعة انو اشوفك بهيك حالة "

قالتها وكانت بسمة ظاهرة على شفتيها تنم عن نصر او انجاز رائع في الوصول الى شيء ...

فقلت لها وأنا أعي ما تقصد أي شيء :

" لي ومالها حالتي يا روحي "

فقالت والابتسامة تعلو وجها كانها حققت ما سعت اليه :

" بتجنن ، قمر وحياة عيوني قمر "

وبينما كنت أعالج أطراف حطة فلسطينية الصنع ، قد لبستها فوق جارزة سوداء وقد لفت بعناء وكتب عليها بخط بارز : " يا من ورائي لا تخوني موعدي هذ شرايني خذوها وانسجوا بيارق نسلكم المتمرد ... " ، ارتعشت بشكل مفاجيء عندها احسست فعلاً ان البرد قد بدء يتسرب الى ضلوعها حين بدأت ريح باردة بالهبوب ، عندها خلعت الحطة الفلسطينية والبستها اياها ...

فتوردت وجنتاها ، ونظرت الي نظرات هادئة حنونة ولم تنبس شفتاها بأي كلمة ، حتى وصلنا مفترقنا ، فتشابكت أيدينا ، وذابت يداها في يدي ، وأحسست ببرود في يديها ورجفة صغيرة ، تمنيت لو بقيت يداي معها تدفء يداها ، وكان التورد لا يفارق وجنتاها ، كان لديها خجل هاديء باسمى معانيه وفارقت يداي يداها الصغيرتين ، وبقيت عيناي تودعها بشغف ، وحزن بالغ ، حتى اغرقها المنعطف ، وانا اغرقتني انهارمن الحبر تكدست فوق اشعاري ، لتخط كل الوان القصائد للوطن للحب للقضية ...

ومرت الايام سريعاً وكان الحب للوطن يكبر وكلانا عبيء القضية يثقل كاهله ، حتى جاء اكتوبر ليسطر ملاحم البطولة الخالدة التي سطرها أبناء قريتنا ، جاءاكتوبر ليقتلع بسمة " رامي " الجميلة الحلوة ، ليذبل جسد " احمد " ويتفتح ألف فردوس وفردوس ، ومضى اكتوبر ومضى أحمد ورفض أكتوبر إلا أن يرافقه " محمد " وجع القلب وجع المرحلة ...

اكتوبر مرثية لانهار من الدمع ، جاء اكتوبر ورحل ، ورحل معه بضعة من اجمل ما ازهر المثلث والجليل ، " عمر " و " وليد " و " عماد " أزهار الجليل من ارض المثلث للناصرة لسخنين لعرابة ، رحل عنا " علاء " وتبعه " أسيل " ليضيئو نار التمرد والصمود على أكتاف الجليل ، وليهدوا كل من غار في العمالة ضليل ، فغدوا داءاً للصدر العليل ، غدوا رمزاً لشعر من جذور الوطن الجميل ، حين صلب السلام على زناد البنادق قتيل ، وبقي القلب يبكي علاءاً ويبكي أسيل ،وكل من سقط في أرض العناد حباً ، وكل من صبغ بدماءه شفق فلسطين ، ودم الأصيل ...

آه يا أمي كم توجع القلب لفقدان باقةمن الزهور ، كم دمعت العيون وسالت دماً حتى الجفون لشهداء قد اشتروا المجد اشتروا بما تبقى لهم من سنون ...

ومر تشرين ثم جاء كانون ، فقطعت أنا وشمس تسعة أيام من تشرين ، تسعة أيام ننتظر المستقبل يا أماه ، كنا نحلم بمستقبل لا يشوبه غير زرقة السماء ، ولا تغدقه النادق اوالنجوم السداسية ، كنا نحلم بالفرح في ارض البرتقال الحزين ، كنا نحلم بان حنظلة الذي غدا رمز النضال يشعر بمضاضته كل من يعادينا ، وكانت شمس تلبس هديتي ، سلسلة ذهبية لحنظلة ، كانت عهداً منا على مواصلة الدرب مهما احتلته مرارت الزمن وحناظلته ، كان حنظلة الذي يستقر فوق صدر قمحي ، هو رمز للغصة في الصدر، ورمز للعنفوان والتحدي لكن الحلم كان يكبر ...

