المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الباحث عن جسد؟؟!!!!!!!



**HarMony**
26-04-2004, 05:58 PM
هاقد عاد يحمل خيبته .. موشحاً بالرماد .. عاد بعد أن انسل من عالمه الحجري .. لا يريد من العمر سوى عودة بتصريح قد ختمه بدموعه .. وقطع قلبه بخشيته .. فيما يردد أحلامه بخواطره الشجية ..
عاد بعد أن غفل الصبح عنه ، وسافر بأقدامه نحو الهجير ، وأوت تفاعيله عن بلسم السجود والخضوع .. دهوراً قد سافر نحو البلاد البعيدة .. نأى بجانبه عن دواء جراحه ليتركها تنـزف ، وتنـزف ، وتنـزف .. لآخر قطرة تتمرغ ثملة في مناكب الخزي والازدراء ..
عاد يغني أغنياته حينما بدت الميادين أكثر زهاء ، وأكثر بياضاً من ثلج الشتاء .. مترهل الجسد .. نحيل الفؤاد .. واهن الروح .. فاقداً حسن العمل .. يشتـكي واقعه المعلق برؤوس السهام .. وحده تجوب به الأمواج بقضية الذكريات ، وتعفير خد الطفولة الضائعة .. يبعثر بتجاعيده غيوم المسير ، ليقف في حدائقنا .. بعد أن عرف طريقها .. بعد أن اكتشف موئلنا .. فكان اليوم مولده .. بعد تسعة وأربعين خريفاً وئدت في حلم رافض .. حتى أنه لم يصدق أننا في صباح يتجدد .. نزرع الأرض سنابل فتأتي بِـنِـعْمَ حب الحصيد ..
عاد ، يتنــهد :
- آه .. لليـل الحلم ما أطوله ، مـا أضنى من سار معه ، واكتشف توازيه ، بعد أن يسلب حلاوته ، ويسلب لذة ما تكتنفه من أرحام ؟.. )

تذكر !!، كان قد أعطاه والده ظرفاً مغلقاً يحمل رسالة ، وحذره بعدم فتحه إلا بعد أن ييأس في إيجاد ضالته .. حمل الظرف يبحث عن ذلك الرجل الذي يقرأه ويعطيه الدواء بناء على الوصية .. قد جاب الأزقة بخطوات أكثر صخباً من تلك الخطوات الرزينة ، التي تولي بهدوء ، حاملاً ثقله ، يتلقط عتبات غير متسقة في ارتفاعاتها .. يمر بنوافذ بلهاء فاغرة أفواهها ، وأخرى لا تستعمل الكلام إلا عند الضرورة ، تحاكيها الأبواب بأنواعهـا ، وتكاد كلها تكلمه بأشكالها ووقفاتها .. لكنه يمر عليها مرور الكرام .. كنوافذ مثبتة في جدران ميتة .
قطع المسافات ، فمر على ذوات الآذان الطويلة التي لا تتكلم إلا في أوقات محددة ، وبكلام محدد عميق المعـنى ، فدخل بيوتاتها ، حيث يشتعل النور ، وتظهر زرقة السماء بجلاء ، وتبدو أجواؤها مكللة بروح الطمأنينة .. فصلى .. راكعاً .. ساجداً .. داعياً مع أولئك المنسجمين المترددين بوله على هذه الأماكن ، وصعب عليهم تركها .. لكنه انغمس في الأزقة لم يحمل منها سوى آماله .. لم يأكل ولم يشرب معانيها ، حتى وهن عظمه ، وخارت قواه .. فجلس تحت ذلك الجذع الفارع في السماء .. يستند تجاعيده .. قرفصاء يبكيه الجفاف ، وعلى الأثر يبكي :
- يا إلهي .. أين أجد ذلك الرجل لأجد ضالتي معه .. فهذا الظرف قد اهترأت زواياه ، وإني أخاف عليه الموت ..

