شريعة الغاب
21-01-2005, 11:59 PM
أرسلت في 11-12-1425 هـ بواسطة الخالدي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }
كلمة للشيخ أبي مصعب الزرقاي - حفظه الله -
والكلمة بعنوان :
وكذلك الرسل تـُبتـلى .. ثم تكون لها العاقبة
الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولاً بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ،
والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه .
أما بعد
فهاتيك عبرة جديدة أُرسلها عبر أثير الكلمات ..
وهاتيك خفقة حانية أصدرها من صميم القلب وضلوع الجنبات..
من جندي واقف على عتبات الحرب ، وأزيز المعمعات ..
من أبي مصعب الزرقاوي إلى من يراه من أهل الأوقات والمروءات
لم تزل تكابدني آلام الأمة المحزونة ، لم تزل تفارقني أشباح الأمة المطعونة ، أمة المجد العظيم والشرف الكريم ، سامتها أيدي الغدر ألوانا من الشر المهين ؛ فتوسدت لحاف الذل والمهانة ، وتجرعت كؤوس القهر والخيانة ، وأقعدت عن واجباتها ومهامها ، وحجبت عن أحلامها آمالها .
وبات المرض يعوث أركان الجسد ، ثم طـُرح أرضاً وشـُـدت أركانه إلى وتد ، وتكالبت عليه وحوش الأرض مع الذئاب ، وغدت أوصاله مقطعة بين المخالب والأنياب ؛ فذاك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان - رضي الله عنه - قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها " قال : قلنا يا رسول الله : أ من قلة بنا يومئذ ؟ قال " أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ، يـُـنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويـُـجعل في قلوبكم الوهن "
قال ، قلنا : ما الوهن ؟ قال : " حب الحياة وكراهية الموت " وفي روايةأخرى لأحمد " وكراهيتكم القتال " .
فلتعلموا أهل الإسلام .. أن الابتلا تاريخ وقصة طويلة منذ أن نزلت ( لا إله إلا الله على هذه الأرض ) فابتلي الأنبياء والصادقون ، وكذلك الأئمة الموحدون .
فمن جرد نفسه لحمل كلمة ( لا إله إلا الله ) ونصرها وإقامتها في الأرض عليه أن يدفع تكاليف هذا التشريف من تعب ونصب وبلاء .
فأين أنت .. والطريق طريق تعب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورمي في النار الخليل ، وأضجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بثمن بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونشر بالمنشار زكريا ، وذبح السيد الحصور يحي ، وقاسى الضر أيوب ، وزاد على المقدار بكاء داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم .
وتزهى أنت باللهو واللعب!!
والله تعالى يبتلي بعض الخلق ببعض ، ويبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن ، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعا قال تعالى : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شي قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور }
روى مسلم عن نبينا سلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال :
" إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك "
والذي علمناه من القرآن والسنة أن من الأنبيا من قتله أعداؤه ومثلوا به كيحيى ، ومنهم من هم قومه بقتله ففارقهم ناجياً بنفسه كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام ، وعيسى الذي رفع إلى السماء .
ونجد من المؤمنين من يُسام سوؤ العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد
فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا !!
الابتلاء هو قدر الله في جميع خلقه ، ولكنه يزداد ويعظم في شدته على الأخيار الذين اجتبتهم عناية الله وخاصة المجاهدين منهم لابد لهم من مدرسة الابتلاء .. لا بد لهم من دروس التمحيص والتهذيب والتربية .
ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : " الأنبيا ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة " .
وروى البيهقي في شعب الإيمان ، والطبراني في المعجم الكبير ، وابن سعد في الطبقات ، عن عبدالله بن إياس بن أبي فاطمة عن أبيه عن جده قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من أحب أن يصح ولا يسقم ؟؟ " قلنا : نحن يا رسول الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مـــه ؟ " وعرفناها في وجهه ، فقال : " أتحبون أن تكونوا كالحمير الصيالة ؟ " قال ، قالوا : يا رسول الله .. لا ، قال : " ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلا وأصحاب كفارات ؟ " قالوا بلى يا رول الله قال فقال رول الله صلى الله عليه ولم : " فوالله إن الله ليبتلي االمؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه ، وإن له عنده منزلة ما يبلغها بشي من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما يبلغ به تلك المنزلة " .
