المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منطقة مهجورة .. رياح رملية .. حرارة شديدة ..



khaled al-zamil
18-08-2001, 05:02 AM
منطقة مهجورة .. رياح رملية .. حرارة شديدة .. سيارة نفد وقودها .. وقف صاحبها بجانبها حائراً لا يعرف ماذا يعمل ..

أعتاد الأستاذ حسن وبعد الانتهاء من شرح مادته أن يلقي مثل هذه المواقف الحرجة على تلاميذه ، بعد ذلك يطلب منهم أن يصفوا له ردود أفعالهم ، محاولاً بذلك غرس حسن التصرف في طبائع هؤلاء الصغار..

يجب على صاحب السيارة في مثل هذا الموقف أن يمسك بورقة يكتب عليها أسمه وعنوانه وأنه سيكمل الطريق سيراً على الأقدام مع ذكر الاتجاه ووقت المسير ومن ثم يقوم بوضعها على السيارة وفي مكان لافت .. كان هذا رأي أحد الطلاب القلائل النشطين ، أما البعض الأخر فلم يكلفوا أنفسهم بالتفكير لعلمهم المسبق أن هذه الحالات لا درجات عليها ولا رسوب فيها فلماذا يجهدوا عقولهم المرتاحة بها ؟؟

بعد أن ابدأ الطالب النشط رأيه وأستحسنه معلمه .. سمعوا صوتاً ابحاً شبه مخنوق يأتيهم من الخلف واصفاً ذلك الرأي وصاحبه بالحمق والغباء .. عقبه هدوء لا يعكر صفوه سوى الأنفاس المتقطعة الممتزجة بصدى تلك الكلمات ، ومن حركة الأعناق المتجهة بالأبصار نحو المعارض الوحيد حيث قبع في الصفوف الخلفية .. فكان نحيل الجسم ، قمحي اللون ، منكوش الشعر ، قد توسد الذراع الأيسر بعد أن فرده على الطاولة وبيده اليمنى يمسك قلماً يرسم به بيتاً طينياً هده السيل .. ما لبث أن شعر بأعينهم المحمرة وهي ترمقه بحرارة وأحس بأنفاسهم وهي تخرج من صدورهم .. فأسرع بالرسم وأسرعت أهدابه ترمش ..

- ناصر !! .. أحترم أخاك الأكبر واستأذن قبل أن تتكلم !!

هذه الكلمات وضعت حداً للصمت وللرسم .. وقف واتكأ على طاولته بكلتا يديه ونظره مازال مسلطاً على رسمته .. وبطرف عينه لمح وجه أخاه أحمد الذي بدأ كجمرة تكاد خلاياه تنفجر من الغيض .. وبعد تردد نطق بكلمات قليلة لم توضح شيئاً ثم سكت عندما قرع الجرس إعلاناً بنهاية الحصة .. لملم المدرس أوراقه المتناثرة هنا وهناك بسرعة على غير عادته وكأنه يخشى التأخر على موعد مهم .. أخبرهم أنه سيكمل النقاش في وقت لاحق .. وباجتيازه باب الفصل ارتفعت الأصوات وزادت حدتها والتي تدل على بداية شجار ..

* * *

دخل الأستاذ حسن غرفة واسعة يوجد بها ماصات كثيرة صفت بمحاذاة الجدران وخلف كل ماصة ارفف حديدية مليئة بالدفاتر وبعض الوسائل التعليمية .. حين دخوله لم يكن بالغرفة سوى اثنان من المعلمين ما أن رأوه حتى رفع أحدهم يده يلقي التحية دون أن ينبس ببنت شفة .. والآخر ببشاشة باهتة أتجه نحوه مرحباً ومثرثراً ..

