مسلم شنقيطي
07-10-2004, 10:38 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
عنوان الكتاب هو: مجهر الحقيقة لمخلص الأمة من خطإالتسمية في شرط طاعة الولاة ونتائج التفجيرات.
واليكم نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، وأنزل مع الرسل الكتاب والميزان ،ليقوم الناس بالقسط، ويحكم الحاكم بالعدل، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة .
والصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث في الأميين رسولا، فعلمهم الحكمة، و أوضح معالم الملة، ونبذ حكم الجاهلية، بكتاب محكم يحدد العبادات، يبين شروطها، وأسبابها، وموانعها ،وعددها، وقدرها،
وميزان دقيق توضع عليه المعاملات، ويحدد العلاقات والصلات، فاتضحت بذلكم سبيل الله، ونال المكلف مبتغاه، بما فيه رضا مولاه، وسلم من خطر اتباع هواه، (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وبذا صار حكم الجاهلية هباء ، وذهب باطلها جفاء ، (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )
أما بعد فإنه في الوقت الذي تحول فيه الاستعمار من الأوطان إلى الأفكار، وصار رئيس كل دولة من أبنائها دينا ونسبا ولسانا وأخلاقا ، وعم حكم النظام البشري، أنقسم بعض العلماء قسمين : قسم يرى الرئيس أمير المؤمنين، يبرر له ما اتخذ من القرارات، يعطيه ما لم يدع، ويمدحه بما لم يفعل، وإن أدت هذه المبررات إلى أبعد التأويلات، في الأحاديث والآيات البينات، ويرى من لم يسر معه في هذا الفلك، ولم يسلك معه هذا المسلك، خارجا عن الطاعة، شاقا عصا الجماعة، ويستدل على رأيه هذا بما ورد على لسان الشرع من ذم الباغية، والخروج على الجماعة، ويتهمه بأنه لم يحمله على هذا إلا حب الرئاسة، والتشوف للسلطة والشهرة، وتقليد الأفكار الأجنبية، و الانخراط في التنظيمات السياسية .
القسم الثاني : يرى الرؤساء ظلمة إن لم يكونوا كفرة لاستبدالهم النظام البشري بالنظام السماوي، ويكذبون ضرورتهم، ولا يقبلون معذرتهم، ولا يسمعون حجتهم، بل يقولون لأتباعهم أن هذا الاستبدال عن عمد فعلوه ،ولفضله عندهم اختاروه، ويفتون أتباعهم بأن مكافحة الرؤساء جهاد، والموت فيها استشهاد، واستدلوا على هذه الفتيا بآيات قرآنية تخاطب أمير الدولة الإسلامية، وجعلوها متجهة لأفراد المسلمين، من قوي وضعيف، صحيح وجريح، أسير وأمير، فاحترقت من الغيرة والحمية قلوب الأتباع، من الجهلة والرعاع، لأنهم رأوا أنهم مفرطون، إن لم يمتثلوا ما في هذه الآيات من قتل الكافرين، فقاموا بتفجيرات، وتنفيذ عمليات غير مبالين أن تصيبهم معرة بقتل المسلمين .
ويتهم هذا القسم القسم الأول بالسير مع المصلحة الفردية، وحب الجاه والمادة، والخوف والطمع، والرضا من الحرية بالشبع، والمداهنة والمجاملة، وعدم التضحية لإقامة الدين والدولة، فشب حريق وقامت فتنة القاعد فيها خير من القائم، فحار اللبيب، وصار من لم يسجل في أحد الجانبين أو يكن من أحد القسمين غريبا، لا تسمع توجيهاته، ولا تحضر محاضراته .
وقد اقتضت مني هذه الحال، من كثرة القيل و القال، والنقاش والجدال، أن أشارك في اخماد هذه الفتنة، ونزع فتيل هذا الحريق، وذلك بأن أبين لكلتا الطائفتين ما أرى أنه الصواب، وكيفية التعامل مع هذه الأزمة وبم تفتح الأبواب، وقد كتبت لهذه المهمة بعد التروي والاستشارة، بحثا يتألف من مقدمة و فصول أربعة وخاتمة.
أما المقدمة ففي حاجة الإنسان إلى تبادل العلاقات وتنظيمها، ورعاية نظامها .
الفصل الأول : في المنهج الرباني لتنظيم هذه العلاقات، وتبادلها، وميزان تعادلها.
الفصل الثاني : في راعي المنهج ( الأمير ) .
الفصل الثالث : في تعميم هذا المنهج على جميع البرية ( الدولة الإسلامية ).
الفصل الرابع : في المخلص من هذه الفتنة، بالآيات القرآنية، و الوقائع النبوية ، و المسلمات الحسية .
أما الخاتمة : ففي ذم الهوى، وصعب الاستقامة، وذكر بعض محاسن الشريعة تفاؤلا بحسن الخاتمة .
