tamir
27-05-2004, 02:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم :)
مفكرة الإسلام : بضعة أيام قضيتها في مدينة المساجد, علمتني من الدروس والعبر ما لم أتعلمه في سنوات عمري من الكتب والمواعظ. لمست دروسًا في الجهاد والإيمان غيّرت الكثير من مفاهيمي. قضيت هذه الأيام القليلة في بناية متهاوية بنيت في الستينات من القرن الماضي, أطلق عليها اسم المستشفى البديل، حيث اضطر الكادر الطبي بالمدينة لاستخدامها كمستشفى نظرًا لتدمير المستشفى الرئيس وقطع الطريق المؤدية إليه, فهو يقع على الضفة الثانية من النهر. والمبنى هذا عبارة عن ممر مفتوح من الجانبين, استعمل كاستقبال للجرحى وفرز الحالات وتصنيفها, وغرفتين جانبيتين صغيرتين جدًا استغلتا كصالتي عمليات كبرى, وهي طبعًا تفتقد إلى أدنى الظروف الضرورية, حتى لضماد الجروح البسيطة.
وكانت هناك صالة سينما قديمة بجانب ذلك المبنى استخدمت كصالة عناية مركزة بعد العمليات, وقد تعاون كل أهل المدينة بجلب الأسرَّة والفُرُش من بيوتهم، وجمع الأطباء كل ما يمكن جمعه من عياداتهم الخاصة, وفتحت الصيدليات الخاصة كل محتوياتها لخدمة الجميع, حتى أصحاب المطاعم بالبلدة تطوعوا لطبخ الطعام للمرضى وللكادر الطبي .... تكاتف رائع لمسته بين جميع سكان المنطقة, كلٌ من موقعه, والجميع كان يقف داعمًا للمجاهدين محتضنًا إياهم.
توالت ساعات الليل والنهار والقصف مستمر وأصوات الطائرات والقصف العنقودي ومدافع الهاون وأصوات تبادل إطلاق النار مستمر بالرغم من تحدثهم عن هدنة!!
في ساعات النهار كنا نحاول أن نستطلع الدمار الذي ألحقه القصف الوحشي بالمدينة الآمنة, فكنا نرى خرابًا ودمارًا وأشلاء لنساء وأطفال لم يكن لهم من ذنب إلا أنهم من سكان هذه المدينة الأبية الصامدة. شاهدنا المقاومين ينتشرون في شوارع البلدة بأجسادهم النحيلة وملابسهم البسيطة, يحملون أسلحتهم ويتربصون بالعدو, ولا يمنعهم هذا الاستعداد لنيل إحدى الحسنيين من المساعدة في إخلاء الجرحى وإجلاء الضعفاء من أهل المدينة إلى أماكن أكثر أمنًا. كانوا يكبّرون تارة ويهللون أخرى ويقرءون القرآن أحيانًا كثيرة, وكل منهم يتوعد بألا يسمح للعدو أن يدنس مدينته ومساجدها إلا على جسده.
كانت ساعات الليل أصعب بكثير؛ فالظلام يلف المدينة وتنيرها أضواء الانفجارات والحرائق والقنابل المضيئة, حتى المستشفى البسيط الذي كنا فيه لم يسلم من القصف, فقد سقطت قذيفة في ساحته, وحمدًا لله أنها لم تنفجر.
كان العمل متواصلاً, وفي سباق مع الزمن لإنقاذ من يمكن إنقاذه من الجرحى الذين كانوا يتوافدون أفواجًا بحيث لم يكن يستوعبهم المكان, فاضطررنا لمعالجة البعض كحالات وقف النزيف أو بتر الأطراف في الممر الخارجي لانشغال غرفتي العمليات ولكثرة عدد الجرحى.
في إحدى الليالي وصل من ضمن الجرحى رجل يصحب ولدًا عمره لا يتجاوز العاشرة من عمره مصاب بحروق من الدرجة الأولى والثانية في وجهه, قال: إنه أصيب بها أثناء تحضيره لعبوة ناسفة!! بدأت أنظف حروقه وكنت مشفقًا عليه لأن مجرد تعقيمها ولمسها مؤلم جدًا, لكني فوجئت بصلابة هذا الشبل الفلوجي الصغير، فلم يتألم, بل العكس, كان مستعجلاً يريد أن ينهي تضميد جراحه ليعود لإكمال مهمته وكأنه يقول: إن الوقت من ذهب. أما والده فقد أوضح لنا أن ابنه هذا هو ساعده الأيمن, وأن بقية إخوته يحاربون في مواضع أخرى, فهو قد ربّاهم على الإباء وعدم قبول الضيم, وهاهو يحصد ما زرع.
جريح آخر وصل وهو ينزف من إصابة بالغة في ساقه, وكانت صالتا العمليات مشغولتين فاضطررنا لبتر ساقه، ووقف النزيف في الممر الخارجي وبدون تخدير، وكان طيلة العملية يقرأ القرآن, وكأنه في عالم ثانٍ, ولم يظهر أنه يشعر بأي ألم, حتى أنه بعد انتهاء العملية سألنا متعجبًا: هل انتهينا؟! وحَمد الله وقال: إنه وإن لم يفز بالشهادة هذه المرة لكنه شمّ رائحة الجنة وقال: إنه أرسل ساقه إليها لتنتظره هناك في أقرب وقت بإذن الله, ملمحًا إلى مواصلة الجهاد بأقرب وقت.
