المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب نظام الاسلام ( تقي الدين النبهاني)



rajaab
03-05-2005, 10:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

طريقُ الإيمانِ



ينهَضُ الإنسانُ بما عندَهُ مِن فكرٍ عَنِ الحياةِ والكونِ والإنسانِ، وَعَن عَلاقَتِهَا جميعِها بما قبلَ الحياةِ الدُنيا وما بعدَها. فكانَ لا بُدَّ مِن تغييرِ فكرِ الإنسانِ الحاضرِ تغييراً أساسياً شاملاً، وإيجادِ فكرٍ آخرَ لَهُ حتّى ينهَضَ، لأَنَّ الفكرَ هو الذي يوجِدُ المفاهيمَ عنِ الأشياءِ، ويركِّزُ هذِهِ المفاهيمَ. والإنسانُ يُكَيِّفُ سلوكَهُ في الحياةِ بِحَسَبِ مفاهيمِهِ عَنْهَا، فمفاهيمُ الإنسانِ عَنْ شخصٍ يُحِبُّهُ تُكيِّفُ سلوكَه نَحْوَه، على النَّقِيضِ مِنْ سلوكِهِ مَعَ شَخْصٍ يُبْغِضُهُ وعندَهُ مفاهيمُ البُغْضِ عَنْهُ، وعلى خِلافِ سلوكِهِ مع شخصٍ لا يعرفُهُ ولا يُوجَدُ لَدَيْهِ أيُّ مفهومٍ عَنْه، فالسلوكُ الإنسانيُّ مربوطٌ بمفاهيمِ الإنسانِ، وعندَ إرادتِنَا أَنْ نغيِّرَ سلوكَ الإنسانِ المنخفِضِ ونجعلَهُ سلوكاً راقياً لابدَّ أَنْ نغيِّرَ مــفــهـــومَــهُ أَوّلا}إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{.



والطريقُ الوحيدُ لتغييِر المفاهيمِ هُوَ إيجادُ الفكرِ عَنِ الحياةِ الدنيا حتَّى تُوجَدَ بواسطتِهِ المفاهيمُ الصحيحةُ عَنْهَا. والفكرُ عَنِ الحياةِ الدنيا لا يتركَّزُ تَرَكُّزاً مُنْتِجاً إِلاّ بعدَ أَنْ يُوجَدَ الفكرُ عَنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ الحياةِ الدنيا وعمَّا بعدَها، وعَنْ عَلاقتِها بما قبلَهَا وما بعدَهَا، وذَلِكَ بإِعطاءِ الفكرةِ الكُلِّيَةِ عمَّا وراءَ هذَا الكونِ والإنسانِ والحياةِ. لأنَّها القاعدةُ الفكريةُ التي تُبْنَى عليْهَا جَميعُ الأفكارِ عَنِ الحياةِ. وإِعطاءُ الفكرةِ الكليةِ عَنْ هذِهِ الأَشْيَاءِ هُوَ حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرى عِندَ الإنسانِ. ومتى حُلَّتْ هذه العقدةُ حُلَّت باقِي العُقَدِ، لأنها جزئيةٌ بالنِسْبَةِ لَهَا، أَوْ فُروعٌ عَنْها. لَكِنَّ هذا الحلَّ لا يُوصِلُ إِلى النَّهضةِ الصحيحةِ إلا إذا كانَ حلاً صحيحاً يوافِقُ فِطْرَةَ الإنسانِ، ويُقْنِعُ العقلَ، فَيَمْلأُ القَلبَ طُمَأْنِينَةً.



ولا يمكنُ أنْ يوجدَ هذا الحلُّ الصحيحُ إلا بالفكرِ المستنيِر عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ. لذلك كان على مُرِيدِي النهضةِ والسيرِ في طريقِ الرُّقِيِّ أَنْ يَحُلُّوا هذِهِ العقدةَ أولاً، حلاً صحيحاً بواسطةِ الفكرِ المستنيرِ، وهذا الحلُّ هو العقيدةُ، وهو القاعدةُ الفكريةُ التي يُبنى عليها كلُّ فكرٍ فَرْعِيٍ عَنِ السلوكِ في الحياةِ وعنْ أنظمةِ الحياةِ.



والإسلامُ قَد عمَد إِلى هذه العقدةِ الكبرى فَحَلَّها للإنسانِ حلاً يوافِقُ الفِطرةَ، ويَمْلأُ العقلَ قَناعةً، والقلبَ طُمأنينةً، وجعَلَ الدخولَ فِيه متوقِّفاً على الإقرارِ بهذا الحلِّ إقراراً صادراً عنِ العقلِ، ولذلك كان الإسلام مبنياً على أساسٍ واحدٍ هو العقيدةُ. وهي أنَّ وراءَ هذا الكونِ والإنسانِ والحياةِ خالقاً خلقَها جميعاً، وخلقَ كلَّ شيءٍ، وهو اللهُ تعالى. وأَنَّ هذا الخالقَ أَوْجَدَ الأشياءَ مِن العدمِ، وهو وَاجِبُ الوجودِ، فهو غيرُ مخلوقٍ، وإلا لما كان خالقاً، واتصافُهُ بكونِهِ خالقاً يَقْضِي بكونِهِ غيرَ مخلوقٍ، ويَقْضِي بأنَّهُ واجبُ الوجودِ، لأنَّ الأشياءَ جميعَهَا تستَنِدُ في وجودِها إِلَيْهِ ولا يستندُ هو إلى شيءٍ.



أمَّا أنَّهُ لا بدَّ للأشياءِ مِن خالقٍ يخلُقُها فذلك أنَّ الأشياءَ التي يُدرِكُها العقلُ هي الإنسانُ والحياةُ والكونُ، وهذه الأشياءُ محدودةٌ، فهي عاجزةٌ وناقصةٌ ومحتاجةٌ إلى غيرِهَا. فالإنسانُ محدودٌ لأنَّهُ ينمُو في كلِّ شيءٍ إلى حَدٍ مَا لا يتجاوَزُهُ، فهو محدودٌ. والحياةُ محدودةٌ، لأنَّ مظهَرها فرديٌ فَقَطْ، والمُشاهَدُ بالحِسِّ أنَّها تَنْتَهِي بالفردِ فهي محدودةٌ. والكونُ محدودٌ لأنه مجموعُ أَجرامٍ وكلُّ جِرْمٍ مِنها محدودٌ، ومجموعُ المحدوداتِ محدودٌ بداهةً، فالكونُ محدودٌ. وعلى ذلك فالانسانُ والحياةُ والكوْنُ محدودةٌ قطعاً.



وحينَ ننظُرُ إلى المحدودِ نجدُهُ ليسَ أَزَلِياً وإلا لمَا كان محدوداً فلا بدَّ أنْ يكونَ المحدودُ مخلوقاً لغيرِهِ، وهذا الغيرُ هو خالقُ الإنسانِ والحياةِ والكونِ، وهو إِمَّا أَنْ يكونَ مخلوقاً لغيرِهِ، أَوْ خالقاً لنفسِهِ، أو أزلياً واجبَ الوجودِ. أمَّا أنَّهُ مخلوقٌ لغيرِهِ فباطلٌ، لأنَّهُ يكونُ محدوداً، وأما أنَّهُ خالقٌ لنفسِهِ فباطلٌ أيضاً، لأنه يكونُ مخلوقاً لنفسِهِ وخالقاً لنفسِهِ في آنٍ واحدٍ، وهذا باطلٌ أيضاً، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ أزلياً واجبَ الوجودِ وهو اللهُ تعالى.



على أنَّ كلَّ مَنْ لَهُ عقلٌ، يُدرِكُ من مجرَّدِ وجودِ الأشياءِ التي يقَعُ عليْها حِسُّهُ، أَنَّ لهَا خالقاً خَلَقَهَا، لأَنَّ المشاهَدَ فيها جميعِهَا أَنَّها ناقصةٌ، وعاجزةٌ ومحتاجةٌ لغيرِهَا، فهي مخلوقةٌ قطعاً. ولذلك يكفِي أنْ يُلْفَتَ النَظَرُ إِلى أَيِّ شيءٍ في الكونِ والحياةِ والإنسانِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ على وجودِ الخالقِ المدبِّرِ. فالنَظَرُ إلى أَيِّ كَوْكَبٍ مِنَ الكواكبِ في الكونِ، والتأَمُّلُ في أَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الحياةِ، وإِدراكُ أَيِّ ناحيةٍ في الإنسانِ، لَيَدُلُّ دِلالةً قطعيةً على وجودِ اللهِ تعالى.



ولذلكَ نَجِدُ القرآنَ الكريمَ يُلْفِتُ النَظَرَ إلى الأشياءِ، ويدعُو الإنسانَ لأَنْ ينظُرَ إِليها وإلى ما حَوْلَهَا وما يتعلَّقُ بِهَا، ويَسْتَدِلُّ بذلك على وجودِ اللهِ تعالى. إِذْ ينظرُ إِلى الأشياءِ كَيْفَ أَنَّهَا محتاجةٌ إلى غيرِها، فَيُدْرِكُ مِنْ ذلك وجودَ اللهِ الخالقِ المدبِّرِ إِدراكاً قطعياً. وَقَدْ وَرَدَتْ مِئَاتُ الآياتِ في هذا المعنــى. قال تعالى : في سورةِ آلِ عمرانَ } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ{ وقالَ تعالى : في سورةِ الرومِ }وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ{ وقالَ تعالى : في سورةِ الغاشِيةِ } أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ{ وقالَ تعالى : في سورةِ الطارِقِ }فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ{ وَقالَ تعالى : في سورةِ البَقَرَةِ } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{ وإلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ التي تدعُو الإنسانَ لأَنْ ينظُرَ النَظْرَةَ العميقةَ إلى الأشياءِ وما حولهَا وما يتعلقُ بِهَا،ويَستدِلَّ بذلك على وجودِ الخالقِ المدبِّرِ، حتَّى يكونَ إيمانُهُ باللهِ إيماناً راسخاً عَنْ عَقْلٍ وَبَيِّنَةٍ.

نَعَمْ إِنَّ الإيمانَ بالخالقِ المدبِّرِ فِطْرِيٌ في كلِّ إنسانٍ. إِلا أَنَّ هذا الإيمانَ الفطريَّ يأتِي عن طريقِ الوِجْدَانِ. وهو طريقٌ غيرُ مَأْمُونِ العاقِبَةِ، وغيرُ مُوصِلٍ إِلى تركيزٍ إذا تُرِكَ وَحْدَهُ. فالوِجدانُ كثيراً ما يُضْفِي على ما يُؤْمِنُ بِهِ أَشْيَاءَ لا حقائقَ لهَا، ولكنَّ الوِجدانَ تخَيَّلَهَا صِفاتٍ لازمةٍ لِمَا آمَنَ بِهِ، فَوَقَعَ في الكُفرِ أو الضَّلالِ. وما عبادةُ الأوثانِ، وما الخُرافاتُ والتُرَّهَاتُ إلا نَتيجَةً لخطأِ الوِجدانِ. ولهذا لم يَتْرُكِ الإسلامُ الوجدانَ وحدَهُ طريقةً للإيمانِ، حتى لا يجعلَ للهِ صفاتٍ تَتَنَاقَضُ مَعَ الأُلُوهِيَّةِ، أو يجعلَهُ مُمْكِنَ التَجَسُّدِ في أشياءَ مادِّيَّةٍ، أو يَتَصَوَّرَ إِمكانَ التَقَرُّبِ إلَيْها بعِبادةِ أَشياءَ مادِّيَّةٍ، فيُؤَدِّيَ إمَّا إلى الكفرِ أو الإشراكِ، وإمَّا إلى الأوْهَامِ والخُرافَاتِ الَّتي يَأْبَاها الإيمانُ الصادقُ. ولذلكَ حَتَّمَ الإسلامُ استعمال العَقْلِ مَعَ الوِجدانِ، وأَوْجَبَ على المُسلمِ استعمال عقلِهِ حينَ يُؤْمنُ بِاللهِ تعالى، ونَهى عَنِ التقليدِ في العقيدةِ ولذلكَ جَعَلَ العقلَ حكماً في الإيمانِ باللهِ تعـالى. قالَ تعالى : } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ{.

