رفيقة أمس باهت
10-09-2004, 11:30 PM
هـــامـــش
" دوما ستكون..في مكان ما..على الهامش.." ( م. ك )
قهرتني الظروف لـبيع سيارتي.. وسـاقتني لـركوب الحافلة لأول مرة... لم أحب الحافلات ولا أظنها أحبتني.. أكره تلك الروائح المنبعثة منها.. تتراكم عبر السنين على حشو من الإسفنج الثقيل المهترئ .. حقيقة أيضا أشمئز من فكرة الجلوس على كرسي عرف مؤخرات أخرى غير مؤخرتي.. ومتعددة!
لكن للضرورة أحكامها كما يقولون.. وحكمت عليّ – أنا- بمـا أكره..
لمحتها من على بُعد.. تمشي وتتمايل كأنها آيلة للسقوط بين أية ثانية وأخرى... تسبقها قرقعتها المخيفة.. وتنفث الدخان كـتنين ... توقفتْ أخيرا.. وكنتُ أول الداخلين إليها أتمنع عن مجابهة الوجوه.. ولمسات الركاب..وهدفي أحد كرسيين متجاورين في أقصى الحافلة... هممتُ بأن ألقي جسدي على القاصي منهما .. لكني اتخذتُ الداني مسترهبا...أحسست به مسكونا، يقطنه غامض مخيف...نفضت تلك الشعوذات من رأسي... بدا لي أني أعاني مرضا كـ (حافلة فوبيا)!.. كتلك التي نسمعها بانتظام في البرامج الحوارية.. حتى باتت (موضة) العصر أن تعاني شيئا من الفوبيا أو الحساسية..!!
كان رتل الركاب قد بدأ بالصعود يتدافع كل نحو مقعده.. كأنها حقوقهم المفقودة يطالبون بها.. صارخين..
سرني عدم وجود مَطالب للكرسي الذي أنا عليه.. والأعجب أن ذلك الفارغ بجانبي لم يلحظه أحد على الرغم من الواقفين.. لم أكلف نفسي مشقة التدليل عليه..
اتخذ الجميع مراكزهم.. تطلعت للخارج.. لم يكن هناك سوى رجل أشيب بعصا يتطلع بدوره نحوي بجذل.. حاولت الخروج من محنتي إلى أحلام اليقظة، علّني أبني قصرا أو حتى سيارة تغنيني عن هم الحافلات.. تماهت الأشياء أمامي .. فقدت عيناي تركيزهما.. واختفى كل شيء أمامي.. شرد بصري بعيدا.. تمثلت لي الشهور الباقية حتى أنهي ديني المبهظ .. كنت أراها تعدو بعيدا حتى اختفت بين أشجار كثيفة .. ولم أقوَ على اللحاق بها...فآثرت المشي على الجري.. من شدة اللهـث..
أحرقني طول فتح جفناي فأغلقتهما دامعا.. صمت ثقيل اكتسى المكان ... وصل لأذنيّ صوت خطوة تتبعها اثنتين..
أعادتني كلياً تحية من على جانبي.. التفتُ بحدة بعينين تتقدان جمرا... كان ذاته الرجل الأشيب.. يطالعني مبتسما وبصرة ينتقل مابيني وبين الكرسي الفارغ... عرفت أنه صاحبه.. ملتُ قليلا حتى دلف وجلس بهدوء بسطه على من في الحافلة فسكن من فيها.. لوهله ظننت أنه ملاك أو شيء آخر فما أن جلس حتى تحركت الحافلة..تطلعتُ لساعتي مقتضبا..
- ستصل ... في النهاية ستصل..
لم أدرِ من أين أتى الصوت.. خيل لي أنه من القابع بجانبي لكن سحنته لم يعتريها أدنى تغيير... ولا عينيه الفضوليتين من راكب لآخر... حاولتُ مجاراتهما دون جدوى... أحيانا تتجه نحو السائق.. ثم لفتاة.. وشاب... حتى تتركز أخيرا على امرأة صارخة الجمال..!لاحظ نظراتي الشاردة وراء عينيه فابتسم..