وروى الترمذي عن جابر- رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلا "
وعن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه يؤتى يوم القيامة بأنعم النا كان في الدنيا ، فيقول الله عز وجل : اصبغوه في النار صبغة ، ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل أصبت نعيماً قط هل رأيت قرة عين قط ؟ هل أبت رورا قط ؟ ثم يقول لا وعزتك .
ثم يؤتى بأشد النا كان بلاء في الدنيا ، فيقول تبارك وتعالى اصبغوه في الجنة صبغة ينصبغ فيها ، فيقول : يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط ، فيقول : لا وعزتك ما رأيت شيئا قط أكرهه "
قال شقيق البلخي : ( من يرى ثواب الشدة لا يشتهي الخروج منها ، والله عز وجل شرع الجهاد تكملة لشرائع الدين ورفع منزلته عالياً حتى ار في ذروة التكليف الرباني ، وجعل فيه شدة وبلا تكرهه النفوس وتجبن عنده الطباع ، ثم حببه وقربه من جوهر الإيمان ومكنون التوحيد ، فلا يطلبه إلا صادق الإيمان قوي البرهان : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } .
فحقيقة الجهاد .. قائمة على صقل النفس وتجريدها لربها وخالقها بفعل أوامره ، والإقدام على وعوده ، وهذا لا يكون إلا إذا حـُف هذا الطريق بالشدائد والمحن ؛ ولهذا يقول الله عز وجل :
{ ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم }
ويقول : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } قال ابن كثير في تفسير هذه الآية :
( أي لابد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيه وليه ، ويفضح فيه عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم ، وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهتك به استار المنافقين فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد ، وخيانتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وتأملوا يا عباد الله قوله سبحانه تعالى :{ ومنهم من يعبد الله على حرف فإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } .
روى البغوي في التفسير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ( أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ولد له بعد الإسلام غلام وتناسل فيه وكثر ماله ، قال هذا دين حسن ، هذا دين جيد ، فآمن وثبت ؛ أما إذا لم يولد له غلام ولم يتكاثر خيله ، ولم يكثر ماله ، وأصابه قحط أو جدب قال هذا دين سيئ ، ثم خرج من دينه وتركه على كفره وعناده ) .
يقول سيد – رحمه الله – : ( فلا بد من تربية النفوس بالبلاء ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد وبالجوع ونقص الأموال والأنفس الثمرات ، لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة كي تقر على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف لا يعُز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى ، فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين ، وكلما تألموا في سبيلها وكلما بذلوا من أجلها كانت أعز عيهم وكانوا أحق بها ، كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها وصبرهم على بلائها ولا بد من البلاء كذلك ، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ، ومذخور الطاقة ، وتفتح في القلوب منافذ ومسارب ما كان يعلمها المؤمن إلا تحت مطارق الشدائد ) انتهى كلامه رحمه الله .
سئل الشافعي – رحمه الله – ( أيهما خير للمؤمن أن يبتلى أم يمكن ؟ فقال ويحك !!وهل يكون تمكين إلا بعد بلاء ) .
وعن صفوان بن عمر أنه قال : ( كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، فرفع حاجبيه فقال : يابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالا ، ألا من يحبه الله يبتليه ).
صبراً على شدة الأيام إن لها *** عقبى وما الصبر إلا عند ذي حسب
سيفتــح الله عن قـرب يعقبــه *** فيـها لمثـلك راحات مـن التـعب
ويقول سيد - رحمه الله - : ( إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال ، فلا يكفي أن يقول الناس " آمنا " وهم يتركون لهذه الدعوى ؛ حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم ، خالصة قلوبهم ؛ كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ، وهذا هو أصل الكلمة اللغوي ، وله دلالته وظله وإيحائه ، وكذلك تصنع الفتنة في القلوب ههذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه :
{ ولقد فتنا الذين من قبلكم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }
وإن الإيمان أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل ، وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، وإلا الذين يؤثرون على الراحة والدعة وعلى الأمن والسلامة وعلى المتاع والإغرا ، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة النا إلى طريق الله وتحقيق كلمته في عالم الحياة فهي امانة كريمة ، وهي أمانة ثقيلة ، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء ) انتهى كلامه رحمه الله .
