سهم الاسلام
21-11-2004, 11:18 PM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .. و بعد :
محدّث الديار الشامية.. الشيخ بدر الدين الحسني
الكاتب: عبد الله الطنطاوي
ثمة رجال يموت ذكرهم، وتندثر أسماؤهم وتُمحى، بمجرد موتهم، فكأنهم كانوا عابري سبيل في هذه الحياة، لم يتركوا وراءهم أثراً يدلّ على عبورهم هذه الدنيا، مهما طالت أعمارهم.
وهناك رجال يكونون ملء سمع الدهر، لا يمرّ يوم من أيامهم، من دون أن يخلّف أثراً حميداً ينضاف إلى آثار حميدة أخرى، تخلّد ذكر صاحبها في هذه الحياة. ومن هذا النمط الرائع من الرجال، علاّمة الشام، ومحدّثها الأكبر، الشيخ بدر الدين الحسني الذي نقدم جوانب من حياته الحافلة بالعلم والصلاح والسلوك الإسلامي المثالي الذي بلغ به منزلة لم ينلها أحد في عصره .
الميلاد والنشأة :
ولد الشيخ بدر الدين محمد بن الشيخ يوسف المغربي المراكشي في دمشق عام 1267هـ-1851م وهو من أصل مغربي، من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان أحد أجداده قد انتقل إلى مصر، وفي قرية بيبان من محافظة البحيرة بمصر، ولد أبوه الشيخ يوسف، ثم رحل إلى تونس، وتعلم في جامع الزيتونة، ثم عاد إلى الشرق، وأقام في دمشق، واشتهر بالمغربي، وكان الشيخ يوسف من كبار علماء دمشق، وقد نشأ الفتى بدر الدين في أحضان ذلك العالم العامل العابد، على العلم والتقى والصلاح والسلوك المستقيم، حتى كان لنا منه ذلك العالم الرباني، خاتمة المحققين، وأعظم المحدّثين في عصره وإلى يوم الناس هذا.
عاش ثمانين عاماً للعلم وبالعلم، وللناس، والأمة، حتى صار المرجع في كل فن، وفي كل أمر خاص أو عام، فقد كان عجيباً في علمه، وإحاطته، واستقامة ذاكرته التي لم تؤثر فيها الأيام، وصار فهرساً حيّاً لكل مخطوط ومطبوع من الكتب، لا يشغله شيء عن القراءة، إلا أن يكون نائماً، أو في صلاة، أو درس، ما فارق الكتب، وما أحبّ من دنياه سواها.
طبائعه وأخلاقه :
كان للشيخ في سائر أحواله طبائع وأوضاع خاصة لا يتخلّى عنها؛ فهو منظم؛ ينظّم عمله، ويرتب أوقاته، فلا يغيّر منها شيئاً، ولا يقدّم ولا يؤخّر، فكان من الممكن معرفة الوقت الذي يمّر به من الطريق الفلاني، والوقت الذي ينزل فيه من غرفته في أثناء النهار. وهكذا سائر أوقاته.
كان يؤثر الصمت، فإذا تكلم أوجز، فهو لا يحبّ كثرة الكلام، ولا الثرثرة، ولا التشدّق، لأن في ذلك إضاعة للوقت في غير فائدة، وهو حريص جداً على الوقت الذي هو الحياة.
وما كان الشيخ يحب التكلف والتصنع في أي أمر من الأمور، ولا قصّ القصص الفارغة، وسرد الأخبار التافهة، والحوادث اليومية التي تجري مع سائر الناس.
كان حادّ الذكاء، متوقد الذهن، قويّ الذاكرة، يتذكر بسهولة جميع ما مرّ به من حوادث، وبقي هكذا إلى أن لقي ربّه راضياً مرضياً إن شاء الله.