ولهذا كانَ واجباً عَلى كلِّ مسلمٍ أَنْ يَجْعَلَ إيمانَهُ صادراً عَنِ تَفْكيرٍ وبَحْثٍ ونَظَرٍ، وأَنْ يُحَكِّمَ العَقلَ تحكيماً مُطلقاً في الإيمانِ باللهِ تعالى. والدعوةُ إلى النَظَرِ في الكونِ لاسْتِنْبَاطِ سُنَنِهِ وللاهْتِدَاءِ إلى الإيمانِ بِبَارِئِهِ، يُكَرِّرُهَا القُرآنُ مِئَاتِ المرَّاتِ في سُوَرِهِ المُخْتَلِفَةِ، وكُلَّهَا مُوَجَّهَةٌ إلى قُوَى الإِنسانِ العاقِلَةِ تَدعُوهُ إلى التَدَبُّرِ والتَأَمُّلِ لِيَكونَ إيمانُهُ عَنْ عقلٍ وبَيِّنَةٍ وتُحَذِّرُهُ الأَخْذَ بما وَجَدَ عَلَيْهِ آبَاءَهُ مِنْ غيِر نَظَرٍ فيه وتَمْحِيصٍ لَهُ وثِقَةٍ ذَاتِيَّةٍ بِمَبْلَغِهِ مِنَ الحقِّ. هذا هوَ الإيمانُ الذي دَعَا الإِسلامُ إِلَيْهِ، وهوَ لَيْسَ هذا الإيمانَ الَّذي يُسَمُّونَهُ إيمانَ العَجَائِزِ، إنَّمَا هوَ إيمانُ المُسْتَنِيرِ المُسْتَيْقِنِ الَّذي نَظَرَ ونَظرَ، ثُمَّ فَكَّرَ وفَكَّرَ، ثُمَّ وَصَلَ مِنْ طَريقِ النَظرِ والتَفْكِيرِ إلى اليَقِينِ بِاللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.

ورَغْمَ وُجوبِ استعمال العَقْلِ في الوُصولِ إلى الإيمانِ باللهِ تعالى فإنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إِدْراكُ ما هوَ فَوْقَ حِسِّهِ وفوقَ عقلِهِ، وذلكَ لأَنَّ العقلَ الإِنسانيَّ محدودٌ، ومحدودةٌ قُوَّتُهُ مَهْمَا سَمَتْ ونَمَتْ بِحُدُودٍ لا تَتَعَدَّاهَا، ولِذلكَ كانَ محدودَ الإدْرَاكِ، ومنْ هنا كانَ لا بُدَّ أَنْ يَقْصُرَ العقلُ دونَ إِدراكِ ذاتِ اللهِ، وأَنْ يَعْجَزَ عنْ إدراكِ حَقِيقَتِهِ، لأَنَّ اللهَ وراءَ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، والعقلُ في الإنسانِ لا يدركُ حقيقةَ ما وراءِ الإنسانِ، ولذلكَ كانَ عاجِزاً عَنْ إدراكِ ذاتِ اللهِ. ولا يقالُ هُنَا: كيفَ آمَنَ الإنسانُ باللهِ عقلاً معْ أَنَّ عقلَهُ عاجِزٌ عنْ إدراكِ ذاتِ اللهِ؟ لأنَّ الإيمانَ إنَّمَا هوَ إيمانٌ بِوجودِ اللهِ وَوُجودُهُ مُدْرَكٌ منْ وجودِ مخلوقاتِهِ، وهيَ الكونُ والإنسانُ والحياةُ. وهذهِ المخلوقاتُ داخلةٌ في حدودِ ما يُدْرِكُهُ العقلُ، فأَدْرَكَهَا، وأدركَ منْ إدراكِهِ لَهَا وجودَ خالقٍ لَهَا، وهوَ اللهُ تعالى. ولذلكَ كانَ الإيمانُ بِوجودِ اللهِ عقلياً في حدودِ العقلِ، بِخِلافِ إدراكِ ذاتِ اللهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ، لأنَّ ذاتَهُ وراءَ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، فهوَ وراءَ العقلِ. والعقلُ لا يمكنْ أنْ يدركَ حقيقة ما وراءَهُ لِقُصورِهِ عنْ هذا الإدراكِ. وهذا القصورُ نفسُهُ يجبُ أنْ يكونَ منْ مُقوياتِ الإيمانِ، وليسَ منْ عواملِ الارتياب والشكِّ .

فإنِّهُ لمَّا كانَ إيمانُنَا باللهِ آتِياً عنْ طريقِ العقلِ كانَ إدراكُنَا لِوُجودِهِ إِدْراكاً تامَّاً، ولمَّا كانَ شعورُنا بِوجودِهِ تعالى مَقْرُوناً بالعقلِ كانَ شُعُورُنَا بوجودِهِ شُعوراً يَقينياً، وهذا كُلُّهُ يجعلُ عِنْدَنَا إِدراكاً تامَّاً وَشُعوراً يقينِياً بجَميعِ صفاتِ الأُلوهيَّةِ.

وَهذا منْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْنِعَنَا أَنَّنا لنْ نَستَطيعَ إدراكَ حقيقةِ ذاتِ اللهِ على شِدَّةِ إيمانِنَا بِهِ، وأنَّنَا يجبُ أنْ نُسَلِّمَ بِما أخبرنَا بِهِ مِمَّا قَصَرَ العقلُ عنْ إدراكِهِ، وذلكَ لِلْعَجْزِ الطَبِيعِيِّ عنْ أنْ يَصِلَ العقلُ الإنْسَانِيُّ بمَقَاييسِهِ النِسْبِيَّةِ المحدودةِ إلى إدراكِ ما فوقَهُ. إذْ يحتاجُ هذا الإدراكُ إلى مقاييسَ ليسَتْ نِسْبِيَّةً وليستْ محدودةً، وهي ممَّا لا يملكُهُ الإنسانُ ولا يستطيعُ أنْ يملِكَهُ.

أمَّا ثبوتُ الحاجةِ إلى الرسُلِ ، فهوَ أنَّهُ ثَبَتَ أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ للهِ تعالى، وأنَّ التديُّنَ فِطريٌّ في الإنسانِ، لأنَّهُ غريزةٌ منْ غرائزِهِ، فهوَ في فطرتِهِ يُقَدِّسُ خالِقَهُ، وَهذا التقديسُ هوَ العبادةُ، وهيَ العلاقةُ بينَ الإنسانِ والخالقِ وهذهِ العلاقةُ إِذا تُرِكَتْ دونَ نظامٍ يُؤَدِّي تَرْكُهَا إلى اضْطِّرَابِهَا وإلى عبادةِ غيرِ الخالقِ، فلا بُدَّ منْ تَنْظيمِ هذهِ العلاقةِ بنظامٍ صَحيحٍ، وهذا النِظامُ لا يَأْتِي مِنَ الإنسانِ لأَنَّهُ لا يَتَأَتَّى لَهُ إدراكُ حقيقةِ الخالقِ حَتَّى يضعَ نِظاماً بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، فَلا بُدَّ أنْ يكونَ هذا النظامُ منَ الخالقِ. وبما أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُبَلِّغَ الخالقُ هذا النظامَ لِلإنسانِ. لذلكَ كانَ لا بُدَّ منَ الرسلِ يُبلِّغونَ الناسَ دينَ اللهِ تعالى.

والدليلُ أيضاً على حاجةِ الناسِ إلى الرسلِ هوَ أنَّ إِشْباعَ الإنسانِ لِغرائزِهِ وحاجاتِهِ العضويَّةِ أَمْرٌ حَتْمِيٌّ،وهذا الإشباعُ إذا سارَ دونَ نظامٍ يُؤَدِّي إلى الإشْباعِ الخَطَأِ أو الشاذِّ ويُسَبِّبُ شقاءَ الإنسانِ، فَلا بدَّ منْ نظامٍ يُنظِّمُ غَرائِزَ الإنسانِ وَحاجاتِهِ العضوِيَّةَ، وهذا النظامُ لا يأتي منَ الإنسانِ، لأنَّ فهمَهُ لتنظيمِ غرائزِ الإنسانِ وحاجاتِهِ العضويةِ عُرْضَةٌ لِلْتَفَاوُتِ والاخْتِلافِ والتَنَاقُضِ والتَأَثُّرِ بالبيئةِ الَّتي يعيشُ فيها، فإذا تُرِكَ ذلكَ لَهُ كانَ النظامُ عُرْضَةً لِلْتَفَاوُتِ والاخْتِلافِ والتَنَاقُضِ وأَدَّى إلى شَقَاءِ الإنسانِ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ النظامُ منَ اللهِ تعالى.

وأمَّا ثبوتُ كونِ القرآنِ منْ عِنْدِ اللهِ، فَهُوَ أنَّ القرآنَ كتابٌ عَرَبِيٌّ جاءَ بِهِ محمَّدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ. فهوَ إمَّا أنْ يكونَ منَ العَرَبِ وإمَّا أنْ يكونَ منْ محمَّدٍ، وإمَّا أنْ يكونَ منَ اللهِ تعالى. ولا يمكنُ أنْ يكونَ منْ غيِر واحدٍ منْ هَؤلاءِ الثلاثَةِ، لأنَّه عربيُّ اللُّغةِ والأسلوبِ.

أمَّا أنَّهُ منَ العربِ فَباطلٌ لأنَّهُ تَحَدَّاهُم أنْ يَأْتوا بمثلِهِ } قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ{ ، } قُلْ فَأْتُوا بِسورةٍ مِثْلِهِ{ وقدْ حاولوا أنْ يَأْتُوا بمثلِهِ وعَجِزُوا عنْ ذلكَ. فهوَ إذنْ ليسَ منْ كلامِهِمْ، لِعَجْزِهِمْ عنِ الإتْيانِ بمثلِهِ معْ تحدِّيهِ لَهُمْ ومُحَاوَلَتِهِمُ الإتيانَ بمثلِهِ. وأمَّا أَنَّهُ منْ محمَّدٍ فباطلٌ، لأنَّ محمَّداً عربيٌ منَ العربِ، ومَهْمَا سَمَا العبقرِيُّ فهوَ مِنَ البَشَرِ وواحدٌ مِنْ مُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ، ومَا دامَ العربُ لمْ يَأْتُوا بمثلِهِ فَيَصْدُقَ على محمَّدٍ العربيِّ أنَّهُ لا يأتي بمثلِهِ فهوَ ليسَ مِنْهُ، عِلاوةً أنَّ لمحمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ أحاديثَ صحيحةٍ وأُخْرى رُوِيَتْ عنْ طَريقِ التواتُرِ الذي يستحيلُ مَعَهُ إلا الصِدْقُ، وإذا قورِنَ أيُّ حديثٍ بأيِّ آيةٍ لا يوجدُ بَيْنَهُمَا أَيُّ تَشَابُهٍ في الأسلوبِ وكانَ يَتْلُو الآيةَ المنزَّلَةَ ويقولُ الحديثَ في وقتٍ واحدٍ، وبينَهُما اخْتلافٌ في الأسلوبِ، وكلامُ الرجلِ مهما حاولَ أنْ يُنَوِّعَهُ فإِنَّهُ يتشابَهُ في الأسلوبِ لأنَّهُ جزءٌ منهُ. وبما أنَّهُ لا يوجدُ أي تشابُهٌ بينَ الحديثِ والآيةِ في الأسلوبِ فلا يكونَ القرآنُ كلامَ محمَّدٍ مُطْلَقَاً، لِلاختلافِ الواضحِ الصريحِ بَيْنَهُ وبينَ كلامِ محمَّدٍ. على أَنَّ العربَ وهُمْ أعلَمُ الناسِ بأَساليبِ الكلامِ العربيِّ لمْ يَدَّعِ أحَدٌ منهُمْ أنَّهُ كلامُ محمَّدٍ أوْ أَنَّهُ يُشبِهُ كلامَهُ، وكلُّ مَا ادَّعُوهُ أنَّهُ يَأتِي بهِ منْ غُلامٍ نَصْرَانِيٍ اسمُهُ (جَبْر) ولذلكَ رَدَّ عَليهِمُ اللهُ تعالى فقالَ } ولقدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُبِينٌ{.