كانت الحافلة تباغت ركابها بالانحراف يمينا ويسارا.. تنتظر أول فرصة للانقضاض على فرجة ما بغية التقدم ولو خطوة واحده نحو الأمام.. كمحاولة لاستباق الزمن..
"لا معنى للصفوف الأمامية لوما الخلفية".. هذا ما استلهمني دوما... وأبقاني قانعا بما أكون ولا أكون...
حاولت التعرف على المرافقين.. تتبعتُ نظرات جاري الفضولية.. فألقيتها أولا على السائق..ويده التي تهفو أحيانا على كيس وردي يتفحص ما فيه .. ثم يعاود الدندنة..
- إنه عيد ميلاد إحدى بناته....
كان الصوت هذه المرة لمجاوري حقا... لم ألتفت... اتجهتُ نحو المرأة الناضحة أنوثة..لا أظنني سألومه على التركيز عليها... ثم انتقلتُ لإحدى المراهقات.. تختلس نظرات ولهه نحو شاب وسيم ومن ثم تثبتها نحو الأرض خجلا ...
- لكنه لا يدري.. فهو ملك لتلك الجميلة هناك!
التفتُ نحوه بحدة.. وعقلي يستنكر بكيف!!... لم يهتم بل ظل ساكنا كما هو.. همدت أصوات الركاب بعدما اتخذت الحافلة الطريق الريفي بعيدا عن الزحمة... ولم تعلوا سوى رفرفة أوراق الجرائد بأيادي من يقرأُها.. ويقرأها جيرانهم مجانا.. تتمايل رؤوسهم أسفا على أخبار مكررة.. ومتكررة...
- كنتُ بالانتظار...
هذه المرة ملتُ كليا نحوه.. حاولتُ سبر غوره.. قراءته كأوراق الجرائد.. شعرتُ أني أعرفه.. وأنه سيعطيني شيئا ما.. توقفت مع حاجبيه الكثين.. لكنه لم يبالي.. استلم الدفة وأكمــل..
- لنبدأ... يجب أولا أن تعرف أن اسم السائق هو حمــزة...
ثلثا هؤلاء ستراهم يوميا يتمايلون مع الحافلة.. تقودهم.. كما الحياة يستسلمون لها طواعية..
ثم يشتمون قسوتها...
أما الثلث الأخير فهم كالجرعات الخفيفة.. تجدد النشاط.. وتكسر الروتين.. تأكد دوما أن تبدأ بهم... إن خرجوا فلن يعودوا...
كان يتكلم بجدية شديدة..حاولت أن أسكته أو أن أفهم ما يقول.. لكن شيء ما في صوته خدرني تماما.. أعجزني.. وبت أنا المستسلم.. راقبتُ يديه وقد بانت فيهما العروق... بدا في الستين أو أكثر... لم يكترث لانفراط حديثه وتسلسله المفقود .. كأنه لم يتكلم منذ زمـن. وانتظرني أنا للحظة التي سينطلق لسانه من عقاله .. أشار بيده لكرسي في المقدمة..
- هل ترى ذلك الكرسي في المقدمة.. كان لي.. وكنت أنا سلطانه.. حتى عرفت من أنا فاتخذت لنفسي كرسيا يقبع في الخلف ألقي عليه لعنتي.. لا تهم الكراسي الخلفية.. وكم تعاني... لكن.. ما قيمة الكراسي الأمامية بدونها..؟
صمتَ قليلا يحك لحيته الصغيرة.. ويفكر.... انتقلت عيناه تبحثان في سقف الحافلة واستطرد....
- لست ممن يتركون أثرا في الحياة.. فأنا من يراه الناس ولا يروه.. أصعد للحافلة فيتوقف الزمن حتى أجلس.. ولا يلحظني أحد.. حتى وان تكلمت أو سلمت.. فكأني معجون بزيت ما ينزلق من سراديب الذاكرة ويخرج مع فضلاتها.. تماما كما تختفي الحرارة على الكرسي بعد نزول الجالس عنها...
نزلتْ نظراتي من سقف الحافلة الواقفة تنتظر بقية سكانها.. تفحصتُ للمرة الثانية القطعة الممزقة أعلى رأسي جيدا..أراحني أنها مازالت صامدة ولن تسقط على هامتي اليوم!.. تذكرتُ جاري الغريب.. وكلماته الممزقة كتلك القطعة.. يومها استرسل واستمر بالنزوح خارج فضاء صمته...