وكان متواضعاً، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد في علم أو خلق، وكان يقول: « التواضع أن ترى نفسك دون كل جليس» ومن شدّة تواضعه، أنه كان لا يصلي إماماً بأحد، ويأتمّ بتلاميذه، ولا يتصدر في المجالس، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكثيراً ما كان يجلس قرب باب الغرفة. وكان يقول: « أقرب أبواب الوصول إلى الله: التواضع» و« من رأى نفسه خيراً من أحد، فليس بمتخّلص من الكِبْر» ولهذا لم يكن يمكّن أحداً من تقبيل يده، رغم حرص تلاميذه على تقبيلها. ولا يمكّن أحداً من خدمته، ولم يستعن طوال حياته بأحد، ولا بعصا.
يأخذ نفسه بالعزائم، فلم يمسح على الخفين قط، وكان يكسر الجليد الذي يغطّي بركة داره، ويتوضأ من مائه، ويبالغ في وضوئه.
وكان زاهداً في هذه الدنيا التي أقبلت عليه فعافها وانصرف عنها إلى ما يصلح به آخرته، فقد ترك له أبـوه ثروة تمكنّه من حياة الرفـاه، فزهد بها، كما زهد بالجاه والمنصب والوظيفة الرفيعة.
وكان يتحرج من قبول الهدية، وكان يكافئ عليها بما هو أكبر منها. وكان كريماً جداً، يكرم ضيوفه ويبالغ في إكرامهم، ولا يسأله أحد شيئاً إلا أعطاه، وإذا أحسّ بأحد حاجة ولم يذكرها، انفرد به وأعطاه، وكانت له صدقات مستورة لا يعلمها إلا بعض تلاميذه الذين يستخدمهم في إيصالها إلى مستحقيها.
وكان مع أهله كما قال الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله» يرشدهم برفق ولين، ويأكل مما يشتهون، ويوسّع عليهم، ويلبّي رغباتهم، وإذا غضب لشيء قطّب جبينه، وبيّن رأي الشرع في ذلك الأمر، دون ضرب أو شتم، أو صياح، يصل الأرحام، والأصدقاء والمعارف، وربمّا زار غير المسلمين.
وكان يتودّد إلى الشباب خاصة. كما كان يصوم الدهر ولا يفطر إلا في الأيام التي يحرم صيامها.
وكان يكثر من الصلاة، ومن الذكر، ومن الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان يجمع بين العلم والذكر، يتقرب بهما إلى الله تعالى.
من أبرز صفاته:
اهتمامه بالفقراء والمحتاجين، والعمل لرفع الظلم عنهم، وإنصافهم.. هو يقّدم لهم، ولا يأخذ منهم، وشتان بين من يثري على حسابهم، ومن يعطيهم عطاء من لا يخشى الفقر. وكان يضع أكياس السكر والرز بجانب الباب، ليأخذ المحتاج منها ما يشاء..
كان يزور الفقراء والمساكين والمساجين، يباسطهم، ويأنس بلقائهم، ويطلب منهم الدعاء، وينصحهم، ويزور دور الأيتام، ويمسح رؤوسهم، ويطلب منهم أن يدعو له، ويقدّم لهم الهدايا في الأعياد.
علمه :
حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة، وطائفة كبيرة من المتون في شتى العلوم الشرعية والعربية بلغت عشرين ألف بيت، ثم درس تلك العلوم دراسة تحقيق وتدقيق على والده العلامة الشيخ يوسف، وعلى علماء دمشق، وخاصة العلامة الشيخ أبا الخير الخطيب.
وبعد أن نال حظاً وافراً من تلك العلوم الإسلامية، انجذب بنور قذفه الله في قلبه إلى علم الحديث، فتبحّر فيه، حتى غدا منقطع النظير في حفظ الكثير الكثير منه، بسنده ومتنه، وفي تعدد طرقه ورواياته، وقد حبّب هذه العزلة إلى نفسه، ليخلو إلى الحبيب: علم الحديث، يقضي الليالي معه في غرفته بدار الحديث، التي ما كان يغادرها إلا للنوم، وكان نومه قليلاً.. كان يقرأ، فإذا غلبه النعاس اتكأ برأسه على وسائد، فأغفى ساعتين أو ثلاثاً من الليل، ثم يهبّ إلى وضوئه، ليتهجّد ما شاء الله له أن يتهجد، ثم يجلس إلى كتب الحديث، حتى حفظ الصحيحين بأسانيدهما، وطائفة كبيرة من كتب الأسانيد والسنن.