ومن هنا كان هذا البحث مجهرا تعلم منه كلتا الطائفتين حقيقة أمرها، و وجهة سيرها، وتشخيص دائها، و وصفة دوائها، وقدر الجرعة وكيفية استعمالها ووقت تناولها.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا غرو أن ينال فضله مثلي مدفوعا بالأبواب، خلق الثياب، مخصوف النعال، قليل الجاه و المال .
وما حملني على هذا رغب، ولا رهب، ولكن كتبته وفاء بميثاق رب العالمين، وخوفا من لعنة اللاعنين، وهربا من لجام الكاتمين، قال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) وقال: ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون )وفي الخبر ( من سئل عن علم فكتم ألجمه الله بلجام من نار ) والسؤال يكون بلسان المقال، وأصرح منه وأشد إلحاحا لسان الحال، وبه سئلت فأجبت، وعلى الله ـ وحده ـ اعتمدت، وهو حسبي وعليه اتكالي، لعلمه بمتقلبي ومآلي .
المقـدمة
اعلم أيها القارئ أنك فقير إلى معبود افتقارا أشد من افتقارك إلى الماء و الهواء، وهذا الافتقار مركوز في الأذهان ، مجبولة عليه الفطر ، فلو استغني عنه لاستغنت عنه الجاهلية الجهلا ، وهم في الفترة العميا ، ولكن أملت عليهم فطرهم أنه لا بد من معبود يلجأ إليه، وسيد يصمد إليه ، فنحتوا الأحجار ، وعبدوا الأشجار والنار ، جعلوا لها نصيبا من مالهم ، وحظا من حرثهم ، سيبوا لها السائبة ، ووصلوا من أجلها الوصيله ، فصار عندهم ـ في زعمهم ـ منهاجا يتحاكم إليه، وحدا يعتدى عليه ، فاستوضحوا الظلم بآرائهم ، واستبانوا الجرم بأهوائهم من غير علم ، فأخذوا على يد الظالم أخذا لا يتناسب مع جريمته ، وانتصروا للمظلوم انتصارا أكبر من مظلمته ، فحصل المرج ، وكثر الهرج ، وذلك بسبب فقد سبيل مستقيم ، وميزان قويم ، ينظم العلاقات ، ويفصل الحقوق المستحقات ويقدر العقوبات بقدر الجنايات .
فقير إلى الآخرين من زوجة تربي عيالك ، ويمتد منها نسلك ، فيحصل بقاؤك، من عامل يكمل نقصك ، ويشد أزرك ، من معمول له تستجلب منه رزقك ، من جار يؤنس وحشتك ، ويزيل غربتك ، من حاكم يوفر أمنك ، تقوم به الدولة ويمثل شخصيتها ، وتستقر به الأمة ويكون مشتكاها ، يكف الجاني ، ويفك العاني ، فتحصل به التنمية ، ويجلب المصلحة ويدفع المفسدة ،وتهدم على يديه مصلحة الخاصة ، في سبيل مصلحة العامة ، إلى غير ذلك من حلقات افتقارك التي عليها خلقت ، وعلى سدها جبلت ، ( لقد خلقنا الإنسان في كبد وكلما انسدت منها حلقة افتقرت إلى حلقات .
وما قضى أحد منها لبانته
وما انتهى أرب إلا إلى أرب
ولابد لهذه الحلق من تشابك قابل لأن تفك ـ عند الحاجة ـ حلقاته، ولا يصح هذا التشابك إلا عن تقابل، ولا يصح التقابل إلا على مقياس مستقيم ، صادر عن خبير لا يعتريه جهل ولا يتأثر بالهوى ، وعلمه بالحلقتين على حد السوا .
إذن فلا بد لتشابك هذه الحلق من تنظيم دقيق ، ينظم صلتها ، يا خذ لها ، ويأخذ منها بقدر متناسب ، و ميزان متحد ، يزن حقوقها بالقسطاس المستقيم ويسيرها على النهج القويم .
ولابد لهذا المنهج من راع واع لمقاييس الأمور ، يمثل شخصيته ، ويرفع رايته ، ويبلغ كلمته ، يجلب لأهل المنهج المصلحة، ويقف دون انتشار المفسدة بتنفيذ العقوبة المحددة قبل ارتكاب الجريمة ، وإلا كان المنهج حبرا على ورق لا يرتدع به ظالم ولا يخافه آثم .
الفصل الأول : في المنهج الرباني لتنظيم هذه العلاقات
وقد نظم الحكيم الخبير، المدبر البصير ، هذه الحلقات تنظيما دقيقا ، على قدر متطلباتها ، وحاجياتها ، بميزان معتدل الكفتين ، متساوي الجهتين ، لا يعطي بمجرد الدعوى ، ولا يمنع بمحض الإنكار ، لكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .
قدر منافع الأشياء فهدى إليها بالشهوة والإلهام ، وقيد نهمة الشهوة لما في تتبعها من المفسدة ، بتقدير يتلاءم مع المصلحة،فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، وبما عملوا مجازون ، جزاء وفاقا ، يجبر جريمة الآثم، ويشرد العازم ، (نكالا من الله والله عزيز حكيم ) .
علم منافع الأشياء ومضارها ، فأجرى الحكم على أيهما أعظم ، ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) راعت أحكام منهجه المصالح والأصلح، علمناها أو جهلناها ، لكن الله يعلم المفسد من المصلح، بقدر الطاقة تكاليفها ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) تلين جانبها للمضطر وتقسو على الآثم، ( فمن أضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) أجرت التعويضات المعنوية، مقابل التكاليف المادية، ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) حددت لكل فرد مسؤوليته، وعينت له رعيته، ابتداء بالإمام في الرعية ، وانتهاء بالمرأة في بيت الأسرة ،(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها ) حافظت بتحديد العقوبات ، على كيان المقومات ، التي هي الكليات الخمس الضروريات، وأحاطتها بسور الحاجيات و ردء المكملات والتحسينيات وحافظت على السورين بالتعزيرات .
ولأحكام هذا المنهج يخضع الجميع ، الرفيع والوضيع ، الأمير و المأمور، ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ( والله إني لأتقاكم لله ) الوالد والمولود
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم
أو الولدين والأقربين ) الغني والفقير ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) وذلك لأن هذا المنهج للجميع نقطة التقاء وكلمة سواء ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) فتجسدت بذلكم المساواة والحرية، فدخلت في القلوب البشاشة وحصلت المودة والرحمة بين أفراد الأمة، واتجهت للعدو الشدة والشوكة، فكونوا جدارا مؤسس القواعد على كلمة التقوى ، مرصوص البنيان بمخالفة الهوى، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) لكن لا تأخذهم رأفة في إقامة حد ،ولا تنفيذ حكم (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ( فلو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) فأنقطع طمع الكل في أن يعطل حد لفضله، أو يغير حكم من أجله ، لأنه بالتعالي على الحكم هلك من كان قبلنا من الأمم ، قال : صلى الله عليه وسلم " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا زنى فيهم الشريف حمموه وإذا زنى فيهم الضعيف رجموه ".
وهذه الروابط المتوازنة ، و العلاقات المتبادلة ، هي حدود خالق هذه الحلقات التي أمر بإقامتها ، ونهى عن تعديها ومجاوزتها ، (تلك حدود الله فلا تعتدوها ) وقد قدر ـ سبحانه وتعالى ـ لهذه الحلقات مفكات تشد أسرها، وتفك عند التعاسر دسرها ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) .
وهذا التنظيم الرباني هو الميزان العدل، الذي أنزل مع الرسل ، وغيره عدم لأنه جور وظلم قال تعالى ( يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التورية والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) وقال صلى الله عليه وسلم ، في عيسى ابن مريم " يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا " قلت يملؤها عدلا بتطبيق المنهج الرباني ، كما ملئت جورا بالتنظيم البشري ، .
ومعرفة هذا التعادل الذي تحصل به المعادلة بين كل علاقة وكل محاكمة هي الحكمة و الفهم الذي قال على رضي الله عنه أنه ربما أعطيه رجل مسلم ، ولذا قال تعالى في سليمان عليه السلام لما علم المعادلة التي بين الحرث والماشية : (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) .
فالحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، الحق الذي لا يصلح الأمة غيره ، فهو صراط مستقيم ، وميزان قويم، صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور.
أينبغي لمسلم عاقل أن يستبدل تنظيمات بشرية ، وقوانين وضعية مقترحة من جاهل بمصيرها ، غائب عن مبدئها ومنشئها ، حاقن وقت التفكير فيها ،بتنظيم الحكيم الخبير، العلي البصير ، المدبر القدير، ( أفغير دين لله تبغون وله أسلم من في السموات و الأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون ) (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) فيه نبأ من قبلكم وفصل ما بينكم .
الفصل الثاني: في راعي المنهج ( الأمير )
وقد كلف المنهج بتنفيذ ما فيه من العقوبات ، وتحديد التعزيرات ، أميرا مطاع الأمر، وافر العقل ، سليم الحواس ، قوي العزيمة ، صالح البطانة ، متحريا في الحكم ، ذا نجدة وشجاعة ، وعفة ونزاهة ، وعلم وعدالة ، وتأن واستشارة ، تتم له الإمرة بموت صاحب الوصية ، أو ببيعة جماعة من خيرة الأمة ، هواهم تبعا للمصلحة ، أو تغلب ذي الشوكة .
وإذا انعقدت له الإمامة دامت له مدة حياته، ويتصرف فيها بالوصية بعد مماته ، ولا يصح عزله عن هذا الأمر ، إلا بطرو صريح الكفر ، لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المومنين سبيلا ) ولأن تصرف الكافر مقصور على الصورة الحسية ، لانعدام النية للروح التعبدية ، فقطع المجوسي حلقوم الذبيحة لا يخرجها عن الميتة .