تحســس التربة ، وقبض على فؤاده .. بصر السماء ، وارتمى في أمعائه .. ففجرته أقدامه نحو إكمال المسير .. فخطوة تتبع خطوة ، واضطراب يقسو برعشة ، واكتئاب يغمر وحشه ، والأزقة في الرحيل حطت لحومه في مجالس تكتظ بآدميين أحياء ثملين بعشق آدميين شهداء .. يبكونهم .. يتفكرون في مآسيهم .. جالسهم .. اختلط جسده بجسدهم .. استمع ما قالوا .. وفعل ما فعلوا .. لكنه أيضاً حين تفرقهم .. انسلخ منهم وذهب .. يجر أذيال خيبته حيث لم يجد ذلك الرجل ، الذي يبحث عنه بجسده ، ليحقق له آماله بعد أن يقرأ مافي الظرف ..
قطع التأشيرة إثر التأشيرة ، وفي كل مكان فاضل سافر إليه ، كان يخرج دون الرجل الذي ينشده .. تذكر قوله أبيه :
- لا تيأس ، فإن هذا الرجل سيخلصك من كل آلامك ، ويحقق كل أحلامك ، لأنه من ذي الأنوف الأبية ، والقلوب الرضية ، والمعاني الجلية ، التي بمجرد أن تبصرها تطمئن ، وبمجرد أن تكلمها تكون في غاية الراحة ، وبمجرد أن تقف أمامها تقرأ ما على صفحات وجهك فتلبي رغبتك دون أن تطلب .. لكن شرطها هو أن تكون معها مخلصاً ، صادقاً فقط .. فابحث عنه لا تيأس ..
فواصل بحثه .. حتى أدميت أقدامه ، والليل يرحل بالنهار ، والنهار يرحل بالليل .. أنهكه التعب ، وقاسمه الهم جسده ، وأضاع منه خطوه في بيداء قاحلة ، لا كلأ فيها ولا ماء .. ترامى فوق كثبانها .. تحت هجيرها شرب دموعه .. في غمرة الوهج سحب أشلاءه .. في أديم الجبروت انغمست ملامحه .. فنادى :
- أين أنت أيها الجسد ، يارجلاً حملت فيك آمالي ودوائي .. أترى لك من وجود ؟.. أم تراني سأموت ولم أرك ؟.. أم ترى والدي من الخيال والأحلام أوجدك ؟.. فكنت أنا الضحية ..
أخرج الظرف الذي ازداد تآكله ، فشده شوقه ليفتحه .. ليقرأ مافيه .. لكنه تراجع متمتماً :
- لا .. لا .. لا .. فربما لم يبق على المسير مسافة طويلة ..
أعاد الظرف في جيبه ، وواصل زحفه ، والشمس ولت عنه حيناً بعد حين ، والقمر ناجاه سنين .. شرب من هنا وهناك ، فغص إثر الغصة .. ليجد ذاته كأنها الأشرعة تتقطع عند المرافئ ، والصواري التي تعلو أصواتها ، كأنها تدعوه : ( أن هلمّ إلينا .. نحن أمثالك في هذا البحر اللجي منذ آلاف من السنين ).. فجـر أذياله نحو حضيضه ، والمسافة الموغلة في البعد المكاني والزماني ، تقلصت على أوصاله ، ارتشفت كل قطرة من شحـومه .. حتى ارتمى في مستنقع قد صادفه .. ارتمى فيه بعد أن خيّل إليه بأنه صافٍ .. انغمس فيه رويداً رويداً ، ناسياً نفسه من حر الضمأ .. وما كاد الماء أن يصل إلى متون أكتافه ، ويستلذ ببرودته حتى تذكر الظرف وما يحمله من رسالة .. فبادر مسرعاً .. هلعاً لينقذه من الغرق .. لكنه قد غرق .. قد انغمس وإياه في الماء .. شرب أكثر منه .. فأخرجه مندلع اللسان .. ميتـاً .. قد تفككت جوانبه .. فدفعه أمله لإخراج الورقة منه .. ليقرأ مافيها .. فلم يستطع أن يقرأ إلا جملة واحدة كانت تقول له :
- وإذا مررت بكل تلك الأمكنة الفاضلة ، ولم تلق الرجل فيها ، فأنت بالفعل خائب الرجاء ، لأنك ربما تبحث عن جسد .. ربما تبحث عن جسد .. ربما تبحث عن جسد ..

فاي
29-04-2004, 03:11 PM
الحقيقة يا أخي لقد تأثرت بالقصة وبالأسلوب الرائع الذي يشبه الشعر والذي يدل علي موهبة فطرية قوية .. وشكرا علي القصة الجميلة التي اهديتها للمنتدي لكي نستمتع بها