أخبرني كيف اكتشف هامشيته لأول مرة.. فمنذ خمس وعشرون سنة كان يشغل ذلك الكرسي المتقدم.. وكانت هي تحضر.. تسلم ... وتبتسم... ثم تجلس بجواره... ويرد هو عليها بأرقى ابتسامه يبتدعها.. يتخذ من عطرها نفسا.. يزفره بلوعة حين يأبى أن يسكن عروقه.. تتوشح بالصمت... ولا تنظر لأحد.. ولم يجد في أصابعها ما يقيها فضوله ... شهران وهي تبتسم.. وأسبوعان وهو يدرب أحباله الصوتية على نغمة رنانة تلتف محرابا لها... تلقي عليها تراتيل الصباح والمساء.. كــان يمثل لـي ما حدث وكأنه في مسرح .....
" تفتقت عن ذهني فكرة رائعة... سأدخل هذه المرة متأخرا وأطالب بكرسيي معللا بأن قدري هو أن أكون إلى جوارها.... شاهدتها وكرسيي فارغ.. قلت لنفسي أنها حفظته لي.. لم أدرِ ماذا أقول.. شجعتني ابتسامتها فقلت مداعبا: عفوا آنستي هل هذا الكرسي لأحد؟
ارتسمت حيرة حقيقة على قسمات وجهها الملائكي.. عقدت حاجبيها وهي تنظر للكرسي وكأنها تراه وتراني لأول مرة ثم أغمدت سكينا حارقا في قلبي وهي ترد بحيرة صادقة..
"لا أظن يا سيدي...." أخرجتُ السكين وزحفت نازفا نحو الخلف...اتخذتُ كرسيا يقبع آخر الحافلة، وتركته يرتوي من هامشيتي.... تذكرتُ كم كنتُ حين أُرجع غرضا للمتجر ، كيف تتطلع البائعة لي بشك وأنا أنقدتها الثمن بيدي.. ولولا أن رأت علامة المتجر.. فرضخت... عدتُ لها بعد دقائق.. فقابلتني بذات الشــك....... ومنها وأنا أنتظر هنا ليجاورني أحد... لقد تعبت يا بني..."
قال جملته الأخير بحرقة كبيرة... ثم ابتسم على الرغم من اهتزاز شفتيه.. تراخت عضلاته كليا... وضعتُ يدي على كتفه.. أواسيه... لم أدرِ ماذا أقول ... وصلتُ محطتي.. نزلت وأنا أتذكر ضغطة يده الأخيرة على كتفي..خلته حلما وأني بت أهذي... التفتْ علي أحبال يومي الممتدة إلى مالا نهاية ونسيتً ما كان من أمري..
في اليوم التالي.. وصلتْ الحافلة.. هدأ الركاب لحظة صعودي لها.... كنت كأني ألقي سحرا فيهمدون.... لم يحضر.... تحركت الحافلة... تأملتُ كرسيه الفارغ.. وضعتُ يدي عليه...تحسستُه.. ثم تلقائيا انتقلتُ للجلوس عليه...
حامت عيناي تحصيان الركاب.... تبحثان عن الوجوه الجديدة بين من تقادمت... وعلتها التجاعيد...
أمامي تماما امرأة كانت مُلتهـمة في يوم ما.. والآن أصبحت تربط شعرها وتخفيه تحت غطاء محكم مخافة أن تنطلق شعراتها الرمادية فتفضحها السنون... لم يبقَ شيء على حاله سوى الحافلة..
تطلعتُ ليديّ و العروق البارزة.. اتخذت لها طريقا تسقي جسدي المتغضن...
أعدتُ احتساب الوجوه ...غزاها وجه جديد لشاب مقتضب.. يمشي بحذر.. لم يلحظه أحد... اقترب .. تطلع للكرسي الفارغ بجانبي.. وألقى جسده عليه مصحوبا بتنهيدة عميقة.. تحركت الحافلة.. وقد علا صوت محركها القديم على بقية الاصوات.. علتني ابتسامة جذلة وأنا أرى عيني جاري تتبعان بصري حيثما ارتحل...
