المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (( حلم الحاج ))



د.اسامة الحاتم
10-09-2004, 03:24 PM
(( حلم الحاج ))


في احدى المدن العراقية الصغيرة في اربعينات القرن الماضي ، عاش رجل بقال في احدى المحلات الشعبية يدعى الحاج فاضل ، وقد كان ذلك الرجل اول امره رجلا فقيرا افتتح دكانا بسيطا في تلك المحلة ، وكان مثقلا بالأعباء والهموم ، فهو بالاضافة الى اطفاله الخمسة ، كان يعيل امه ، واخته الارملة وطفليها الصغيرين ، وكان يسكن في بيت صغير استاجره من مالكه مختار المحلة عندما اقبل الى هذه المنطقة قبل سنوات .


لم يكن اسمه عندما سكن في تلك المنطقة الحاج فاضل ، بل كان اسمه فاضل فقط واحيانا فضّولي ، كما يدعوه المختار وبعض وجهاء المحلة ، وكان يرتدي ملابس بسيطة ، لا تتغير صيفا أو شتاء ، وكان اطفاله يبدون دائما جوعى ، شاحبي الوجه ، هزيلي الجسم .


ولكن هذا الرجل البائس كان له حلم كبير في اعماقه ، كان يريد ان يصبح غنيا ، وكان يريد لاطفاله ان يصبحوا موظفين في الحكومة ، يجلسون الى مكاتب فخمة في دوائرهم يامرون وينهون ، ويستلمون راتبا ضخما في نهاية الشهر ، كان هذا الحلم ـ الذي سيطر على عقله ونفسه ـ يعتبر خيالا جنونيا بالنسبة لرجل مثله يعتبر اطعام عشرة افواه بالنسبة له معجزة يومية ، ولكنه اندفع في طريقه بتصميم جنوني لا يعرف التردد ولا التراجع ، وكان يستقبل بابتسامة مرة تعليقات بعض سكان المحلة وهم يتهكمون على منظر اولاده وهم يذهبون الى المدرسة بملابسهم المهلهلة ، وفي مرة من المرات اضطر فضولي ان يقبل يد مدير المدرسة متوسلا عندما انذره هذا الاخير بطردهم من المدرسة ان لم يدبر لهم ملابس معقولة ـ بدل ملابس الشحاذين التي يرتدونها كما قال ـ وطلب من المدير امهاله اسبوعا كي يدبر لهم هذه الملابس ، ولم يعرف احد كيف استطاع هذا الرجل البائس ان يفعل ذلك ، ثم تبين بعد ذلك انه اخذ ثيابا من الصوف الرخيص ـ هي كل ما تركه له والده ـ الى احد معارفه من الخياطين ، الذي اشفق على الرجل الفقير وقام بتفصيل الملابس المطلوبة للاطفال من هذا الثوب القديم .


وفي دكانه ، كان هذا الرجل مثالا للوداعة واللطف ، كان كلما انتهى من وزن شيئ لاحد الزبائن وضع فوقه حفنة اضافية ، واذا كان مع الزبون اطفال ، كان يلاطفهم ويداعبهم ، ويعطيهم بعض الحلوى الرخيصة مجانا ، واذا حل موعد الدفع الشهري ، كان يتساهل مع مدينيه الفقراء ، فيتنازل عن بعض دينه عليهم ، لهذا لم يكن غريبا ان يحبه سكان المحلة ويعطفون عليه وعلى اولاده ، ويقصرون شراء حاجياتهم منه تشجيعا له من جهة ، وتقديرا للطفه ووداعته من جهة اخرى .


على هذا المنوال سارت حياته الصعبة ، الى ان بدأ المسكين يجني ثمرات كفاحه المرير بعد عشر سنوات من سكنه في المحلة ، فقد استطاع في يوم من الايام ـ وسط دهشة الناس وذهولهم ـ ان يشتري له دارا في حي جميل في المدينة ، وانتقل اليه ، مغادرا تلك الدار البسيطة التي عاش فيها اعواما طوالا ، وبعد شهور قليلة ، ذهب الى الحج ، ليصبح اسمه منذ ذاك الحاج فاضل ، ثم تتالت اخباره المدهشة عاما بعد عام .. لقد اشترى كثيرا من الاملاك والدور في كل ارجاء المدينة ، وقد تقدم رجل وجيه من كبار الموظفين الى اخته الارملة ، ثم زار الحاج فاضل الديار المقدسة مرة ثانية مؤديا فريضة الحج مع زوجته وامه هذه المرة ، ثم بدأ ابناؤه يتخرجون من الكليات بين طبيب ومهندس ومحام ومدرس وضابط .