كان الشيخ مولعاً بالمطالعة منذ كان فتى، وشدّة حبّه للمطالعة جعلته يعتزل الناس، ويؤثر الكتاب على الاختلاط بهم، ينكبّ عليه، ويلتهم ما فيه من ثمرات العقول، يجالسه ويناجيه ويضمّه إلى صدره، فإذا اضطر إلى زيارة ما، اختصرها في بضع دقائق، وربما قضى الزيارة دون أن يجلس، وإذا تكلم أوجز، وربما تكلم بنصف كلمة، وأكملها بإشارة، لأنه يؤثر الصمت على الكلام إلا مضطراً.
وكان معلّم نفسه وأستاذها، يخلو إليها وإلى الكتب الكبيرة، يطالعها، ويفكر فيما يقرأ، ويتأمل، ويحفظ، وقد أوتي ذاكرة عجيبة ساعدته في حفظ الكثير من كتب الحديث والمتون وسواها مما تقع عليه عيناه، وتطوله يده. وكان يشتري الكتب النادرة بأثمان باهظة، حتى بلغ به الأمر أن يشتري كتاباً بخمس مئة دينار ذهبي.
وكانت مطالعاته موزعة بين العلوم الشرعية، والعلوم العربية، والرياضيات، والكيمياء وسواها من العلوم العصرية، وقد وصفه العلامة محمد رشيد رضا بأنه دائرة المعارف. وكان لديه كتب نفسية، مخطوطة ومطبوعة، في الحساب، والهندسة، والجبر، وكتبٌ مترجمة، مما يندر وجودها لدى غيره من العلماء، وفي المكتبات.
تآليفه :
في هذه الخلوة مع نفسه، والتي امتدت سبع سنين، بين الثالثة عشرة والعشرين من عمره المديد المبارك، ألّف كتبه ورسائله، وكتب حواشيه، وقد زادت على أربعين.
محدّث الديار الشامية.. الشيخ بدر الدين الحسني
الكاتب: عبد الله الطنطاوي
ثمة رجال يموت ذكرهم، وتندثر أسماؤهم وتُمحى، بمجرد موتهم، فكأنهم كانوا عابري سبيل في هذه الحياة، لم يتركوا وراءهم أثراً يدلّ على عبورهم هذه الدنيا، مهما طالت أعمارهم.
وهناك رجال يكونون ملء سمع الدهر، لا يمرّ يوم من أيامهم، من دون أن يخلّف أثراً حميداً ينضاف إلى آثار حميدة أخرى، تخلّد ذكر صاحبها في هذه الحياة. ومن هذا النمط الرائع من الرجال، علاّمة الشام، ومحدّثها الأكبر، الشيخ بدر الدين الحسني الذي نقدم جوانب من حياته الحافلة بالعلم والصلاح والسلوك الإسلامي المثالي الذي بلغ به منزلة لم ينلها أحد في عصره .
الميلاد والنشأة :
ولد الشيخ بدر الدين محمد بن الشيخ يوسف المغربي المراكشي في دمشق عام 1267هـ-1851م وهو من أصل مغربي، من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان أحد أجداده قد انتقل إلى مصر، وفي قرية بيبان من محافظة البحيرة بمصر، ولد أبوه الشيخ يوسف، ثم رحل إلى تونس، وتعلم في جامع الزيتونة، ثم عاد إلى الشرق، وأقام في دمشق، واشتهر بالمغربي، وكان الشيخ يوسف من كبار علماء دمشق، وقد نشأ الفتى بدر الدين في أحضان ذلك العالم العامل العابد، على العلم والتقى والصلاح والسلوك المستقيم، حتى كان لنا منه ذلك العالم الرباني، خاتمة المحققين، وأعظم المحدّثين في عصره وإلى يوم الناس هذا.
