المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة من التراث الموصلي .. (( السقّا ))



د.اسامة الحاتم
04-11-2004, 10:19 PM
هذه القصة من التراث الموصلي
(( السقّا ))

كان يا ما كان في قديم الزمان سقّا ( 1 ) يقوم بنقل الماء من ضفاف دجلة وشطآنها بقربته ( 2 ) الجلدية المحمولة على ظهر حماره القوي فيدور في ازقة الموصل ودروبها الضيقة يبيع الماء الى بيوت الموصل في ذلك الزمان .
كان قد ورث هذه المهنة عن ابيه كما ورث عنه زبائنه الذين وثقوا به وأتمنوه على عوائلهم منذ كان صبيا ، فكان يدخل ويخرج وقتما يشاء ، يتفحص ( المزملات ) ( 3 ) ، فاذا ما فرغت احداها يقوم بحمل قربته على ظهره ويملأها ومن ثم يقبض اجرته حسبما يتفق معهم على ذلك ، وعلى ذلك النحو الهادئ الرتيب سارت حياته الى ان اصبح كهلا .
وذات يوم من الايام دخل هذا السقا دار احد الصاغة من زبائنه ، وكانت المزملي (4) قد قاربت على النفاذ ، فافرغ قربته فيها ثم عاد الى النهر وملأها بالماء وعاد مرة ثانية ليفرغ القربة في المزملي ، وقبل ان يخرج من الصحن الشرقي الذي يفضي الى الباب الخشبي الكبير وقعت انظاره على زوجة الصائغ الجميلة وهي مشغولة بحاجة لها في الباحة الداخلية ، ولاول مرة في حياته ، نظر اليها نظرته الى امراة مشتهاة ، ولم يشعر الا وهو يقترب منها ويعاجلها بقبلة اغتصبها منها عنوة .
تسمرت المراة الجميلة في مكانها ولم تدر ماذا تفعل بعد ان شلت المفاجاة حركتها ولسانها معا .. وكان هو كذلك ايضا ، اذ توقفت قدماه العاريتان والخميسية ( 5 ) المبللة من جراء القربة الفارغة المرمية على ظهره تقطر ماء على قطع المرمر المصفوفة على ارضية الحوش الشرقي .. عيناه تدوران بارجاء المكان وشفتاه ترتجفان وجبينه يتفصد عرقا .
وعندما افاق تماما من هول فعلته طأطأ رأسه خجلا ثم استدار يخرج مسرعا من الرواق الضيق فالباب الخارجي مكسورا حزينا على ما جرى ، والمراة ما زالت واقفة صامتة ذاهلة .
قبل المساء بقليل ، طرق الصائغ الباب عائدا من دكانه وهو يحمل بعض احتياجات البيت ، فاستقبلته زوجته باسمة كعادتها كل يوم ، كان عشاؤه معدا ومجلسه مهيأ ، وبعد تناول العشاء ، جلس يسمر مع زوجته مرتاحا خالي البال .
سالته بهدوء وهما يتناولان بعض الفاكهة :
ـ كيف العمل اليوم ؟
ـ الحمد لله … الرزق وفير .
ـ لم اسالك عن هذا .. فالرزق بيد الرزاق .
ـ عم اذا تسالين ؟
ـ عما فعلت اليوم !
ـ لم افعل شيئا يذكر ، بعت بعض المصوغات وقمت ببعض العمل و ……
ـ وماذا ايضا .. ولم سكتّ فجاة ؟
ـ جاءتني امراة جميلة اليوم ـ بدأ يتكلم بدون وعي ـ وطلبت مني صياغة زنّادي ( 6 ) و …
ـ وبعد .. سالته بحدة وهي تنظر نحوه بقوة .. قل الحقيقة ..
ـ الحقيقة ؟
ـ نعم .. الحقيقة .. لقد فعلت شيئا ..
ـ لم افعل شيئا ذا بال .. قال مرتبكا وهو يطرق خجلا .. وانا آخذ قياس زند المرأة ، وسوس لي الشيطان وراودتني نفسي ، فخطفت منها قبلة سريعة .
ـ فقط ؟
ـ فقط .. قالها بسرعة وتوكيد .
ـ اتدري ان السقا فعل بي اليوم ما فعلته انت بتلك المراة ؟ .. همست له وعيناها تذرفان .. ثم اكملت بالم وعتاب : (( دقة بدقة .. ولو زدت لزاد السقا )) ( 7 ) .
……………………………………………………………………………………………………………………………
( 1 ) السقا : بائع الماء قديما .
( 2 ) القربة : مصنوعة من جلد الغنم يتقل بها الماء ، وتستعمل احيانا في استخراج الزبدة من الحليب .
( 3 ) المزملات : جمع ( مزملة او مزملي بالهجة الموصلية ) وهي عبارة عن مكان مستطيل يصنع او يبطن بالحجر او الحلان يوضع فيه الماء كالخزان في الوقت الحاضر .
( 4 ) المزملي : مفرد المزملات .
( 5 ) الخميسية : رداء مصنوع من الصوف الخشن ، يلبس من قبل السقا او الحمال ليقي ظهره من الحمل .
( 6 ) زنّادي : قطعة ذهبية تصنع على شكل افعى ، تلبسها النساء عادة في الزند ومن هنا جاءت تسميتها زنّادي .
( 7 ) مثل موصلي ، اصبح حكمة بالغة