نــــوره عـبــدالله
" دوما ستكون..في مكان ما..على الهامش.." ( م. ك )
قهرتني الظروف لـبيع سيارتي.. وسـاقتني لـركوب الحافلة لأول مرة... لم أحب الحافلات ولا أظنها أحبتني.. أكره تلك الروائح المنبعثة منها.. تتراكم عبر السنين على حشو من الإسفنج الثقيل المهترئ .. حقيقة أيضا أشمئز من فكرة الجلوس على كرسي عرف مؤخرات أخرى غير مؤخرتي.. ومتعددة!
لكن للضرورة أحكامها كما يقولون.. وحكمت عليّ – أنا- بمـا أكره..
لمحتها من على بُعد.. تمشي وتتمايل كأنها آيلة للسقوط بين أية ثانية وأخرى... تسبقها قرقعتها المخيفة.. وتنفث الدخان كـتنين ... توقفتْ أخيرا.. وكنتُ أول الداخلين إليها أتمنع عن مجابهة الوجوه.. ولمسات الركاب..وهدفي أحد كرسيين متجاورين في أقصى الحافلة... هممتُ بأن ألقي جسدي على القاصي منهما .. لكني اتخذتُ الداني مسترهبا...أحسست به مسكونا، يقطنه غامض مخيف...نفضت تلك الشعوذات من رأسي... بدا لي أني أعاني مرضا كـ (حافلة فوبيا)!.. كتلك التي نسمعها بانتظام في البرامج الحوارية.. حتى باتت (موضة) العصر أن تعاني شيئا من الفوبيا أو الحساسية..!!
كان رتل الركاب قد بدأ بالصعود يتدافع كل نحو مقعده.. كأنها حقوقهم المفقودة يطالبون بها.. صارخين..
سرني عدم وجود مَطالب للكرسي الذي أنا عليه.. والأعجب أن ذلك الفارغ بجانبي لم يلحظه أحد على الرغم من الواقفين.. لم أكلف نفسي مشقة التدليل عليه..
اتخذ الجميع مراكزهم.. تطلعت للخارج.. لم يكن هناك سوى رجل أشيب بعصا يتطلع بدوره نحوي بجذل.. حاولت الخروج من محنتي إلى أحلام اليقظة، علّني أبني قصرا أو حتى سيارة تغنيني عن هم الحافلات.. تماهت الأشياء أمامي .. فقدت عيناي تركيزهما.. واختفى كل شيء أمامي.. شرد بصري بعيدا.. تمثلت لي الشهور الباقية حتى أنهي ديني المبهظ .. كنت أراها تعدو بعيدا حتى اختفت بين أشجار كثيفة .. ولم أقوَ على اللحاق بها...فآثرت المشي على الجري.. من شدة اللهـث..
أحرقني طول فتح جفناي فأغلقتهما دامعا.. صمت ثقيل اكتسى المكان ... وصل لأذنيّ صوت خطوة تتبعها اثنتين..
أعادتني كلياً تحية من على جانبي.. التفتُ بحدة بعينين تتقدان جمرا... كان ذاته الرجل الأشيب.. يطالعني مبتسما وبصرة ينتقل مابيني وبين الكرسي الفارغ... عرفت أنه صاحبه.. ملتُ قليلا حتى دلف وجلس بهدوء بسطه على من في الحافلة فسكن من فيها.. لوهله ظننت أنه ملاك أو شيء آخر فما أن جلس حتى تحركت الحافلة..تطلعتُ لساعتي مقتضبا..
- ستصل ... في النهاية ستصل..
لم أدرِ من أين أتى الصوت.. خيل لي أنه من القابع بجانبي لكن سحنته لم يعتريها أدنى تغيير... ولا عينيه الفضوليتين من راكب لآخر... حاولتُ مجاراتهما دون جدوى... أحيانا تتجه نحو السائق.. ثم لفتاة.. وشاب... حتى تتركز أخيرا على امرأة صارخة الجمال..!لاحظ نظراتي الشاردة وراء عينيه فابتسم..
كانت الحافلة تباغت ركابها بالانحراف يمينا ويسارا.. تنتظر أول فرصة للانقضاض على فرجة ما بغية التقدم ولو خطوة واحده نحو الأمام.. كمحاولة لاستباق الزمن..
