المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحب الإلهي



Amarant
18-11-2004, 10:31 PM
بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

أيها الإخوة الكرام ؛ في سورة البقرة آية رقمها الخامسة والستون بعد المئة ، يقول الله سبحانه وتعالى فيها:

( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب).

الإنسان قبل أن نشرح الآية جسدٌ يأكل ، وعقلٌ يدرك ، وقلبٌ يحب ، هذه حقيقة الإنسان ، وهذه جوانبه الثلاثة ، جسدٌ يأكل ، وعقلٌ يدرك ، وقلبٌ يحب.

دعونا من الجسد،. فنحن وبقية المخلوقات سواء ، أجهزة وأعضاء وأنسجة ، ويحتاج إلى طعام وإلى شراب وإلى راحة ، له قوانينه وله مبادئه ، والأطباء موكلون بمعرفة أمراضه ودوائه .

دعونا من الجسد ، ولنقف عند القلب الذي يحب ، والعقل الذي يدرك ، هل هناك من علاقة بينهما ؟ نعم ، وهذه العلاقة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، دققوا في هذا الحديث :" أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً " .

فلو عرضت على إنسان قطعة بلور عادية وقطعة كريستال وقطعة ألماس ؛ فالماس ثمنها ثلاثمائة ألف ، والكريستال ثمنها عشرون ريالاً ، بينما البللور ثمنها ريالان ، ثم قلت له : اختر ، فإن اختار البللور فهو لا عقل له ، وإذا اختار الكريستال فلديه بقية عقل ، ولعله ما انتبه لقطعة الماس ، أما الذي يعمل في بيع المجوهرات فإنه يأخذ الماس رأساً .

فكلما نمت معرفتك ونما إدراكك ، ارتقى اختيارك ، وكلما نما عقلك ارتقى اختيارك ، فالذي اختار الدنيا محدود ، أحمق ، غبي ، لأنها قصيرة ، ولأنها تنقطع عند الموت ، ومهما علوت في الدنيا فكل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، ومهما كنت غنياً فإن الكفن لا جيب فيه ، ولا دفتر شيكات ، ليس هناك قبر خمس نجوم ، بل كل القبور نجمه واحدة وكل نجوم الظهر .

فمهما كنت في أعلى مكانة في المجتمع ، أو بأعلى مكانةٍ في المال ، أو كنت حائزًا على أعلى الدرجات العلمية ، بورد مثلا ، فمصيرك إلى القبر .

فالذي يختار الدنيا ، فيه ضعف في عقله ، وهو غبي ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .

فالبلور والكريستال والماس ، كلما كانت خبراتك كانت أعمق اخترتَ الماس ، فإنْ دنت فالكريستال جميل ، وكأس الكريستال ثمنها مئتا ريال جميلة ، أما قطعة البلور، فقد تكون قطرميز بلور ، لونه أزرق وطني ، فغاية ثمنها خمس ليرات أو عشر ليرات ،قد يقال لك : حجمه كبير ، وهو يستحق ثمنًا عشرَ ريالات ، وكأس كريستال ثمنها مئتا ريال ، وقطعة ألماس ثمنها ثلاثمائة ألف ، فأنت مخيَر لقلة خبرتك ، لكن الجواهري لا يتردد ثانية في التقاط قطعة الماس .

إخوانا الكرام ؛ صحابي جليل اسمه عبد الله بن رواحه ، تُروى عنه هذه القصة ، فإن صحت فلها مغزى كبير ، وإن لم تصح فلنا منها عبرة فقط ، عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم قائداً ثالثاً في معركة مؤتة ، القائد الأول سيدنا زيد ، ثم سيدنا جعفر ، ثم سيدنا ابن رواحه ، والمعركة مخيفة وطاحنة ، وأعداد جيش العدو كبيرة ، فأول قائد رفع الراية وقاتل لم يلبث أنْ قتل ، ثم تسلم القيادة سيدنا جعفر ، فأمسك بالراية فقاتل فلم يلبث أنْ قتل هو الآخر ، ثم تسلم القيادة عبد الله ، وكان شاعرًا فقال بعد ما تردد قليلا:


يا نفس ، إلاّ تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت


إن تفعلـي فعلهـا هديـت وإن توليت فـقـد شقيـت

وأمسك بالراية وقاتل بها حتى قتل .

وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق سيدنا جبريل نبأ هذه المعركة فقال بين أصحابه : أخذ الراية أخوكم زيد ، فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه بالجنة ثم أخذ الراية أخوكم جعفر ، فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه بالجنة يطير بجناحين، فسميّ جعفر الطيار ، قال راوي الحديث : وسكت النبي صلى الله عليه ، فلما سكت غار الصحابة على أخيهم الثالث ، سيدنا عبد الله بن رواحه ، فقالوا ما فعل عبد الله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت بقدر ثلاثين ثانية تقريبًا ، بقدر ما تردد عبد الله بن رواحة حين أخذ الراية ، قال : ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله ، فقاتل بها حتى قتل ، قال: وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه ، لأنه تردد ثلاثين ثانية ، ولذا هبطت درجته عن صاحبيه قليلا .

فإذا كان الجواهري متمرِّسًا ، وعرضتَ عليه قطرميزًا وطنيًّا ثمنه عشر ريالات ، وكأس كريستال ، ثمنها مئتا ريال ، وقطعة ألماس ثمنها ثلاثمائة ألف ريال ، فإنْ تردد ثانية واحدة فيكون أحمق ، ولا يستحق اسم جواهري ، فالتردد ذنب أحيانًا .

إذاً فالعلاقة بين العقل والقلب ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ..

فإذا كان العقل له مؤشر "عقرب" وإذا كان الحب له مؤشر أيضًا فلا بد أنْ تعرف أن هذين المؤشرين يتحركان معاً .

وقد تجد بجهاز الساعة عدادين ؛ واحدًا لدورة المحرك ، وواحدًا للسرعة ، و كذلك مؤشر العقل و مؤشر القلب " أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً " ، و بعد فلنَعُد إلى الآية : مون الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله.

هنا الحمق واضح جليّ ، فإنسان فانٍ ، إنسان ميت ، إنسان محدود ، إنسان ضعيف إنسان لئيم ، تمنحه حبك ، إنها متاهة تؤدِّي إلى الضياع .

إنك لن تجد إنسانًا على وجه الأرض أخلص للنبي كسيدنا الصديق ، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي )


(رواه البخاري)

إذاً هذا القلب لا يليق به إلا أن يحب الله ، فأنت تحتقر ذاتك إذا أحببت غير الله .

قال تعالى : (ومن يرغب عن ملةٍ إبراهيم إلا من سفه نفسه).


(سورة البقرة : الآية 130 ) .

إنّ أشد أنواع احتقار الذات ، أن تكون لغير الله ، محسوب على غير الله ، أو أن تُجَيّر - بالتعبير المصرفي- لغير الله ، وأن تحب غير الله ، دققوا في الآية : "ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله" إنك تحب زوجتك أكثر من الله ، فهناك علامة ، أعوذ بالله !! لا أحب إلا الله ، حينما تطيعها في معصية الله ، فاعلم أنك تحبها أكثر من الله ، وهناك علامة كذلك أنك تحب أولادك أكثر من الله ، حينما تطيعهم أكثر من الله ، وهناك علامة أنك تحب هذا البيت أكثر من الله والجنة ، فإذا جلست به مغتصباً ، ولم تعبأ بتهديد الله لك ، وتقول : القانون معي ، خير إن شاء الله ، فليشفع لك القانون عند الله تعالى .

ليس في القبر مِن قانون ، فعلامة محبة غير الله ، أن تؤثره على الله والأمر لا يحتاج إلى زعبرة ، ولا أنْ تتلبس له ، ومادمت تطيع إنسانًا وتعصي الخالق ، فهذا الإنسان إما أنك تخافه ، وإما أنك تحبه أكثر من الله ، وهذا هو الشرك بعينه ، ويقول صلى الله عليه وسلم : أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي أما إني لست أقول إنكم تعبدون صنماً ولا حجراً ـ انتهت تلك الحال إلى غير رجعة ، فلن نتجه إلى صنم نعبده ـ ولكن شهوة خفية وأعمال لغير الله .." وهذا هو الشرك الخفي ، فهؤلاء : ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله " فلم يقل سبحانه و تعالى : ومن المؤمنين ، بل قال : ومن الناس .

والذين آمنوا أشد حباً لله

من علامة إيمانك ، أنك تحب الله عز وجل أكثر من كل شيء ، فقد قال عمر : يا رسول الله إني أحبك أكثر من أهلي وولدي ومالي والناس أجمعين إلا من نفسي ، قال له: يا عمر لمَّا يكمل إيمانك ، قال ولِمَ ؟ حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك أيضا ، وبعد حين ، قال له : الآن يا رسول الله أحبك أكثر من نفسي وولدي ومالي والناس أجمعين ، قال له ، الآن يا عمر، الآن كمل إيمانك دققوا في قول النبي الكريم صلىالله عليه وسلم: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً

والذين أمنوا أشد حباً لله .. لكن متى يصعق الإنسان يوم القيامة قال : ولو يرى الذين أمنوا ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً "

وبعد ، فالإنسان من يحب ؟ بالمناسبة ، فإنّ قوانين النفس تقول : الإنسان يحب الشيءَ الجميل ، ويحب الجمال ، ويحب الكمال ، ويحب النوال (العطاء).