وإذا انعقدت له الإمامة بحصول أحد الثلاثة يصير ـ وحده ـ حارس منهج الملة، ساهرا على جلب المصلحة ، ودرء المفسدة بالصرامة في تنفيذ العقوبة المحددة في منهج الملة ، لأنه الممثل ـ وحده ـ لشخصية الدولة ، حامي بيضتها، حامل رايتها ، هو المشتكى ، والحائل دون الفوضى ، مصب كل خطاب جماعي ، ويحول بعضه إلى خطاب فردي ، فإن أصاب فله ولنا ، وإن اخطأ فعليه ولنا ، يقيم لنا الصلاة والكتاب ، فنجني ثمار إقامته ، ونستظل بعدالته ، وننمي تحت إمارته ، ونأكل من بركته ( ولو أنهم أقاموا التورية و الإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) إلى غير ذلك مما حدد له المنهج من المهام العمومية التي تعم نتائجها أفراد الرعية .
ولأهمية الإمام و الإمامة ، ذكر أمرهما في كتب العقيدة ، وذلك لأنه جزء من كلمة الشهادة .
وبيانه أن محمدا رسول الله مبلغ عن الله أحكام الشريعة ومطبق لها على جميع الرعية ، لأنه حاكم الدولة ، وولي أمرها ، حامي ذمارها ، رافع منارها ، وباختياره صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى ، وارتحاله عن هذه الدنيا انقطع الخبر من السماء ، فانتهى جزء التبليغ ، وقام بعده خليفته بجزء التنفيذ ، فاندرج هذا الجزء في كلمة الشهادة، لأنه من مهمة مبلغ الرسالة ، صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا تعلم حقيقة الإمامة وهي : أنها خلافة الرسول في حراسة ما أتى به من الرسالة ومن السياسة ، ومن حراسة هذا المنهج سمي حارسه وسائسه وحاميه وراعيه ، "ولي الأمر" و الألف واللام في كلمة " الأمر" خلف عن ضميرنا نحن المسلمين ، وأمرنا منهجنا المنزل ، وكتابنا المفصل ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وولايته لحارسه ، وسائسه ، القائم بتطبيق حدوده وقائد جنوده رئيس حزبه الممثل لسلمه وحربه، ومن تحريف الكلم عن مواضعه ، أن يسمى باسم ولي الأمر أو يوصف بصفته من لم يشاركه في حقيقته
وكما أن المنهج ألزم الإمام القيام بجميع المصالح العمومية ، كذلك ألزم جميع الرعية له السمع والطاعة ، وحرم عليهم المنازعة ، فحصل بينه وبينهم التكافل والتعادل ، بحفظ الأمير للمنهج الرشيد ، و التزام المأمور له بالطاعة في المعروف وعدم المنازعة .
فإن خرج خارج عن طاعته ، وحاول تفرقة جماعته، فقد بغى لإخلاله بهذا التعادل الذي بين الإمام والرعية لأن الإمام مازال حارسا لمنهج الملة ، ساهرا على مصالح جميع الرعية ، والمأمور خارج عن ما لزمه له من الطاعة وعدم المنازعة فأحل المنهج دمه، وأوجب قتاله ، واستئصاله ، حتى ترد صولته، وتكسر شوكته، وتخمد سورته ، وتفرق جماعته ، فإن رجعت إلى الجادة كانت من أفراد الجماعة لها مالهم من الحماية في ظل الإمامة وعليها ما عليهم من وجوب الطاعة وحرمة المنازعة ( فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ).
ولقتال هذه الجماعة أحكام يختلف فيها مع قتال الكفرة ، مفصلة في كتب الفقه فليراجعها من شاء في باب "الباغية" .
ووجوب الطاعة للإمام مؤذن بانفراده مغلق الباب أمام تعدده ، لإستحالة وجوب طاعة اثنين ، ولانحصار الدولة الإسلامية في قسمين : مطيع ومطاع والثالث معدوم ، لأنه بلسان الشرع مقتول ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ومن ثم أوصى عمر رضي الله عنه بقتل من تخلف عن بيعة من بايعه أكثر الستة وضم إليهم في انقسامهم على اثنين سابعا لتحصل الأكثرية ، هذا مع علمه بأنهم بقية العشرة المبشرين بالجنة ، وذلك من حفاظه ـ رضي الله عنه ـ على وحدة الكلمة وسد باب الفتنة ، والحيلولة دون الاختلاف والمنازعة .
وبهذا تعلم أن الباغية فرع عن وجود ولي الأمر واجب الطاعة راعي منهج الأمة المنزل ، وكتابها المفصل ، الذي وجبت به طاعته وحرمت منازعته .