فإن على الفئة المقاتلة التي سلكت الجهاد في سبيل الله أن تعي طبيعة المعركة ومتطلباتها نحو هدفها المنتشود وطريقها الذي لابد أن يعبد بدماء الصالحين من ابنائها ، وأن تدرك أن هذا الطريق فيه فقد للأحباب ، وترك للخلان والأوطان ؛ كما قاسى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خير الخلق بعد الأنبياء مرارة الهجرة وفقد المال والأهل والدار كله في سبيل الله ..
فأين نحن منهم ..
وما على هذه الفئة إلا ان تصبر في طريقها الذي سلكته ، وأن تحتسب ما قد يقع لها من فقد بعض القيادات والأقران ، وأن تمضي على دربهم وتعلم أن هذه سنة الله عز وجل ، وأن الله يصطفي من هذه الأمة من عباده الصالحين ، والا تتعجل النصر فإن وعد الله آت لا محالة ، وينبغي أن يعلم المسلم أن اتباع الحق والصبر عليه هو أقصرطريق إلى النصروإن طال الطريق وكثرت عقباته وقل سالكوه ، وأن الحيدة عن الحق لا تأتي إلا بالخذلان وإن سهل طريقها وظن سالكه قرب الظفرفإنما هي أوهام .
قال تعالى :
{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }
هذا هو الجهاد ..
قمة .. وثمرة .. ياتي بعد صبر طويل ومكوث مديد في ارض المعركة انتظاراً لجلب الأعداء واصطباراً لشرورهم مكوث يستمر شهور ونوات متتالية .
وإن لم تتجرع هذه الآلام لن يفتح الله عليك بالنصرلأن النصر مع الصبر ، وقد قال شيخ الإسلام :
( إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين ) .
إن مفاهيم الحق وصدق العقيدة والتوحيد تبقى دُمى في عالم الأشباح لا تجري فيها روح الحياة إلا إذا حملها أناس صادقون صابرون يتحملون تبعات هذا الطريق ولأوائه و يستعذبون التعب والنصب لا يرضون إلا بالموت على أرض الواقع تطبيقاً عملياً لا كما يتمنى البعض هذه المفاهيم ويزركشونها ضمن قوالب نظرية فلسفية ، وخطب رنانة بعيدة عن روح العمل والصدق والتنفيذ .
وإن الإسلام اليوم بأمس الحاجة إلى رجال صادقين صابرين ينزعون إلى الجد ويستعذبون التعب ويرتاحون بالنصب فيترجمون بصمت متطلبات المرحلة رجال النفو الصاقة والهمم العالية والعزائم القوية ، التي لا تعرف إلا سمت التلقي للتنفيذ فتأبى أن يعقدها الكلل ، أو يدركها الملل ، أو تنفق آمالها في المرا والجدال ، فشمر عن ساعد الجد والعمل واصبر على لأواء الطريق ووعورته فقد قيل :
( قد عجزمن لم يعد لكل بلاء صبرا ، وللكل نعمة شكرا ، ومن لم يعلم أن مع العسر يسرا )
يا ويح نفسي وما ارتفعت بنا همم *** إلى الجنان وتالي القوم أواب
إلى كواعب للأطراف قاصرة *** وظل طوبى وعطر الشدو ينساب
إلى قناديل ذهب علقت شرفاً *** بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا
يقول تعالى : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون }
روى الطبري عن قتادة في تفسير هذه الآية قوله : ( ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعداً ، إلا ازدادوا من الله قرباً )
فالأمر لله من قبل ومن بعد .. ولسنا سوى عبيد له سبحانه ، نسعى لتحقيق العبودية له .
ومن كمال العبودية .. أن نعلم ونوقن يقينا جازما لاشك فيه أن وعد الله متحقق لا محالة ، ولكننا قد لا ندرك حقيقة الأمر لحكمة يعلمها الله ، وقد يتأخر النصر ابتلاءً وامتحاناً وصدق الله العظيم :
{ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين }
وقد وعد سبحانه عباده الموحدين بالنصر ، وجعل التمكين للصابرين وأخبر أن ما حل للأمم السالفة من الظفروالثبات والتمكين على الأرض كان لجميع صبرهم وتوكلهم عليه كما قال سبحانه: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون } .
وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف من العزة والتمكين في الأرض بعد الغربة وماجرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه :
{ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }
وعلق سبحانه الفلاح بالصبر لقوله عز وجل :
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }
وذكر سبحانه أن حسن العاقبة في الدنيا هي للصابرين الأتقياء
{ فاصبر إن العاقبة للمتقين }
نحن نعلم يقيناً أن وعد الله لا يتخلف أبداً ومنشأ السؤال والإشكال ..
أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه ؛ وهو (( النصر الظاهر )) ولا يلزم أن يكون هذا هو الذي وعد به أنبيائه ورسله وعباده الصالحين ؛ فالنصر يتجلى في صور أخرى لا تلمحها النفوس الضعيفة المهزوزة ، ومن بعض هذه الصور :
أن قبائل قريش قد أجمعت قديماً على محاصرة المؤمين ومقاطعتهم في شعب أبي طالب ومعهم بنو هاشم ، ثلاث سنوات لا يبيعونهم ولا يشترون منهم ؛ حتى لم يجدوا ما يأكلونه إلا ما يلتقطونه من خشاش الأرض ، وأوشك المؤمنون على الهلاك لولا أن رحمة الله أدركتهم .
وأصحاب الأخدود يلقون في النار ولا يقبلون المساومة على دينهم ، ويفضلون الموت في سبيل الله ، ثم يحفر الطاغوت أخاديده ، ويوقد نيرانه ، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار ، وتأتي المفاجاة المذهلة :
بدل أن يضعف من يضعف ، ويهرب من يهرب ، لا تسجل الرواية أن احداً منهم تراجع أو جبن أو هرب ، بل نجد الإقدام والشجاعة وذلك بالتدافع على النار .. وكأن الغلام قد بت فيهم الشجاعة والثبات ، وهاهم يجدون في اللحاق به وكانهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فدا لدينهم ؛ فكانوا هم المنتصرين ، بل سماه الله عز وجل ( فوزاً كبيرا ) :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير }
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال : غاب عمي أنس بن النظر عن قتال بدر ، فقال : ( يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ) فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : ( اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال :
يا سعد بن معاذ .. الجنة ورب النظر .. الجنة ورب النظر .. إني أجد ريحها دون أحد
قال سعد : فما استطعت يارسول الله ماصنع ، قال أن : فوجدنا به بضعة وثمانين أورمية بسهم ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، فقال أنس : كنا نرى أو نظن ، أن هذه الآية نزلت به وفي أشباهه :
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } .
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : ( ألا تستنصر لنا ألا تدعوا لنا ؟ ) قال : " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجا بالمنشار فيجعل في رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ما يصده ذلك عن دينه " .
ومن أنواع النصر الخفي الذي لا يراه إلا المؤمنون ..
أن عدو الحق مهما كان متجبرا مرفا في إلا أنه يتجرع الوانا من الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على إيذا خصمه .
بل وأحياناً بعد أن يفعل فعلته فإنه لا يجد للراحة مكاناً ، ولا للسعادة طعما ؛ ولذا .. فإن الحجاج بن يوسف عندما قتل عيد بن جبير ذاق ألوان العذاب النفي حتى كان لا يهنأ بنوم ، ويقوم من فراشه فزعا و يقول : ( مالي ولسعيد ) حتى مات وهو في همه وغمه .
هذا ما نستيقنه في حربنا مع حامل لواء الصليب الطاغوت الأمريكي المتبجح .. فمع بطشه وتجبره بالعتاد والسلاح ؛ إلا أنه يلقى من الهوان النفسي والكسر المعنوي مالو صب على الجبال لتصدعت .
وقد جاء القرآن معبراً عن هذه الحقيقة كما في سورة آل عمران فقال سبحانه : { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيض قل موتوا بغيضكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط }
وقال سبحانه :
{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}
ومن الصور التي تخفى على مطموسي البصائر :
ترقب الحياة الكاملة التي أعدها الله لأوليائه وأصفيائه ، قال تعالى :
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون }
من لم يمت بالسيف مات بغيره *** تنوعت الأسباب والموت واحد
ومن خلال ماسبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار .. وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده
وإن من دواعي الثبات والاستبسال - كما رأيناه على أرض الفلوجة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من علامات انتصاردين الإسلام أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الجهاد سيبقى قائما عاملا في الأرض كما ورد في الحديث الصحيح :
" لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك "
إن النصر ومصير هذا الدين بيد الله سبحانه فقد تكفل به ووعد به فإن شاء نصره وأظهره وإن شاء أجله وأخره
فهو الحكيم الخبير بشؤنه ، فإن أبطأ فبحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }
كلمة للشيخ أبي مصعب الزرقاي - حفظه الله -
والكلمة بعنوان :
وكذلك الرسل تـُبتـلى .. ثم تكون لها العاقبة
الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولاً بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ،
والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه .
أما بعد
فهاتيك عبرة جديدة أُرسلها عبر أثير الكلمات ..
وهاتيك خفقة حانية أصدرها من صميم القلب وضلوع الجنبات..
من جندي واقف على عتبات الحرب ، وأزيز المعمعات ..
من أبي مصعب الزرقاوي إلى من يراه من أهل الأوقات والمروءات
لم تزل تكابدني آلام الأمة المحزونة ، لم تزل تفارقني أشباح الأمة المطعونة ، أمة المجد العظيم والشرف الكريم ، سامتها أيدي الغدر ألوانا من الشر المهين ؛ فتوسدت لحاف الذل والمهانة ، وتجرعت كؤوس القهر والخيانة ، وأقعدت عن واجباتها ومهامها ، وحجبت عن أحلامها آمالها .
وبات المرض يعوث أركان الجسد ، ثم طـُرح أرضاً وشـُـدت أركانه إلى وتد ، وتكالبت عليه وحوش الأرض مع الذئاب ، وغدت أوصاله مقطعة بين المخالب والأنياب ؛ فذاك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان - رضي الله عنه - قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها " قال : قلنا يا رسول الله : أ من قلة بنا يومئذ ؟ قال " أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ، يـُـنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويـُـجعل في قلوبكم الوهن "
قال ، قلنا : ما الوهن ؟ قال : " حب الحياة وكراهية الموت " وفي روايةأخرى لأحمد " وكراهيتكم القتال " .
فلتعلموا أهل الإسلام .. أن الابتلا تاريخ وقصة طويلة منذ أن نزلت ( لا إله إلا الله على هذه الأرض ) فابتلي الأنبياء والصادقون ، وكذلك الأئمة الموحدون .
فمن جرد نفسه لحمل كلمة ( لا إله إلا الله ) ونصرها وإقامتها في الأرض عليه أن يدفع تكاليف هذا التشريف من تعب ونصب وبلاء .
فأين أنت .. والطريق طريق تعب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورمي في النار الخليل ، وأضجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بثمن بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونشر بالمنشار زكريا ، وذبح السيد الحصور يحي ، وقاسى الضر أيوب ، وزاد على المقدار بكاء داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم .
وتزهى أنت باللهو واللعب!!
والله تعالى يبتلي بعض الخلق ببعض ، ويبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن ، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعا قال تعالى : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شي قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور }
روى مسلم عن نبينا سلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال :
" إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك "
والذي علمناه من القرآن والسنة أن من الأنبيا من قتله أعداؤه ومثلوا به كيحيى ، ومنهم من هم قومه بقتله ففارقهم ناجياً بنفسه كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام ، وعيسى الذي رفع إلى السماء .
ونجد من المؤمنين من يُسام سوؤ العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد
فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا !!
الابتلاء هو قدر الله في جميع خلقه ، ولكنه يزداد ويعظم في شدته على الأخيار الذين اجتبتهم عناية الله وخاصة المجاهدين منهم لابد لهم من مدرسة الابتلاء .. لا بد لهم من دروس التمحيص والتهذيب والتربية .
ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : " الأنبيا ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على الأرض وليس عليه خطيئة " .
وروى البيهقي في شعب الإيمان ، والطبراني في المعجم الكبير ، وابن سعد في الطبقات ، عن عبدالله بن إياس بن أبي فاطمة عن أبيه عن جده قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من أحب أن يصح ولا يسقم ؟؟ " قلنا : نحن يا رسول الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مـــه ؟ " وعرفناها في وجهه ، فقال : " أتحبون أن تكونوا كالحمير الصيالة ؟ " قال ، قالوا : يا رسول الله .. لا ، قال : " ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلا وأصحاب كفارات ؟ " قالوا بلى يا رول الله قال فقال رول الله صلى الله عليه ولم : " فوالله إن الله ليبتلي االمؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه ، وإن له عنده منزلة ما يبلغها بشي من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما يبلغ به تلك المنزلة " .