وبِمَا أنَّهُ ثبَتَ أنَّ القرآنَ ليسَ كلامَ العربِ، ولا كلامَ محمَّدٍ، فيكونَ كلامَ اللهِ قطعاً، ويكونَ معجزةً لمن أتَى بِهِ. وبما أَنَّ محمَّداً هوَ الذي أَتى بالقرآنِ، وهوَ كلامُ اللهِ وشَرِيعَتُهُ، ولا يأْتي بشريعةِ اللهِ إلاَّ الأنبياءُ والرسلُ، فيكونَ محمَّدٌ نَبِياً ورسولاً قطعاً بالدليلِ العقليِّ. هذا دليلٌ عقليٌّ على الإيمانِ باللهِ وبرسالةِ محمَّدٍ وبأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ.

وعلى ذلكَ كانَ الإيمانُ باللهِ آتِياً عنْ طريقِ العقلِ، ولا بُدَّ أنْ يكونَ هذا الإيمانُ عنْ طريقِ العقلِ. فكانَ بذلكَ الرَّكيزةَ الَّتي يقومُ عليْهَا الإيمانُ بالمغيباتِ كُلِّهَا وبِكُلِّ ما أَخْبَرَنَا اللهُ بهِ. لأنَّنَا ما دُمْنَا قَدْ آمَنَّا بهِ تعالى وهوَ يَتَّصِفُ بصِفاتِ الألوهيَّةِ يجبُ حتماً أنْ نؤمنَ بكلِّ ما أخبرَ بهِ سواءٌ أدركَهُ العقلُ أو كان من وراءِ العقلِ، لأنَّهُ أخبرَنَا بهِ اللهُ تعالى. ومِنْ هُنا يجبُ الإيمانُ بالبعثِ والنُشورِ والجَنَّةِ والنارِ والحِسابِ والعَذابِ، وبالملائِكَةِ والجِنِّ والشياطينِ وغيرِ ذلك، ممَّا جاءَ بالقرآنِ الكريمِ أو بحَديثٍ قطعيٍ. وهذا الإيمانُ وإنْ كانََ عَنْ طريقِ النقلِ والسمعِ لَكِنَّهُ في أصلهِ إيمانٌ عقليٌ، لأنَّ أصلَهُ ثَبَتَ بالعقلِ. وَلِذَلكَ كانَ لا بُدَّ أن تكونَ العقيدةُ للمسلمِ مُستَنِدَةً إلى العقلِ أو إلى ما ثَبَتَ أَصْلُهُ عنْ طريقِ العقلِ. فالمسلمُ يجبُ أَنْ يعتقدَ ما ثبتَ لَهُ عنْ طريقِ العقلِ أو طريقِ السمعِ اليقينِّي المقطوعِ بِهِ، أي ما ثبتَ بالقرآنِ الكريمِ والحديثِ القطعيِّ وهوَ المتواتِرُ، وما لم يثبُتْ عنْ هاتيْنِ الطريقيْنِ : العقلِ ونصِّ الكتابِ والسُنَّةِ القطعيَّةِ، يَحْرُمْ عليهِ أنْ يعتقدَهُ،لأنَّ العقائدَ لاتؤخذُ إِلا عن يقينٍ.

وعلى ذلك وجبَ الإيمانُ بما قبلَ الحياةِ الدنيا وهو اللهُ تعالى، وبما بعدَها وهو يومُ القيامةِ. وبما أنَّ أوامرَ اللهِ هي صِلةُ مَا قبلَ الحياةِ بالحياةِ بالإضافةِ إلى صِلَةِ الخلْقِ، وأنَّ المحاسبةَ عمَّا عمِلَ الإنسانُ في الحياةِ صلةُ مَا بعدَ الحياةِ بالحياةِ بالإضافةِ إلى صلةِ البعثِ والنشورِ، فإنه لابدَّ أنْ تكونَ لهذِهِ الحياةُ صلةٌ بما قبلَها وما بعدَها، وأنْ تكونَ أحوالُ الإنسانِ فيها مقيَّدةٌ بهذهِ الصلةِ،فالإنسانُ إذن يجبُ أنْ يكونَ سائراً في الحياةِ وِفْقَ أنظمةِ اللهِ، وأنْ يعتقدَ أنَّهُ يحاسِبُهُ يومَ القيامةِ على أعمالِهِ في الحياةِ الدنيا.

وبهذا يكونُ قدْ وُجدَ الفكرُ المستنيرُ عَمَّا وراءَ الكونِ والحياةِ والإنسانِ، ووُجِدَ الفكرُ المستنيرُ أيضاً عمَّا قبلَ الحياةِ وعمَّا بعدَهَا، وأنَّ لها صلةً بما قبلَها وما بعدَهَا. وبهذا تكونُ العقدةُ الكبرى قد حُلَّتْ جميعُها بالعقيدةِ الإسلاميَّةِ.

و متى انتهى الإنسانُ منْ هذا الحلِّ أمكنَهُ أَنْ ينتقِلَ إلى الفكرِ عن الحياةِ الدنيا، وإلى إيجادِ المفاهيمِ الصادقةِ المُنتِجةِ عنها. وكان هذا الحَلُّ نفسَهُ هو الأساسَ الذي يقومُ عليهِ المبدأُ الذي يُتَّخَذُ طريقةً للنُهوضِ، وهو الأساسُ الذي تقومُ عليه حضارةُ هذا المبدأِ، وهو الأساسُ الذي تنبثِقُ عنهُ أنظمتُهُ، وهو الأساسُ الذي تقومُ عليهِ دولتُهُ. ومِنْ هنا كانَ الأساسُ الذي يقومُ عليه الإسلامُ ـ فكرةً وطريقةً ـ هو العقيدةَ الإسلاميَّةَ.

} يا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا آمِنُوا باللهِ وَرسُولِهِ والكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ومَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً {.

أمَا وقدْ ثبَتَ هذا وكانَ الإيمانُ بِهِ أَمْرَاً محتوماً كانَ لِزاماً أنْ يُؤْمِنَ كُلُّ مسلمٍ بالشريعةِ الإسلاميَّةِ كُلِّهَا، لأَنَّهَا جاءتْ في القرآنِ الكريمِ، وجاءَ بِهَا الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وإلا كانَ كافراً ولذلكَ كانَ إنكارُ الأحكامِ الشرعيَّةِ بجُمْلَتِهَا، أو القطعيَّةِ منها بتفصيلِها، كفراً، سواءٌ أكانتْ هذه الأحكامُ مُتَّصِلةً بالعباداتِ أَو المعاملاتِ أو العقوباتِ أو المطعوماتِ، فالكفرُ بآيةِ }وأَقِيمُوا الصلاةَ { كالكفرِ بآيةِ } وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِبَا { وكالكفرِ بآيةِ } والسَارِقُ والسَارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا {، وكالكفرِ بآيةِ }حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتَةُ والدَمُ ولحْمُ الخَنْزيرِ ومَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ { الآية. ولا يتوقَّفُ الإيمانُ بالشريعةِ على العقلِ، بلْ لا بدَّ مِنَ التسليمِ المُطلقِ بكلِّ ما جاءَ مِنْ عندِ اللهِ تعالى }فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً {.

rajaab
03-05-2005, 10:18 PM
القضاء و القدر

قالَ تعالى : في سورةِ آلِ عِمْرانَ } وَما كانَ لِنفسٍ أَنْ تموتَ إلاَّ بإذنِ اللهِ كتاباً مُؤَجَّلاً{ وَقالَ في سورةِ الأَعْرافِ }ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فإذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلايَسْتَقْدِمُون { وقالَ في سورةِ الحديدِ } ما أَصابَ منْ مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أَنْفُسِكُمْ إلا في كتابٍ منْ قَبْلِ أَنْ نَبرأَها إنَّ ذلكَ على اللهِ يسيرٌ { وقالَ في سورةِ التَوبَةِ } قُلْ لَنْ يُصيبَنَا إلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا هوَ مَوْلانَا وعلى اللهِ فَلِيَتَوَكَّلِ المؤْمنون { وقالَ في سورةِ سَبَأ } لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ ولا أَصغَرُ مِنْ ذلكَ ولا أكبرُ إلا في كتابٍ مبينٍ { وقالَ في سورةِ الأنْعامِ }وهوَ الَّذي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليلِ ويعلمُ ماجَرَحْتُمْ بالنهارِ ثم يَبْعَثُكُمْ فيه ليُقضى أجلٌ مسمىً ثم إليهِ مرجِعكُمْ ثم يُنِبِّئُكُمْ بما كنتُم تعملون { وقالَ في سورةِ النساءِ }وإِنْ تُصِبْهُمْ حسنَةٌ يقولوا هذه منْ عندِ اللهِ، وإنْ تُصِبهمْ سيئةٌ يقولوا هذه منْ عندِكَ،. قلْ كلٌّ منْ عندِ اللهِ فما لهؤلاءِ القَومِ لا يَكادونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً {.

هذهِ الآياتُ وما شاكلَهَا مِنَ الآياتِ يَسْتَشْهِدُ بِهَا الكثيرونَ على مسألةِ القضاءِ والقدرِ اسْتِشْهَاداً يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الإنسانَ يجُبرُ على القيامِ بما يقومُ بِهِ منَ أعمالٍ، وأنَّ الأعمالَ إِنَّما يقومُ بِها مُلْزَمَاً بإرادةِ اللهِ ومَشِيئَتِهِ، وأَنَّ اللهَ هو الذي خلقَ الإنسانَ، وخلقَ عملَهُ، ويحاوِلون تَأْييدَ قولِهِم بقولِهِ تعالى } واللهُ خلقَكُمْ وما تَعْمَلُون { كما يَسْتَشْهِدُونَ بأَحاديثَ أُخرى كَقَوْلِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ((نَفَثَ روحُ القُدُسِ في رَوْعِي، لَنْ تموتَ نَفْسٌ حتَّى تَسْتَوْفي رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا ومَا قُدِّرَ لها)).

لقدْ أَخذَتْ مسألةُ القضاءِ والقدرِ دَوْراً هامَّاً في المَذاهبِ الإسلاميَّةِ. وكانَ لأَهْلِ السُنَّةِ فيها رأيٌ يَتَلَخَّصُ في أَنَّ الإنْسَانَ لَهُ كَسْبٌ إخْتِيَارِيٌّ في أَفعالِهِ فَهوَ يُحاسَبُ على هذا الكَسْبِ الاخْتِيَارِيِّ. ولِلْمُعْتَزِلَةِ رَأْيٌ يَتَلَخَّصُ في أَنَّ الإنسانَ هوَ الَّذي يخلقُ أفعالَهُ بنفسِهِ، فهوَ يُحاسبُ عليها لأنَّهُ هوَ الَّذي أَوْجَدَهَا، ولِلْجَبْرِيَّةِ فيها رأيٌ يتلخصُ في أنَّ اللهَ تعالى هوَ الَّذي يخلُقُ العبدَ ويخلقُ أفعالَهُ، ولذلكَ كانَ العبدُ مجبراً على فعلِهِ وليسَ مُخيَّراً وهوَ كالريشَةِ في الفضاءِ تُحَرِّكُهَا الرِياحُ حيثُ تشاءُ.

والمُدقِّقُ في مسألةِ القضاءِ والقدرِ يجدُ أَنَّ دِقَّةَ البَحْثِ فيها توجِبُ مَعرفَةَ الأَساسِ الَّذي يَنْبَني عليْهِ البحثُ، وهذا الأساسُ ليسَ هوَ فعلَ العبدِ منْ كونِهِ هوَ الَّذي يَخْلقُهُ أَمِ اللهُ تعالى. وليسَ هوَ علمُ اللهِ تعالى منْ كَونِهِ يَعْلَمُ أَنَّ العَبْدَ سَيَفْعَلُ كذا ويُحِيطُ علمُهُ بهِ، وليسَ هوَ إرادةُ اللهِ تعالى مِنْ أَنَّ إرَادَتَهُ تعلَّقتْ بفعلِ العبدِ فهوَ لا بدَّ موجودٌ بهذهِ الإرادةِ، وليسَ هوَ كونُ هذا الفعلِ لِلعَبْدِ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ فلا بُدَّ أَنْ يقومَ بهِ وَفْقَ ما هوَ مكتوب.

