المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مرجوحة الفقراء



د.اسامة الحاتم
15-09-2004, 09:34 PM
مرجوحة الفقراء

يوم أمس ، كنت خارجا من صالة عمليات الطوارئ برفقة صديقي الدكتور تحسين علي في نهاية الدوام الرسمي ، وقرب باب الاستعلامات ونحن نهم بالخروج ، رأيت أحد مضمـدي

ردهة الطوارئ يقبل نحونا مسرعا وهو يصيح : دكتور مؤيد يريد دكتور أبو علاء ، فهمت على الفور أن صديقي الدكتور مؤيد النعمة يواجه موقفا حرجا في ردهة الطوارئ ، وانه يحتاج إلى خبرتي ومساعدتي كطبيب مخدر ، كما فهمت أن هذا المضمد لا يعرفني حتى بالاسم ، فقلت له : أنا أبو علاء ، ماذا تريد ؟ فقال لي بلهفة : دكتور مؤيد يريدك فورا ، فعندنا طفلة التف الحبل حول عنقها ودكتور مؤيد قربها الان0

ركضت إلى الردهة وخلفي الدكتور تحسين ، وعندما دخلت الردهة رأيت الدكتور مؤيد منحنيا على السرير يحاول إسعاف طفلة ممددة يبدو أنها في حالة إغماء وقد ازرق وجهها وتحشرجت أنفاسها ، وحول السرير حشد كبير من الناس ، دفعت من كان في طريقي إلى أن وصلت إلى دكتور مؤيد ونظرت إليه مستفهما ، فقال لي : أبو علاء ، الله يخليك ، هذه الطفلة كانت تلعب بمرجوحة ( ديدية ) والتف الحبل حول عنقها وخنقها ، الله يخليك بسرعة0

نظرت إلى الطفلة ، أحسست بقلبي يعتصر كمدا ، كانت ترتدي ملابس رثة ، ويبدو عليها أنها فاقدة الوعي وقد ازرقت شفتاها و جحظت عيناها وهي تتنفس بصعوبة شديدة ، وأدركت ما حدث : هذه الطفلة في عامها العاشر تقريبا ، جاءت بحبل ، وعلقته بسقف أو شجرة ، ووضعت عليه وسادة ، وجلست عليها تتأرجح ضاحكة مسرورة ، وفي أثناء لعبها التف الحبل حول عنقها فخنقها ، وهي الآن تواجه خطر الموت المحقق إن لم أتدخل فورا ، اخبراهم إنني أريد الطفلة بسرعة في صالة العمليات ، لاينني لن أستطيع إنقاذها في الردهة لحاجتي إلى أشياء كثيرة موجودة في الصالة ، ثم عدوت مسرعا إلى الصالة وخلفي والد الطفلة يحملها بين ذراعيه وخلفنا دكتور مؤيد ودكتور تحسين وأم الطفلة واخوتها الصغار0

وفي صالة العمليات ، عكفت على محاولة إنقاذ الطفلة مع دكتور مؤيد ودكتور تحسين ، يساعدني في كل خطوة مساعدي الكفوء يونس أبو ياسر ، وضعت لها أنبوبة تنفس و مغذي وكل العلاجات والأدوية التي تحتاجها ، وكان العرق يتصبب منا ونحن نتناوب ضخ الأوكسجين لها ، إلى أن بدأت الطفلة تتنفس بحرية لوحدها دون مساعدتي ، وبدأت تحرك يديها وقدميها ، وأنا أراقبها باطمئنان وسرور ، متوقعا أن تكون عودتها إلى وعيها تماما مسالة وقت فقط، ثم أمرت بنقلها إلى ردهة العناية المركزة ، وخرجت مع الدكتور تحسين وأنا اشعر بارتياح عميق0

واليوم ، وفور مجيئي صباحا إلى المستشفى ، اتصلت بالعناية المركزة لاسمع منهم الأنباء السارة عن الطفلة ،ولكنني فوجئت بإبلاغي أن الطفلة قد ماتت مساء أمس 0

حزنت جدا لهذا الخبر ، وذهبت إلى العناية ، حيث علمت أن الطفلة المنكودة قد بقيت عدة ساعات تصارع الموت لإصابتها بوذمة رئوية اثر الحادث قبل أن تصل إلى المستشفى ، وانهم حاولوا معها كل العلاجات الممكنة أمام ذويها الذين سمح لهم بالدخول ليروها ، ولكن جهدهم لم يثمر ، وجاء أمر الله ورحلت الطفلة المسكينة إلى بارئها تغمدها الله برحمته والهم أهلها الصبر على قضائه0

غادرت العناية صامتا واجما ، حتى أنني لم انتبه لتحيات بعض زملائي أثناء سيري عائدا إلى عمليات الطوارئ ، إلى أن وصلت غرفتي ، حيث جلست أفكر في تلك المسكينة ، إنها مجرد طفلة صغيرة انساقت مع رغبتها الطبيعية في اللهو واللعب ، فجاءت بهذا الحبل وصنعت منه أرجوحة تلهو بها ، هل كانت تعلم أن هذا الحبل سيكون سبب موتها ؟ وهل يكون الموت مصيرها لمجرد أنها أرادت أن تلعب وتمرح كأي طفل في العالم ؟

أبوجمـــال
16-09-2004, 11:31 AM
قصة راااائعه....

ومعبرة ....

أشكرك عليها...

أبوجمـــال

ثريول
16-09-2004, 05:16 PM
مرجوحة الفقراء


غادرت العناية صامتا واجما ، حتى أنني لم انتبه لتحيات بعض زملائي أثناء سيري عائدا إلى عمليات الطوارئ ، إلى أن وصلت غرفتي ، حيث جلست أفكر في تلك المسكينة ، إنها مجرد طفلة صغيرة انساقت مع رغبتها الطبيعية في اللهو واللعب ، فجاءت بهذا الحبل وصنعت منه أرجوحة تلهو بها ، هل كانت تعلم أن هذا الحبل سيكون سبب موتها ؟ وهل يكون الموت مصيرها لمجرد أنها أرادت أن تلعب وتمرح كأي طفل في العالم ؟




نحن البشر , نعيش لحظاتنا ولانعرف أيها الأخيرة ؛ ونسبح في بحار الأمل ولا نعي الحيطة والحذر ؛ هذا نحن العاقلين .. فما بالك بتلك الفتاة المسكينة التي قدر لها القادر أن تبيت مع الأطفال في السماء عند أبوها إبراهيم , وإبن بلدها في ذات الوقت .

أشكرك دكتور أسامة على فتح درس مجّاني يهوّن أي ألم قد يعتري الواحد منّا .. تحيّاتي وتقديري .

د.اسامة الحاتم
18-09-2004, 05:36 PM
الاخ الكريم ابو جمال
اجزل الشكر لك على مرورك وتعليقك اللطيف الذي هو شهادة غالية اعتز بها
وبارك الله فيك

د.اسامة الحاتم
18-09-2004, 05:49 PM
نعم اخي العزيز ثريول حياك الله
قد يكون الانسان في ساعاته الاخيرة وهو لا يدري ، الموت حق ، ولكنك لو شاهدت ملابس هذه الطفلة المسكينة ، وتخيلت كيف كانت تلهو بهذه اللعبة المجانية التي تعجز عن غيرها لفقرها ، لما نسيت منظرها ابدا .
اسكنها الله فسيح جناته
ولا حول ولا قوة الا بالله