غشاء الموت

[khaled al-zamil]

في بلد بعيد .. يختلف عما اعتدنا عليه قلباً وقالباً ..
وحيث تختلف الوجوه والوجهات ؛ بل كل شيء يختلف .
لمحتها .. هي أيضاً مختلفة ..
توقفت عيناي عند تلك الزاوية المختبئة التي تقبع فيها ..
.. دار نظري متأملاً ملامحها ..
لم تنتبه .. فقد كانت تتلفع بذهول مُطْبِق ..
دمعتها حائرة ..
ما زال بصري متشبثاً بها يحاول اختراق شرودها ..
شعرت لوهلة أنها أنا ..
قادتني إليها خُطاي بلا حول مني ولا قوة ..
حاولت نطق كلمات متعثرة فخانتني شفتاي ..
سمعت أنينها .. اقتربت أكثر .. مددت يداً مرتعشة
لتمسح دمعة انسابت على خدها الشاحب ..
بينما دمعة متعسرة في العين الأخرى تقف مترصدة تحجب الرؤية ..
لم تتفوه بأي حرف .. تخنقها غصة مثقلة بهموم محرومة من البوح ..
هالني ذلك السواد المحيط بعينيها ..
شعرت بحاجتها لمن يسمعها .. بادرتها بعد جهد :
( أقدر أساعدك بشيء )
التفتت إلي بكلها .. وكأنما غريقٌ رأى طرف خيط نجاة ..
ضمتني .. احتضنتها بقوة .. وكأنني أحاول منع قلبها من الخروج ..
سرى حسيسها في جسدي .. بكت .. ولسان حالها يقول:
يا خلاص الأسير يا صحة المـ دنف يا زورةً على غير وعدِ
يا نجاةالغريق يافرحة الأو بة يا قفلةً أتت بعد بُعْدِ
.. بكت ..و.. بكيت ..
قالت بعد أن جاهدت لتخرج حروفها متعثرة بالشهيق والعبرات .. آآه وآآآه .. يا لَشوقي لسماع هذه الأحرف .. عربية أنت ؟؟

بادرتها بعد أن استجمعت قواي محاولة التظاهر بالتماسك .. وبعد أن لمحت طرف جواز سفرها في حقيبة يدها المتهالكة على كرسيها :
.. أنا نبتة من أرضك الخيّرة .
ثم أردفْت .. مابك أخيتي ؟؟
لا تترددي في البوح عما يثقلك من هموم ..
قالت بلا تردد أو مقدمات .. وبذهول واضح .. تغلفه عبرات مشحونة بالتوتر والألم :
منذ أن خلقني الله .. خلق بذور حديقتي معي ..
أكبُر .. فتكبُر معي ..
بدأتْ بذوري تتفتق عن سيقان نباتات أصيلة..
نضجتُ .. فاستوت تلك السيقان أشجاراً في غاية الروعة والجمال ..
بدأتُ أتحسس ثمارها بأناملي .. برقة ولطف .. فقط لأطمئن على نضجها ..
أحطت حديقتي بسياج عظيم ..
وحرّمت على أيٍ كان الدخول إليها أو تدنيسها ..
( تتوقف الحروف فتنزف عبارات التأوه والحزن ..وتكمل .. )
آآآه أختاه :
أنتفض رعبا عندما أتخيل مجرد خيال أن أحدا ما سيقتحم حديقتي ..
أنتظر ساعة العبور الشرعي لباب حديقتي الرائعة .. وبالتالي العيش في قصر كياني ..
( التفتت إلي بعينين كساهما لون النحيب المر )
وأردفتْ قائلة :
أتساءل دائماً من تراه سيفوز بهذه الغنّاء ؟؟
من سيقتحم هذا السور العظيم ؟
من سيعيش داخل روحي فأمنحه الحياة التي لا تُمل ؟
( تخف حدة صوتها المتخم بالانفعال .. وتزفر آآآهة أخرى )
من تراه سيجرؤ ليثير الغبار عند دخوله ؟؟؟
كنت أحلم بأوصافه كل ساعة .. وأضع الشروط ..
كل ليلة أفتح صفحة أحلامي أضيف شرطاً.

انتقيته بعناية :
شاب .. متعلم .. اكمل تعليمه في بلاد الحضارة التي يزعمون .. مثقف ..عاش نصف عمره بعيداً عن قريتي التي ران عليها التخلف وما زال ..