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
عنوان الكتاب هو: مجهر الحقيقة لمخلص الأمة من خطإالتسمية في شرط طاعة الولاة ونتائج التفجيرات.
واليكم نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، وأنزل مع الرسل الكتاب والميزان ،ليقوم الناس بالقسط، ويحكم الحاكم بالعدل، فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة .
والصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث في الأميين رسولا، فعلمهم الحكمة، و أوضح معالم الملة، ونبذ حكم الجاهلية، بكتاب محكم يحدد العبادات، يبين شروطها، وأسبابها، وموانعها ،وعددها، وقدرها،
وميزان دقيق توضع عليه المعاملات، ويحدد العلاقات والصلات، فاتضحت بذلكم سبيل الله، ونال المكلف مبتغاه، بما فيه رضا مولاه، وسلم من خطر اتباع هواه، (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وبذا صار حكم الجاهلية هباء ، وذهب باطلها جفاء ، (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )
أما بعد فإنه في الوقت الذي تحول فيه الاستعمار من الأوطان إلى الأفكار، وصار رئيس كل دولة من أبنائها دينا ونسبا ولسانا وأخلاقا ، وعم حكم النظام البشري، أنقسم بعض العلماء قسمين : قسم يرى الرئيس أمير المؤمنين، يبرر له ما اتخذ من القرارات، يعطيه ما لم يدع، ويمدحه بما لم يفعل، وإن أدت هذه المبررات إلى أبعد التأويلات، في الأحاديث والآيات البينات، ويرى من لم يسر معه في هذا الفلك، ولم يسلك معه هذا المسلك، خارجا عن الطاعة، شاقا عصا الجماعة، ويستدل على رأيه هذا بما ورد على لسان الشرع من ذم الباغية، والخروج على الجماعة، ويتهمه بأنه لم يحمله على هذا إلا حب الرئاسة، والتشوف للسلطة والشهرة، وتقليد الأفكار الأجنبية، و الانخراط في التنظيمات السياسية .
القسم الثاني : يرى الرؤساء ظلمة إن لم يكونوا كفرة لاستبدالهم النظام البشري بالنظام السماوي، ويكذبون ضرورتهم، ولا يقبلون معذرتهم، ولا يسمعون حجتهم، بل يقولون لأتباعهم أن هذا الاستبدال عن عمد فعلوه ،ولفضله عندهم اختاروه، ويفتون أتباعهم بأن مكافحة الرؤساء جهاد، والموت فيها استشهاد، واستدلوا على هذه الفتيا بآيات قرآنية تخاطب أمير الدولة الإسلامية، وجعلوها متجهة لأفراد المسلمين، من قوي وضعيف، صحيح وجريح، أسير وأمير، فاحترقت من الغيرة والحمية قلوب الأتباع، من الجهلة والرعاع، لأنهم رأوا أنهم مفرطون، إن لم يمتثلوا ما في هذه الآيات من قتل الكافرين، فقاموا بتفجيرات، وتنفيذ عمليات غير مبالين أن تصيبهم معرة بقتل المسلمين .
ويتهم هذا القسم القسم الأول بالسير مع المصلحة الفردية، وحب الجاه والمادة، والخوف والطمع، والرضا من الحرية بالشبع، والمداهنة والمجاملة، وعدم التضحية لإقامة الدين والدولة، فشب حريق وقامت فتنة القاعد فيها خير من القائم، فحار اللبيب، وصار من لم يسجل في أحد الجانبين أو يكن من أحد القسمين غريبا، لا تسمع توجيهاته، ولا تحضر محاضراته .
وقد اقتضت مني هذه الحال، من كثرة القيل و القال، والنقاش والجدال، أن أشارك في اخماد هذه الفتنة، ونزع فتيل هذا الحريق، وذلك بأن أبين لكلتا الطائفتين ما أرى أنه الصواب، وكيفية التعامل مع هذه الأزمة وبم تفتح الأبواب، وقد كتبت لهذه المهمة بعد التروي والاستشارة، بحثا يتألف من مقدمة و فصول أربعة وخاتمة.
أما المقدمة ففي حاجة الإنسان إلى تبادل العلاقات وتنظيمها، ورعاية نظامها .
الفصل الأول : في المنهج الرباني لتنظيم هذه العلاقات، وتبادلها، وميزان تعادلها.
الفصل الثاني : في راعي المنهج ( الأمير ) .
الفصل الثالث : في تعميم هذا المنهج على جميع البرية ( الدولة الإسلامية ).
الفصل الرابع : في المخلص من هذه الفتنة، بالآيات القرآنية، و الوقائع النبوية ، و المسلمات الحسية .
أما الخاتمة : ففي ذم الهوى، وصعب الاستقامة، وذكر بعض محاسن الشريعة تفاؤلا بحسن الخاتمة .
