المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف يتصرف رئيس الدولة بالاموال العامة



د.اسامة الحاتم
15-09-2004, 09:38 PM
كيف يتصرف رئيس الدولة بالاموال العامة



ما هي حدود صلاحيات رئيس الدولة في التصرف بالاموال العامة ؟ سؤال قديم جديد كان وما يزال يشغل حيزا كبيرا من افكار وتنظيرات المفكرين والمنظرين في كل مكان وزمان .

ان تاريخنا في هذا المجال بالذات تاريخ قاتم ومرير ، فمنذ اجيال واجيال ، ترسخ لدى الحكام والشعب مفهوم خاطئ بشع ، بان اموال الدولة ملك شخصي للحاكم يتصرف به كما يشاء ، صحيح ان لدينا شواهد مضيئة عن بعض الامثلة النادرة من الحفاظ على اموال الشعب والامة لا زالت تعيش في ضمائرنا وقلوبنا ، نذكرها بكل الاحترام والتقدير ، ولكن هذه الشواهد والامثلة تبقى قليلة نادرة كنجوم لامعة وسط ظلام دامس

لااريد ان استحضر امثلة من تصرفات ابوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب، ، فعدلهم ونزاهتهم وحرصهم على اموال الامة يرقى الى مستوى الاساطير ، وسيرتهم العطرة النبيلة اشهر من ان تذكر ، ولكن ما حصل بعدهم شئ مؤلم وفظيع ، بدأ بداية بسيطة بقول معاوية بن ابي سفيان : ان هذا المال ـ يقصد المال العام ـ " مال الله " ، ووقتها ذهب الصحابي الجليل ابو ذر الى معاوية وقال له : ما يدعوك الى ان تسمي مال المسلمين مال الله ؟ فقال له معاوية : يرحمك الله يا ابا ذر ، ألسنا عباد الله والمال ماله ؟ قال : فلا تقله ، فقال معاوية : ساقول مال المسلمين ، وقد تصرف ابو ذر هذا التصرف لانه ادرك ان تسمية معاوية لاموال الدولة "" مال الله " اذا ترافقت مع تصور الحكام انهم حكام بامر الله ـ كما سيحصل فيما بعد ـ سيؤدي الى اطلاق يد الحاكم في التصرف بالاموال العامة كما يشاء دون ادنى اهتمام بمصالح الامة وشؤونها ، وهذا ما حصل فعلا ، وخلال مدة اقصر مما توقع ابوذر ، ليطبق على الامة ظلام عميق لم تستطع تبديده سيرة عمر بن عبد العزيز ، ولا سيرة الملك العادل نور الدين ، ولا سيرة السلطان صلاح الدين الايوبي .

الخليفة المهدي يغترف الاموال ويوزعها بالملايين على الشعراء والاتباع والمحاسيب ، والرشيد مثل ذلك واكثر ، والبرامكة الذين سلطهم الرشيد على الامة المبتلاة به وبهم ، والذين بنوا شهرتهم الاسطورية الكاذبة على الكرم !!! من اين كانت لهم هذه الاموال الطائلة ؟ أليست هي اموال الامة التي كانوا ينهبونها بعلم الرشيد وموافقته ؟ كبيرهم يحيى يشتري سلة باقلاء من بائع بغدادي مسن ـ لمحه من شباك قصره في يوم بارد ممطر ـ بوزنها ذهبا ، وتبقى هذه القصة اسطورة يتناقلها الناس للتدليل على سخاء البرامكة وحبهم للخير ، ونسي هؤلاء ان مصدر هذه الاموال هو بيت مال الشعب المظلوم المضطهد وليس اموالهم الخاصة التي كانوا شحيحين بها حريصين عليها ، ونسي هؤلاء ايضا ان يذكروا لنا ما الذي دفع ذلك البائع المسن ليخرج في مثل ذلك اليوم البارد الممطر ليبيع سلة من الباقلاء يربح منها دريهمات قليلة ـ كمثل حي على حالة الشعب البائسة ـ ، ثم ، كم بائع باقلاء صادفه مثل ذلك الحظ السعيد ؟

وياتي المامون ليشهد احتفاله بزواجه من بوران بنت وزيره الفضل بن سهل اسرافا خياليا اقل ما يقال عنه هو تلك الحصيرة التي نسجت من الذهب الخالص و مدت امام المدعوين ، وياتي المعتصم ليامر بإلباس مماليكه الاتراك وخيولهم اطواقا من الذهب ، ، ثم ياتي المتوكل الذي أمر مرة بطرق خمسة ملايين درهم لتصبح رقيقة كرقة اوراق الورد ثم امر بصبغها ونثرها ـ في يوم تحركت فيه الريح ـ في مجلسه كما تنثر اوراق الورد ، بينما كان هو جالسا يشرب في مجلس حافل ، والملايين تنتهب من قبل الخدم والحاشية .

ونتيجة لهذا الاسراف الجنوني المثير للاشمئزاز في اموال المسلمين ـ لان العباسيين كانوا فقراء قبل اغتصابهم للحكم ، بعكس الامويين الذين كانوا اغنياء منذ ايام الجاهلية ـ ، واجه العباسيون ثورات متصلة وعنيفة ، استهدفت بالضد من تصرفات العباسيين الطغاة ، اشاعة الاموال بين الناس انتقاما من هذه المعاناة الرهيبة ، ووصل الامر ببعض هؤلاء الثوار حد انكار الدين الاسلامي نفسه والخروج عليه ، كرد فعل مبالغ به لتصرفات الخلفاء العباسيين المالية المشينة ، واستمرت الدولة العباسية تسيرعلى هذا النهج المدمر ، الى ان انهارت تحت وطاة مظالمها وتصرفاتها المقيتة التي عزلتها عن القاعدة الشعبية ، لتدخل الامة ـ والعراق ـ منذ عام 1258 م ، نفقا اشد اظلاما واعتاما ، استمر سبعة قرون الى ان تاسست الدولة العراقية الحديثة عام 1920 م .

الانصاف يقتضينا القول ان المسؤولين العراقيين في الدولة العراقية التي تاسست وحكمت بين عامي 1920 ـ 1958 م ، كانوا استثناء من هذا الارث البشع ، حيث كانت القاعدة هي احترام اموال الدولة والتعامل معها بدقة وامانة ، ولكن ذلك لم يدم طويلا ، ففي 14 / تموز / 1958 م ، اطيح بمؤسسات الدولة القانونية والدستورية ، وفتح عبد الكريم قاسم ، رحمه الله ـ رغم نزاهته الشخصية ـ الباب امام عودة الممارسات العباسية المقيتة بكل بشاعتها وظلمها الى ان وصل الحال بنا الى ما تذكرونه وتعرفونه ، والان ، و بعد ان انطوت كل تلك الصفحات السوداء القديمة ، اما آن الاوان لنتعامل مع الاموال العامة ، كما يامرنا الله وكما تقتضي مصلحة الوطن ؟