المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكنز



حافظكو
13-10-2004, 06:00 PM
بسم الله الرحمن الرحيم




الكنز..







محمد عبد الحليم عبدالله ( موقع لها اون لاين)




هتفت به زوجته تناديه، والألم يلون نبراتها والخوف يحيل نداءها إلى ابتهال، هتفت به تقول:

ـ قم يا محمود.. أظن أنّ الأوان قد آن.

ثم عاودت الأنين في اللحظة التي صاح فيها على السطح ديك فتيّ يؤذن بقرب النهار، وهي نفس اللحظة التي لبس فيها الزوج ملابسه بعد أن نفض عنه النوم، واستودعها الله وتركها وخرج من الدار.

كان كل شيء نائماً، غير أنّ القمر كان سهران بانتظار طلوع الشمس، ومن الحقول يفوح عطر ممزوج بالندى، والجو دافئ، والطريق الفرعي الذي سلكه الزوج حتى يصل إلى الطريق العام كان ملتوياً ضيقاً، لكنه كان قلقاً يريد أن ينفذ مهمته بسرعة. وعثر على حفرة صغيرة ملأها الماء الذي ساح من الترعة في منتصف الليل، فلم يبال بشيء؛ لأن أنين زوجته كان لا يزال مالئاً أذنه، وظلّ يهمهم بالدعاء، وأخيراً لاحت له الأشجار العالية الواقعة على الطريق العام، لم يكن فيها غصن واحد يهتز كأنما النوم قد أثقل أوراقها، وفرح لأنه صار على مقربة من غايته، لكنه وقف فجأة على الطريق الزراعي لأن فكرة مزعجة هبطت عليه، وسأل نفسه قائلاً:

"لكي أصل إلى دار القابلة يجب أن يكون القارب على هذا الشاطئ، وماذا يكون العمل لو تصادف أن يكون القارب على الشاطئ الثاني؟ إنّ زوجتي تعاني آلام الوضع وهي الآن وحيدة ، لكن.."..

ثم كفّ عن التفكير ووقف على الطريق كأنّه يتفقّد كل ما حوله، وكانت خيوط الفجر الأولى آخذة في الظهور على الأفق، لكن نور القمر كان يفرش الطريق والمزارع الخالية من القمح وينسكب على رؤوس الأشجار، وبينما هو متجه إلى الشمال إلى حيث يقف القارب الذي ينقل من شط إلى شط، مرّت على الطريق سيارة نقل في اتجاهها إلى الشمال كذلك، فاتخذ جانباً ليفسح لها، وما إن تجاوزته بعشرين متراً حتى سقط فجأة من حمولتها أحد الأكياس التي تحملها، وهمّ أن يصيح بالسائق ل يقف، ولكن شيئاً شريراً في داخله منعه عن هذا العمل. وواصلت السيارة سفرها نحو الشمال، ونسي الرجل لفترة ما تلك المهمة التي خرج من أجلها. نسي ذلك تماماً ولم يعد مشغولاً إلا بالغنيمة التي وقعت على الأرض، وجرى نحوها سريعاً فألفى الكيس مطروحاً على الطريق ورائحة دقيق القمح تفوح من مسامه، فإذا به مملوء لم يصبه أذى من السقطة، ووقف حائراً طامعاً يفكّر..

إنّ النهار على وشك أن يسفر، وربما رآه أحد الناس.. وفضلاً على ذلك فإنه لا يستطيع أن يحمله حتى القرية، والأهم من هذا كله هو ذهابه إلى القابلة لأنّ زوجته بانتظارها، ولعلها الآن تعاني آلاماً شديدة، لكن كيس الدقيق فتح أمام خياله أبواباً سحرية، خصوصاً لشدة حاجته في هذه الفترة، وحمله على كتفه وسار به نحو ثلاثمئة متر..

كان الماء في الترعة منخفضاً، وكانت هناك مصطبة تعتبر امتداداً للترعة منخفضة عن الطريق نمت فيها نباتات برية مثل البرنوف والصفصاف والحشائش. ووقف عندها بصره فنزل ودسّ الكيس في وسطها، واطمأنّ تماماً إلى هذا المخبأ، ثم صعد إلى الطريق واتجه نحو القارب ليعبر به إلى دار القابلة.

لكنه فوجئ بأن وجد القارب راسياً على الشاطئ الثاني، والسلسلة الحديدية التي تشده بين الشطين غارقة في الماء، والنهار بدأ يرسل خيوطه البيضاء على الأشياء. وبينما هو يفكر في خلع ملابسه وعبور الترعة سباحة، رأي رجلاً وامرأة يهبطان نحو القارب.. كانا يريدان العبور إلى الشاطئ الذي هو فيه، تنهّد.. وحمد الله.. نعم.. حمد الله وخجل منه لأنه قد فرغ من توه من ارتكاب جريمة.. لكنه ما لبث أن تناسى الموضوع وألقى بسمعه إلى الخشخشة الرتيبة التي تنبعث من السلسلة التي يعبر القارب بواسطتها.. ووصل الرجل والمرأة إلى الشاطئ، وكانت دهشته كبيرة حين رآهما، قال:

ـ لقد كنت في طريقي إليك يا أم السعد.. إنّ زوجتي تلد.. إلى أين أنت ذاهبة؟

ـ ألا تعرف ابن من هذا؟ إنّه من العزبة القريبة.. حالاً.. سأمر عليكم.







