د.اسامة الحاتم
27-03-2005, 05:56 PM
الطفل الشحاذ
كان طفلاً صغيراً في السادسة من عمره أو أقل ، وقد هب من منامه صباحاً في حجرة ضيقة مظلمة رطبة ، وكان عليه جلباب رث ممزق ، وإن زمهرير الشتاء ليقضقض أنيابه ويرعد مفاصله وأنفاسه تنبعث من فمه أبخرة بيضاء ، وجلس على حافة صندوق قديم وأقبل يلهو بإرسال أنفاسه المتكاثفة البيضاء بلذة إنطلاقها ثم إختفائها ، ولكن هذه اللذة الوقتية الوهمية كان يتخللها لذعات جمرة الجوع الذي يتأجج في أحشائه .
لقد جعل في خلال ذلك النهار يذهب مراراً الى فرشة قذرة بالية ببعض أركان الحجرة تضطجع عليها أمه المسكينة العليلة .. ما الذي جاء بها الى هذا المكان؟ لعلها أتت بغلامها من بعض قرى الريف حيث ألحت عليها الفاقة والمسكنة فأقحمتها تلك المدينة لإلتماس الرزق فنزلت بهذه الحجرة ، ثم ما لبثت أن اعتلت .
وكانت ربة المنزل تؤجر حجرات بيتها المظلم المتهدم الى المساكين وأبناء السبيل وأهل الفاقة والعسر لرخص أجورها، وكانت قد سيقت الى مركز البوليس منذ يومين ، فإنتهزها معظم السكان فرصة يتقون بها الدفع فهربوا ولم يبق إلا رجل سكير قد طاب له أن يبادر عيد الميلاد باللهو فسكر سكرة ما برح من صدمة ( حمياها ) مع الأموات منذ أربع وعشرين ساعة.
وفي حجرة أخرى عجوز في الثمانين كانت في سالف الأزمان مرضعا، وقد أخنى عليها الدهر وتركها تموت منفردة وحيدة ، تواصل الأنين من الآم الروماتزم ، وكانت لا تزال تزجر الطفل الصغير وتنهره كلما دنا من باب حجرتها حتى أخافته فتحاماها.
لقد أصاب الطفل في ردهة النزل من ماء الجرة ماء أطفأ به غلته ، ولكنه لم يجد من الزاد ما يمسك به من رمقه ، وقد حاول مراراً أن يوقظ أمه ولم يفلح ، وأخيراً بدأ يخاف الظلام المتكاثف ، إذ غابت الشمس ولم يشعل المصباح إنسان.
وأقبل الطفل في سدفة الظلام يلتمس وجه أمه ويجسه بيده ، وتعجب كيف لا تتحرك وقد عاد جسدها أبرد من الجدار، وقال في نفسه : ما أشد البرد في هذه الحجرة ، ثم وقف برهة مطرقاً واجماً وقد نسي أن يرفع كفه عن كاهل أمه الميتة ، ثم أنه إنثنى عن الجثة الهامدة وأقبل على أصابعه الصغيرة ينفخ عليها ليدفئها، ثم تلمس قلنسوته البالية في أركان الحجرة فلبسها وغادر المكان.
لقد كان بوده ان يتركه قبل ذلك بمراحل ولكن منعه من هذا هرير كلب بشع على باب حجرة مجاورة كان ينخب أحشاءه بشدة نباحه وعوائه فما هو إلا أن ذهب حتى إنطلق الغلام.
ولما صار في طرقات المدينة هاله من ضجة ضوضائها وغرائب مناظرها ما هاله ، ولم يك أبصر المدن قط ، يا للعجب العجاب! ما هذه الأنوار والأضواء ؟ أليل أم نهار؟ إن عهده بالليل في موطنه الريفي ومسقط رأسه ، أن يكون مظلماً فاحم الظلمة أللّهم إلا ذبالة ضئيلة تزيد الظلام ظلاماً، وعهده بالطرقات في قريته، مقفرة من الإنس موحشة ، وبالبيوت مرخاة السدول مغلقة النوافذ ، وبالأهالي يحتجبون في دورهم ويدعون السبل والطرقات للكلاب تعوي بها وتنبح الليل الطويل أفواجاً، مئات وآلافاً ..على أن ذلك الريف كان خيراً له من هذه المدينة ، لقد كان واجداً فيه دفئاً وقوتاً، أما ههنا فليس إلا القرة والجوع .
أما لو يمنّ الله عليه بكسرة من الخبز يابسة !.. ثم ما هذه الأضواء اللامعة ، والأنوار الساطعة …. وهذا الهرج والمرج… وهاتيك الجلبة واللجب والضوضاء !… وهذه الجموع المكتظة والجماهير المحتشدة وهذا الضغط والزحام ! المركبات المزخرفات والجياد الصافنات .. والبرد، البرد القارس يخترق الجلد واللحم ويرسب في العظام ، كحد الحسام، أواه من البرد .. والأبخرة المتجمدة تنبعث من أشداق الخيل سحبا كثافاً ومن خياشمها ، والجليد يستطير صفائح وشظايا تحت سنابكها .. ويالله من كية الجوع في الأحشاء ولذعته ! ألا كسرة من رغيف تمسك من حشاشة نفس متساقطة !… وبدأت أصابعه الضئيلة تكابد أمضّ الألم ، ومر به رجل موسر فإنصرف عنه زاويا وجهه كيلا يراه.
وها هو شارع آخر، ما أوسع وما أفسح ! وما أسرع عدو هؤلاء الناس وأشد إستباقهم وأعلى صياحهم ! وما اسطع هذا النور وما أشد لألاء هذا الضوء وخطفه للأبصار! وما هذا الذي أراه ؟ نافذة عظيمة ! ووراء زجاجها .. شجرة ( صناعية ) عالية .. تسمو صعدا الى سقف المكان .. هذه شجرة عيد الميلاد قد نيطت بها مصابيح شتى الأنوار والألوان ، وعليها أفانين اللعب والتحف، والنفائس والطرف والفاكهة والريحان والهدايا الملفوفة في مفضض الأغلفة ومذهّبها ناضرة الأوراق مفتحة الأكمام ، دانية قطوفها من برتقال، ككرات الذهب ، وعرائس في الحلل القانية الزاهية ، وخيل مشرئبة سامية ، وما هؤلاء الصبية المنبثون في أرجاء الحجرة يضحكون فرحاً ويثبون مرحاً ، لاهين لاعبين في رغد ونعيم من مطعم مرىء، ومشرب هنيء .. وانك لتسمع عزفات الموسيقى من خلف الزجاج !
لقد سرت عدوى هذا السرور والطرب الى فؤاد الطفل المعذب المسكين ، وهو ينظر الى الأسر المحبورة من وراء الزجاج ، فطفق هو أيضاً يضحك مثلهم ، وعلم الله لقد كان الجوع يضرم حشاه ويحمي على كبده ، وكانت أطراف يديه وقدميه تكاد تسقط من وخزات القر ولذعاته ، وأحس فجأة أثناء ضحكة بآلامه وأوجاعه فشرع يبكي وينتحب ، وأقبل يعدو.
ولكن ما هذا؟ هذا منظر أعجب وأغرب ، وخلف هذه النافذة شجرة أزهى وأزهر، وثمة موائد ترزخ تحت أعبائها الفادحة من الكعك والفطائر، بين حمراء وصفراء، محشوة باللوز والصنوبر والجوز، وباب البيت مفتوح على مصراعيه لكل طارق ، فخيل الى الطفل البائس أنه لا بأس من دخوله هو أيضاً، فسما الى الباب في رفق ولطف ، ثم إنسل كلمح البصر فصاروسط القوم .
يالله ! لقد صاح الكل صيحة كادت تشق سقف المكان شطرين ، وألاحوا بأيديهم كالمشمئزين المتأففين، ونهض البعض فدفع في صدر الطفل يطرده ، ثم أقبلت عليه سيدة مسنة ، فدست في يده قرشاً وساقته الى خارج الدار .
رحمالك اللهم ! ما كان أشد ذعره ورعبه ، لقد سقط القرش من كفه فنزل رناناً ينحدر على درج السلم ، لقد كان البرد شنج اصابعه فلم يستطع ثنيها على القرش، وإنطلق يعدو راكباً رأسه لا يلوي على شيء ولا يدري إيان يذهب، لقد أحس كربة البؤس ولوعة اليأس، وذاق مضاضة الوحدة والوحشة الإنفرادية والغربة، وجعل ينفخ على أصابعه المتجمدة ليدفئها ويبكي.
وبينما هو كذلك إذ أبصر مشهداً آخر، أعجب مما سبق وأغرب .. طائفة من الناس مزدحمة على نافذة تجلى عليهم من وراء زجاجها ثلاث عرائس من الشمع وهذه العرائس تمثل ثلاث قيان يعزفن على الأوتار، وهن يتلاحظن ويتغامزن، ويملن الأعناق طرباً ، ويحركن الأشداق إنشاداً وشدواً، ويخيل إليك أنهن يتغنين، ولولا زجاج النافذة لسمعت أصواتهن، وظن الطفل لأول وهلة انهن أحياء، فلما أدرك أنهن عرائس، ضحك وقهقه ، ولا جرم فهو لم ير مثلها قط ، وما خطر بباله أن مثلها يحتمل أن يكون بحال، لقد كان بحاجة الى البكاء، ولكنه ضحك رغم أنفه ، إذ كان منظر العرائس وعجيب حركاتهن مما يضحك الثكلى.
وفي هذه اللحظة أحس بيد تجذبه من ورائه ، فالتفت فإذا غلام وغد لئيم قد لطمه على جبينه ثم إختطف قلنسوته وفر هارباً، فخرّ الطفل الى الأرض صريعاً، وتصايح الملأ وإرتفع ضجيجهم سرورا ًوطرباً.
ونهض الطفل على قدميه بعد جهد، وإنه لينتفض خجلاً ووجلاً وقرة وخصرا ، وأقبل يعدو ثم يعدو، كأن به لوثة جنون حتى أتى باباً فولجه وهو لا يكاد يدري ما يفعل ، فأفضى الى ساحة ألفى بها كومة من الحطب فاستكن وراءها يفترش الثرى ، منكمشاً منقبضاً كالقنفذ ، وهناك أحس بشيء من السلام والطمأنينة ، وألفى في الظلام المخيم أماناً من خوف وأنساً من وحشة ، وقال في نفسه : (( أنا الآن في عصمة من شر أولئك السفهاء)) .
وكذلك إستمر منقبضاً متجمعاً وراء تلك الكومة لا يكاد يمسك أنفاسه من الذعر، وما لبث ان شعر بالراحة التامة ، فزال الألم من يديه ورجليه وأحس بالدفء كما لو كان جالساً الى موقد صلاء ، ثم إنتفض إنتفاضة فجائية ، وكأنما قد أخذ النوم بمعاقد أجفانه ، ومرحباً بالنوم بعد طول الكد والإعياء، وقال في نفسه : (( لآخذنّ بقسط وافر من النوم ثم لأذهبنّ فاجلونّ ناظري بلذيذ منظر تلك العرائس، ما أحلاها وما أجملها لكأنها والله حية تتكلم !.. ثم خيل إليه كأنه يسمع صوت أمه تتغنى بتلك الأنشودة التي تستدرج بها الأمهات طيف النعاس لأطفالهن : (( النعاس .. النعاس ! ما أحلى النعاس ! )).
وبعد ذلك سمع صوتاً رقيقاً يهمس على كثب منه : (( أدن مني أيها الطفل، واجنِ من شجرة الميلاد طيباتها! )) ، وظن أولاً انه صوت أمه تناديه ، ولكنه تبين بعد إصغاء أنه صوت آخر، ترى من صاحب هذا الصوت ؟ إنه لا يراه ولكنه يحس شخصاً يحنو عليه في الظلماء ويعتنقه ، ويمد الطفل يديه …
يا للعجب! ما هذا النور الساطع ! أي طوفان من الضوء ينهمر إنهماراً ويندفق إندفاقاً … وأية شجرة زاهرة باهرة !.. وأين هو الان ؟ وسط أضواء كوكبية اللألاء، ومن حوله العشرات من العرائس البراقة .. عجباً ! عجباً ! إنها ليست بعرائس، إنها صبية صغار مثله ، بين بنات وبنين، ماشئت من حسن وحلاوة وبهجة وطلاوة ، صور ملاح ، ووجوه صباح ، والكل بين لاه ولاعب ، وممازح ومداعب ، وواثب وراقص وجائل وصائل، ثم أحدقوا به وأمطروه من شفاههم اللمياء وثغورهم الوضاحة وإبلا ثراً من اللثمات ، ولم يألوه ضماً وعناقاً ، وأبصر أمه على كثب منه ترنوا إليه بألحاظ من الفرح براقة.
وصاح بها يقول : (( أماه ! أماه ! ما ألذ ههنا وما أطيبه )) ، ثم أقبل على الأطفال باللثم والعناق، وأراد ان يحدثهم حديث العرائس التي بصر بها في تلك النافذة آنفة الذكر، وناداهم قائلاً : (( خبروني بربكم أيها الأطفال .. من أنتم ومن أين جئتم، وكيف كان لقاؤنا ههنا وإجتماعنا؟ )) .
وطفق يضحك، وقلبه بالسرور ينبض، وبالحب المفرط لأولئك الأطفال يخفق ، وإتضح له أن كل أولئك الأطفال كانوا من طائفة البائسين مثله ، فبعضهم كان ممن ألقى به رضيعاً على أعتاب بيوت الناس فمات ثمة بردا وظمأ ، وبعضهم ممن هلك جوعاً من الفاقة وبعضهم قضى قحطاً وحرماناً في الطرقات المثلوجة بعد خروجه من ملجأ اللقطاء عقب إنقضاء مدته هنالك وبعضهم مات جوعاً وعطشاً على ثدي أمه اليابس، وبعضهم أودى إختناقاً في مركبات القطار المزدحمة من فساد هوائها وخبثه .
وها هم الآن قد صاروا كلهم ملائكة .. شيعته وصحابته وهو بذاته قائم وسطهم لا يألوهم حفاوة ولا إكراماً يبارك فيهم وفي أمهاتهم البائسات الآثمات ..
وبناحية من المكان .. الأمهات مائلات يبكين وكل واحدة تعرف بين الأطفال إبنها أو إبنتها وترى الأطفال يعدون سراعاً الى أمهاتهم فيقبلونهن ويمسحون دموعهن بأكفهم الصغيرة ويقولون لهن لا تبكين ولا تحزنّ ، فلقد جعل الله بعد عسر يسرا وبعد ضيق فرجا وبعد شقوة سعادة.
وفي صبيحة تلك الليلة ، عثر البواب على جثة طفل صغير قد إختبأ وراء كومة من الحطب، ثم هلك جوعاً وبرداً وتجمد جسده هنالك ، وعثر أيضاً على أمه .. لقد ماتت قبله ..
كان طفلاً صغيراً في السادسة من عمره أو أقل ، وقد هب من منامه صباحاً في حجرة ضيقة مظلمة رطبة ، وكان عليه جلباب رث ممزق ، وإن زمهرير الشتاء ليقضقض أنيابه ويرعد مفاصله وأنفاسه تنبعث من فمه أبخرة بيضاء ، وجلس على حافة صندوق قديم وأقبل يلهو بإرسال أنفاسه المتكاثفة البيضاء بلذة إنطلاقها ثم إختفائها ، ولكن هذه اللذة الوقتية الوهمية كان يتخللها لذعات جمرة الجوع الذي يتأجج في أحشائه .
لقد جعل في خلال ذلك النهار يذهب مراراً الى فرشة قذرة بالية ببعض أركان الحجرة تضطجع عليها أمه المسكينة العليلة .. ما الذي جاء بها الى هذا المكان؟ لعلها أتت بغلامها من بعض قرى الريف حيث ألحت عليها الفاقة والمسكنة فأقحمتها تلك المدينة لإلتماس الرزق فنزلت بهذه الحجرة ، ثم ما لبثت أن اعتلت .
وكانت ربة المنزل تؤجر حجرات بيتها المظلم المتهدم الى المساكين وأبناء السبيل وأهل الفاقة والعسر لرخص أجورها، وكانت قد سيقت الى مركز البوليس منذ يومين ، فإنتهزها معظم السكان فرصة يتقون بها الدفع فهربوا ولم يبق إلا رجل سكير قد طاب له أن يبادر عيد الميلاد باللهو فسكر سكرة ما برح من صدمة ( حمياها ) مع الأموات منذ أربع وعشرين ساعة.
وفي حجرة أخرى عجوز في الثمانين كانت في سالف الأزمان مرضعا، وقد أخنى عليها الدهر وتركها تموت منفردة وحيدة ، تواصل الأنين من الآم الروماتزم ، وكانت لا تزال تزجر الطفل الصغير وتنهره كلما دنا من باب حجرتها حتى أخافته فتحاماها.
لقد أصاب الطفل في ردهة النزل من ماء الجرة ماء أطفأ به غلته ، ولكنه لم يجد من الزاد ما يمسك به من رمقه ، وقد حاول مراراً أن يوقظ أمه ولم يفلح ، وأخيراً بدأ يخاف الظلام المتكاثف ، إذ غابت الشمس ولم يشعل المصباح إنسان.
وأقبل الطفل في سدفة الظلام يلتمس وجه أمه ويجسه بيده ، وتعجب كيف لا تتحرك وقد عاد جسدها أبرد من الجدار، وقال في نفسه : ما أشد البرد في هذه الحجرة ، ثم وقف برهة مطرقاً واجماً وقد نسي أن يرفع كفه عن كاهل أمه الميتة ، ثم أنه إنثنى عن الجثة الهامدة وأقبل على أصابعه الصغيرة ينفخ عليها ليدفئها، ثم تلمس قلنسوته البالية في أركان الحجرة فلبسها وغادر المكان.
لقد كان بوده ان يتركه قبل ذلك بمراحل ولكن منعه من هذا هرير كلب بشع على باب حجرة مجاورة كان ينخب أحشاءه بشدة نباحه وعوائه فما هو إلا أن ذهب حتى إنطلق الغلام.
ولما صار في طرقات المدينة هاله من ضجة ضوضائها وغرائب مناظرها ما هاله ، ولم يك أبصر المدن قط ، يا للعجب العجاب! ما هذه الأنوار والأضواء ؟ أليل أم نهار؟ إن عهده بالليل في موطنه الريفي ومسقط رأسه ، أن يكون مظلماً فاحم الظلمة أللّهم إلا ذبالة ضئيلة تزيد الظلام ظلاماً، وعهده بالطرقات في قريته، مقفرة من الإنس موحشة ، وبالبيوت مرخاة السدول مغلقة النوافذ ، وبالأهالي يحتجبون في دورهم ويدعون السبل والطرقات للكلاب تعوي بها وتنبح الليل الطويل أفواجاً، مئات وآلافاً ..على أن ذلك الريف كان خيراً له من هذه المدينة ، لقد كان واجداً فيه دفئاً وقوتاً، أما ههنا فليس إلا القرة والجوع .
أما لو يمنّ الله عليه بكسرة من الخبز يابسة !.. ثم ما هذه الأضواء اللامعة ، والأنوار الساطعة …. وهذا الهرج والمرج… وهاتيك الجلبة واللجب والضوضاء !… وهذه الجموع المكتظة والجماهير المحتشدة وهذا الضغط والزحام ! المركبات المزخرفات والجياد الصافنات .. والبرد، البرد القارس يخترق الجلد واللحم ويرسب في العظام ، كحد الحسام، أواه من البرد .. والأبخرة المتجمدة تنبعث من أشداق الخيل سحبا كثافاً ومن خياشمها ، والجليد يستطير صفائح وشظايا تحت سنابكها .. ويالله من كية الجوع في الأحشاء ولذعته ! ألا كسرة من رغيف تمسك من حشاشة نفس متساقطة !… وبدأت أصابعه الضئيلة تكابد أمضّ الألم ، ومر به رجل موسر فإنصرف عنه زاويا وجهه كيلا يراه.
وها هو شارع آخر، ما أوسع وما أفسح ! وما أسرع عدو هؤلاء الناس وأشد إستباقهم وأعلى صياحهم ! وما اسطع هذا النور وما أشد لألاء هذا الضوء وخطفه للأبصار! وما هذا الذي أراه ؟ نافذة عظيمة ! ووراء زجاجها .. شجرة ( صناعية ) عالية .. تسمو صعدا الى سقف المكان .. هذه شجرة عيد الميلاد قد نيطت بها مصابيح شتى الأنوار والألوان ، وعليها أفانين اللعب والتحف، والنفائس والطرف والفاكهة والريحان والهدايا الملفوفة في مفضض الأغلفة ومذهّبها ناضرة الأوراق مفتحة الأكمام ، دانية قطوفها من برتقال، ككرات الذهب ، وعرائس في الحلل القانية الزاهية ، وخيل مشرئبة سامية ، وما هؤلاء الصبية المنبثون في أرجاء الحجرة يضحكون فرحاً ويثبون مرحاً ، لاهين لاعبين في رغد ونعيم من مطعم مرىء، ومشرب هنيء .. وانك لتسمع عزفات الموسيقى من خلف الزجاج !
لقد سرت عدوى هذا السرور والطرب الى فؤاد الطفل المعذب المسكين ، وهو ينظر الى الأسر المحبورة من وراء الزجاج ، فطفق هو أيضاً يضحك مثلهم ، وعلم الله لقد كان الجوع يضرم حشاه ويحمي على كبده ، وكانت أطراف يديه وقدميه تكاد تسقط من وخزات القر ولذعاته ، وأحس فجأة أثناء ضحكة بآلامه وأوجاعه فشرع يبكي وينتحب ، وأقبل يعدو.
ولكن ما هذا؟ هذا منظر أعجب وأغرب ، وخلف هذه النافذة شجرة أزهى وأزهر، وثمة موائد ترزخ تحت أعبائها الفادحة من الكعك والفطائر، بين حمراء وصفراء، محشوة باللوز والصنوبر والجوز، وباب البيت مفتوح على مصراعيه لكل طارق ، فخيل الى الطفل البائس أنه لا بأس من دخوله هو أيضاً، فسما الى الباب في رفق ولطف ، ثم إنسل كلمح البصر فصاروسط القوم .
يالله ! لقد صاح الكل صيحة كادت تشق سقف المكان شطرين ، وألاحوا بأيديهم كالمشمئزين المتأففين، ونهض البعض فدفع في صدر الطفل يطرده ، ثم أقبلت عليه سيدة مسنة ، فدست في يده قرشاً وساقته الى خارج الدار .
رحمالك اللهم ! ما كان أشد ذعره ورعبه ، لقد سقط القرش من كفه فنزل رناناً ينحدر على درج السلم ، لقد كان البرد شنج اصابعه فلم يستطع ثنيها على القرش، وإنطلق يعدو راكباً رأسه لا يلوي على شيء ولا يدري إيان يذهب، لقد أحس كربة البؤس ولوعة اليأس، وذاق مضاضة الوحدة والوحشة الإنفرادية والغربة، وجعل ينفخ على أصابعه المتجمدة ليدفئها ويبكي.
وبينما هو كذلك إذ أبصر مشهداً آخر، أعجب مما سبق وأغرب .. طائفة من الناس مزدحمة على نافذة تجلى عليهم من وراء زجاجها ثلاث عرائس من الشمع وهذه العرائس تمثل ثلاث قيان يعزفن على الأوتار، وهن يتلاحظن ويتغامزن، ويملن الأعناق طرباً ، ويحركن الأشداق إنشاداً وشدواً، ويخيل إليك أنهن يتغنين، ولولا زجاج النافذة لسمعت أصواتهن، وظن الطفل لأول وهلة انهن أحياء، فلما أدرك أنهن عرائس، ضحك وقهقه ، ولا جرم فهو لم ير مثلها قط ، وما خطر بباله أن مثلها يحتمل أن يكون بحال، لقد كان بحاجة الى البكاء، ولكنه ضحك رغم أنفه ، إذ كان منظر العرائس وعجيب حركاتهن مما يضحك الثكلى.
وفي هذه اللحظة أحس بيد تجذبه من ورائه ، فالتفت فإذا غلام وغد لئيم قد لطمه على جبينه ثم إختطف قلنسوته وفر هارباً، فخرّ الطفل الى الأرض صريعاً، وتصايح الملأ وإرتفع ضجيجهم سرورا ًوطرباً.
ونهض الطفل على قدميه بعد جهد، وإنه لينتفض خجلاً ووجلاً وقرة وخصرا ، وأقبل يعدو ثم يعدو، كأن به لوثة جنون حتى أتى باباً فولجه وهو لا يكاد يدري ما يفعل ، فأفضى الى ساحة ألفى بها كومة من الحطب فاستكن وراءها يفترش الثرى ، منكمشاً منقبضاً كالقنفذ ، وهناك أحس بشيء من السلام والطمأنينة ، وألفى في الظلام المخيم أماناً من خوف وأنساً من وحشة ، وقال في نفسه : (( أنا الآن في عصمة من شر أولئك السفهاء)) .
وكذلك إستمر منقبضاً متجمعاً وراء تلك الكومة لا يكاد يمسك أنفاسه من الذعر، وما لبث ان شعر بالراحة التامة ، فزال الألم من يديه ورجليه وأحس بالدفء كما لو كان جالساً الى موقد صلاء ، ثم إنتفض إنتفاضة فجائية ، وكأنما قد أخذ النوم بمعاقد أجفانه ، ومرحباً بالنوم بعد طول الكد والإعياء، وقال في نفسه : (( لآخذنّ بقسط وافر من النوم ثم لأذهبنّ فاجلونّ ناظري بلذيذ منظر تلك العرائس، ما أحلاها وما أجملها لكأنها والله حية تتكلم !.. ثم خيل إليه كأنه يسمع صوت أمه تتغنى بتلك الأنشودة التي تستدرج بها الأمهات طيف النعاس لأطفالهن : (( النعاس .. النعاس ! ما أحلى النعاس ! )).
وبعد ذلك سمع صوتاً رقيقاً يهمس على كثب منه : (( أدن مني أيها الطفل، واجنِ من شجرة الميلاد طيباتها! )) ، وظن أولاً انه صوت أمه تناديه ، ولكنه تبين بعد إصغاء أنه صوت آخر، ترى من صاحب هذا الصوت ؟ إنه لا يراه ولكنه يحس شخصاً يحنو عليه في الظلماء ويعتنقه ، ويمد الطفل يديه …
يا للعجب! ما هذا النور الساطع ! أي طوفان من الضوء ينهمر إنهماراً ويندفق إندفاقاً … وأية شجرة زاهرة باهرة !.. وأين هو الان ؟ وسط أضواء كوكبية اللألاء، ومن حوله العشرات من العرائس البراقة .. عجباً ! عجباً ! إنها ليست بعرائس، إنها صبية صغار مثله ، بين بنات وبنين، ماشئت من حسن وحلاوة وبهجة وطلاوة ، صور ملاح ، ووجوه صباح ، والكل بين لاه ولاعب ، وممازح ومداعب ، وواثب وراقص وجائل وصائل، ثم أحدقوا به وأمطروه من شفاههم اللمياء وثغورهم الوضاحة وإبلا ثراً من اللثمات ، ولم يألوه ضماً وعناقاً ، وأبصر أمه على كثب منه ترنوا إليه بألحاظ من الفرح براقة.
وصاح بها يقول : (( أماه ! أماه ! ما ألذ ههنا وما أطيبه )) ، ثم أقبل على الأطفال باللثم والعناق، وأراد ان يحدثهم حديث العرائس التي بصر بها في تلك النافذة آنفة الذكر، وناداهم قائلاً : (( خبروني بربكم أيها الأطفال .. من أنتم ومن أين جئتم، وكيف كان لقاؤنا ههنا وإجتماعنا؟ )) .
وطفق يضحك، وقلبه بالسرور ينبض، وبالحب المفرط لأولئك الأطفال يخفق ، وإتضح له أن كل أولئك الأطفال كانوا من طائفة البائسين مثله ، فبعضهم كان ممن ألقى به رضيعاً على أعتاب بيوت الناس فمات ثمة بردا وظمأ ، وبعضهم ممن هلك جوعاً من الفاقة وبعضهم قضى قحطاً وحرماناً في الطرقات المثلوجة بعد خروجه من ملجأ اللقطاء عقب إنقضاء مدته هنالك وبعضهم مات جوعاً وعطشاً على ثدي أمه اليابس، وبعضهم أودى إختناقاً في مركبات القطار المزدحمة من فساد هوائها وخبثه .
وها هم الآن قد صاروا كلهم ملائكة .. شيعته وصحابته وهو بذاته قائم وسطهم لا يألوهم حفاوة ولا إكراماً يبارك فيهم وفي أمهاتهم البائسات الآثمات ..
وبناحية من المكان .. الأمهات مائلات يبكين وكل واحدة تعرف بين الأطفال إبنها أو إبنتها وترى الأطفال يعدون سراعاً الى أمهاتهم فيقبلونهن ويمسحون دموعهن بأكفهم الصغيرة ويقولون لهن لا تبكين ولا تحزنّ ، فلقد جعل الله بعد عسر يسرا وبعد ضيق فرجا وبعد شقوة سعادة.
وفي صبيحة تلك الليلة ، عثر البواب على جثة طفل صغير قد إختبأ وراء كومة من الحطب، ثم هلك جوعاً وبرداً وتجمد جسده هنالك ، وعثر أيضاً على أمه .. لقد ماتت قبله ..