نَعَم ليسَ الأَساسُ الذي يُبْنى عليهِ البحثُ هوَ هذهِ الأَشياءَ مطلقاً، لأنَّهُ لا علاقةَ لها في الموضوعِ منْ حيثُ الثَوابِ والعِقَابِ. بلْ علاقَتُهَا منْ حيثُ الإيجادُ والعِلْمُ المحيطُ بكلِّ شيءٍ والإرادةُ الَّتي تتعلَّقُ بجميعِ المُمكناتِ واحتواءِ اللَّوْحِ المحفوظِ على كلِّ شيءٍ. وهذهِ العلاقةُ موضوعٌ آخرُ مُنْفَصِلٌ عنْ موضوعِ الإثابةِ على الفعلِ والعقابِ عليهِ أيْ : هلِ الإنسانُ مُلزَمٌ على القيامِ بالفعلِ خيراً أمْ شراً، أوْ مخيَّرٌ فيهِ ؟ وهلْ لَهُ اختيارُ القيامِ بالفعلِ أوْ تركِهِ أوْ ليسَ لهُ الاختيارُ ؟

والمدقِّقُ في الأفعالِ يرَى أَنَّ الإنسانَ يعيشُ في دائرَتَيْنِ إِحْداهُما يسيطِرُ عَلَيْها وهيَ الدائرةُ الَّتي تقعُ في نِطَاقِ تَصَرُّفَاتِهِ وَضِمْنَ نِطَاقِهَا تحصُلُ أفعالُهُ الَّتي يقومُ بها بمحْضِ اختيارِهِ، والأُخْرى تُسَيْطِرُ عليْهِ وهيَ الدائرةُ الَّتي يقعُ هوَ في نِطاقِهَا وتقعُ ضِمْنَ هذهِ الدائرةُ الأفعالُ الَّتي لا دَخْلَ لَهُ بِهَا سواءٌ أَوَقَعَتْ مِنْهُ أمْ عليهِ.

فالأفعالُ الَّتي تقعُ في الدائرةِ الَّتي تُسيطرُ عليهِ لا دَخْلَ لَهُ بِهَا ولا شأْنَ لَهُ بوجودِهَا، وهيَ قِسْمَانِ : قِسمٌ يقتضيهِ نظامُ الوجودِ، وقسمٌ تقعُ فيها الأفعالُ الَّتي ليسَتْ في مقدورِهِ والَّتي لا قِبَلَ لَهُ بِدَفْعِهَا ولا يقتضيها نظامُ الوجودِ. أمَّا ما تَقْتَضيهِ أنْظِمَةُ الوُجودِ فهوَ يُخْضِعُهُ لها ولذلكَ يَسِيرُ بِحَسْبِهَا سَيراً جَبْرِياً لأنَّهُ يسيرُ معَ الكونِ ومعَ الحياةِ طِبْقَ نِظامٍ مَخْصُوصٍ لا يَتَخَلَّفُ. ولذلكَ تقعُ الأعمالُ في هذهِ الدائرةِ على غيرِ إرادَةٍ مِنْهُ وهوَ فيها مُسَيَّرٌ ولَيْسَ بِمُخَيَّرٍ. فقدْ أَتَى إلى هذهِ الدنيا على غيرِ إِرادَتِهِ وسَيَذْهَبُ عَنْهَا على غيرِ إِرادَتِهِ، ولا يستطيعُ أنْ يَطيرَ بجسمِهِ فقطْ في الهواءِ، ولا أنْ يمشِيَ بوضْعِهِ الطبيعيِّ على الماءِ، ولا يمكنُ أنْ يخلقَ لِنَفسِهِ لونَ عينَيْهِ. ولمْ يُوْجِدْ شكْلَ رأْسِـهِ، ولا حَجْمَ جِسْمِهِ، وإنَّما الَّذي أوجدَ ذلكَ كُلِّهِ هوَ اللهُ تعالى دونَ أنْ يكونَ لِلْعبدِ المخلوقِ أيُّ أثرٍ ولا أيةُ علاقةٍ في ذلكَ، لأنَّ اللهَ هوَ الَّذي خلقَ نظامَ الوجودِ، وجعلَهُ مُنَظَّماً للوجودِ. وجعلَ الوجودَ يسيرُ حَسَبَهُ ولا يملِكُ التخلُّفَ عنهُ.

وأمَّا الأفعالُ الَّتي ليستْ في مقدورِهِ والَّتي لا قِبَلَ لَهُ بِدفْعِهَا ولا يَقْتَضِيها نِظامُ الوُجودِ فهيَ الأفعالُ الَّتي تحصُلُ منَ الإنسانِ أوْ عليهِ جَبْراً عنْهُ ولا يملِكُ دَفْعَهَا مُطْلَقَاً، كَمَا لوْ سقطَ شخصٌ عنْ ظهرِ حائطٍ على شخصٍ آخرَ فَقَتَلَهُ، وكما لو أطلقَ شخصٌ النارَ على طيرٍ فأصابتْ إِنساناً لم يكُنْ يعلَمُهُ فقتلَهُ، وكما لوْ تَدَهْوَرَ قطارٌ أو سيارةٌ أو سقطتْ طائرةٌ لِخللً طارئٍ لمْ يكنْ بالإمكانِ تلافيهِ فَتَسَبَّبَ عنْ هذا التدهْوُرِ والسُقوطِ قتلُ الركَّابِ، وما شاكلَ ذلكَ فإنَّ هذهِ الأفعالُ الَّتي حصلتْ منَ الإنسانِ أوْ عليهِ وإنْ كانتْ ليستْ مِمَّا يقتضيهِ نظامُ الوجودِ ولكنَّهَا وقعتْ منَ الإنسانِ أوْ عليْهِ على غيِر إرادةٍ مِنْهُ وهيَ ليستْ في مَقْدورِهِ فهيَ داخِلَةٌ في الدائرةِ الَّتي تُسيطِرُ عليْهِ، فهذهِ الأفعالُ كلُّها الَّتي حصلتْ في الدائرةِ الَّتي تسيطرُ على الإنسانِ هيَ الَّتي تُسَمَّى قَضَاءً، لأنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الَّذي قَضاهُ. ولذلكَ لا يحاسبُ العبدُ على هذهِ الأفعالِ مَهْمَا كانَ فيهَا منْ نَفْعٍ أوْ ضَرٍّ أوْ حُبٍّ أوْ كراهِيَّةٍ بالنسبةِ للإنسانِ، أيْ مهما كانَ فيها منْ خيرٍ وشرٍ حَسَبَ تفسيِر الإنسانِ لهَا، وإنْ كانَ اللهُ وحدَهُ يعلمُ الشرَّ والخيرَ في هذهِ الأفعالِ، لأنَّ الإنسانَ لا أثرَ لَهُ بِهَا. ولا يعلمُ عنهَا ولا عنْ كَيْفِيَّةِ إيجادِهَا، ولا يملِكُ دفعَهَا أوْ جَلْبَهَا مُطْلَقاً، وعلى الإنسانِ أنْ يُؤْمِنَ بِهذا القضاءِ وأنَّهُ منَ اللهِ سبحانَهُ وتعالى.

أمَّا القَدَرُ فهوَ أَنَّ الأفعالَ الَّتي تحصُلُ سواءً أكانَتْ في الدائرةِ الَّتي تسيطِرُ على الإنسانِ أو الدائرةُ الَّتي يسيطِرُ عليْهَا تقعُ منَ أشياءٍ وعلى أشياءٍ منْ مادَّةِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وقدْ خلقَ اللهُ لهذِهِ الأشياءِ خَواصٌ مُعَيَّنَةٌ، فخلَقَ في النارِ خاصِّيَّةِ الإحراقِ، وفي الخشبِ خاصِّيَّة الاحتراقِ، وفي السكِّينِ خاصِّيَّةَ القطعِ، وجعلهَا لازمةً حَسَبَ نظامِ الوجودِ لا تتخلَّفُ.

وحينَ يظهرُ أنَّهَا تخلَّفَتْ يكونُ اللهُ قدْ سَلَبَهَا تِلكَ الخاصِّيَّةِ وكانَ ذلكَ أمْراً خارِقاً لِلْعادَةِ. وهوَ يحصُلُ للأنبياءِ ويكونُ مُعْجِزَةً لهمْ، وكَمَا خلقَ في الأشياءِ خاصِّيَّاتٍ كذلكَ خلقَ في الإنسانِ الغرائِزَ والحاجاتِ العُضويَّةِ وجعلَ فيهَا خاصِّيَّاتٍ معيَّنةً كَخَوَاصِّ الأشياءِ فخلقَ في غريزةِ النَوْعِ خاصِّيَّةَ الميلِ الجنسيِّ، وفي الحاجاتِ العضويَّةِ خاصِّيَّاتٌ كالجوعِ والعطشِ ونحوَهُما، وجعلها لازمةً لها حَسَبَ سنّةِ الوجودِ. فهذهِ الخاصِّيَّاتُ المعينةُ الَّتي أوجدَها اللهُ سبحانه تعالى في الأشياءِ وفي الغرائزِ والحاجاتِ العضويَّةِ الَّتي في الإنسانِ هيَ الَّتي تُسمَّى القَدَرَ، لأنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الَّذي خلقَ الأشياءَ والغرائزَ والحاجاتِ العضويَّةِ وقَدَّرَ فيها خواصَّهَا.

وهيَ ليستْ مِنْها ولا شأنَ للعبدِ فيها ولا أثرَ لهُ مطلقاً. وعلى الإنسانِ أنْ يُؤمنَ بأنَّ الَّذي قَدَّرَ في هذهِ الأشياءِ الخاصِّيَّاتِ هوَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى. وهذهِ الخاصِّيَّاتُ فيها قابليةٌ لأنْ يعملَ الإنسانُ بواسطَتِهَا عملاً وَفْقَ أوامرِ اللهِ فيكونَ خيراً أو يُخالفَ أوامرَ اللهِ فيكونَ شرَّاً، سواءً في استعمال الأشياءِ بخواصِّها أو باستجابتِهِ للغرائزِ والحاجاتِ العضويَّةِ خيراً إنْ كانتْ حَسَبَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ، وشرَّاً إنْ كانتْ مُخالفةً لأوامرِ اللهِ ونواهيهِ.

ومنْ هنا كانتْ الأفعالُ الَّتي تقعُ في الدائرةِ الَّتي تسيطرُ على الإنسانِ منَ اللهِ خيراً أو شرَّاً، وكانتْ الخاصِّيَّاتُ الَّتي وُجِدَتْ في الأشياءِ والغرائزِ والحاجاتِ العضويَّةِ منَ اللهِ سواءً أنتجتْ خيراً أو شرَّاً، ومنْ هنا كانَ لزاماً على المسلمِ أنْ يؤمِنَ بالقضاءِ خيرِهِ وشرِّهِ منَ اللهِ تعالى، أيْ أنْ يعتقدَ أنَّ الأفعالَ الخارجةَ عنْ نطاقِهِ هيَ منْ اللهِ تعالى، وأنْ يؤمنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ منَ اللهِ تعالى، أيْ يعتقدَ بأنَّ خواصَّ الأشياءِ الموجودةِ في طبائِعِهَا هيَ منَ اللهِ تعالى. سواءً ما أنتجَ منْهَا خيراً أمْ شرَّاً، وليسَ للإنسانِ المخلوقِ فيها أيُّ أثرٍ، فأجلُ الإنسانِ ورِزْقُهُ ونفسُهُ كلُّ ذلكَ منَ اللهِ، كما أنَّ الميلَ الجِنْسِيَّ والميلَ للتملُّكِ الموجودِ في غريزَتَيْ النوعِ والبقاءِ، والجُوعَ والعطشَ الموجود في الحاجاتِ العضويَّةِ كلِّهَا منَ اللهِ تعالى.