- صباح الخير يا حسن .. هل علمت بقصة الطالب الذي ضرب معلمه ؟؟

حرك رأسه نافياً علمه بها ، كما أن ملامح وجهه كانت جامدة تنم عن عدم اكتراث وعدم رغبة في الاستماع ، فهذه الواقعة ومثيلاتها أصبحت غير مثيرة له بسبب كثرتها وديمومتها في الآونة الأخيرة .. لكن المدرس الثرثار تجاهل كل هذه الإشارات وهم بسرد القصة عليه لولا ضجة وجلبة تبدو قريبة منهم خرجوا على أثرها يستطلعوا الأمر .. وعند توسطهم الممر رأوا ناصر شاحب اللون كتمثال صلصال يركض ويبكي ويستغيث بهم .. يتمتم بطلاسم غير مفهومه .. ضمه حسن إلى صدره بقوة ليشعره بالأمان والطمأنينة وليهدئ من روعه .. طلب منه إعادة الكلام مرة أخرى ليفهم .. ألتقط الصغير أنفاسه وجمع شتات أفكاره ثم أخبرهم أن أخاه أحمد كان يتأرجح بالكرسي فأختل توازنه وسقط على ظهره ليرتطم رأسه بأرضية الفصل وهو الآن غريق في دمه لا يتحرك .

منظر ناصر وهو يبكي على أخيه جعل المعلم في حيرة من أمره .. فلقد كان هذا الباكي يتشاجر مع أخيه قبل قليل ويعارضه حتى خيل له أنهما أعداء .. مالذي تغير خلال هذه الدقائق يا ترى ؟؟ بحث عن إجابة لهذا التساؤل وسط أكوام من المعلومات المتناثرة والتجارب المكتسبة في خزانته العقلية لكنه لم يجد بينها سوى كلمة واحدة ( أطفال .. !! .. أطفال ) حقاً إنهم .. كاد أن يسلم بها قبل أن يقع بصره على عينين صغيرتين رسمتا لوحة من الهلع والخوف بألوان دمعية تصاحبها خلفية صوتيه من كلمات أفقدها القلق بعض أحرفها .. فنحيب أشبه بالموال الحزين أعاده إلى ارض الواقع ..

أسرع بعده نحو الفصل فحمل المصاب واتجه به إلى غرفة مدير المدرسة حيث حقيبة الإسعافات الأولية .. ناصر كان يركض خلفهم بخطى متعرجة وعشوائية كأم أضاعت أبنها .. دخلوا الحجرة ووضعوا الجسد الملبد بالشحوم على الأرض .. لم تكن الإصابة سوى جرح سطحي في الهامة .. على الفور بدأ حسن بتنظيفه وتضميده والأخ الصغير مازال يحدق بالرأس المفلوج وبخصلات الشعر الحمراء والتي كانت قبل ساعة سوداء لامعة .. لقد تماسكت بعض منها بفعل الدم المتخثر حتى بدت وكأنها حزم كراث صفت على ناصية دكان لبيع الخضراوات .. أحال نظره بثقل إلى وجه معلمه فرأى ابتسامة غريبة تزينه وكأنها ابتهاج بهذه المصيبة ..

- أستاذ .. هل دم أخي يفرحك ؟؟

تفاجئ المعلم وارتبك فسقطت قطعة الشاش من يده واختفت الابتسامة من على وجهه وهو يقول .. لا .. لا يا بني أنا لم اقصد .. ولكن .. ولكن ..

- ولكن ماذا ؟؟

عاد والتقط الشاش من جديد وعلامات الحرج تبدو على محياه ودون أن ينظر إلى الصبي قال : أخبرني يا صغيري .. لماذا نعت أخاك بالغباء والحمق عندما أجاب عن تلك الحالة ؟؟

- لأنه يستحق ذلك ..

- يستحق ذلك ؟؟!! .. وكيف ؟؟

لم ينبس الطفل .. فشيء ما قد أجلى أشعة الشمس المتسللة من الباب وحيث لا شبابيك في الغرفة والمصابيح لم تكن مشعلة فقد أصبحت الرؤيا شبه معدومة والحجرة مظلمة .. التفتا يستطلعا الأمر فرأيا شخصاً قد ملئ الباب بجثته الضخمة .. ينظر إليهم وهو واضعاً يده على خصره .. صرخ بأعلى صوته ..

- ما هذه الفوضى ؟؟

- المعذرة يا حضرة المدير … لقد أصيب أحمد واضطررنا أن نأتي به هنا لوجود حقيبة الإسعافات ..

- يالك من غبي .. لقد أتلفت سجادة مكتبي الثمينة بدم طالبك العفن .. لماذا لم تضع شيئاً تحت رأسه ؟؟