هناك قصة وقعت من خمسين سنة ، خطيب جامع رآى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : قل لجارك فلان إنه رفيقي بالجنة ، وفي الصباح طرق بابه ، وقال له : لك عندي بشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا أقولها لك إلا إذا قلت لي ما صنعت مع ربك ، فلما استحلفه قال له : والله تزوجت امرأة وبعد خمسة أشهر من عرسي كانت في الشهر التاسع ، إذاً هذا الولد الذي في بطنها ليس مني .

قال له : بإمكاني أن أسحقها ، بإمكاني أن أطلقها ، بإمكاني أن أفضحها ، لكن وجد أنها زلت قدمها مرة واحدة ، وأرادت أن تتوب على يديه ، فأتى بقابلة ، وأولدتها ليلاً ، وحمل الوليد إلى المسجد بعد أن كبر الإمام تكبيرة الإحرام ، حتى لا يراه أحد ، ووضع الغلام عند طرف الباب ، فلما انتهت هذه الصلاة ، بكى هذا الوليد ، فتحلق المصلون حوله وجاء معهم كواحد منهم ، دون أن يشعرهم أنه يعلم ، فقال : خير ماذا هنالك ؟ تعالَ انظر ، ولدٌ وُلد لتوه ، قال : أعطوني إياه أنا أتكفله فأخذه و رده إلى أمه وأمام الجيران سترها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل لجارك فلان : إنه رفيقي بالجنة .

نحن الآن جميعاً أُعْجِبْنا بهذا الموقف ، لأنّ الإنسان بحب الكمال ، ويحب المروءة ، والشهامة ، والأمانة ، والإخلاص ، والجمال ، والإنسان يحب النوال .

لو أنَّ واحدًا قصير القامة ، أسمر اللون ، ناتئ الوجنتين ، غائر العينين ضيق الجبهة ، أعرج الرجل ، أعطاك مئة مليون ، فأينما سار تتبعه ببصرك ، رغم أنه ليس حلو المنظر ، فالإنسان يحب النوال والعطاء ، والكمال ، والجمال ، وهذه كلها في الله ، قال تعالى : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً " .

إنّ قوة العطاء من الله ، وقوة الجمال من الله ، وقوة الكمال من الله ، فهو الكامل ، وهو الجميل ، وهو المعطي ، والإنسان تَركه وأحبَّ غيره ، وهذا من غبائه ، وحمقه وضعف إيمانه ، فهذه الآية دقيقة :" ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حباً لله" ، في الدنيا .

أما الكفار فإنهم يصعقون يوم القيامة ، حينما يرون أن كل شيء تمتعوا به كان من الله ، وأحبوا غيره ، وكل شيء أسعدهم كان من الله وأحبوا غيره " إني والإنس والجن في نبأٍ عظيم ، أخلق ويحمد غيري ، وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إليّ صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي ، وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة بعشر أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بالعبد من الأم بولدها " .

قل لي ما الذي تحبه أقل لك من أنت ، فكلما نما عقلك أحببت ربك ، وكلما ضعف العقل أحببت سواه ، وكلُّ شيءٍ سواه فانٍ ، " كل من عليها فان "


(سورة الرحمن : الآية 26 )

فإنْ ربطتَ نفسك مع إنسان يموت ، ربطتَ نفسك مع زوجة تموت ، وتكون لئيمة أحياناً ، فأين عقلُك ؟ .

أما إذا أحببت الله فأنت العاقل ، وأنت الذكي ، وأنت الموفق ، وأنت المفلح ، وأنت الفائز، وأنت الذي عرفت سر وجودك ، وأنت الذي عرفت قيمة وجودك ، فلا تعرف قيمة وجودك إلا إذا عرفت الله عز وجل ، وأنت لله أوَّلاً وأخيرًا .

إنّ الماء للتراب ليسقيه ، والتراب للنبات لينبته ، والنبات للحيوان ليأكله والحيوان للإنسان ليتغذى به ، وأنت لله، فإذا أحببت غير الله فقد وقعت في شر أعمالك .

والحمد لله رب العالمين