هذا بالنسبةِ للأفعالِ الَّتي تقعُ في الدائرةِ الَّتي تسيطرُ على الإنسانِ وفي خواصِّ جميعِ الأشياءِ. أمَّا الدائرةُ الَّتي يسيطرُ عليها الإنسانُ فهيَ الدائرةُ الَّتي يسيُر فيها مختاراً ضِمْنَ النظامِ الَّذي يختارُهُ سواءٌ شريعةَ اللهِ أو غيرِهَا، وهذهِ الدائرةُ هيَ الَّتي تقعُ فيها الأعمالُ الَّتي تَصْدُرُ منَ الإنسانِ أوْ عليهِ بإرادتِهِ، فهوَ يمشي ويأكلُ ويشربُ ويسافرُ في أيِّ وقتٍ يشاءُ، ويمتنعُ عنْ ذلكَ في أيِّ وقتٍ يشاءُ وهوَ يحرقُ بالنارِ ويقطعُ بالسكِّينِ كما يشاءُ، وهو يُشْبِعُ جَوْعَةَ النَوْعِ، أوْ جوعةَ المُلْكِ، أوْ جوعةَ المَعِدَةِ كما يشاءُ، يفعلُ مختاراً. ويمتنعُ عنْ الفعلِ مختاراً، ولذلكَ يُسألُ عنِ الأفعالِ الَّتي يقومُ بهَا ضِمْنَ هذهِ الدائرةِ.

وإنَّهُ وإنْ كانتْ خاصِّيَّاتُ الأشياءِ، وخاصِّيَّاتُ الغرائزِ، والحاجاتُ العضويَّةُ، الَّتي قدَّرَهَا اللهُ فيها وجعلَها لازمةً لها هيَ الَّتي كانَ لها الأثرُ في نتيجةِ الفعلِ، لكنَّ هذهِ الخاصِّيَّاتِ لاتُحْدِثُ هي عملاً، بلْ الإنسانُ حينَ يستعمِلُهَا هوَ الَّذي يُحْدِثُ العملَ بهَا، فالميْلُ الجِنْسِيُّ الموجودُ في غريزةِ النوعِ فيهِ قابليَّةٌ للخيرِ والشرِّ، والجوعُ الموجودُ في الحاجةِ العضويَّةِ فيهِ قابليَّةٌ للخيرِ والشرِّ، لكنَّ الَّذي يفعلُ الخيرَ والشرَّ، هوَ الإنسانُ وليستْ الغريزةَ أوِ الحاجةَ العضويَّةَ، وذلكَ أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى خلقَ لِلإنسانِ العقلَ الَّذي يميِّزُ، وجعلَ في طبيعةِ العقلِ هذا الإدراكَ و التمييزَ، وهدى الإنسانَ لطريقِ الخير والشرِّ }وَهَدَيْنَاهُ النَجْدَيْن{، وجعلَ فيها إدراكَ الفُجورِ والتَقْوى }فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{. فالإنسانُ حينَ يستجيبُ لغرائزِهِ وحاجاتِهِ العضويَّةِ وَفْقَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ يكونُ قدْ فعلَ الخيرَ وسارَ في طريقِ التقوى، وحينَ يستجيبُ للغرائزِ والحاجاتِ العضويَّةِ وهوَ مُعْرِضٌ عنْ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ يكونُ قدْ فعلَ الشرَّ وسارَ في طريقِ الفجورِ، فكانَ في كلِّ ذلكَ هوَ الَّذي يقعُ منهُ الخيرُ والشرُّ، وعليهِ يقعُ الخيرُ والشرُّ، وكانَ هوَ الَّذي يستجيبُ للجوعاتِ وَفْقَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ فيفعلُ الخيرَ، ويستجيبُ لها مخالِفاً لأوامرِ اللهِ ونواهيهِ فيفعلُ الشرَّ. وعلى هذا الأساسِ يُحاسبُ على هذهِ الأفعالُ الَّتي تقعُ في الدائرةِ الَّتي يسيطرُ عليها فَيُثَابُ ويُعاقبُ عليْهَا، لأنَّهُ قامَ بها مختاراً دونَ أنْ يكونَ عليهِ أيُّ إجبارٍ. على أنَّ الغرائزَ والحاجاتِ العضويَّةِ وإنْ كانتْ خاصِّيَّتُهَا هيَ منَ اللهِ، وقابليَّتُهَا للشرِّ والخيرِ هيَ منَ اللهِ، لكنَّ اللهَ لمْ يجعلْ هذهِ الخاصِّيَّةَ على وجهٍ مُلْزِمٍ للقيامِ بها، سواءً فيما يُرضي اللهُ أوْ يُسخِطُهُ، أيْ سواءً في الشرِّ أوِ الخيرِ، كما أنَّ خاصِّيَّةَ الإحراقِ لمْ تكنْ من وجهٍ يَجْعَلُها مُلْزِمَةً في الإحراقِ، سواءً في الإحراقِ الَّذي يُرضي اللهَ أوْ الذي يُسْخِطُهُ، أيِ الخيرِ و الشرِّ، وإنَّمَا جُعِلَتْ هذهِ الخاصِّيَّاتُ فيها تُؤَدِّيهَا إذا قامَ بها فاعلٌ على الوجهِ المطلوبِ. واللهُ حينَ خلقَ الإنسانَ وخلقَ لهُ هذهِ الغرائزَ والحاجاتِ وخلقَ لهُ العقلَ المميِّزَ أعطاهُ الاختيارُ بأنْ يقومَ بالفعلِ أوْ يتركَهُ ولمْ يُلْزِمْهُ بالقيامِ بالفعلِ أوِ التركِ. ولمْ يجعلْ في خاصِّيَّاتِ الأشياءِ والغرائزِ والحاجاتِ العضويَّةِ ما يُلْزِمُهُ على القيامِ بالفعلِ أوِ التركِ، ولذلكَ كانَ الإنسانُ مختاراً في الإقدامِ على الفعلِ والإقلاعِ عنْهُ، بما وهبَهُ اللهُ منَ العقلِ المُمَيِّزِ، وجعلَهُ مَنَاطَ التكليفِ الشرعيِّ، ولهذا جعلَ لهُ الثوابَ على فعلِ الخيرِ، لأنَّ عقلَهُ اختار القيامَ بأوامرِ اللهِ واجتنابِ نواهيهِ، وجعلَ لَهُ العقابَ على فعلِ الشرِّ، لأنَّ عَقْلَهُ اختارَ مخالفةَ أوامرِ اللهِ وعمِل ما نهى عنهُ باستجابتِهِ للغرائزِ والحاجاتِ العضويَّةِ على غيرِ الوجهِ الَّذي أمرَ بهِ اللهُ. وكانَ جزاؤُهُ على هذا الفعلِ حقَّاً وعدلاً، لأنَّهُ مختارٌ في القيامِ بهِ، وليسَ مجبراً عليهِ. ولا شأنَ للقضاءِ والقدرِ فيهِ. بلِ المسألةُ هيَ قيامُ العبدِ نفسُهُ بفعلِهِ مختاراً. وعلى ذلكَ كانَ مسؤولاً عمَّا كَسَبَهُ }كُلُّ نَفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينَةً{.

أمَّا علمُ اللهِ تعالى فإنَّهُ لا يُجْبِرُ العبدَ على القيامِ بالعملِ لأنَّ اللهَ علمَ أنَّهُ سيقومُ بالعملِ مختاراً، ولم يكنْ قيامَهُ بالعملِ بناءً على العلمِ، بلْ كانَ العلمُ الأزَلِيُّ أنَّه سيقومُ بالعملِ. وليستْ الكتابةُ في اللَّوْحِ المحفوظِ إلاَّ تعبيراً عنْ إحاطةِ علمِ اللهِ بكلِّ شيءٍ.

وأمَّا إرادةُ اللهِ تعالى فإنَّها كذلكَ لا تُجْبِرُ العبدَ على العملِ، بلْ هيَ آتيةٌ منْ حيثُ أَنَّهُ لا يقعُ في مُلْكِهِ إلاَّ ما يريدُ: أيْ لا يقعُ شيءٌ في الوجودِ جبراً عنهُ. فإذا عملَ العبدُ عملاً ولم يمنعْهُ اللهُ مِنْهُ ولمْ يُرْغِمْهُ عَلَيْهِ، بل تركه يفعل مختاراً،كانَ فعله هذا بإرادة الله تعالى لا جبراً عنه،وكانَ فعلَ العبدِ نفسهِ باختيارِهِ، وكانت الإرادةُ غيرَ مُجْبِرَةٍ على العملِ.

هذهِ هيَ مسألةُ القضاءِ والقدرِ، وهيَ تحملُ الإنسانَ على فعلِ الخيرِ و اجتنابِ الشرِّ حينَ يعلمُ أنَّ اللهَ مُرَاقِبُهُ ومحاسِبُهُ، وأنَّهُ جعلَ لهُ اختيارَ الفعلِ و التركِ، وأنَّهُ إنْ لمْ يُحسِنْ استعمالَ اختيارِ الأفعالِ، كانَ الويلُ لهُ والعذابُ الشديدُ عليهِ، ولذلكَ نجدُ المؤمِنَ الصادقَ المدركَ لحقيقةِ القضاءِ والقدرِ، العارفَ حقيقةَ ما وهبَهُ اللهُ منْ نعمةِ العقلِ والاختيارِ، نجدُهُ شديدَ المراقبةِ للهِ، شديدَ الخوْفِ منَ اللهِ، يعملُ للقيامِ بالأوامرِ الإلهيَّةِ ولاجتنابِ النواهي، خوفاً منْ عذابِ اللهِ وطَمَعاً في جَنَّتِهِ وحُبَّاً في اكتسابِ ما هوَ أكبرُ منْ ذلكَ ألا وهوَ رِضوانُ اللهِ سبحانَهُ وتعالى.

rajaab
03-05-2005, 10:24 PM
القِيادَةُ الفِكْرِيَّةُ في الإسلامِ



تَنْشَأُ بينَ الناسِ كُلَّما انْحَطَّ الفِكرُ رابِطَةُ الوَطَنِ، وذلكَ بِحُكمِ عيشِهِمْ في أرضٍ واحدةِ والتصاقِهِمْ بها، فتأخُذُهُمْ غريزةُ البَقاءِ بالدفاعِ عنِ النفسِ، وتَحْمِلُهُمْ على الدفاعِ عنِ البلدِ الَّذي يَعِيشونَ فيه، والأرضِ الَّتي يعيشونَ عليها، ومنْ هنا تَأْتي الرابطةُ الوطنيَّةُ، وهيَ أقلُّ الروابطِ قُوَّةً وأكثَرُهَا انْخِفاضاً، وهيَ موجودةٌ في الحيوانِ والطيرِ كما هيَ موجودةٌ في الإنسانِ، وتأْخُذُ دائِماً المَظْهَرَ العاطِفِيَّ. وهي تَلْزَمُ في حالةِ اعتداءٍ أَجْنَبِيٍ على الوطنِ بِمُهاجَمَتِهِ أو الاسْتيلاءِ عَلَيْهِ، ولا شأْنَ لها في حالةِ سَلامةِ الوطنِ منَ الاعتداءِ وإذا رُدَّ الأَجْنَبِيُّ عنِ الوطنِ أوْ أُخْرِجَ مِنْهُ انتهَى عملُهَا، ولذلكَ كانتْ رابطةً منخفضةً.

وحينَ يكونُ الفكرُ ضَيِّقَاً تَنْشَأُ بينَ الناسِ رابطةُ القومِيَّةِ، وهيَ الرابطةُ العائليَّةُ ولكنْ بِشَكْلٍ أَوْسَعَ، وذلكَ أنَّ الإنسانَ تَتَأَصَّلُ فيهِ غريزةُ البقاءِ فَيوجِدُ عندَهُ حُبُّ السِيادَةِ، وهيَ في الإنسانِ المُنْخَفِضِ فِكْرِيَّاً فَرْدِيَّةٌ، وإذا نَمَا وَعْيُهُ يَتَّسِعُ حبَّ السِيَادَةِ لَدَيْهِ، فيرى سيادةَ عائِلَتِهِ وأُسْرَتِهِ، ثُمَّ يَتَّسعُ باتِّسَاعِ الأُفُقِ ونُمُوِّ الإدراكِ فيرى سيادةَ قَوْمِهِ في وَطَنِهِ أَوَّلاً ثُمَّ يرى عندَ تَتَحَقَّقُ سيادةُ قومهِ في وطنهِ سيادَتَهُمْ على غيرِهِمْ، ولذلكَ تَنْشَأُ عنْ هذهِ الناحِيَةِ مُخاصماتٌ مَحَلِّيَّةٌ بينَ الأفرادِ في الأُسرةِ على سيادِتِهَا، حتَّى إذا اسْتَقَرَّتْ السيادةُ في هذه الأسرة لأحَدِهَا بانْتِصَارِهِ على غيرِهِ انْتَقَلَتْ إلى مخاصماتٍ بينَ هذهِ الأُسرةِ وبين غيِرهَا منَ الأُسَرِ على السيادةِ، حتَّى تَسْتَقِرَّ السيادةُ على القومِ لأُسرةٍ أَوْ لِمَجْمُوعَةٍ منَ الناسِ منْ أُسَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ تَنْشَأُ المخاصمات بينَ هؤلاءِ القومِ وغيرِهِمْ على السيادةِ والارْتِفَاعِ في مُعْتَرَكِ الحياةِ. ولذلكَ تَغْلُبُ العَصَبِيَّةُ على أصْحابِ هذهِ الرابطةِ، ويَغْلِبُ عليهِمْ الهوى ونُصْرَةِ بَعْضِهِمْ على غيرِهِمْ. ولذلكَ كانتْ رابطةً غيرَ إنْسانِيَّةٍ، وتَظَلُّ هذهِ الرابطةُ عُرْضَةً لِلْمُخاصماتِ الداخِلِيَّةِ إِنْ لمْ تُشْغَلْ عَنْها بالمخاصماتِ الخارجِيَّةِ.