ومن هنا كان هذا البحث مجهرا تعلم منه كلتا الطائفتين حقيقة أمرها، و وجهة سيرها، وتشخيص دائها، و وصفة دوائها، وقدر الجرعة وكيفية استعمالها ووقت تناولها.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا غرو أن ينال فضله مثلي مدفوعا بالأبواب، خلق الثياب، مخصوف النعال، قليل الجاه و المال .
وما حملني على هذا رغب، ولا رهب، ولكن كتبته وفاء بميثاق رب العالمين، وخوفا من لعنة اللاعنين، وهربا من لجام الكاتمين، قال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) وقال: ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون )وفي الخبر ( من سئل عن علم فكتم ألجمه الله بلجام من نار ) والسؤال يكون بلسان المقال، وأصرح منه وأشد إلحاحا لسان الحال، وبه سئلت فأجبت، وعلى الله ـ وحده ـ اعتمدت، وهو حسبي وعليه اتكالي، لعلمه بمتقلبي ومآلي .
المقـدمة
اعلم أيها القارئ أنك فقير إلى معبود افتقارا أشد من افتقارك إلى الماء و الهواء، وهذا الافتقار مركوز في الأذهان ، مجبولة عليه الفطر ، فلو استغني عنه لاستغنت عنه الجاهلية الجهلا ، وهم في الفترة العميا ، ولكن أملت عليهم فطرهم أنه لا بد من معبود يلجأ إليه، وسيد يصمد إليه ، فنحتوا الأحجار ، وعبدوا الأشجار والنار ، جعلوا لها نصيبا من مالهم ، وحظا من حرثهم ، سيبوا لها السائبة ، ووصلوا من أجلها الوصيله ، فصار عندهم ـ في زعمهم ـ منهاجا يتحاكم إليه، وحدا يعتدى عليه ، فاستوضحوا الظلم بآرائهم ، واستبانوا الجرم بأهوائهم من غير علم ، فأخذوا على يد الظالم أخذا لا يتناسب مع جريمته ، وانتصروا للمظلوم انتصارا أكبر من مظلمته ، فحصل المرج ، وكثر الهرج ، وذلك بسبب فقد سبيل مستقيم ، وميزان قويم ، ينظم العلاقات ، ويفصل الحقوق المستحقات ويقدر العقوبات بقدر الجنايات .
فقير إلى الآخرين من زوجة تربي عيالك ، ويمتد منها نسلك ، فيحصل بقاؤك، من عامل يكمل نقصك ، ويشد أزرك ، من معمول له تستجلب منه رزقك ، من جار يؤنس وحشتك ، ويزيل غربتك ، من حاكم يوفر أمنك ، تقوم به الدولة ويمثل شخصيتها ، وتستقر به الأمة ويكون مشتكاها ، يكف الجاني ، ويفك العاني ، فتحصل به التنمية ، ويجلب المصلحة ويدفع المفسدة ،وتهدم على يديه مصلحة الخاصة ، في سبيل مصلحة العامة ، إلى غير ذلك من حلقات افتقارك التي عليها خلقت ، وعلى سدها جبلت ، ( لقد خلقنا الإنسان في كبد وكلما انسدت منها حلقة افتقرت إلى حلقات .
وما قضى أحد منها لبانته
وما انتهى أرب إلا إلى أرب
ولابد لهذه الحلق من تشابك قابل لأن تفك ـ عند الحاجة ـ حلقاته، ولا يصح هذا التشابك إلا عن تقابل، ولا يصح التقابل إلا على مقياس مستقيم ، صادر عن خبير لا يعتريه جهل ولا يتأثر بالهوى ، وعلمه بالحلقتين على حد السوا .
إذن فلا بد لتشابك هذه الحلق من تنظيم دقيق ، ينظم صلتها ، يا خذ لها ، ويأخذ منها بقدر متناسب ، و ميزان متحد ، يزن حقوقها بالقسطاس المستقيم ويسيرها على النهج القويم .
ولابد لهذا المنهج من راع واع لمقاييس الأمور ، يمثل شخصيته ، ويرفع رايته ، ويبلغ كلمته ، يجلب لأهل المنهج المصلحة، ويقف دون انتشار المفسدة بتنفيذ العقوبة المحددة قبل ارتكاب الجريمة ، وإلا كان المنهج حبرا على ورق لا يرتدع به ظالم ولا يخافه آثم .
الفصل الأول : في المنهج الرباني لتنظيم هذه العلاقات
وقد نظم الحكيم الخبير، المدبر البصير ، هذه الحلقات تنظيما دقيقا ، على قدر متطلباتها ، وحاجياتها ، بميزان معتدل الكفتين ، متساوي الجهتين ، لا يعطي بمجرد الدعوى ، ولا يمنع بمحض الإنكار ، لكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر .
قدر منافع الأشياء فهدى إليها بالشهوة والإلهام ، وقيد نهمة الشهوة لما في تتبعها من المفسدة ، بتقدير يتلاءم مع المصلحة،فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، وبما عملوا مجازون ، جزاء وفاقا ، يجبر جريمة الآثم، ويشرد العازم ، (نكالا من الله والله عزيز حكيم ) .
علم منافع الأشياء ومضارها ، فأجرى الحكم على أيهما أعظم ، ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) راعت أحكام منهجه المصالح والأصلح، علمناها أو جهلناها ، لكن الله يعلم المفسد من المصلح، بقدر الطاقة تكاليفها ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) تلين جانبها للمضطر وتقسو على الآثم، ( فمن أضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) أجرت التعويضات المعنوية، مقابل التكاليف المادية، ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) حددت لكل فرد مسؤوليته، وعينت له رعيته، ابتداء بالإمام في الرعية ، وانتهاء بالمرأة في بيت الأسرة ،(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها ) حافظت بتحديد العقوبات ، على كيان المقومات ، التي هي الكليات الخمس الضروريات، وأحاطتها بسور الحاجيات و ردء المكملات والتحسينيات وحافظت على السورين بالتعزيرات .
ولأحكام هذا المنهج يخضع الجميع ، الرفيع والوضيع ، الأمير و المأمور، ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ( والله إني لأتقاكم لله ) الوالد والمولود
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم
أو الولدين والأقربين ) الغني والفقير ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) وذلك لأن هذا المنهج للجميع نقطة التقاء وكلمة سواء ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) فتجسدت بذلكم المساواة والحرية، فدخلت في القلوب البشاشة وحصلت المودة والرحمة بين أفراد الأمة، واتجهت للعدو الشدة والشوكة، فكونوا جدارا مؤسس القواعد على كلمة التقوى ، مرصوص البنيان بمخالفة الهوى، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) لكن لا تأخذهم رأفة في إقامة حد ،ولا تنفيذ حكم (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ( فلو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) فأنقطع طمع الكل في أن يعطل حد لفضله، أو يغير حكم من أجله ، لأنه بالتعالي على الحكم هلك من كان قبلنا من الأمم ، قال : صلى الله عليه وسلم " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا زنى فيهم الشريف حمموه وإذا زنى فيهم الضعيف رجموه ".
وهذه الروابط المتوازنة ، و العلاقات المتبادلة ، هي حدود خالق هذه الحلقات التي أمر بإقامتها ، ونهى عن تعديها ومجاوزتها ، (تلك حدود الله فلا تعتدوها ) وقد قدر ـ سبحانه وتعالى ـ لهذه الحلقات مفكات تشد أسرها، وتفك عند التعاسر دسرها ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) .
وهذا التنظيم الرباني هو الميزان العدل، الذي أنزل مع الرسل ، وغيره عدم لأنه جور وظلم قال تعالى ( يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التورية والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) وقال صلى الله عليه وسلم ، في عيسى ابن مريم " يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا " قلت يملؤها عدلا بتطبيق المنهج الرباني ، كما ملئت جورا بالتنظيم البشري ، .
ومعرفة هذا التعادل الذي تحصل به المعادلة بين كل علاقة وكل محاكمة هي الحكمة و الفهم الذي قال على رضي الله عنه أنه ربما أعطيه رجل مسلم ، ولذا قال تعالى في سليمان عليه السلام لما علم المعادلة التي بين الحرث والماشية : (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) .
فالحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، الحق الذي لا يصلح الأمة غيره ، فهو صراط مستقيم ، وميزان قويم، صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور.
أينبغي لمسلم عاقل أن يستبدل تنظيمات بشرية ، وقوانين وضعية مقترحة من جاهل بمصيرها ، غائب عن مبدئها ومنشئها ، حاقن وقت التفكير فيها ،بتنظيم الحكيم الخبير، العلي البصير ، المدبر القدير، ( أفغير دين لله تبغون وله أسلم من في السموات و الأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون ) (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) فيه نبأ من قبلكم وفصل ما بينكم .
الفصل الثاني: في راعي المنهج ( الأمير )
وقد كلف المنهج بتنفيذ ما فيه من العقوبات ، وتحديد التعزيرات ، أميرا مطاع الأمر، وافر العقل ، سليم الحواس ، قوي العزيمة ، صالح البطانة ، متحريا في الحكم ، ذا نجدة وشجاعة ، وعفة ونزاهة ، وعلم وعدالة ، وتأن واستشارة ، تتم له الإمرة بموت صاحب الوصية ، أو ببيعة جماعة من خيرة الأمة ، هواهم تبعا للمصلحة ، أو تغلب ذي الشوكة .
وإذا انعقدت له الإمامة دامت له مدة حياته، ويتصرف فيها بالوصية بعد مماته ، ولا يصح عزله عن هذا الأمر ، إلا بطرو صريح الكفر ، لقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المومنين سبيلا ) ولأن تصرف الكافر مقصور على الصورة الحسية ، لانعدام النية للروح التعبدية ، فقطع المجوسي حلقوم الذبيحة لا يخرجها عن الميتة .