*****

وعند الظهر كان كل شيء في الدار صامتاً.. فقد بشر الأب بمولودة بنتاً.. وكانت الثالثة في الترتيب.. والريفيون يحبون الذكور.. كان الأب يقول في نفسه: إنني لن أجد من يدافع عني عندما أشيخ لأنني لم أنجب ولداً.

لكنه كان ينتظر المساء لأن كيس الدقيق سينثر في داره هناء ورخاء. على أنه لم يبلغ زوجته نبأ ما فعل وقت الفجر، ربما لأنه أراد أن يدّخر لها مفاجأة، وربما لأنه خاف تأنبيها وأراد أن يضعها أمام الأمر الواقع!

وعند العصر ذهب إلى الترعة، وتحيّن فرصة ألا يراه أحد وهبط إلى حيث وضع الكيس.. واطمأن عليه.. إنه لا يزال كما هو.. وتركه وعاد.

كان ينتظر المساء بقلق، بل لابد من وقت متأخر نوعاً من الليل لأنه سيحمله على حماره.. إنه ثقيل بالطبع.

ودخل المساء، وكان أهل الدار مشغولين في إعداد طعام الوالدة، وتوافد عليهم الأقارب وظلوا ساهرين، وكان الرجل مشغول البال بكنزه، فقد صوّر له خياله ألف مرة أن عابر سبيل نزل إلى هذا المكان لصيد السمك أو قضاء الحاجة فعثر على الكنز، وزاد من قلقه أنّ الصيادين كثيراً ما يخرجون من القرى المجاورة لينصبوا "السنار" أو يلقوا الشباك في هذه الترعة.

وأخيراً.. تقدّم الليل وانصرف الزائرون، وحانت ساعة الخروج فتردد من جديد، هل يخبر زوجته بالأمر؟!

وظلل الصمت على المكان، وكانت الزوجة قد سبحت في نوم عميق من أثر الجهد وسوء البشرى لأنها ولدت بنتاً..! فآثر أن ينسحب في صمت، وذهب فسحب الحمار من الحظيرة وركبه إلى هناك.

ولم يلق في الطريق ما ينغص باله، وأخذت دقات قلبه تتزايد كلما قرب من مكان الكنز، ولم يكن هناك قمر؛ لأنّ القمر كان لا ينهض إلا في أواخر الليل.

ولما قرب من المكان ربط حماره في مدخل أحد الحقول، ثم سار حثيثاً إلى الترعة، وكان يبتهل إلى الله بطلب واحد.. هو ألا ينهق حماره في هذا السكون؛ لأنّ ذلك قد يترتّب عليه ما لم يدخل في حسابه قط .

وأخذ ينحدر من الطريق إلى المصطبة التي نمت عليها الشجيرات البرية، وما إن وضع قدمه على أول شبر فيها حتى فوجئ بأنها مملوءة بالماء، فتحسر.. منسوب الماء في الترعة كان قد ارتفع بحكم نظام الري. عندئذ قدّر أنّ الكنز قد ابتل إن لم يكن غرق.

ونسي كل ما وراءه، ولم يكن له من هم إلا أن يرى ما حدث، فخلع نعله وشمر ثيابه وخاض الماء الذي غطاه حتى ما فوق الركبتين. ثم سار.. وسار.. ووصل إلى شجرة الصفصاف، فألفى الكيس غارقاً تماماً حتى صار قطعة من العجين.

ومرت على الطريق الزراعي في هذه اللحظة سيارة نقل ذكّرته بما مضى، وكان سائقها رافعاً صوته بالغناء، ولما ظلل الصمت من جديد أخذ يفكّر.. لماذا لا ينقله؟! إنه دقيق تحوّل إلى عجين.. وهذا طبيعي.. ليكن كيساً من العجين يخبز غداً مع شروق الشمس.

واستجمع قواه وجرّه حتى الشاطئ، ثم وقف وغسل قدميه من الطين ولبس حذاءه، وذهب ليحضر حماره من مدخل الحقل.

وهناك.. وقف حائراً، لأنّ صدمة غير منتظرة أفقدته رشده، فوقف يحاول جمع شتات ذهنه كأنه أفاق من إغماء، إنه لم يجد حماره.. لقد كان مربوطاً فأين ذهب؟كان هنا.. في هذا المكان.. بدليل هذا الروث الذي تركه كتذكار مضحك.

وأخذ يدور حول المكان في صمت ولكن بلا جدوى، طبعاً كان هناك من يراه.. عيون غير عيون الله.. رجل آخر طبيعة نفسه مثل طبيعة نفسه! لقط حماره من بين الحقول، كما لقط هو كيس الدقيق من على الطريق.

وكان لابد له أن يعود.

وفتح باب داره برفق، كما خرج برفق، ولما دخل على زوجته ألفاها لا تزال نائمة، والطفلة الجديدة في اللفائف، وعلى وجهها تعبير لا يعني شيئاً.

وأيقظ زوجته من النوم:

ـ قومي.. عندي ما أقوله لك.

ولما انتهى من قصته دقّت على صدرها بكفيها، وأطرق هو نحو الأرض في خزي أشد م ن خزي التي بشرت بالأنثى الثالثة!!

وعندما أشرقت الشمس.. شمس اليوم التالي.. كان جماعة من الفلاحين ملتفين حول كيس العجين الملقى على الطريق وهم يضحكون ويتساءلون عن أصل الحكاية.. وأخيراً قرروا أن يلقوا به في الماء.. خشية أن يأكله إنسان أو حيوان فيموت.. لأنه ولا شك مسموم..!

RIGHT-STEP
13-10-2004, 06:10 PM
مشكوووووور أوي على القصة:biggthump