* * * * * * *
ساعة العبور ..
مشاعر متفاوتة زمّلتْني .. خجل .. تردد .. فزع .. رعب ..ألم ..صراخ ..
بدا متردداً ..في العبور ..
ربما سرت في جسده كل كل تلك المشاعر التي تغلفني ..
لذا بدا متردداً ..
سررت بهذا .. اعتقدته أول بادرة من بوادر الانسجام والتوافق ..
مرت أيام وهو متردد ..
ولهدوئه في العبور لم يشاهد زوبعة الغبار التي كان منتظراً أن يثيرها دخوله
بدا متردداً وشاكاً بي .. لكنه لم يبُح لعدم تأكده ..
ولفرط ثقتي بنفسي لم ألمح هذا الشك ..
ولفرط خجلي وجهلي بمدى قدسية ما يثيره ؛ لم أضع أمام عينيه غباره المقدس ..!!!!!
بل أزلته بهدووووء خَجِل ..
( تساقطت دموعها منهمرة .. وكأنها بهذا البوح العَجِل أزالت ما كان يسد محاجرها ..)
( تمالكت نفسها بشهقة واضحة .. ثم بلعت غصتها .. وأردفت )
بعد سنوات من استمتاعه بهذه الحديقة ..
وبعد سنوات من عيشه الرغيد بقصر كياني .. العيش الذي يحسده عليه كل من عرفني ..
لا تظنين أخيتي أنني أتشدق بهذا غرورا .. هو قالها ذات مساء صافٍ : أتعلمين أن أصحابي يحسدونني عليك ..؟؟
بعد سنوات لم يجد عذراً لفراقي غير أنه ... أنه
( شهقت .. فتبعثرت كلماتها .. ثم مالت علي بجسدها الضئيل .. وأحاطتني بذراعيها الباردين .. وأرسلت زفرات حرّى .. بكت وبكت ..)

************
*
*
*
*
أستميحكم عذراً إخوتي الأعزاء ..
أضطر للتوقف ريثما ألملم شتات حروفي المبعثرة
في الجزء الثاني .

[khaled al-zamil]

( رفعت رأسها .. ومسحت دموعها .. ثم استرسلت بكلام أقرب إلى الأنين .. )
قال : لم أرَ غباراً لحديقتك عندما دخلتها ...!!!
( لم تكد تكمل حروف آخر كلمة حتى غصت بعبرات حرّى .. غطت وجهها المحمر حزناً بكفيها النحيلين .. وبكت ..
بكيت معها .. وفي نفسى بكيت أحرفاً ملعونة : يالك من حقير ..!! أي حقارة هذه التي تفوقت بها على أبناء جنسك ؟؟!!
ساد الصمت للحظة .. ثم رفعت وجهها وعينيها محاولة إعادة ما تبقى في محاجرها من دموع .. تنفست بعمق متقطع .. واستجمعت قواها وقالت بعد أن لمحت التساؤلات العنيفة التي تطايرت كالشرر من عيني وأعنف هذه التساؤلات : ألم تقتليه ؟؟!! قالت : صرخت بعنف مميت لا أعلم أهو مسموع أم صامت ماذا تقول ؟؟!! ماذا تقصد ؟؟!! وضّح .. فسّر.. لا .. لا ... توقفت الكلمات .. نسيت الأحرف .. تبعثرت العبارات والعبرات ثم تجمعت صارخة : حديقتي لم يطمثها أحد قبلك ولا بعدك .. حديقتي لم يطمثها أحد .. لا أحد..
نفذت طعنات كلماته إلى صميم قلبي .. فنزفت مشاعري غباراً أسودَ .. توالت الصرخات الصامتة .. لم أعد استطع البكاء .. ولا العويل ولا الدفاع .. ولا أي شيء.. أي شيء .. تهاوى جسدي الضئيل .. تدثرت باللاوعي .. و مكثت أياماً طريحة الفراش ..

بعد أيام .. لملمت حقائب حزني .. وها أنذا أنتظر صعود مركبة الموت .. لتقلع بي إلى قريتي حيث يسكن قبري ..
يحيرني سؤال .. أعلم أن ليس له إجابة .. لكنه يؤرقني :
أيهما أكثر ثقافة وتفتحاً : زوجي أم أهل قريتي ؟؟!!
( رنت بنظراتها نحو الأفق البعيد .. أخذت تتمتم بكلمات .. لا أدري أهي تحدثني أم تحدث نفسها أم تحدث شخصاً آخر يسكنها .. )
زفرات حرّى تتلبسني .. أفكارٌ سوداء تطوف بخيالي .. رباه .. أمنحني الثقة .. رباه .. امنحني القوة .. آه إلهي .. أتراها رحمة منك أن مر بي ذلك كله مع ذلك السافل كي تريحني من حبه ..
أيها السافل الذي كان يسكن قلبي : أتذكّر ساعة عرفت عقم الحياة معك .. لجأت إلى الله وسألته بصدق أن ينزع محبتك من قلبي .. وهاهو يستجيب ..
ما أقسى ذلك !!!
.. يعلم الله أنك مهما فعلت فلن أكرهك .. إلا في هذه .. أنا هنا فقط أصرخ : لا .. لا وألف لا .. سأغرز خنجراً مسموماً في قلبي إذا أصر على حب من تجرأ وفكر في تدنيس شرفي .... سأقطع رأسي إذا أصر على الاحتفاظ بأي ذكرى أنى كانت لك أيها المنحط ..
*********
( التفتت إلي بعينين ذابلتين .. ووجه يراوده طلاء الموت :
آااه .. أيتها الغريبة ..
كيف أنسى ..!!؟؟ كيف أستطيع أن أجبر هاتين الكفين على تمزيق قلبي الضعيف .. كيف ؟؟!! كيف ؟؟ !!
مالت إلي وضممتها ..
.. صمتت ..
*
*
هذه المرة صمت مميت .

:( :( :( :( :(

[(chico)]

حلوة بس




من وين

[khaled al-zamil]

قص و لصق