والغريب ان الحاج فاضل ـ رغم كل ما وصل اليه من مكانة اجتماعية وثراء مادي ـ لم يغير من حياته كثيرا ، فهو مازال ياتي الى الدكان ويمارس عمله البسيط في البقالة ، يساعده خادمه المخلص الامين عبود الذي رافقه منذ سنوات فقره وجوعه ، وقد اعتبر سكان المحلة هذا التصرف منه دليلا على نبل اخلاقه وتواضعه ، وكانوا ينظرون اليه كرجل من عباد الله الصالحين .


وفي شتاء احد السنوات في اوائل الخمسينات ، توفي الحاج فاضل ، واقيم له مأتم كبير حاشد ، وفي ذلك المأتم ، وامام اصدقاء الحاج ومحبيه ، تبرع ابناؤه بالدكان ومحتوياته لمساعده عبود صدقة عن روح المرحوم ، ولكن الغريب ان عبود لم يبد أي علامة على فرحه بهذا العرض الكريم ، بل انه حتى لم يشكر ابناء الحاج على كرمهم هذا كما يجب ، واعتبر الحاضرون هذا التصرف علامة على حزنه العميق لوفاة ولي نعمته الحاج فاضل .


ولكن عبود بدأ يتصرف تصرفات غريبة وعجيبة في الدكان بعد ان جلس فيه لاول مرة بعد وفاة الحاج .. كان يزن ما يشتريه منه زبائنه بدقة ولا يضيف اليه أي شيئ مثلما كان الحاج المرحوم يفعل ، واذا مد طفل يده الى شيئ من الحلوى ـ كما كان يفعل ايام الحاج فاضل ـ كان عبود يكف يده ويمنعه ، وعند تسديد الديون البسيطة من زبائنه سكان المحلة ، كان عبود لا يتساهل في فلس واحد ، وقد تحمل منه سكان المحلة هذه التصرفات اول الامر اكراما لذكرى المرحوم الحاج فاضل ، ولكنهم ضاقوا ذرعا به بعد ذلك ، وبدأوا ينصرفون عنه شيئا فشيئا ، الى ان قاطعوه مقاطعة تامة ، فلم يعد يبيع شيئا الا لزوار المحلة الغرباء .


وفي يوم من الايام ، كان عبود جالسا في دكانه مطرقا مهموما ، مر به احد رجال المحلة ، فاشفق عليه ودخل الى الدكان وجلس معه بعض الوقت ، قبل ان يبدأ حديثه معه قائلا : (( لماذا اوصلت نفسك الى هذه الحال يا عبود ؟ الم تتعلم من الحاج فاضل كيف تعامل الزبائن وتكسبهم ؟ الا تذكر كيف كان رجلا مباركا وصل الى ما وصل اليه من هذه الدكان البسيطة ؟ لماذا جعلت الجميع يكرهونك بتصرفاتك هذه ؟ )) .


رفع عبود راسه ونظر الى محدثه بنظرة كئيبة ، وبدا كأنه يتردد في الحديث ، ثم بدأ يتحدث بسرعة وعصبية : (( الحاج فاضل ؟ رحمة الله عليه والف رحمة ، انه هو الذي كان يعرف كيف يتصرف معكم ويرضيكم ، لم اكن اريد ان اكشف سره ، ولكنكم تجبرونني على ذلك ، ثم انني راحل عنكم غدا الى مكان اخر ، هل تدري ما سر بركة الحاج ؟ لقد كان ميزانه مغشوشا ينقص ربع الوزن ، ومهما كان يضيف الى ما يزنه فهو دون الوزن الحقيقي ، والحلوى التي كان يعطيها للاطفال ، كان يسجل ثمنها على ذويهم ، وحتى الحساب ، كان يستغل جهل الناس وبساطتهم فيضيف الى الحساب ارقاما اخرى ، واذا تنازل عن شيء من الدين ، فهو انما يتنازل عن بعض الزيادة لا اكثر ، اما انا فاردت ان اعطيكم حقكم واخذ حقي فعاملتموني بما ترى ... رحمة الله عليك يا حاج فاضل ، لقد اثبت لي انك كنت على حق وان الناس لا يعجبها الا ان تعامل هكذا )) …

أبوجمـــال
13-09-2004, 12:42 AM
شكرا لك على القصة ...


أبوجمـــال

د.اسامة الحاتم
14-09-2004, 04:23 PM
انا من يشكرك على مرورك وعلى تعليقك الجميل يا اخي العزيز محمود ابو جمال