وجاء ليل العاشر من تشرين ، لكنه لم يرحل ، لم يرحل أيداً حين اخترقت قلب شمس رصاصة ،اخترقت قلبها على مدخل بيتها ، حين كانت تلبس حطة فلسطينية ، وقد كتب عليها بخط بارز : " يا من ورائي لا تخونوا موعدي هذه شرايني خذوها وانسجوا بيارق نسلكم المتمرد " كانت الحطة قد صبغت بدم الشمس ، ان عادت الشمس تشرق ، ركضت صوبها ، حين دوى الرصاص في ارجاء الموقع ، ركضت ، جننت ، صرخت ، وصلت اليها كان الدم ينزف من صدرها ، وكانت الحطة الفلسطينية قد صبغت بدمها الطاهر صرخت بكيت : " شمس ردي ، يا شمس ، ردي حرام حرام انا بحاجة الك وبدي اياك وشو حياتي اذا مت ، يعني اخسر كل اشي الوطن ضاع ، والعمر راح وانت اللي اشي الوحيد اللي بقيلي بهالدنيا "

حركت آخر ما تبقى في روحها من عمر وقالت وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة : ما تبكي ما تخليني اموت وانا زعلانة ع فراقك ، خليني اموت وانا مبسوطة لاني شهيدة وما تقول الوطن ضاع الوطن لا ضاع ولا رح يضيع ، لأنو ... "

وغاب الصوت وبضع كلمات ماتت في حنجرتها ، كما ماتت هي ، نعم ماتت بكل بساطة ، قتلوها أعداء الحياة ، بدم بارد كقلوبهم ، كيف لا أبكي يا شمس وقد مت ، كيف لا أبكي ، صرخت بأعلى صوتي حتى بترت سيقان الصمت المضني ، صرخت ، على هذا الزمن على ثلة كلاب باعوا الوطن وجلسو ملوك عهر لا يشغلهم غير من أجل الجارية الافريقية ام الفرنجية ؟ لا يشغلهم سوى اصناف الخمور وألوان الدعارة ، شمس قد ماتت وهل بات الدنيا تشرق ؟ ، ايها العرب قد استشهدت شمس فأي نهارتحلمون ، ماتت شمس مخضبة بدماء اطهر من لحاكم ومن تيجانكم ، ماتت شمس فلتسقط كوفية كل زعيم ، شمس لم تكن رمزاً لموتها ، بل كانت رمز للموت الفلسطيني ، للبرودة في القتل ، كانت رمزاً لمعارك من صفوف الكرمة ، ماتت شمس ومات النهار ومات الضمير ...

رحلت شمس ليحني كل عربي رأسه ، وكل متشدق باسم السلم ، فلينظر كل منكم للسلم في اسمى تطبيق ، وفي اشد معانيه ، ولتبقوا تتغنون بصلاح الدين وعمر ، لتبقو تتغنوا ، فلن تملكوا مناضل جديد بينكم ، لكن تعالوا في جولة لفلسطين على حسابي الخاص لتروا الف صلاح ، لتروا طفلا باع الدنيا ورفض الذل ، باع دمى الصغار وممحاته والمبراة وقلم الرصاص ، باع حقيبته ، وتعلم القراءة بمنهاج الحجارة ، هل تعرفون هذا المنهاج بدروسكم التي لا تدرس سوى اسس تركيزنظام الزعيم ؟ ، تعالو لتنتحر كل رجولتكم ويموت كل جبروتكم وينتحر كل ضميركم حين يرى ابن السنة قد غرق ليلاً في النوم وغرق نهاراً في الدم ...

بكيت وحدي جننت وحدي ، استصرخت الوطن النفطي الممتد من المحيط الى الجحيم ، الوطن الذي يتغنى بقيس بكى ليلى على الاطلال وكل شعب فلسطين ما عرف البكاء بل عرف كيف يتفجر على الاغلال ، الوطن النفطي الذي يتغنى بالشعر والغناء ، تعالو لترو اغنيات الشهادة وعزف الدماء تعالو لتروا فلسطين تخط الشعر وتخط ملاحم الكرامة الخالدة التي تثبت كل اوراق التوت التي تستعر عوراتكم ، تعالو لترو ضريبة الكرامة والدم ...

بكيت ، كنت اتذكر كلماتها ، صورتها ، هداياها ، كنت اتذكر فارسة الوطن تزف للوطن ، مباركة عليك ايها الوطن ،مبارك التراب الذي امتص دمك ، عدت لجليلي كان مقلس ينحب ، حزوة يصرخ ، كل شيء كان يبكي شمس ، كل الجبال والاشجار حتى غرق البطوف دمعاً ..

عدت الى ايامي ثاكلاً ، عدت الى تفاصيل يومي ، لكن ذكراها كانت ترافقني في كل شيء ، واكملت طريقي في الحياة والغصة البكاءة تجوب في جسدي وخناجر من الذكريات ،وطعنات من الافكار ، كان كل شيء في ينتهي ...

آمي كيف تتغير الحياة ، وكيف تتبدل المواقف ، وتتغير الأماكن ، فالبسمة لا تبيت على نفس الشفتين ليلة ، والدمعة تجري على نفس الخدين أيام ، ثمن بسمة يومك ألف دمعة آتية ، وثمن سعادة يوم سنين من آلام عاتية ...

وبعدها ما الذي حدث ماذا جرى لي سوى صدمة اخرى ، في عشائر قلبي الممتلئة بشظايا بسماتي ، أنت تعرفين ماذا جرى جيداً ، حين دخل بضعة رجال تلونهم النجوم السداسية الزرقاء ، دخلو واخذوني معهم ، تعرفين هاذ جيداً ، وأنا ايضاً ما زلت اذكره ، وكيف انسى حين امسكت بي بكل ما ابقى لك الدهر من قوة ، لا انسى كيف امسكتني ونزعوني منك بالقوة ، وما لا يمكنه نسيانه تلك الدمعة التي سقطت من خدك لتحرقني بالف لهيب ولهيب ...

قد صرت خطراً يهدد الامن ، اهدد امن الذين بنوا قوتهم فوق جسد شمس ، اهدد امن الذين قتلوها ، امن الساكنين فوق حطامنا ، اهدد امنهم ، لاني تكلمت ، لاني قررت ان استعمل فمي للنطق والكلام ، لا لمضغ الطعام والسلام ، قررت الكلام ، وحين تكلمت ارتحت من عناء اثقلني لكن النجوم السداسية كانت اسرع من صدى صوتي الي ...

ثلاث سنين امي ، والتعذيب والقهر والمحن ، والجرح والدموع ، على اعتاب الكفن ، فالكرباج قد هوى ظهري الشامخ ، والزنزانة قد اورقت بدموعي ودمائي ، ثلاث سنين لم ارى النور في الافق ، لم اشعر بالوقت ، ثلاث سنين توقفت حياتي عند كلمة ، ثلاث سنين اسجل مذكراتي بالجروح ، ثلاث سنين علمتني الكثير ، وكل يوم ازيد غضب واحتراقاً ولهب ...

وتعرفين امي طبعاً ماذا جرى بعد ، ماذا بقي اصلا ليجري ألا يكفي تلك الجراح لأعي انه يكفي ، لم يعد هذا الجسد الهزيل بامكانه ان يمتص رصاصاً اكثر من ذلك ، وعندها قررت ونفذت وغادرت ،وتعلمين عندما خرجت ، خرجت دونما شيء ، ولم يعرف أحد وجهة سفري ، غادرت لأدرس هناك في دول الغرب ، وقد قررت مسبقاً ألا اعود ، ألا اعود لهذا الوطن الغارق في تفاصيل اليوم ، تاركاً ارضه تنزف تتلون وتزرق ، خرجت مقرراً أن انسى كل شيء وابتدأ حياة جديدة حياة العمل والعلم ونسيان حياتي الماضية ...

وجدت نفسي فجأة هنا ، هنا في باريس ، حيث لا أحد يهتم لأحد ، تعيش وتموت دون ان يتدخل في حياتك أحد ، هنا حيث الكل غارق في عمله ومشاغله ، فوجدت نفسي انسى وانسى ، وبدأت طبقات الغبار تتراكم شيئاً فشيئاً في مخيلتي ...

لكني أبداً ما نسيتك أمي ، كنت أبحث دوماً عنك ، وحين كان يشب بي الشوق بركان حنين ، كنت اخرج اهيم في شوارع العاصمة ، حيث لا احد يعرف احد اويهمه ان يعرف احد ، وابحث عنك ، كنت ابحث في ارقام السيارات واللافتات الكثيرة والوجوه المختلفة ، ابحث عنك في المواقف ، لكن لم أكن أجدك سوى في داخلي ، اسمع خفق قدمااك تطآن قلبي وصوتك الحنون يقول لي : " بني عد الي "

امي رسالتك او وصيتك ، وصلت لتذكرني بالف ماضي وماضي ، عادت لتشعل نيران الرجوع ، هنا ...

حسناً امي سأعود ...

سأعود ليس للجبن او لملابس العيد او لاي شيء ... وإنما سأعود لاسوار عكا ، وميناء حيفا والخليج ،لجراحات يافا ، لنخيل طبريا ، سأعود لشموخ بيسان ودموع غزة ،لزيتون الجليل لعنب الخليل ، لحنون القدس للكرمل ، للمسجد الاقصى وكنيسة المهد ...

سأعود لكل فلسطين حين يوخز القلب الحنين ، سأعود امي من اجلك ومن اجل الوطن ، انت وطني ، انت زمني ، انت خفق قلبي ، انت مكمن حبي ، انت رضا ربي ، سأعود من أجلك ومن اجل شمس ، شمس لا تموت ، شمس لا تموت ، شمس هي الوطن ، فلسطين هي الشمس ،هي الضياء والنور ، وأنا عائد ، إلى الذكريات والماضي والأمس ، عائد الى صوت حبيبتي الشجي ،إلى كلامها إلى الهمس ،

عائد إلى فلسطين ، عائد ...عائد ... عائد ... إلى الشمس ...


فادي عاصلة - عرابة
الجليل