وعلى ذلكَ فالرابطةُ الوطنيَّةُ رابطةٌ فاسِدَةٌ لِثَلاثَةِ أسْبَابٍ : أَوَّلاً-لأنَّها رابطةٌ مُنْخَفِضَةٌ لا تَنْفَعُ لأنْ تَربُطَ الإنسانَ بالإنسانِ حينَ يسيرُ في طريقِ النهوضِ. وثانِياً-لأنَّهَا رابطةٌ عاطفيَّةٌ تنشأُ عنْ غريزةِ البقاءِ بالدفاعِ عنِ النفسِ والرابطةُ العاطفيَّةُ عُرْضَةٌ للتَغَيِيرِ والتبديلِ، فلا تصلُحُ للربطِ الدائمِ بينَ الإنسانِ والإنسانِ. وثالِثَاً-لأنَّهَا رابطةٌ مُؤَقَّتَةٌ تُوجَدُ في حالةِ الدفاعِ، أمَّا في حالةِ الاسْتِقْرارِ -وهيَ الحالةُ الأصْلِيَّةُ لِلإنسانِ- فلا وجودَ لها ولذلكَ لا تصلحُ لأنْ تكونَ رابطةً بينَ بَني الإنسانِ.

وكذلكَ الرابطةُ القوميَّةُ فاسدةٌ لثلاثةِ أسبابٍ : أوَّلاً-لأنَّها رابطةٌ قَبَلِيَّةٌ ولا تصلحُ لأنْ تربُطَ الإنسانَ بالإنسانِ حين يسير في طريقِ النهوضِ. وثانِياً-لأنَّها رابطةٌ عاطفيَّةٌ تنشأُ عنْ غريزةِ البقاءِ، فيوجدُ منْهَا حبُّ السيادةِ. وثالِثَاً-لأنَّهَا رابطةٌ غيُر إنسانِيَّةٌ، إذْ تُسَبِّبُ الخصوماتِ بينَ الناسِ على السيادةِ. ولذلكَ لا تصلحُ لأنْ تكونَ رابطةً بينَ بني الإنسانِ.

ومنَ الروابطِ الفاسدةِ الَّتي قدْ يُتَوَهَّمُ وجودُهَا رابطةً بينَ الناسِ الرابطةُ المَصْلَحِيَّةُ، والرابطةُ الرُوحِيَّةُ الَّتي ليسَ لها نِظامٌ ينبثِقُ عنْهَا. أمَّا الرابطةُ المصلحيَّةُ فهيَ رابطةٌ مُؤَقَّتَةٌ ولا تصلحُ لأنْ تربطَ بني الإنسانِ، لأنَّها عُرْضَةٌ لِلمُساوَمَةِ على مَصَالِحَ أكبرَ مِنْها، فَتَفْقُدُ وجودَهَا في حالةِ تَرْجِيحِ المَصْلَحَةِ. ولأنَّهَا إذا تبايَنَتْ المصلحةُ تنتهي، وتَفْصِلُ الناسَ عنْ بعضِهِمْ ولأنَّها تنتهي حينَ تَتِمُّ هذهِ المصالحُ ولذلكَ كانتْ رابطةً خَطِرَةً على أهلِهَا.

وأمَّا الرابطةُ الرُوحِيَّةُ بلا نظامٍ ينبثقُ عنْهَا، فإنَّهَا تَظْهَرُ في حالةِ التَدَيُّنِ، ولا تَظْهَرُ في مُعْتَرَكِ الحياةِ. ولذلكَ كانتْ رابطةً جُزْئِيَّةً غيرَ عَمَلِيَّةٍ، ولا تصلحُ لأنْ تكونَ رابطةٌ بينَ الناسِ في شُؤُونِ الحياةِ ومنْ هُنَا لمْ تصلحْ العقيدةُ النَصْرانِيَّةُ لأنْ تكونَ رابطةً بينَ الشُعُوبِ الأوروبِّيَّةِ معْ أنَّها كُلَّها تَعْتَنِقُهَا، لأنَّها رابطةٌ روحِيَّةٌ لا نظامَ لها.

ولذلكَ لا تصلحُ جَمِيعُ الروابطِ السابِقَةِ لأنْ تربطَ الإنسانَ بالإنسانِ في الحياةِ حينَ يسيرُ في طريقِ النُهوضِ. والرابطةُ الصَحيحةُ لِرَبْطِ بَنِي الإنسانِ في الحياةِ هيَ رابطةُ العقيدةِ العقليَّةِ الَّتي ينبثقُ عنْها نظامٌ. وهذهِ هيَ الرابطةُ المَبْدَئِيَّةُ.

و المبدأُ عقيدةٌ عقليَّةٌ ينبثقُ عنها نظامٌ. أمَّا العقيدةُ فهيَ فكرةٌ كلِّيَةٌ عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ هذهِ الحياةِ الدُنْيا، وعمَّا بعدَهَا وعنْ علاقَتِهَا بما قبلَهَا وما بعدَهَا. وأمَّا النظامُ المنبثقُ عنْ هذهِ العقيدةِ فهوَ مُعالجاتٌ لمشاكلِ الإنسانِ، وبيانٌ لكيفِيَّةِ تَنْفِيذِ المعالجاتِ، والمحافظةِ على العقيدةِ، وحملِ المبدأِ. فكانَ بيانُ الكيفيَّةِ للتنفيذِ وللمحافظةِ ولحملِ الدعوةِ: طريقةً، وما عدا ذلكَ وهوَ العقيدةُ والمعالجاتُ : فكرةً، ومِنْ هُنا كانَ المبدأُ فِكرةً وطريقةً.

والمبدأُ لا بُدَّ أنْ ينشأَ في ذهنِ الشخصِ، إمَّا بوحيِ اللهِ لَهُ بهِ وأمْرِهِ بتبليغِهِ. وإمَّا بعبقريَّةٍ تُشْرِقُ في ذلكَ الشخصِ. أمَّا المبدأُ الَّذي ينشأُ في ذهنِ الإنسانِ بوحيِ اللهِ لهُ بهِ فهوَ المبدأُ الصحيحُ، لأنَّهُ منْ خالقِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وهوَ اللهُ. فهوَ مبدأٌ قطعيٌّ. وأمَّا المبدأُ الَّذي ينشأ في ذهنِ شخصٍ بعبقريَّةٍ تُشرقُ فيهِ فهوَ مبدأٌ باطلٌ، لأنَّهُ ناشِئٌ عنْ عقلٍ محدودٍ يَعْجَزُ عنِ الإحاطَةِ بالوجودِ، ولأنَّ فهمَ الإنسانِ للتنظيمِ عُرْضَةً للتفاوتِ والإختلافِ والتناقضِ والتأثُّرِ بالبيئَةِ الَّتي يَعيشُ فيها ممَّا يُنْتِجُ النظامَ المتناقِضَ المؤدّي إلى شقاءِ الإنسانِ. ولذلكَ كانَ المبدأُ الَّذي يَنْشَأُ في ذهنِ شخصِ باطِلاً في عقيدَتِهِ وفي نظامِهِ الَّذي يَنْبَثِقُ عَنْهَا.

وعلى ذلكَ كانَ الأساسُ في المبدأِ هوَ الفكرةَ الكُلِّيَةَ عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وكانتْ الطريقَةُ الَّتي تجعلُ المبدأَ موجوداً مُنَفِّذاً في مُعْتَرَكِ الحياةِ أمْراً لازِماً لهذهِ الفكرةِ حتَّى يوجدَ المبدأُ. أمَّا كونُ الفكرةِ الكلِّيَةِ أساساً فَإِنِّها هيَ العقيدةُ، وهيَ القاعدةُ الفكريَّةُ، وهيَ القيادةُ الفكريَّةُ، وعلى أساسِهَا يَتَعَيَّنُ اتِّجَاهُ الإنسانِ الفكرِيُّ ووِجْهَةُ نظرِهِ في الحياةِ، وعليْها تُبْنَى جميعُ الأفكارِ، وعنْها تنبثقُ جميعُ معالجاتِ مشاكلِ الحياةِ، وأمَّا كونُ الطريقةِ أمْراً لازِماً، فإنَّ النظامَ الَّذي ينبثقُ عنِ العقيدةِ إذا لمْ يتضمَّنْ بَيَانَ كيفِيَّةِ التنفيذِ للمعالجاتِ، وبيانَ كيفيَّةِ المحافظةِ على العقيدةِ، وبيانَ كيفيَّةِ حملِ الدعوةِ للمبدأِ، كانتْ الفكرةُ فلسفةً خَيَالِيَّةً فَرْضِيَّةً تَبْقَى في بُطونِ الكتبِ مُسَجَّلَةً دونَ أنْ يكونَ لها أثرٌ في الحياةِ الدنيا. ولذلكَ كانَ لا بُدَّ منَ العقيدةِ، ولا بُدَّ منْ معالجاتِ المشاكلِ، ولا بُدَّ منَ الطريقةِ، حتَّى يكونَ المبدأُ. على أنَّ مجرَّدَ وجودِ الفكرةِ والطريقةِ في العقيدةِ الَّتي ينبثقُ عنْهَا نظامٌ لا يدلُّ على أنَّ المبدأَ صحيحٌ، بلْ يَدُلُّ فقطْ على أنَّ هذا يكونُ مبدأً، ولا يدلُّ على غيرِ ذلكَ. والَّذي يدلُّ على صِحَّةِ المبدأِ أوْ بُطْلانِهِ هوَ عقيدةُ المبدأِ منْ حيثُ كونِهَا صحيحةً أوْ باطلةً، لأنَّ هذهِ العقيدةَ هيَ القاعدةُ الفكريَّةُ الَّتي يَنْبَنِي عليْهَا كلُّ فكرٍ، والَّتي تُعَيِّنُ كلَّ وجهةِ نَظَرٍ، والَّتي تنبثِقُ عنها كلُّ معالجةٍ، وكلُّ طريقةٍ. فإذا كانَتْ هذهِ القاعدةُ الفكريَّةُ صحيحةً كانَ المبدأُ صحيحاً، وإذا كانتْ باطلةً كانَ المبدأ باطلاً منْ أساسِهِ.

والقاعدةُ الفكريَّةُ إذا اتَّفَقَتْ معَ فِطْرَةِ الإنسانِ، وكانتْ مَبْنِيَّةً على العقلِ، فهيَ قاعدةٌ صحيحةٌ، وإذا خالفتْ فطرةَ الإنسانِ، أوْ لمْ تَكُنْ مبنيَّةً على العقلِ، فهيَ قاعدةٌ باطلةٌ. ومعنى اتِّفاقِ القاعدةِ الفكريَّةِ معَ فطرةِ الإنسانِ كونُها تُقَرِّرُ ما في فطرةِ الإنسانِ منْ عَجْزٍ واحتياجٍ إلى الخالقِ المدبِّرِ، وبعبارةٍ أخرى، توافقُ غريزةَ التديِّنِ. ومعنى كونِها مبنيَّةً على العقلِ أنْ لا تكونَ مبنيَّةً على المادَّةِ، أوْ على الحلِّ الوسطِ.

