المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حوار مع الهمـــــة



Hit_Man
27-01-2005, 03:06 PM
حوار مع الهمة



الغرفة مظلمة ، لا تكاد ترى يدك فيها من شدة الظلام ، وإبراهيم ممدد على فراشه في الجانب الأيمن من الغرفة ، وبقربه مكتبة ضخمة يضع كتبه فيها وفي الرف الأسفل منها يضع هاتفه القديم .


وفجأة ! رن الهاتف ، ترررن ، تررن ، ترررن ، يسمع إبراهيم الصوت ولكنه يعتقد أن هذا الصوت هو صوت جرس إنذار الحريق في الرؤيا التي كان يراها وهو نائم . ثم عاد الصوت مرة أخرى ، ترررن ، ترررن ، تررن ففتح إبراهيم إحدى عينيه ومد يده يتحسس مكان الهاتف ، و وضع يده على السماعة إلا أن الصوت قد توقف .ثم عاد الصوت مرة أخرى فقفز إبراهيم من فراشه وأخذ يفرك عينيه وهو يقول:
يا رب سهل !!
من يتصل بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟!
يارب أحفظ والدي !!
ثم رفع سماعة الهاتف وقال: نعم من يتكلم ؟!
فلم يرد عليه أحد .. فقال مرة أخرى : ألو .. ألو .. فأنقطع الخط .
فقال إبراهيم : إنكم شباب ضائعون ... تنامون في النهار وتسهرون في الليل .
ثم عاد إلى فراشه ، وتمدد تحت الغطاء حيث كان الجو بارداً ، وحاول أن يغمض عينيه،لكن جهاز الهاتف عاد يرن من جديد .
فغضب إبراهيم وقام و رفع سماعة الهاتف بسرعة .
وقال: من يتكلم ؟
فرد عليه صوت خشن وقال: أنا غريب ..
فصرخ إبراهيم وقال: و ماذا تريد ؟!
الصوت : أريد رجلاً يشاركني همومي وأحزاني .
فشعر إبراهيم أنه قد أخطأ في خشونة رده .. وهدأ قليلاً وقال : يبدو أنك قد أخطأت المنزل ؟
الصوت: لا ... أنا لست مخطئاً .. ألست أنت " إبراهيم " فتعجب إبراهيم عندما سمع اسمه ، وأخذ يفكر في الصوت وصاحبه ، وحاول أن يتعرف عليه ولكن بدون جدوى .
فقال: من أنت ؟ !
الصوت: قلت لك أنا غريب ؟!
إبراهيم: وكيف عرفت اسمي ؟!
الصوت: هذا ليس من شأنك .
إبراهيم: حسناً .. أخبرني عن اسمك .
الصوت: لا يفيدك معرفة أسمي ، ولكني أريد رجلاً أصارحه ويصارحني ، حتى يخفف علي بعض آلامي وأحزاني ، فيواسيني .. ولهذا اتصلت بك .. فإن كنت لا تريدني فاتركني وشأني .
فتردد إبراهيم ثم قال في نفسه .ماذا يضيرني لو تحدثت مع رجل لا أعرفه ؟
ثم قال: تفضل .. هات ما عندك .
الصوت: وهو يتنهد : آه .. إنها همة الدعاة يا إبراهيم ..
إبراهيم: وهل تعني أن همتي ضعيفة ؟
الصوت: لو كانت همتك ضعيفة لما أردت أن أصارحك وتصارحني – ولكني اخترتك من جملة الدعاة لأن همتك عالية .
إبراهيم: و ما أسباب ضعف الهمة ؟
الصوت: أعتقد أن هناك أسباب متعلقة بالداعية نفسه، وأخرى متعلقة بالواقع الذي يعيشه .
إبراهيم: وما الأسباب المتعلقة بالداعية نفسه ؟
الصوت: كثيرة ، ولكن أذكر لك منها:
أولاً: عدم فهم بعض الدعاة لحقيقة دعوتهم وسر نشاطهم ، فبعضهم يتحرك للدعوة وكأنها مهنة وقتية أو هواية طفولية .