"لا معنى للصفوف الأمامية لوما الخلفية".. هذا ما استلهمني دوما... وأبقاني قانعا بما أكون ولا أكون...
حاولت التعرف على المرافقين.. تتبعتُ نظرات جاري الفضولية.. فألقيتها أولا على السائق..ويده التي تهفو أحيانا على كيس وردي يتفحص ما فيه .. ثم يعاود الدندنة..
- إنه عيد ميلاد إحدى بناته....
كان الصوت هذه المرة لمجاوري حقا... لم ألتفت... اتجهتُ نحو المرأة الناضحة أنوثة..لا أظنني سألومه على التركيز عليها... ثم انتقلتُ لإحدى المراهقات.. تختلس نظرات ولهه نحو شاب وسيم ومن ثم تثبتها نحو الأرض خجلا ...
- لكنه لا يدري.. فهو ملك لتلك الجميلة هناك!
التفتُ نحوه بحدة.. وعقلي يستنكر بكيف!!... لم يهتم بل ظل ساكنا كما هو.. همدت أصوات الركاب بعدما اتخذت الحافلة الطريق الريفي بعيدا عن الزحمة... ولم تعلوا سوى رفرفة أوراق الجرائد بأيادي من يقرأُها.. ويقرأها جيرانهم مجانا.. تتمايل رؤوسهم أسفا على أخبار مكررة.. ومتكررة...
- كنتُ بالانتظار...
هذه المرة ملتُ كليا نحوه.. حاولتُ سبر غوره.. قراءته كأوراق الجرائد.. شعرتُ أني أعرفه.. وأنه سيعطيني شيئا ما.. توقفت مع حاجبيه الكثين.. لكنه لم يبالي.. استلم الدفة وأكمــل..
- لنبدأ... يجب أولا أن تعرف أن اسم السائق هو حمــزة...
ثلثا هؤلاء ستراهم يوميا يتمايلون مع الحافلة.. تقودهم.. كما الحياة يستسلمون لها طواعية..
ثم يشتمون قسوتها...
أما الثلث الأخير فهم كالجرعات الخفيفة.. تجدد النشاط.. وتكسر الروتين.. تأكد دوما أن تبدأ بهم... إن خرجوا فلن يعودوا...
كان يتكلم بجدية شديدة..حاولت أن أسكته أو أن أفهم ما يقول.. لكن شيء ما في صوته خدرني تماما.. أعجزني.. وبت أنا المستسلم.. راقبتُ يديه وقد بانت فيهما العروق... بدا في الستين أو أكثر... لم يكترث لانفراط حديثه وتسلسله المفقود .. كأنه لم يتكلم منذ زمـن. وانتظرني أنا للحظة التي سينطلق لسانه من عقاله .. أشار بيده لكرسي في المقدمة..
- هل ترى ذلك الكرسي في المقدمة.. كان لي.. وكنت أنا سلطانه.. حتى عرفت من أنا فاتخذت لنفسي كرسيا يقبع في الخلف ألقي عليه لعنتي.. لا تهم الكراسي الخلفية.. وكم تعاني... لكن.. ما قيمة الكراسي الأمامية بدونها..؟
صمتَ قليلا يحك لحيته الصغيرة.. ويفكر.... انتقلت عيناه تبحثان في سقف الحافلة واستطرد....
- لست ممن يتركون أثرا في الحياة.. فأنا من يراه الناس ولا يروه.. أصعد للحافلة فيتوقف الزمن حتى أجلس.. ولا يلحظني أحد.. حتى وان تكلمت أو سلمت.. فكأني معجون بزيت ما ينزلق من سراديب الذاكرة ويخرج مع فضلاتها.. تماما كما تختفي الحرارة على الكرسي بعد نزول الجالس عنها...
نزلتْ نظراتي من سقف الحافلة الواقفة تنتظر بقية سكانها.. تفحصتُ للمرة الثانية القطعة الممزقة أعلى رأسي جيدا..أراحني أنها مازالت صامدة ولن تسقط على هامتي اليوم!.. تذكرتُ جاري الغريب.. وكلماته الممزقة كتلك القطعة.. يومها استرسل واستمر بالنزوح خارج فضاء صمته...
أخبرني كيف اكتشف هامشيته لأول مرة.. فمنذ خمس وعشرون سنة كان يشغل ذلك الكرسي المتقدم.. وكانت هي تحضر.. تسلم ... وتبتسم... ثم تجلس بجواره... ويرد هو عليها بأرقى ابتسامه يبتدعها.. يتخذ من عطرها نفسا.. يزفره بلوعة حين يأبى أن يسكن عروقه.. تتوشح بالصمت... ولا تنظر لأحد.. ولم يجد في أصابعها ما يقيها فضوله ... شهران وهي تبتسم.. وأسبوعان وهو يدرب أحباله الصوتية على نغمة رنانة تلتف محرابا لها... تلقي عليها تراتيل الصباح والمساء.. كــان يمثل لـي ما حدث وكأنه في مسرح .....
" تفتقت عن ذهني فكرة رائعة... سأدخل هذه المرة متأخرا وأطالب بكرسيي معللا بأن قدري هو أن أكون إلى جوارها.... شاهدتها وكرسيي فارغ.. قلت لنفسي أنها حفظته لي.. لم أدرِ ماذا أقول.. شجعتني ابتسامتها فقلت مداعبا: عفوا آنستي هل هذا الكرسي لأحد؟
ارتسمت حيرة حقيقة على قسمات وجهها الملائكي.. عقدت حاجبيها وهي تنظر للكرسي وكأنها تراه وتراني لأول مرة ثم أغمدت سكينا حارقا في قلبي وهي ترد بحيرة صادقة..
"لا أظن يا سيدي...." أخرجتُ السكين وزحفت نازفا نحو الخلف...اتخذتُ كرسيا يقبع آخر الحافلة، وتركته يرتوي من هامشيتي.... تذكرتُ كم كنتُ حين أُرجع غرضا للمتجر ، كيف تتطلع البائعة لي بشك وأنا أنقدتها الثمن بيدي.. ولولا أن رأت علامة المتجر.. فرضخت... عدتُ لها بعد دقائق.. فقابلتني بذات الشــك....... ومنها وأنا أنتظر هنا ليجاورني أحد... لقد تعبت يا بني..."
قال جملته الأخير بحرقة كبيرة... ثم ابتسم على الرغم من اهتزاز شفتيه.. تراخت عضلاته كليا... وضعتُ يدي على كتفه.. أواسيه... لم أدرِ ماذا أقول ... وصلتُ محطتي.. نزلت وأنا أتذكر ضغطة يده الأخيرة على كتفي..خلته حلما وأني بت أهذي... التفتْ علي أحبال يومي الممتدة إلى مالا نهاية ونسيتً ما كان من أمري..
في اليوم التالي.. وصلتْ الحافلة.. هدأ الركاب لحظة صعودي لها.... كنت كأني ألقي سحرا فيهمدون.... لم يحضر.... تحركت الحافلة... تأملتُ كرسيه الفارغ.. وضعتُ يدي عليه...تحسستُه.. ثم تلقائيا انتقلتُ للجلوس عليه...
حامت عيناي تحصيان الركاب.... تبحثان عن الوجوه الجديدة بين من تقادمت... وعلتها التجاعيد...
أمامي تماما امرأة كانت مُلتهـمة في يوم ما.. والآن أصبحت تربط شعرها وتخفيه تحت غطاء محكم مخافة أن تنطلق شعراتها الرمادية فتفضحها السنون... لم يبقَ شيء على حاله سوى الحافلة..
تطلعتُ ليديّ و العروق البارزة.. اتخذت لها طريقا تسقي جسدي المتغضن...
أعدتُ احتساب الوجوه ...غزاها وجه جديد لشاب مقتضب.. يمشي بحذر.. لم يلحظه أحد... اقترب .. تطلع للكرسي الفارغ بجانبي.. وألقى جسده عليه مصحوبا بتنهيدة عميقة.. تحركت الحافلة.. وقد علا صوت محركها القديم على بقية الاصوات.. علتني ابتسامة جذلة وأنا أرى عيني جاري تتبعان بصري حيثما ارتحل...
نــــوره عـبــدالله