وإذا استعرضنا العالَم كلَّهُ الآنَ لا نجدُ فيهِ إلاَّ ثلاثةَ مَبَادِئَ هيَ : الرَأْسِمَالِيَّةُ، والاشْتِرَاكِيَّةُ ومِنْها الشُيُوعِيَّةُ، والمبدأُ الثالثُ هوَ الإسلامُ. والمبدآنِ الأوَّلانِ تحملُ كلَّ واحدٍ منهمَا دولةٌ أوْ دُوَلٌ، والمبدأُ الثالثُ لا تحمِلُهُ دولةٌ، وإنمَّا يحملهُ أفرادٌ في شعوبٍ، ولكنَّهُ موجودٌ عالمِيَّاً في الكرةِ الأرْضيَّةِ.

أمَّا الرأسماليةُ فإنَّها تقومُ على أساسِ فَصْلِ الدينِ عنِ الحياةِ، وهذهِ الفكرةُ هيَ عقيدَتُهَا، وهيَ قِيَادَتُها الفكريَّةُ، وهيَ قاعدَتُهَا الفكريَّةُ، وبناءً على هذهِ القاعدةِ الفكريَّةِ كانَ الإنسانُ هوَ الَّذي يَضعُ نظامَهُ في الحياةِ، وكانَ لا بُدَّ منَ المحافظةِ على الحُرِّيَاتِ للإنسانِ، وهيَ حُرِّيةُ العقيدةِ، وحرِّيةُ الرَأْيِ، وحرِّيةُ المُلْكِيَّةِ، والحرِّيَةُ الشخصيَّةُ، وقدْ نتجَ عنْ حُرِّيَةِ المِلْكِيَّةِ النظامُ الاقتصاديُّ الرأسمالُّي، فكانتْ الرأسماليةُ هي أَبْرَزُ ما في هذا المبدأِ، وأبرزَ ما نتجَ عنْ عقيدةِ هذا المبدأِ، لذلكَ أُطْلِقَ على هذا المبدأِ أنَّهُ المبدأُ الرأسماليُّ، مِنْ بابِ تَسْمِيَةِ الشيءِ بأبرز ما فيهِ.

وأمَّا الدِيمُقْرَاطِيّةُ الَّتي أَخَذَ بها هذا المبدأُ فهيَ آتِيَةٌ منْ جهةِ أنَّ الإنسانَ هوَ الَّذي يضعُ نظامَهُ، ولذلكَ كانتْ الأمَّةُ هيَ مصدرُ السلطاتِ، فهيَ الَّتي تضعُ الأنظمةَ، وهيَ الَّتي تستأْجِرُ الحاكمَ لِيحكُمَهَا، وتنزعُ هذا الحكمَ منهُ متى أرادَتْ، وتضعُ لهُ النظامَ الَّذي تُرِيدُ، لأنَّ الحكمَ عقدُ إجارةٍ بينَ الشعبِ والحاكمِ لِيَحْكُمَ بالنظامِ الَّذي يضعهُ له الشعبُ لِيحكمَهُ بهِ.

والديمقراطيةُ وإنْ كانتْ منَ المبدأِ لكنها ليستْ أبرزَ مِنَ النظامِ الاقتصاديِّ فيهِ، بدليلِ أنَّ النظامَ الرأسماليَّ في الغربِ يُؤَثِّرُ على الحكمِ، ويجعلُهُ خاضِعاً لأصحابِ رؤوسِ الأموالِ، حتَّى ليَكادَ يكونُ الرأسماليِّونَ الحكَّامَ الحقيقيِّينَ في البلادِ الَّتي تعتنقُ المبدأَ الرأسمالِيَّ. وعلاوةً على ذلكَ فليستْ الديمقراطيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بهذا المبدأِ، فإنَّ الشيوعيِّينَ أيضاً يَدَّعُونَ الديمقراطيَّةَ ويقولونَ بِجَعْلِ الحكمِ للأمَّةِ. ولذلكَ كانَ منَ الادقِّ أنْ يُطْلَقَ على هذا المبدأِ بأنَّهُ المبدأُ الرأسماليُّ.

الأصلُ في نشوءِ هذا المبدأِ أنَّ القياصِرَةَ والملوكَ في أورُوبَّا ورُوسيا كانوا يتَّخِذونَ الدينَ وسيلةً لاسْتِغْلالِ الشعوبِ،وظلمها، ومَصِّ دِمَائِهَا، وكانوا يتَّخِذونَ رجالَ الدينِ مَطِيَّةً لذلكَ. فنشأَ عنْ هذا صِرَاعٌ رَهيبٌ قامَ أَثْنَاءَهُ فَلاسِفَةٌ ومفكِّرونَ مِنْهمْ منْ أنكرَ الدينَ مُطْلَقَاً، ومِنْهُمْ منْ اعْتَرَفَ بالدينِ ولَكِنَّهُ نادَى بِفَصْلِهِ عنِ الحياةِ. حتَّى استقر الرأيُ عِنْدَ جَمْهَرَةِ الفلاسفةِ والمفكِّرينَ على فكرةٍ واحدةٍ هيَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ، ونتجَ عنْ ذلكَ طبيعيَّاً فصلُ الدينِ عنِ الدولةِ. واستقرَّ الرأْيُ على عدمِ البحثِ في الدينِ منْ ناحيةِ إنْكارِهِ أوْ الاعترافِ بِهِ، وحَصْرِ البحثِ في أنَّهُ يجبُ أنْ يُفصَلَ الدينُ عنِ الحياةِ. وتُعْتَبَرْ هذهِ الفكرةُ حلاً وسطاً بينَ رجالِ الدينِ الَّذينَ يُريدونَ أنْ يكونَ كلُّ شيءٍ خاضِعاً لهمْ باسْمِ الدينِ، وبينَ الفلاسفةِ والمفكِّرينَ الَّذينَ يُنْكِرونَ الدينَ وسُلْطَةِ رجالِ الدينِ، فهيَ لمْ تنكرْ الدينَ، ولمْ تجعلْ لهُ دَخَلاً في الحياةِ، وإنَّما فَصَلَتْهُ عنِ الحياةِ، فكانتْ العقيدةُ الَّتي اعْتَنَقَهَا الغربُ قاطِبَةً هيَ هذا الفصلُ لِلْدينِ عنِ الحياةِ، وكانتْ هذهِ العقيدةُ هيَ الَّتي تُبْنَى عليْهَا جميعُ الأفكارِ، ويَتَعَيَّنُ على أساسِهَا الاتِّجَاهُ الفِكْرِيُّ لِلإنسانِ وَوِجْهَةُ نظرِهِ في الحياةِ، وعلى أساسها تُعالَجُ جميعُ مشاكلِ الحياةِ، وهيَ القيادةُ الفكريَّةُ الَّتي يحمِلُهَا الغربُ ويَدْعو العالمَ إلَيْهَا.

وعقيدةُ فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ اعْتِرَافٌ ضِمْنِيٌّ بِأنَّهُ يوجدُ شيءٌ يُسَمَّى الدينَ، أيْ يوجدُ خالقٌ للكونِ والإنسانِ والحياةِ، ويوجَدُ يومُ البعثِ، لأنَّ هذا هوَ أصْلُ الدينِ منْ حيثُ هوَ دينٌ، وهذا الاعترافُ هوَ إعطاءُ فكرةٍ عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ الحياةِ، وعمَّا بعدَهَا، لأنَّها لمْ تَنْفِ وجودَ الدينِ. بلْ إنَّها حيَن أعْطَتْ فكرةَ فصلِهِ، اعْتَرَفَتْ بوجودِهِ ضِمْنَاً فتكونَ قدْ أثْبَتَتْ وجودَ الدينِ وأعطتْ فكرةً بأنَّهُ لا علاقةَ لهذهِ الحياةِ بما قبلَهَا وما بعدَهَا حينَ قالتْ بفصلِ الدينِ عنِ الحياةِ وأنَّ الدينَ صِلَةٌ بينَ الفردِ وخالِقِهِ فَقَطْ. وبهذا تكونُ عقيدةُ (فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ) بِمَفْهُومِهَا الشامِلِ فكرةً كُلِّيَّةً عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، ومنْ هُنَا كانَ المبدأُ الرأسماليُّ على الوجهِ الَّذي بَيَّنَّاهُ مبدأً كباقي المبادئِ.

وأمَّا الاشتراكيَّةُ ومِنْهَا الشيوعِيَّةُ فهيَ ترى أنَّ الكونَ والإنسانَ والحياةَ مادَّةٌ فقطْ، وأنَّ المادةَ هيَ أصْلُ الأشياءِ، ومنْ تَطَوُّرِهَا صارَ وجودُ الأشياءِ، ولا يوجدُ وراءَ هذهِ المادَّةِ شيءٌ مطلقاً، وأنَّ هذهِ المادَّةُ أزلِيَّةٌ قديمةٌ لمْ يوجِدْهَا أحدٌ، أيْ أنَّها واجبةُ الوجودِ، ولذلكَ يُنْكِرُونَ كون الأشياءَ مخلوقةٌ لخالقٍ، أيْ يُنكرونَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الأشياءِ ويَعْتَبِرُونَ الاعْتِرَافَ بوجودِهَا خَطَراً على الحياةِ، ولذلكَ يعتبرونَ الدينَ أفْيُونَ الشعوبِ الَّتي يُخَدِّرُهَا، ويمنَعُهَا منَ العملِ. ولا وجودَ عندَهُمْ لِشيءٍ سِوى المادَّةِ، حتَّى الفِكْرَ إنَّما هوَ انْعِكَاسُ المادَّةِ على الدِمَاغِ، وعليهِ فالمادَّةُ أصْلُ الفكرِ، وأصلُ كُلِّ شيءٍ، ومنْ تَطَوُّرِهَا المادِّيُّ توجدُ الأشياءُ. وعلى هذا فَهُمْ يُنْكِرونَ وجودَ الخالقِ، ويَعْتَبِرُونَ المادَّةَ أَزَلِيَّةً، فَهُمْ يُنْكِرونَ ما قبلَ الحياةِ وما بَعْدَهَا، ولا يَعْتَرِفُونَ إلاَّ بالحياةِ فقطْ.

ومعْ اخْتِلافِ هَذَيْنِ المَبْدَأَيْنِ في النَظْرةِ الأسَاسِيَّةِ إلى الإنسانِ والكونِ والحياةِ، فَإنهُمَا يَتَّفِقَانِ في أنَّ المُثُلَ العُلْيا لِلإنسانِ هيَ القِيَمُ العُلْيا الَّتي يَضَعُهَا الإنسانُ نَفْسُهُ، وأنَّ السَعَادَةَ هيَ الأخْذُ بأكْبَرِ نَصِيبٍ منَ المُتَعِ الجَسَدِيَّةِ، لأنَّها في نَظَرِهِمَا هيَ الوسيلةُ إلى السعادةِ، بلْ هيَ السعادةُ. ومُتَّفِقَانِ معاً على إعْطاءِ الإنسانِ حُرِّيَّتَهُ الشخصيَّةُ يَتَصَرَّفُ بما يشاءُ وعلى نَحْوِ ما يُريدُ، ما دامَ يرى في هذا التصرُّفِ سعادَتَهُ. ولذلكَ كانَ السلوكُ الشخصيُّ أوْ الحُرِّيَةُ الشخصيَّةُ بعضَ ما يُقَدِّسُهُ هذانِ المَبْدَآنِ.