وروى الترمذي عن جابر- رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلا "
وعن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه يؤتى يوم القيامة بأنعم النا كان في الدنيا ، فيقول الله عز وجل : اصبغوه في النار صبغة ، ثم يؤتى به فيقول يا ابن آدم هل أصبت نعيماً قط هل رأيت قرة عين قط ؟ هل أبت رورا قط ؟ ثم يقول لا وعزتك .
ثم يؤتى بأشد النا كان بلاء في الدنيا ، فيقول تبارك وتعالى اصبغوه في الجنة صبغة ينصبغ فيها ، فيقول : يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قط ، فيقول : لا وعزتك ما رأيت شيئا قط أكرهه "
قال شقيق البلخي : ( من يرى ثواب الشدة لا يشتهي الخروج منها ، والله عز وجل شرع الجهاد تكملة لشرائع الدين ورفع منزلته عالياً حتى ار في ذروة التكليف الرباني ، وجعل فيه شدة وبلا تكرهه النفوس وتجبن عنده الطباع ، ثم حببه وقربه من جوهر الإيمان ومكنون التوحيد ، فلا يطلبه إلا صادق الإيمان قوي البرهان : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } .
فحقيقة الجهاد .. قائمة على صقل النفس وتجريدها لربها وخالقها بفعل أوامره ، والإقدام على وعوده ، وهذا لا يكون إلا إذا حـُف هذا الطريق بالشدائد والمحن ؛ ولهذا يقول الله عز وجل :
{ ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم }
ويقول : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } قال ابن كثير في تفسير هذه الآية :
( أي لابد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيه وليه ، ويفضح فيه عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم ، وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهتك به استار المنافقين فظهرت مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد ، وخيانتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وتأملوا يا عباد الله قوله سبحانه تعالى :{ ومنهم من يعبد الله على حرف فإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } .
روى البغوي في التفسير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ( أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ولد له بعد الإسلام غلام وتناسل فيه وكثر ماله ، قال هذا دين حسن ، هذا دين جيد ، فآمن وثبت ؛ أما إذا لم يولد له غلام ولم يتكاثر خيله ، ولم يكثر ماله ، وأصابه قحط أو جدب قال هذا دين سيئ ، ثم خرج من دينه وتركه على كفره وعناده ) .
يقول سيد – رحمه الله – : ( فلا بد من تربية النفوس بالبلاء ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد وبالجوع ونقص الأموال والأنفس الثمرات ، لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة كي تقر على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف لا يعُز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى ، فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين ، وكلما تألموا في سبيلها وكلما بذلوا من أجلها كانت أعز عيهم وكانوا أحق بها ، كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها وصبرهم على بلائها ولا بد من البلاء كذلك ، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ، ومذخور الطاقة ، وتفتح في القلوب منافذ ومسارب ما كان يعلمها المؤمن إلا تحت مطارق الشدائد ) انتهى كلامه رحمه الله .
سئل الشافعي – رحمه الله – ( أيهما خير للمؤمن أن يبتلى أم يمكن ؟ فقال ويحك !!وهل يكون تمكين إلا بعد بلاء ) .
وعن صفوان بن عمر أنه قال : ( كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، فرفع حاجبيه فقال : يابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالا ، ألا من يحبه الله يبتليه ).
صبراً على شدة الأيام إن لها *** عقبى وما الصبر إلا عند ذي حسب
سيفتــح الله عن قـرب يعقبــه *** فيـها لمثـلك راحات مـن التـعب
ويقول سيد - رحمه الله - : ( إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال ، فلا يكفي أن يقول الناس " آمنا " وهم يتركون لهذه الدعوى ؛ حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم ، خالصة قلوبهم ؛ كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ، وهذا هو أصل الكلمة اللغوي ، وله دلالته وظله وإيحائه ، وكذلك تصنع الفتنة في القلوب ههذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه :
{ ولقد فتنا الذين من قبلكم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }
وإن الإيمان أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل ، وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، وإلا الذين يؤثرون على الراحة والدعة وعلى الأمن والسلامة وعلى المتاع والإغرا ، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة النا إلى طريق الله وتحقيق كلمته في عالم الحياة فهي امانة كريمة ، وهي أمانة ثقيلة ، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء ) انتهى كلامه رحمه الله .
