المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاعتراف الأخير



cherif rouan
01-09-2004, 02:04 AM
undefinedundefinedundefinedالاعتراف الأخير

كانت الحياة هادئة وجميلة والأيام تمر في تسلسل بهيج كانسياب ماء الغدير الجاري بين المروج والمراعي ، لا شيء يعكر صفوها ولا صفو عبد الهادي الذي اعتاد على هذا التسلسل العادي.كان المكتب الذي يتقاسمه مع بعض الزملاء جنته الخاصة والمكان الوحيد الذي ينعم فيه بالهدوء والطمأنينة ، وكلما ضاقت به الدنيا الا ووجد من يواسيه ويقف إلى جنبه حتى أضحى جزءا منه ،كان يثق في الأيام عكس بقية الخلق ويحترمها لأنها هي التي تصنع الظروف وتضمد الجراح وتأتي بالأفراح ،فرأى فيها تجسيدا لأحلامه وطموحاته ، وظل على حاله يترقبها بتفاؤل وما تحمله له إلى أن باغتته وسائل الإعلام بنبا قلب كيانه وغير من رؤيته للمستقبل ، فأحس بأن الأيام التي وضع فيها كل ثقته لم تعد أقوى كما كان يعتقد واعتقد بأنها قد لا تكون بين عشية وضحاها.
لقد بثت وسائل الإعلام الدولية والوطنية خبرا مفاده أن الكرة الأرضية عشية هذه الألفية التي لم يبق عن انقضائها الا مائة واثنين وثلاثون يوما ، قد تشهد كسوفا وكثفت من نداءاتها حتى التهويل، حيث حثت فيها المواطنين بعدم الرؤية إلى السماء لتجنب أشعة الشمس الصادرة التي قد تؤدي للعمى.
لم يبق على اليوم الموعود الا يوم واحد فانتابه الذعر ، ولم يهدأ له بال ، انه جد منزعج ، لم يسبق له أن رأى كسوفا منذ نشأته لكنه كان يعلم من بعض الحضارات القديمة والتي كانت كلها تجمع بأن كسوف الشمس ما هو الا غضب الإله على عباده ،وكلما حل كسوف الا وحلت معه اللعنة الإلهية،متمثلة في كوارث طبيعية فتهلك القوم الضالة والظالمة وتطهر الأرض منهم ومن دنسهم.
لم يعد يثق في الشروحات التي قدمتها وسائل الإعلام المرئية بغية تهدئة الأمور قبل حلول اللعنة كما كان يعتقد واعتبرها سوى خطب سياسية ملقاة من أفواه علماء.
تذكر أحوال عالمه المعاصر الذي يعيش فيه،فأوجد بأنه مليء بالتناقضات،بالمظالم والمعاصي،فيه تراق الدماء،تباح المحرمات،عالم مجنون ومتفسخ حيث لم تعد للنفس البشرية قيمتها،كثرت الحروب،القوى يأكل الظعيف وباختصار اجتمعت فيه كل العناصر التي من شأنها أن تكون سببا في هبوط اللعنة عليه وتفجيره،ثم تساءل وقال : كيف لا تأتي نهاية هذه الألفية بالانفجار وهي التي أتت بالطاعون و الكونيتين والسيدا والخليجيتين ؟ وازدادت مخاوفه حين تذكر الكابوس الذي رآه ليلة البارحة ،حيث رأى فيما يرى النائم بأن البحر في لحظة هيجان وفي مد لا مثيل له غمر وأغرق جزءا كبيرا من مدينته،وقد هلك عدد كبير من الأهالي والقلة القليلة المتبقية تقاسمتها أسماك القرش والمجاعة.