عاش ثمانين عاماً للعلم وبالعلم، وللناس، والأمة، حتى صار المرجع في كل فن، وفي كل أمر خاص أو عام، فقد كان عجيباً في علمه، وإحاطته، واستقامة ذاكرته التي لم تؤثر فيها الأيام، وصار فهرساً حيّاً لكل مخطوط ومطبوع من الكتب، لا يشغله شيء عن القراءة، إلا أن يكون نائماً، أو في صلاة، أو درس، ما فارق الكتب، وما أحبّ من دنياه سواها.
طبائعه وأخلاقه :
كان للشيخ في سائر أحواله طبائع وأوضاع خاصة لا يتخلّى عنها؛ فهو منظم؛ ينظّم عمله، ويرتب أوقاته، فلا يغيّر منها شيئاً، ولا يقدّم ولا يؤخّر، فكان من الممكن معرفة الوقت الذي يمّر به من الطريق الفلاني، والوقت الذي ينزل فيه من غرفته في أثناء النهار. وهكذا سائر أوقاته.
كان يؤثر الصمت، فإذا تكلم أوجز، فهو لا يحبّ كثرة الكلام، ولا الثرثرة، ولا التشدّق، لأن في ذلك إضاعة للوقت في غير فائدة، وهو حريص جداً على الوقت الذي هو الحياة.
وما كان الشيخ يحب التكلف والتصنع في أي أمر من الأمور، ولا قصّ القصص الفارغة، وسرد الأخبار التافهة، والحوادث اليومية التي تجري مع سائر الناس.
كان حادّ الذكاء، متوقد الذهن، قويّ الذاكرة، يتذكر بسهولة جميع ما مرّ به من حوادث، وبقي هكذا إلى أن لقي ربّه راضياً مرضياً إن شاء الله.
وكان متواضعاً، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد في علم أو خلق، وكان يقول: « التواضع أن ترى نفسك دون كل جليس» ومن شدّة تواضعه، أنه كان لا يصلي إماماً بأحد، ويأتمّ بتلاميذه، ولا يتصدر في المجالس، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، وكثيراً ما كان يجلس قرب باب الغرفة. وكان يقول: « أقرب أبواب الوصول إلى الله: التواضع» و« من رأى نفسه خيراً من أحد، فليس بمتخّلص من الكِبْر» ولهذا لم يكن يمكّن أحداً من تقبيل يده، رغم حرص تلاميذه على تقبيلها. ولا يمكّن أحداً من خدمته، ولم يستعن طوال حياته بأحد، ولا بعصا.
يأخذ نفسه بالعزائم، فلم يمسح على الخفين قط، وكان يكسر الجليد الذي يغطّي بركة داره، ويتوضأ من مائه، ويبالغ في وضوئه.
وكان زاهداً في هذه الدنيا التي أقبلت عليه فعافها وانصرف عنها إلى ما يصلح به آخرته، فقد ترك له أبـوه ثروة تمكنّه من حياة الرفـاه، فزهد بها، كما زهد بالجاه والمنصب والوظيفة الرفيعة.
وكان يتحرج من قبول الهدية، وكان يكافئ عليها بما هو أكبر منها. وكان كريماً جداً، يكرم ضيوفه ويبالغ في إكرامهم، ولا يسأله أحد شيئاً إلا أعطاه، وإذا أحسّ بأحد حاجة ولم يذكرها، انفرد به وأعطاه، وكانت له صدقات مستورة لا يعلمها إلا بعض تلاميذه الذين يستخدمهم في إيصالها إلى مستحقيها.
وكان مع أهله كما قال الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله» يرشدهم برفق ولين، ويأكل مما يشتهون، ويوسّع عليهم، ويلبّي رغباتهم، وإذا غضب لشيء قطّب جبينه، وبيّن رأي الشرع في ذلك الأمر، دون ضرب أو شتم، أو صياح، يصل الأرحام، والأصدقاء والمعارف، وربمّا زار غير المسلمين.
وكان يتودّد إلى الشباب خاصة. كما كان يصوم الدهر ولا يفطر إلا في الأيام التي يحرم صيامها.