يتبع
مفكرة الإسلام : بضعة أيام قضيتها في مدينة المساجد, علمتني من الدروس والعبر ما لم أتعلمه في سنوات عمري من الكتب والمواعظ. لمست دروسًا في الجهاد والإيمان غيّرت الكثير من مفاهيمي. قضيت هذه الأيام القليلة في بناية متهاوية بنيت في الستينات من القرن الماضي, أطلق عليها اسم المستشفى البديل، حيث اضطر الكادر الطبي بالمدينة لاستخدامها كمستشفى نظرًا لتدمير المستشفى الرئيس وقطع الطريق المؤدية إليه, فهو يقع على الضفة الثانية من النهر. والمبنى هذا عبارة عن ممر مفتوح من الجانبين, استعمل كاستقبال للجرحى وفرز الحالات وتصنيفها, وغرفتين جانبيتين صغيرتين جدًا استغلتا كصالتي عمليات كبرى, وهي طبعًا تفتقد إلى أدنى الظروف الضرورية, حتى لضماد الجروح البسيطة.
وكانت هناك صالة سينما قديمة بجانب ذلك المبنى استخدمت كصالة عناية مركزة بعد العمليات, وقد تعاون كل أهل المدينة بجلب الأسرَّة والفُرُش من بيوتهم، وجمع الأطباء كل ما يمكن جمعه من عياداتهم الخاصة, وفتحت الصيدليات الخاصة كل محتوياتها لخدمة الجميع, حتى أصحاب المطاعم بالبلدة تطوعوا لطبخ الطعام للمرضى وللكادر الطبي .... تكاتف رائع لمسته بين جميع سكان المنطقة, كلٌ من موقعه, والجميع كان يقف داعمًا للمجاهدين محتضنًا إياهم.
توالت ساعات الليل والنهار والقصف مستمر وأصوات الطائرات والقصف العنقودي ومدافع الهاون وأصوات تبادل إطلاق النار مستمر بالرغم من تحدثهم عن هدنة!!
في ساعات النهار كنا نحاول أن نستطلع الدمار الذي ألحقه القصف الوحشي بالمدينة الآمنة, فكنا نرى خرابًا ودمارًا وأشلاء لنساء وأطفال لم يكن لهم من ذنب إلا أنهم من سكان هذه المدينة الأبية الصامدة. شاهدنا المقاومين ينتشرون في شوارع البلدة بأجسادهم النحيلة وملابسهم البسيطة, يحملون أسلحتهم ويتربصون بالعدو, ولا يمنعهم هذا الاستعداد لنيل إحدى الحسنيين من المساعدة في إخلاء الجرحى وإجلاء الضعفاء من أهل المدينة إلى أماكن أكثر أمنًا. كانوا يكبّرون تارة ويهللون أخرى ويقرءون القرآن أحيانًا كثيرة, وكل منهم يتوعد بألا يسمح للعدو أن يدنس مدينته ومساجدها إلا على جسده.
كانت ساعات الليل أصعب بكثير؛ فالظلام يلف المدينة وتنيرها أضواء الانفجارات والحرائق والقنابل المضيئة, حتى المستشفى البسيط الذي كنا فيه لم يسلم من القصف, فقد سقطت قذيفة في ساحته, وحمدًا لله أنها لم تنفجر.
كان العمل متواصلاً, وفي سباق مع الزمن لإنقاذ من يمكن إنقاذه من الجرحى الذين كانوا يتوافدون أفواجًا بحيث لم يكن يستوعبهم المكان, فاضطررنا لمعالجة البعض كحالات وقف النزيف أو بتر الأطراف في الممر الخارجي لانشغال غرفتي العمليات ولكثرة عدد الجرحى.
في إحدى الليالي وصل من ضمن الجرحى رجل يصحب ولدًا عمره لا يتجاوز العاشرة من عمره مصاب بحروق من الدرجة الأولى والثانية في وجهه, قال: إنه أصيب بها أثناء تحضيره لعبوة ناسفة!! بدأت أنظف حروقه وكنت مشفقًا عليه لأن مجرد تعقيمها ولمسها مؤلم جدًا, لكني فوجئت بصلابة هذا الشبل الفلوجي الصغير، فلم يتألم, بل العكس, كان مستعجلاً يريد أن ينهي تضميد جراحه ليعود لإكمال مهمته وكأنه يقول: إن الوقت من ذهب. أما والده فقد أوضح لنا أن ابنه هذا هو ساعده الأيمن, وأن بقية إخوته يحاربون في مواضع أخرى, فهو قد ربّاهم على الإباء وعدم قبول الضيم, وهاهو يحصد ما زرع.
جريح آخر وصل وهو ينزف من إصابة بالغة في ساقه, وكانت صالتا العمليات مشغولتين فاضطررنا لبتر ساقه، ووقف النزيف في الممر الخارجي وبدون تخدير، وكان طيلة العملية يقرأ القرآن, وكأنه في عالم ثانٍ, ولم يظهر أنه يشعر بأي ألم, حتى أنه بعد انتهاء العملية سألنا متعجبًا: هل انتهينا؟! وحَمد الله وقال: إنه وإن لم يفز بالشهادة هذه المرة لكنه شمّ رائحة الجنة وقال: إنه أرسل ساقه إليها لتنتظره هناك في أقرب وقت بإذن الله, ملمحًا إلى مواصلة الجهاد بأقرب وقت.
يتبع