فإن على الفئة المقاتلة التي سلكت الجهاد في سبيل الله أن تعي طبيعة المعركة ومتطلباتها نحو هدفها المنتشود وطريقها الذي لابد أن يعبد بدماء الصالحين من ابنائها ، وأن تدرك أن هذا الطريق فيه فقد للأحباب ، وترك للخلان والأوطان ؛ كما قاسى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خير الخلق بعد الأنبياء مرارة الهجرة وفقد المال والأهل والدار كله في سبيل الله ..
فأين نحن منهم ..
وما على هذه الفئة إلا ان تصبر في طريقها الذي سلكته ، وأن تحتسب ما قد يقع لها من فقد بعض القيادات والأقران ، وأن تمضي على دربهم وتعلم أن هذه سنة الله عز وجل ، وأن الله يصطفي من هذه الأمة من عباده الصالحين ، والا تتعجل النصر فإن وعد الله آت لا محالة ، وينبغي أن يعلم المسلم أن اتباع الحق والصبر عليه هو أقصرطريق إلى النصروإن طال الطريق وكثرت عقباته وقل سالكوه ، وأن الحيدة عن الحق لا تأتي إلا بالخذلان وإن سهل طريقها وظن سالكه قرب الظفرفإنما هي أوهام .
قال تعالى :
{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }
هذا هو الجهاد ..
قمة .. وثمرة .. ياتي بعد صبر طويل ومكوث مديد في ارض المعركة انتظاراً لجلب الأعداء واصطباراً لشرورهم مكوث يستمر شهور ونوات متتالية .
وإن لم تتجرع هذه الآلام لن يفتح الله عليك بالنصرلأن النصر مع الصبر ، وقد قال شيخ الإسلام :
( إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين ) .
إن مفاهيم الحق وصدق العقيدة والتوحيد تبقى دُمى في عالم الأشباح لا تجري فيها روح الحياة إلا إذا حملها أناس صادقون صابرون يتحملون تبعات هذا الطريق ولأوائه و يستعذبون التعب والنصب لا يرضون إلا بالموت على أرض الواقع تطبيقاً عملياً لا كما يتمنى البعض هذه المفاهيم ويزركشونها ضمن قوالب نظرية فلسفية ، وخطب رنانة بعيدة عن روح العمل والصدق والتنفيذ .
وإن الإسلام اليوم بأمس الحاجة إلى رجال صادقين صابرين ينزعون إلى الجد ويستعذبون التعب ويرتاحون بالنصب فيترجمون بصمت متطلبات المرحلة رجال النفو الصاقة والهمم العالية والعزائم القوية ، التي لا تعرف إلا سمت التلقي للتنفيذ فتأبى أن يعقدها الكلل ، أو يدركها الملل ، أو تنفق آمالها في المرا والجدال ، فشمر عن ساعد الجد والعمل واصبر على لأواء الطريق ووعورته فقد قيل :
( قد عجزمن لم يعد لكل بلاء صبرا ، وللكل نعمة شكرا ، ومن لم يعلم أن مع العسر يسرا )
يا ويح نفسي وما ارتفعت بنا همم *** إلى الجنان وتالي القوم أواب
إلى كواعب للأطراف قاصرة *** وظل طوبى وعطر الشدو ينساب
إلى قناديل ذهب علقت شرفاً *** بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا
يقول تعالى : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون }
روى الطبري عن قتادة في تفسير هذه الآية قوله : ( ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعداً ، إلا ازدادوا من الله قرباً )
فالأمر لله من قبل ومن بعد .. ولسنا سوى عبيد له سبحانه ، نسعى لتحقيق العبودية له .
ومن كمال العبودية .. أن نعلم ونوقن يقينا جازما لاشك فيه أن وعد الله متحقق لا محالة ، ولكننا قد لا ندرك حقيقة الأمر لحكمة يعلمها الله ، وقد يتأخر النصر ابتلاءً وامتحاناً وصدق الله العظيم :
{ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين }
وقد وعد سبحانه عباده الموحدين بالنصر ، وجعل التمكين للصابرين وأخبر أن ما حل للأمم السالفة من الظفروالثبات والتمكين على الأرض كان لجميع صبرهم وتوكلهم عليه كما قال سبحانه: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون } .
وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف من العزة والتمكين في الأرض بعد الغربة وماجرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه :
{ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }
وعلق سبحانه الفلاح بالصبر لقوله عز وجل :
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }
وذكر سبحانه أن حسن العاقبة في الدنيا هي للصابرين الأتقياء
{ فاصبر إن العاقبة للمتقين }
نحن نعلم يقيناً أن وعد الله لا يتخلف أبداً ومنشأ السؤال والإشكال ..
أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه ؛ وهو (( النصر الظاهر )) ولا يلزم أن يكون هذا هو الذي وعد به أنبيائه ورسله وعباده الصالحين ؛ فالنصر يتجلى في صور أخرى لا تلمحها النفوس الضعيفة المهزوزة ، ومن بعض هذه الصور :
أن قبائل قريش قد أجمعت قديماً على محاصرة المؤمين ومقاطعتهم في شعب أبي طالب ومعهم بنو هاشم ، ثلاث سنوات لا يبيعونهم ولا يشترون منهم ؛ حتى لم يجدوا ما يأكلونه إلا ما يلتقطونه من خشاش الأرض ، وأوشك المؤمنون على الهلاك لولا أن رحمة الله أدركتهم .
وأصحاب الأخدود يلقون في النار ولا يقبلون المساومة على دينهم ، ويفضلون الموت في سبيل الله ، ثم يحفر الطاغوت أخاديده ، ويوقد نيرانه ، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار ، وتأتي المفاجاة المذهلة :
بدل أن يضعف من يضعف ، ويهرب من يهرب ، لا تسجل الرواية أن احداً منهم تراجع أو جبن أو هرب ، بل نجد الإقدام والشجاعة وذلك بالتدافع على النار .. وكأن الغلام قد بت فيهم الشجاعة والثبات ، وهاهم يجدون في اللحاق به وكانهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فدا لدينهم ؛ فكانوا هم المنتصرين ، بل سماه الله عز وجل ( فوزاً كبيرا ) :
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير }
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال : غاب عمي أنس بن النظر عن قتال بدر ، فقال : ( يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ) فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : ( اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال :
يا سعد بن معاذ .. الجنة ورب النظر .. الجنة ورب النظر .. إني أجد ريحها دون أحد
قال سعد : فما استطعت يارسول الله ماصنع ، قال أن : فوجدنا به بضعة وثمانين أورمية بسهم ووجدناه قد قتل ، وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، فقال أنس : كنا نرى أو نظن ، أن هذه الآية نزلت به وفي أشباهه :
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } .
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : ( ألا تستنصر لنا ألا تدعوا لنا ؟ ) قال : " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجا بالمنشار فيجعل في رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ما يصده ذلك عن دينه " .
ومن أنواع النصر الخفي الذي لا يراه إلا المؤمنون ..
أن عدو الحق مهما كان متجبرا مرفا في إلا أنه يتجرع الوانا من الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على إيذا خصمه .
بل وأحياناً بعد أن يفعل فعلته فإنه لا يجد للراحة مكاناً ، ولا للسعادة طعما ؛ ولذا .. فإن الحجاج بن يوسف عندما قتل عيد بن جبير ذاق ألوان العذاب النفي حتى كان لا يهنأ بنوم ، ويقوم من فراشه فزعا و يقول : ( مالي ولسعيد ) حتى مات وهو في همه وغمه .
هذا ما نستيقنه في حربنا مع حامل لواء الصليب الطاغوت الأمريكي المتبجح .. فمع بطشه وتجبره بالعتاد والسلاح ؛ إلا أنه يلقى من الهوان النفسي والكسر المعنوي مالو صب على الجبال لتصدعت .
وقد جاء القرآن معبراً عن هذه الحقيقة كما في سورة آل عمران فقال سبحانه : { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيض قل موتوا بغيضكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط }
وقال سبحانه :
{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا}
ومن الصور التي تخفى على مطموسي البصائر :
ترقب الحياة الكاملة التي أعدها الله لأوليائه وأصفيائه ، قال تعالى :
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون }
من لم يمت بالسيف مات بغيره *** تنوعت الأسباب والموت واحد
ومن خلال ماسبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار .. وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده
وإن من دواعي الثبات والاستبسال - كما رأيناه على أرض الفلوجة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من علامات انتصاردين الإسلام أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الجهاد سيبقى قائما عاملا في الأرض كما ورد في الحديث الصحيح :
" لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك "
إن النصر ومصير هذا الدين بيد الله سبحانه فقد تكفل به ووعد به فإن شاء نصره وأظهره وإن شاء أجله وأخره
فهو الحكيم الخبير بشؤنه ، فإن أبطأ فبحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله .