المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عالم المرأة الهاربة



الهادئة
08-04-2005, 02:11 PM
في الخامسة من عمري أو ربما السادسة لا أكثر فقدت أمي .. لم أفقدها بالموت بل فقدتها بالطلاق ، وما زالت الذكرى الموجعة لا تبارح مخيلتي و أنا أبكي أمام حجرتها الخالية أبكي فقدانها , أبكي شوقاُ لها و التماساً لحنانها ، أبكي بقوة و حرارة و أنا أسأل أين أمي ؟ ولا تجد صرخاتي صدى من المحيطين بي سوى محاولة إشغالي بأي عمل لأنسى ، ولا أنسى وهل هناك من يستطيع نسيان حياته نبع الحنان و ركن الأمان و الاحتماء من غدر الزمان .. كل ذلك تلاشى بالنسبة لي أصبحت فجأة بلا حدود ولا أقنعة ولا حوائط لا شيء يحدني ولا شيء يسترني .. ضياع شامل يكتنف عالمي حتى غدوت كنبتة صغيرة جافة وسط صحراء مترامية الأطراف تحيط بها العواصف من كل جانب .
قاسيت الأمرين من حرماني حنان أمي ووجودي وسط عائلة لا تعرف معنى الرحمة والشفقة و يحاولون الانتقام من أمي في شخصي الضعيف .. طفلة صغيرة بلا سند ولا حماية ، ذقت مرارة الظلم وعذاب المحاباة ودموع الأيتام ، نشأت و ترعرعت وسط أجواء مثقلة بأنفاس الغيرة و الحقد مشحونة بالقلق والتوتر و هبوط متواتر في مشاعري وإحساسي قادني البرود والبرود التام تجاه كل شئ و أي شئ لا شيء يثيرني لا شيء يحركني مما أدي بي إلى الإصابة بمرض غريب وأنا في مرحلة المراهقة إغماء نادر حار الأطباء بتفسيره كنت أشعر بضيق شديد في التنفس وكأن أيد قوية تغتالني ثم أغيب عن الوعي غير عابئة بشيء ، لم يستطع العديد من الأطباء الذين عرض عليهم أبي حالتي أن يدلوا بتفسير معين أو مرض محدد و لم يكن لديهم علاج لحالتي سوى الأدوية المقوية والفيتامينات .. حتى سمعت ذات يوم حديثاً بين أبي و عمتي كانت عمتي تقول له بإصرار: صدقني يا أخي علاج البنت بزواجها إن حصة مكتملة الصحة والعافية ولا ينقصها سوى الزواج ..
رد عليها أبي بارتياح واضح : إنها مازالت في السادسة عشرة ثم من هو الزوج المنشود فحتى الآن لم يتقدم لها أي رجل للزواج أجابت بثقة : الزوج موجود إنه ابني عمر .. جاءني صوت أبي ضعيفاً متهافتاً وهو يقول : ولكن إن عمر لا وظيفة له ثم إنه قد خرج من السجن حديثاً وقاطعته بصوتها الأجش: لن نجد أفضل منه زوجاً لها يكفي أن والدتها...
ولم أستمع لبقية كلماتها فقد غبت عن الوعي و عاودتني حالة الإغماء العجيبة في تلك اللحظة وكأنما لتحميني مما يؤذيني سماعه و يعذبني معرفته. وافقت لنفسي هذه المرة وأنا مخطوبة لعمر ابن عمتي الشاب السكير العربيد صاحب السوابق الذي لم يدع خطيئة على وجه الأرض إلا ارتكبها.. حاولت إبلاغ أبي برفضي لكن محاولاتي ضاعت وسط زخم الاستعدادات للزواج المرتقب .. أحسست بأنني ضعيفة هشة بدون أسلحة ولا حماية من أي نوع تلفت حولي أبحث عن صدر حنون يخفيني عن التطلع لمصير أرهب مجرد تصوره تلفت أبحث عن كلمة حنان ضاعت في أبخرة الحقد والغيرة بحثت عن دموعي عن جدار أتكئ عليه خلال معركتي مع الحياة . لكن الزمن خذلني فواجهت حياتي المقبلة وحيدة إلا من حزني خائفة إلا من أمان مزيف يطرق أبوابي ، تزوجت عمر وأمل بعيد يداعب مخيلتي وحلم مازال رغم كل شئ يحتل مساحات شاسعة من تفكيري .. فربما يتغير عمر بعد الزواج وربما يسمح لي بزيارة أمي و رؤيتها وحتى فوجئت به ليلة زفافي يقول لي بنبرة آمرة : إنسي أن لك أماً على وجه الأرض أفهمت ؟ سألته و كل جزء من جسدي يتداعى في صمت : و لماذا ؟ و بقي سؤالي معلقاً دون إجابة حائراً يطرق رأسي آلاف المرات وبعذاب يفوق احتمال البشر . ماذا فعلت أمي ليقف منها الجميع هذا الموقف البشع ولأول مره أسأل نفسي : لما طلقها أبي؟ ولماذا يزج بي أبي بهذا الزواج غير المتكافئ ؟ إذ لم تكن فعلة أمي فوق قدرة الناس وطاقاتهم على التسامح والغفران ؟ لم يكن تساؤلي هو بداية عذابي بل بدأ زوجي معي سلسلة أخرى من العذاب كان يبالغ في إيلامي و تجريحي و حينما أتضجر و أشكو ينصب علي سيل من الإهانات تفوق كل حد و تعلو على أي صبر , لكنني أبتلع دموعي في صمت وأتعذب في صمت وحين قررت يوماُ أن أشكو لعمتي فاجأتني بقولها : مثلك لا يشكو و مثلك يصبر ويتحمل , ثم أخذت تدعو على أمي و تكيل لها بالشتائم سألتها برفق : عمتي لماذا طلق أبي أمي ؟!!
أشاحت بوجهها عني و هي تقول : أنت صغيرة لا شأن لك بهذه الأمور وانسابت دموعي لتغرق وجهي و تبلل ثيابي ولماذا الآن أصبحت صغيرة يا عمتي ؟ لماذا لم تدركي صغر سني قبل أن تقحميني في دوامة التفكير والعذاب بزواجي من ابنك ؟ سامحك الله يا عمتي .
ولم أسألها عن شيء بعدها ولا لمحت لها بشيء .. اكتفيت بملامح اليأس المرتسمة على وجهي و الحزن الناطق في عيني وحالات الإغماء التي تعاودني بين الفينة والأخرى أكثر مما كانت عليه قبل زواجي .. و بعد شهر فقط من زواجي دخل زوجي السجن في قضية مخدرات وعدت ذليلة إلى بيت أبي الذي كرهته من أعماقي كما لم أكره شيئاً في حياتي .. وبدأت الهمسات تدور من حولي وتعالت الهمسات إلى أصوات حادة تصرخ في أذني وحيدة وجميلة وزوجها غائب في السجن وماضي أمها لا يشفع لها يجب التشديد عليها لا خروج إلا بإذن ولا مكالمة إلا باستئذان وحتى الكلام ممنوع .. دارت الدنيا من حولي و عاودني الإحساس الشديد بالضيق في صدري وازدادت عدد مرات غيابي عن الوعي حتى تجاوزت الحد المعقول وأدخلت عندها المستشفى و سلسلة طويلة من الفحوصات والتحاليل لينتهي بي الأمر عند الطبيب النفسي أذهلني مرآه للمرة الأولى .. كان شاباً وسيماً لم تقع عيناي على شبيه له من قبل و حنوناً لدرجة لا تصدق سألني برقة : جميلة وحزينة لماذا ؟؟ نبض قلبي بعنف ووجدت نفسي أحكي له كل شئ عن مأساتي ومع كل كلمة دمعة ومع كل دمعة آهة وقطرة جديدة تزرع في قلبي ذرة حب .. تجاوب قلبانا في انسجام غريب غير مألوف ، فوجدت نفسي أطلب طلاقي من زوجي يؤازرني أبي ومن ورائه الطبيب دون أن يعلم أحد عن أمري شيئا ً.. وما إن حصلت على الطلاق حتى هربت معه مع الطبيب ، وتزوجنا بعيداً عن الأعين وعن كل ما رابطة تربطني بالماضي الكئيب الذي أحاول نسيانه ووجدت السعادة معه ولم أحاول البحث عن أمي أو نبش ماضيها الذي لا أعرفه يكفيني ما أسمعه من الناس وكلامهم المكرر (الماضي يعيد نفسه والبنت ترث أمها) وأصم أذني عن كل شي إلا سعادتي مع زوجي .