ثانياً: ضعف الإيمان ــ وبالأخص باليوم الآخرــ في قلوب بعض الدعـاة ، ممــا يجعلهــم يتحركون للدعوة هواية لا طاعة .
ثالثاً: عدم تحصن بعض الدعاة من فتن الحياة الدنيا، مما يؤدي بعــد طـول عمـر دعـوي إلى ضعف قلوبهم وسقوطهم .
الداعية: نعم .. إنني أشاركك الرأي ، وأنا أشعر أن النقطة الثانية تمسني جداً .ولكن ماذا عن الأسباب الواقعية ؟ وهل تقصد أن الوظيفة أو الدراسة تؤثر في الهمة ؟
الهمة: لا ليس هذا ما أردته ، ولكني أردت أن أقول أن الأسباب الواقعية هي:أولاً: تآلب أعداء الله لضرب الإسلام والحركات الإسلامية مما يؤثر في تأخير النصر فيمل بعض الدعاة من الإصلاح وتضعف همتهم عن العمل .
ثانياً: تناحر أبناء الجماعات الإسلامية على الأرض التي يعمل بها الداعية مما يدعوه إلى الإعتزال والإنطواء .
ثالثاً: إنتشار الفساد في البقعة التي ينشط فيها الداعية مما يؤثر في حسن عطائه وقوة إنتاجه .
فهذه الأسباب ، وأنا حزين على وجودها ، ولكن الذي يسليني هو التفاؤل بالخير، وحسن الظن بالله تعالى ، وأن الأمل بالدعاة كبير فهم ملح البلاد وزهرة العباد .
الداعية: صدقت.. لقد أحسنت العرض ، وعرفت سبب همك وحزنك ، ولكني لم أعرف ما سبب اتصالك بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟
الهمة: الحقيقة .. أنك تعجبني بهمتك وحركتك بالدعوة إلى الله تعالى ... ولهذا أحببت أن أشكو لك بعض أمري .
الداعية: بارك الله فيك ، وسأبلغ رسالتك للدعاة إن شاء الله ، ولكن أخبرني كيف السبيل لتنشيطك في قلوب الدعاة ؟
الهمة: أهم سبب هو: أن يعرف الداعية الغاية من خلقه وهدف وجوده وأهمية الدعوة إلى الله تعالى، وهذا هو الجانب العلمي .
- وأن يشتغل قلبه حرقة عندما يرى الفساد وضعف حال المسلمين فيتحرك لنجدتهم وتعليمهم وهذا الجانب العاطفي .
فبالعلم والعاطفة يتحرك الداعية دائماً للعمل والبناء .
الداعية: وماذا عن الهمة بين الدعاة كذلك ؟ !
الهمــة: إنها أسرار ومشاكل خاصة ولا أستطيع أن أبوح لك بكل شيء .
الداعية: اطمئني ، فإني أمين على حفظ الأسرار ، فأنا أسترها وأستر أنيةأسترها. ومستودعي سراً تبوأت كتمه فأودعته صدري فصار له قبراً (1)
الهمــة: إذا كنت كذلك ، فسأخبرك ببعض أسراري .
الداعية: تفضلي .
الهمــة: إن أكثر ما يضايقني من الدعاة أن يتأثر أصحاب الهمة، العالية بأصحاب الهمة البالية، فيثبطون من عزمهم ، ويجمدون حركتهم .
الداعية: وماذا يضير ذلك ؟ فإنه مما قيل في الأمثال: " لا يضير السحاب نبح الكلاب" .
الهمــة: هذا صحيح .. ولكن عندما تكون الغالبية من أصحاب الهمم الأرضية ، فإنها تؤثر في أصحاب الهمم السماوية ولهذا زعم بعض الأولين " أن صحبة بليد نشأ مع العلماء ، أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال (1) .
فأنظر كيف أن للصحبة والمحاكاة أثراً ؟ !
الداعية: وكيف يتحقق ذلك بين مجتمع الدعاة ؟
الهمــة: أعني أنه لو سار إثنان من الدعاة ، أحدهما سماوي الهمة والآخر أرضي ، فإما أن يحرق السماوي أخاه بنار حركته فيتحرك معه ، أو أن يجمد الأرضي أخاه بثلج ركوده أو برودة حركته فيجمد معه.