وإذا انعقدت له الإمامة بحصول أحد الثلاثة يصير ـ وحده ـ حارس منهج الملة، ساهرا على جلب المصلحة ، ودرء المفسدة بالصرامة في تنفيذ العقوبة المحددة في منهج الملة ، لأنه الممثل ـ وحده ـ لشخصية الدولة ، حامي بيضتها، حامل رايتها ، هو المشتكى ، والحائل دون الفوضى ، مصب كل خطاب جماعي ، ويحول بعضه إلى خطاب فردي ، فإن أصاب فله ولنا ، وإن اخطأ فعليه ولنا ، يقيم لنا الصلاة والكتاب ، فنجني ثمار إقامته ، ونستظل بعدالته ، وننمي تحت إمارته ، ونأكل من بركته ( ولو أنهم أقاموا التورية و الإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) إلى غير ذلك مما حدد له المنهج من المهام العمومية التي تعم نتائجها أفراد الرعية .
ولأهمية الإمام و الإمامة ، ذكر أمرهما في كتب العقيدة ، وذلك لأنه جزء من كلمة الشهادة .
وبيانه أن محمدا رسول الله مبلغ عن الله أحكام الشريعة ومطبق لها على جميع الرعية ، لأنه حاكم الدولة ، وولي أمرها ، حامي ذمارها ، رافع منارها ، وباختياره صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى ، وارتحاله عن هذه الدنيا انقطع الخبر من السماء ، فانتهى جزء التبليغ ، وقام بعده خليفته بجزء التنفيذ ، فاندرج هذا الجزء في كلمة الشهادة، لأنه من مهمة مبلغ الرسالة ، صلى الله عليه وسلم .
ومن هنا تعلم حقيقة الإمامة وهي : أنها خلافة الرسول في حراسة ما أتى به من الرسالة ومن السياسة ، ومن حراسة هذا المنهج سمي حارسه وسائسه وحاميه وراعيه ، "ولي الأمر" و الألف واللام في كلمة " الأمر" خلف عن ضميرنا نحن المسلمين ، وأمرنا منهجنا المنزل ، وكتابنا المفصل ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وولايته لحارسه ، وسائسه ، القائم بتطبيق حدوده وقائد جنوده رئيس حزبه الممثل لسلمه وحربه، ومن تحريف الكلم عن مواضعه ، أن يسمى باسم ولي الأمر أو يوصف بصفته من لم يشاركه في حقيقته
وكما أن المنهج ألزم الإمام القيام بجميع المصالح العمومية ، كذلك ألزم جميع الرعية له السمع والطاعة ، وحرم عليهم المنازعة ، فحصل بينه وبينهم التكافل والتعادل ، بحفظ الأمير للمنهج الرشيد ، و التزام المأمور له بالطاعة في المعروف وعدم المنازعة .
فإن خرج خارج عن طاعته ، وحاول تفرقة جماعته، فقد بغى لإخلاله بهذا التعادل الذي بين الإمام والرعية لأن الإمام مازال حارسا لمنهج الملة ، ساهرا على مصالح جميع الرعية ، والمأمور خارج عن ما لزمه له من الطاعة وعدم المنازعة فأحل المنهج دمه، وأوجب قتاله ، واستئصاله ، حتى ترد صولته، وتكسر شوكته، وتخمد سورته ، وتفرق جماعته ، فإن رجعت إلى الجادة كانت من أفراد الجماعة لها مالهم من الحماية في ظل الإمامة وعليها ما عليهم من وجوب الطاعة وحرمة المنازعة ( فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ).
ولقتال هذه الجماعة أحكام يختلف فيها مع قتال الكفرة ، مفصلة في كتب الفقه فليراجعها من شاء في باب "الباغية" .
ووجوب الطاعة للإمام مؤذن بانفراده مغلق الباب أمام تعدده ، لإستحالة وجوب طاعة اثنين ، ولانحصار الدولة الإسلامية في قسمين : مطيع ومطاع والثالث معدوم ، لأنه بلسان الشرع مقتول ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) ومن ثم أوصى عمر رضي الله عنه بقتل من تخلف عن بيعة من بايعه أكثر الستة وضم إليهم في انقسامهم على اثنين سابعا لتحصل الأكثرية ، هذا مع علمه بأنهم بقية العشرة المبشرين بالجنة ، وذلك من حفاظه ـ رضي الله عنه ـ على وحدة الكلمة وسد باب الفتنة ، والحيلولة دون الاختلاف والمنازعة .
وبهذا تعلم أن الباغية فرع عن وجود ولي الأمر واجب الطاعة راعي منهج الأمة المنزل ، وكتابها المفصل ، الذي وجبت به طاعته وحرمت منازعته .