أستيقظ من نومه مفزوعا،نظر إلى الساعة المعلقة على جدار الغرفة فلم يبق على موعد الكسوف الا ثلاث ساعات تنهد في حسرة وتساءل كالذي يكون في انتظار المقصلة التي ستهوى على رأسه وقال:أنا لم أقترف ذنبا وكثيرون هم أمثالي في هذا العالم ،ما مصير العالم بعد ثلاث ساعات؟ ثم أردف بل العالم لا يعنيني في شيء،ما مصير مكتبي وزميلتي نورا ؟
توضأ ثم صلى صلاة الصبح وظن بأنها ستكون آخر فرض له وأضرب عن شرب قهوته لأن نفسه مسدودة وتوجه إلي محطة النقل مثقل الخطوات، فشد انتباهه كثرة النوافذ المسيجة بالحديد والأبواب الخشبية التي استبدلت بأخرى حديدية ، الحديد أغزى كل شيء لم ينتبه لهذه الحقيقة الا هذا الصباح بالرغم من أن هذه الظاهرة شرع فيها من قبل ، هذا الصباح أيضا بدت حركة النقل شبه منعدمة والمحلات التجارية مغلقة،حتى المقاهي والمخابز التي من المفروض أن تكون مفتوحة قد دخلت في إضراب غير معلن كأن أصحابها ظنوا بأنها نهاية العالم كما كان يعتقد، فالشارع الرئيسي أضحى مشلولا من الحركة الا من بعض الراجلين ثم اتجه إلى الكشك الوحيد المفتوح فاشترى جريدة وظن بأنها ستكون آخر جريدة سيتصفحها،وفي قلق متزايد سارع لمعرفة الأخبار والعرق البارد يتصبب من جبينه،أهمل كل ما لم يتعلق بالكسوف وراح يلتهم الأخبار حيث جاء على صدر الصفحة الأولى ما يلي :
(( انتشرت حمى الكسوف في العالم،لقد انتحر رجل في مقتبل العمر بعد أن قضى على زوجته وأطفاله خوفا من الكسوف،لأنه كان يزعم بأنها نهاية العالم،وفي مدينة باريس توقع مصمم أزياء اختفاء المدينة من على سطح الأرض في كرة من اللهب،اليوم أثناء الكسوف بسبب مركبة الفضاء الروسية ّ مير ّ التي ستهوى عليها،إن لم تسارع أجهزة الأمن في التحكم فيها عن بعد وتوجيه مسارها وإسقاطها على الشواطئ الجنوبية للمتوسط ستدمر مدينة باريس عن آخرها، وقد أتستوحى كلامه من كتابات العراف المشهور ّنوستراد أموس ّ،وفي الوقت نفسه شكل سكان مدينة مرسيليا حكومة مؤقتة بدون العاصمة وسيتولون إدارة شؤون البلاد إذا ما صحت التنبؤات..
في حالة ما إذا صدقت التنبؤات وحولت المركبة من طرف سلطات العقد الاجتماعي إلى ضفافنا لإسقاطها على رؤوسنا فما هو مصيرنا؟أستشفع لنا صلاة الكسوف التي ستؤدى بالمساجد من اللعنة؟أيوجد من يعيد توجيهها أو إسقاطها قبل أن تدخل مجالاتنا الإقليمية؟أليس بحر المانش أقرب من المتوسط لباريس؟
بعد جهد جهيد وصل عبد الهادي إلى مكتبه حيث وجد المصلحة شبه مشلولة،كأن الزملاء فضلوا مثله الالتحاق بمن هم أعز عليهم في هذه الأوقات الحرجة،وقد رخص للأمهات بالتغيب لحراسة أطفالهن ريثما تنتهي ظاهرة الكسوف.
وما هي الا دقائق وتدخل الآنسة نورا كعادتها مبتسمة،فتبادر بالتحية وتجلس على مكتبها وتقول :إن حركة النقل جد صعبة لكن نحن محظوظون لرأية ظاهرة كسوف الشمس،آه لو كان كلي لكان أجمل.
نظر اليها عبد الهادي بتعجب وقال في نفسه : عجيب أمرك يا نورا رغم نباهتك الا أنك تستخفين بالأمور،أحقا أنت غير مكترثة بما سيحدث؟
نطق عبد القادر الذي يعتبر عميد المصلحة من حيث الاستقامة والكفاءة والأقدمية مما جعل الجميع يكن له التقدير والاحترام أثناء التحدث وكأنه أحس بمخاوف عبد الهادي حيث حط يده على كتفه الأيمن مطمئنا إياه وقال : حقا انه لمنظر جميل لكن للأسف أترك لكما فضل التمتع به،لأني سأحضر صلاة الكسوف بمسجد الحي المجاور والتي ستدوم منذ بدايته إلى نهايته ثم أغلق الباب وخرج.
كانت الساعة تشير إلى التاسعة وعشرين دقيقة حيث بدأ اقتران القمر بقرص الشمس تدريجيا ورمى بظله على الأرض،فبدت السماء وكأنها ملبدة بالغيوم واكتست العتمة سماء المصلحة فزاد اضطراب عبد الهادي ولم يعد هادي حتى أضحى جليا للأعين اضطرابه مما دفع بنورا الاقتراب منه ومساءلته : ما بك يا عبد الهادي؟أراك مقتبضا صامتا وهذا ليس من عادتك.