الداعية: وهل تضربين لي مثلاً على الهممة والحركة ؟
الهمــة: أنظر لنفسك فإنك صاحب همة عالية.
الداعية: جزاك الله خيراً .. ولكن أعني قصصاً و مواقف .
الهمــة: لك ما طلبت .. فأنظر إلى همة موسى عليه السلام في فعل الخير والتحرك له ، وذلك عندما ذهب إلى الفتاتين فقال الله تعالى على لسانهما:
( قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) .
قال سيد قطب: فانظر إلى موسى – عليه السلام – وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد ، وهو مطارد ومن خلفه أعداد لا يرحمون ، ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس ( فسقى لهما ) (1) .
الداعية: الله أكبر إنها لهمة عظيمة .. حتى وهو مرهق ، متعب ، مسافر يتحرك لله تعالى ، إنه لمثل جميل .ولكن أريد مثلاً ، حدثت في زماننا هذا .
الهمــة: سأخبرك عن قصة للشيخ " محمد محمود الصواف" – حفظه الله – فقد قال: ومرة سألني إبني " مجاهد " وعمره بضع سنوات قائلاً : " بابا متى تتعشى معنا .
متى تأكل معنا ......؟!
وأنا مشغول يعلم الله بشبابي وبرجال الدعوة في كل الأوقات فالدعوة إن لم تتواصل بالعمل والحب واللقاء المتواصل لا يمكن أن تبين الرجال " (1 ).
وهكذا الداعية ينبغي أن يكون ذا همة عالية لا يغفل ولا يتواني ، وذلك لأن " غفلة الداعية محنة لأنها صرفته عن نصر ممكن ، يحققه له الجد والعمل الدائب ، وعن أجر وثواب أخروي ليس له من مقدمة إلا هذا الجد " (2).
الداعية: إنها لمواقف جميلة جداً تدل على إهتمام الدعاة بدعوتهم ،و قوة سعيهم لها بهمة عالية.
الهمــة: نعم ولهذا قال الشيخ: " عبدالله علوان " رحمه الله : " حين يكون اهتمام الداعية بدعوته ومجتمعه وأمة الإسلام كاهتمام برزقه وبيته ، وأهله و ولده " . نقول:"إن الدعوة الإسلامية قد تركزت في بؤرة شعوره، وتأصلت في أعماق وجدانه"(1)الداعية: ( وهو يسمع أذان الفجر ينادي ) : جزاك الله خيراً على كل حال .. والآن هل لديك كلمة
أخيرة توجهني بها لأنه لم يبق وقت على صلاة الفجر .
الهمــة: أحكي لك قصة تنفعك في حركتك وهمتك ، يحكي أن رجلاً جهز ولده بمال ليتاجر به، وأراد بذلك يعده للمستقبل ، فلما خرج رأى في طريقه ثعلباً قد عجز عن جلب قوته ، ففكر من أين يأكل هذا الثعلب ؟ .
وإذا به يرى أسداً قد جاء بفريسته فأكل منها حتى شبع ، ثم رمي بما بقى للثعلب فأكل منها .قال ذلك الشاب في نفسه : ولم أتعب والله تكفل بالرزق للعباد ؟ فلما رجع إلى أبيه حكى له ما رأى فقال أبوه:" أردتك سبعاً تأكل من سعيك الثعالب ، لا ثعلباً تأكل من فتات السباع " (1).
ثم قالت الهمة معقبة:
وهكذا عالي الهمة فإنه يتحرك بسعيه وحركته مع الدعاة إلى الله تعالى ، ولا يعيش هو على حركة غيره .
لا يرضى بالدون .
و لا يرضى بالخمول .
و لا يرضى بالركود .
الناس ينظرون إليه ، ولا ينظر هو إليهم .
دعاؤه دائماً " و أجعلني للمتقين إماماً " .
الداعية: بارك الله فيك .
وأرجو ألا تقطعي الاتصال بي .
ثم أغلق الداعية سماعة الهاتف .. وقال: " والهمة طريق لبناء الأمة " .
اللهم اجعلني للمتقين إماماً .



الكاتب: أ.جاسم المطوع