وكان يكثر من الصلاة، ومن الذكر، ومن الصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان يجمع بين العلم والذكر، يتقرب بهما إلى الله تعالى.
من أبرز صفاته:
اهتمامه بالفقراء والمحتاجين، والعمل لرفع الظلم عنهم، وإنصافهم.. هو يقّدم لهم، ولا يأخذ منهم، وشتان بين من يثري على حسابهم، ومن يعطيهم عطاء من لا يخشى الفقر. وكان يضع أكياس السكر والرز بجانب الباب، ليأخذ المحتاج منها ما يشاء..
كان يزور الفقراء والمساكين والمساجين، يباسطهم، ويأنس بلقائهم، ويطلب منهم الدعاء، وينصحهم، ويزور دور الأيتام، ويمسح رؤوسهم، ويطلب منهم أن يدعو له، ويقدّم لهم الهدايا في الأعياد.
علمه :
حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة، وطائفة كبيرة من المتون في شتى العلوم الشرعية والعربية بلغت عشرين ألف بيت، ثم درس تلك العلوم دراسة تحقيق وتدقيق على والده العلامة الشيخ يوسف، وعلى علماء دمشق، وخاصة العلامة الشيخ أبا الخير الخطيب.
وبعد أن نال حظاً وافراً من تلك العلوم الإسلامية، انجذب بنور قذفه الله في قلبه إلى علم الحديث، فتبحّر فيه، حتى غدا منقطع النظير في حفظ الكثير الكثير منه، بسنده ومتنه، وفي تعدد طرقه ورواياته، وقد حبّب هذه العزلة إلى نفسه، ليخلو إلى الحبيب: علم الحديث، يقضي الليالي معه في غرفته بدار الحديث، التي ما كان يغادرها إلا للنوم، وكان نومه قليلاً.. كان يقرأ، فإذا غلبه النعاس اتكأ برأسه على وسائد، فأغفى ساعتين أو ثلاثاً من الليل، ثم يهبّ إلى وضوئه، ليتهجّد ما شاء الله له أن يتهجد، ثم يجلس إلى كتب الحديث، حتى حفظ الصحيحين بأسانيدهما، وطائفة كبيرة من كتب الأسانيد والسنن.
كان الشيخ مولعاً بالمطالعة منذ كان فتى، وشدّة حبّه للمطالعة جعلته يعتزل الناس، ويؤثر الكتاب على الاختلاط بهم، ينكبّ عليه، ويلتهم ما فيه من ثمرات العقول، يجالسه ويناجيه ويضمّه إلى صدره، فإذا اضطر إلى زيارة ما، اختصرها في بضع دقائق، وربما قضى الزيارة دون أن يجلس، وإذا تكلم أوجز، وربما تكلم بنصف كلمة، وأكملها بإشارة، لأنه يؤثر الصمت على الكلام إلا مضطراً.
وكان معلّم نفسه وأستاذها، يخلو إليها وإلى الكتب الكبيرة، يطالعها، ويفكر فيما يقرأ، ويتأمل، ويحفظ، وقد أوتي ذاكرة عجيبة ساعدته في حفظ الكثير من كتب الحديث والمتون وسواها مما تقع عليه عيناه، وتطوله يده. وكان يشتري الكتب النادرة بأثمان باهظة، حتى بلغ به الأمر أن يشتري كتاباً بخمس مئة دينار ذهبي.
وكانت مطالعاته موزعة بين العلوم الشرعية، والعلوم العربية، والرياضيات، والكيمياء وسواها من العلوم العصرية، وقد وصفه العلامة محمد رشيد رضا بأنه دائرة المعارف. وكان لديه كتب نفسية، مخطوطة ومطبوعة، في الحساب، والهندسة، والجبر، وكتبٌ مترجمة، مما يندر وجودها لدى غيره من العلماء، وفي المكتبات.
تآليفه :
في هذه الخلوة مع نفسه، والتي امتدت سبع سنين، بين الثالثة عشرة والعشرين من عمره المديد المبارك، ألّف كتبه ورسائله، وكتب حواشيه، وقد زادت على أربعين.