- الكسوف يا نورا..الكسوف،سنحترق إن تحترق باريس والأيام يا نورا..الأيام التي طالما انتظرتها وكنت أثق فيها..هل ستكون يا نورا؟
- بالطبع ستكون هناك أيام. أتظن بأنها نهاية العالم؟ لتحترق باريس فما دخلنا بها؟ألم تحترق قبلها بغداد وأطفال العامرية ولم يكن لها أي تأثير على جيرانها؟كلام الصحف؟انه مجرد إشهار لا تقلق،واستغفر ربك فنهاية الكون ليست اليوم أو غدا،هذا لا يعلمه الا الله واعلم بأن الانسان مسير ولا مخير ،يعيش في الحياة حسب خط مرسوم له منذ البداية، وجد قبل أن يولد.
- كانت هذه الكلمات لها الأثر الإيجابي على نفسية عبد الهادي، مما جعله يرتاح لها ويغوص في الكلام بدون انقطاع عن طفولته البائسة عن الحرمان عن الشقاء ،عن الريف،وعن سذاجة وطيبة أهله وعفويتهم ووداعتهم وعن خوفه الزائد من الأيام وتكلمت نورا هي الأخرى عن طفولتها ،عن حياتها التي لم تعد تطاق،عن المدينة ومدنيتها المتوحشة ،عن أضوائها الزائفة وعلاقاتها الاجتماعية الباردة وعن ذئابها المتوحشة وعن ضبابها وتلوثها.
لحظتها قاطعها عبد الهادي وقال : الآن ا زادت ثقتي فيك ، أود أن أعترف لك بشيء يا نورا.
ليس الآن يا زميلي حالتك النفسية تبدو مهزوزة،هيا أنهض لنتأمل معا اللحظات الأخيرة فالظاهرة توشك أن تنته دون أن نكون شاهدين عليها،هذا حدث تاريخي.تنهض من مكانها وتقترب من النافذة وتلبس نظاراتها الخاصة وتنظر للسماء ثم تسلمها له ليرى بدوره ويبقيا على حالهما صامتين إلى أن أحست بشعور غريب ، شيء من الخوف وبدون شعور اقتربت منه أكثر حتى لامس جسدها جسده وقالت : فما يكون مصيرنا لو طال الكسوف ، لولا وجودك قربي لما بقيت لحظة وحدي .
وما هي الا لحظات حتى ظهر قرص الشمس كلية وانتهت الظاهرة وعادا ليجلسا بالقرب من بعضهما البعض ثم سألته.
-ها قد مر الكسوف وزالت مخاوفنا،بماذا أردت أن تعترف لي ؟أي حقيقة كنت تخفيها عني؟
-الحقيقة أن الاعتراف قرار شجاع وخطوة عملاقة نحو الانعتاق والتحرر من القيود والمخاوف والمشاكل التي قد نصطنعها لأنفسنا حتى تضحى سدودا منيعة بيننا و بين ما نصبو إليه ..
-لا داعي للمراوغة هيا اعترف ، ما هو اعترافك الأخير؟
- إني..إني أحبك يا نورا، من دونك لا دلالة لي ،إن كنت مقصرا في حقك فاعف عني ،أنت المأوى.. أنت كل شيء ،أنت..
تقاطعه نورا وهي في منتهى الغبطة قائلة : ّ أخيرا اعترفت بالحقيقة لماذا انتظرت كل هذه السنين،
لو اعترفت منذ البداية لجنبتنا هذا القلق والخوف والشك الذي عشناه .
في هذه الأثناء يدخل عبد القادر بعدما أدى الصلاة ويبادرهما سائلا :
-كيف كان منظر الكسوف يا أولاد ؟
فتجيبه نورا وهي تنضر بطرف العين لعبد الهادي وكأنها ترد عن اعترافه الأخير ّ رائع..رائع..كان مشهد يجنن وشاعري.
- :06: القهوة والمشروبات على حسابي الخاص يرد عبد الهادي ويستمر في حديثه ، هذه مناسبة تستحق الاحتفاء بها ثم ينهض لتنفيذ ما وعدهم به مناجيا نفسه ّ اليوم امتداد للغد وما دام الغد موجود هناك أيام للحب للآمال وللأحلام.