ويَخْتَلِفُ هذانِ المبدآنِ في النظرةِ إلى الفردِ والمجتمعِ، فالرأسماليَّةُ مبدأٌ فَرْدِيٌّ، يَرَى أنَّ المجتمعَ مُكَوَّنٌ منْ أفرادٍ، ولا ينظرُ لِلمجتمعِ إلا نظرةً ثانَوِيَّةً، ويَخُصُّ نَظْرَتَهُ بالفردِ، ولذلكَ يجبُ أنْ تُضْمَنَ الحُرِّياتُ للفردِ. ولِضمانِ الحريَّةِ لهُ يعملُ أيُّ فردٍ للمجتمعِ، ومنْ هنا كانتْ حريَّةُ العقيدةِ بعضَ ما تقدِّسُهُ، وكانتْ الحريَّةُ الاقْتِصَادِيَّةُ مُقَدَّسَةً أيضاً، ولا تُقَيَّدُ بِناءً على فَلْسَفَتِهَا، وإنَّمَا تُقَيَّدُ منْ قبلِ الدولةِ لضمانِ الحرِّياتِ، وتُنَفِّذُ الدولةُ هذا التَقْييدَ بِقُوَّةِ الجُنْدِيِّ وصَرَامَةِ القانونِ. إلاَّ أنَّ الدولةَ هيَ الوَسِيلةُ، وليستْ غايةً، ولذلكَ كانتْ السيادةُ نِهائِيَّاً لِلأفرادِ لا للدولةِ. ولذلكَ كانَ المبدأُ الرأسماليُّ يحمِلُ قيادةً فكريَّةً هيَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ، وعلى أساسِهَا يحكمُ بأنْظِمَتِهِ، ويَدْعُو لها، ويحاوِلُ أنْ يُطَبِّقُهَا في كُلِّ مكانٍ.

وأمَّا الاشتراكيَّةُ -ومِنها الشُيوعيَّةُ- فهي مبدأٌ يرى أنَّ المجتمعَ مجموعةٌ عامَّةٌ تتألَّفُ منَ البشرِ وعلاقاتِهِمْ بالطَبِيعَةِ، تلكَ العلاقاتُ المَحْتُومَةُ المُحَدَّدَةُ الَّتي يخضَعونَ لها خُضوعاً حَتْمِيَّاً وآلِيَّاً. وهذهِ المجموعةُ كُلُّهَا شَيْءٌ واحدٌ، الطبيعةُ، والإنسانُ، والعلاقاتُ، كلُّها شيءٌ واحدٌ، لا أجزاءٌ منفصلٌ بعضُها عنْ بعضٍ، فالإنسانُ تُعْتَبَرُ الطبيعةُجانِباً منْ شخصيَّتِهِ، وهيَ الجانبُ الَّذي يحمِلُهُ في ذاتِهِ، ولذلكَ لا يتطوَّرُ الإنسانُ إلاَّ وهوَ مُعَلَّقٌ بهذا الجانبِ منْ شخصِيَّتِهِ وهوَ الطبيعةُ، لأنَّ صلتَهُ بالطبيعةِ صلةُ الشيءِ بنفسِهِ، ولذلكَ يُعتبرُ المجتمعُ مجموعةً واحدةً تتطوَّرُ كلُّها معاً تطوُّراواحداً، ويدورُ الفردُ تَبْعاً لذلكَ كما يدورُ السِنُّ في الدولابِ. ولذلكَ لمْ تكنْ عندَهُمْ حريَّةُ عقيدةٍ للفردِ، ولا حريَّةٌ اقتصاديَّةٌ. فالعقيدةُ مقيَّدةٌ بما تُرِيدُهُ الدولةُ، والاقتصادُ مقيَّدٌ بما تريدُهُ الدولةُ، ولهذا كانتْ الدولةُ أيْضَاً بعضُ ما يُقَدِّسُهُ المبدأُ. وعنْ هذهِ الفلسفةِ المادِّيَّةِ انبثقتْ أنظمةُ الحياةِ، وجُعِلَ النظامُ الاقتصاديُّ هوَ الأساسُ الأوَّلُ، وهوَ المظهرُ العامُّ لجميعِ الأنظمةِ.

ولذلكَ كانَ المبدأُ الاشتراكيُّ ومنهُ الشيوعيُّ يحملُ قيادةً فكريَّةً، هيَ المادِّيَّةُ والتطوُّرُ المادِّيُّ، وعلى أساسِهَا يحكُمُ بأنظِمَتِهِ، ويدعو لها، ويحاوِلُ أنْ يُطَبِّقَهَا في كلِّ مكانٍ.

وأمَّا الإسلامُ فهوَ يبيِّنُ أنَّ وراءَ الكونِ والحياةِ والإنسانِ خالقاً خلقَهَا هو اللهُ تعالى، ولذلكَ كانَ أساسُهُ الاعتقادُ بوجودِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وكانتْ هذهِ العقيدةُ هيَ الَّتي عَيَّنَتْ الناحيةَ الروحيَّةَ، ألا وهيَ كونُ الإنسانِ والحياةِ والكونِ مخلوقةٌ لخالقٍ، ومنْ هنا كانتْ صلةُ الكونِ بوصفِهِ مخلوقاً، باللهِ الخالقِ. هيَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الكونِ. وصلةُ الحياةِ المخلوقةِ، باللهِ الخالقِ، هيَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الحياةِ. وصلةُ الإنسانِ المخلوقِ، باللهِ الخالقِ، هيَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الإنسانِ، ومنْ هنا كانتْ الروحُ هيَ إدراكُ الإنسانِ لصلتِهِ باللهِ تعالى.

والإيمانُ باللهِ يجبُ أنْ يقترِنَ بالإيمانِ بِنُبُوَّةِ محمَّدٍ ورسالتِهِ، وبأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، فيجبُ الإيمانُ بكلِّ ما جاءَ بِهِ. ولهذا كانتْ العقيدةُ الإسلاميَّةُ تَقْضِي بأنَّهُ يوجدُ قبلَ الحياةِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ وهوَ اللهُ، وتقضي بالإيمانِ بما بعدَ الحياةِ، وهوَ يومُ القيامةِ، وبأنَّ الإنسانَ في هذهِ الحياة الدنيا مُقَيَّدٌ بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ، وهذهِ هيَ صلةُ الحياةِ بما قبلهَا، ومقيَّدٌ بالمحاسبةِ على إتِّبَاعِ هذهِ الأوامرَ واجتنابِ هذهِ النواهي، وهذهِ هيَ صلةُ الحياةِ بما بعدَهَا، ولذلكَ كانَ حتْماً على المسلمِ أنْ يُدرِكَ صِلَتَهَ باللهِ حينَ القيامِ بالأعمالِ، فَيُسَيِّرَ أعمالَهُ بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ وكانَ ذلكَ هوَ معنى مزجِ المادَّةِ بالروحِ والغايةُ منْ تسييرها بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ هيَ رِضْوانُ اللهِ. والغايةُ المقصودةُ منَ القيامِ بهَا هيَ القيمةُ الَّتي يُحَقِّقُهَا العملُ.

ولذلكَ لمْ تكنْ الأهدافُ العليا لصيانةِ المجتمعِ، منْ وضعِ الإنسانِ بلْ هيَ منْ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ، وهيَ ثابتةٌ لا تتغيَّرُ ولا تتطوَّرُ، فالمحافظةُ على نوعِ الإنسانِ، وعلى العقلِ، وعلى الكرامةِ الإنسانيَّةِ، وعلى نفسِ الإنسانِ، وعلى المِلْكِيَّةِ الفرديَّةِ، وعلى الدينِ وعلى الأمْنِ، وعلى الدولةِ، أهدافٌ عُلْيا ثابتةٌ لصيانةِ المجتمعِ، لا يَلْحَقُهَا التغييرُ ولا التطوُّرُ، وَوَضَعَ للمحافظةِ عليها عقوباتٍ صارمةً، فوضعَ الحدودَ والعقوباتِ للمُحافظةِ على هذهِ الأهدافِ الثابتةِ، ولذلكَ يعتبرُ القيامُ بالمحافظةِ على هذهِ الأهدافِ واجِباً، لأنَّها أوامرُ ونواهٍ منَ اللهِ، لا لأنَّها تُحَقِّقُ قِيَماً ماديَّةً. وهكذا يقومُ المسلمُ وتقومُ الدولةُ بكافَّةِ الأعمالِ حَسَبَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ لأنَّها هيَ الَّتي تُنَظِّمُ شؤونَ الإنسانِ كُلَّهَا، والقيامُ بالأعمالِ حَسَبَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ هوَ الَّذي يجعلُ الطُمَأْنِينَةَ عندَ المسلمِ. ومنْ هنا كانتْ السعادةُ ليستْ إشباعَ الجَسَدِ وإعطاءَهُ مُتَعَهُ، بلْ هيَ إرضاءُ اللهِ سبحانَهُ وتعالى.

أمَّا الحاجاتُ العضويَّةُ والغرائِزُ فقدْ نَظَّمَهَا الإسلامُ تنظيماً يضمنُ إشباعَ جميعِ جَوْعَاتِهَا، منْ جوعةِ مَعِدَةِ، أوْ جوعةِ نَوْعِ، أوْ جَوْعَةٍ رُوحيَّةٍ، أوْ غيرِ ذلكَ. لكنْ لا بإشباعِ بعضِهَا على حسابِ بعضٍ، ولا بِكَبْتِ بعضِهَا وإطلاقِ بعض، ولا بإطلاقِها جميعِهَا، بلْ نَسَّقَهَا جميعَهَا و أشْبَعَهَا جميعَهَا بنظامٍ دقيقٍ، ممَّا يُهَيِّءُ للإنسانِ الهناءةَ والرَفَاهَ، ويحولُ بينَهُ وبينَ الإنْتِكَاسِ إلى دَرَكِ الحيوانِ بِفَوْضَوِيَّةِ الغرائزِ.

rajaab
03-05-2005, 10:31 PM
ولضمانِ هذا التنظيمِ، يَنظرُ الإسلامُ للجماعةِ باعتبارِهَا كُلاً غيرَ مُجَزَّأٍ، وينظُرُ للفردِ باعتبارِهِ جُزْءَاً منْ هذهِ الجماعةِ غيرَ منفصلٍ عنْها. ولكِنَّ كونَهُ جُزْءاً منَ الجماعةِ لا يعني أنَّ جُزْئِيَّتَهُ هذهِ كَجُزْئِيَّةِ السِنِّ في الدولابِ، بلْ يعني أنَّهُ جُزْءٌ منْ كُلٍّ، كما أنَّ اليدَ جزءٌ منَ الجِسْمِ، ولذلكَ عُنِيَ الإسلامُ بهذا الفردِ بوصفِهِ جُزْءَاً منَ الجماعةِ، لا فرداً منفصلاً عنهَا، بحيثُ تُؤَدِّي هذهِ العنايةُ للمحافظةِ على الجماعةِ، وعُنِيَ في نفسِ الوقتِ بالجماعةِ لا بوصفِهَا كلاً ليسَ لهُ أجزاءٌ بلْ بوصفِهَا كلاً مُكَوَّنَاً منْ أجزاءٍ همْ الأفرادُ بحيثُ تُؤَدِّي هذهِ العنايةُ إلى المحافظةِ على هؤلاءِ الأفرادِ كأجزاءٍ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسَلَّمَ (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُوْدِ اللهِ والوَاقِعِ فِيْهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ إسْتَهَمُوا عَلَى سَفِيْنَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوْا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوْا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيْبِنَا خَرْقَاً ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوْهُمْ وَمَا أَرَادُوْا هَلَكُوْا جَمِيْعَاً، وَإِنْ أَخَذُوْا عَلَى أَيْدِيْهِمْ نَجُوا ونَجُوا جَمِيْعَاً).
وهذهِ النَظْرَةُ للجماعةِ والفردِ هيَ الَّتي تجعلُ للمجتمعِ مفهوماً خاصَّاً، لأنَّ هؤلاءِ الأفرادِ وهمْ أجزاءٌ منَ الجماعةِ لا بُدَّ أنْ تكونَ لديهِمْ أفكارٌ تَرْبِطُهُمْ، يعيشونَ حَسَبَهَا، وأنْ يكونَ لهمْ مشاعرٌ واحدةٌ يتأثَّرونَ بها ويندفِعُونَ بحسَبِهَا، وأنْ يكونَ لهمْ نظامٌ واحدٌ يعالِجُ مشاكلَ حياتهِمْ جميعَهَا. ومنْ هنا كانَ المجتمعُ مُؤَلَّفَاً منَ الإنسانِ والأفكارِ والمشاعرِ والأنظمةِ. وكان الإنسان مُقَيَّداً في الحياة بهذه الأفكار والمشاعرِ والأنظمة. ولذلك كانَ المسلمُ في الحياةِ مُقَيَّدَاً في كلِّ شيءٍ بالإسلامِ وليسَ لهُ حرِّيَّاتٌ مُطْلَقَاً. فالعقيدةُ للمسلمِ مقيَّدةٌ بحدودِ الإسلامِ وليستْ مُطْلَقَةً. ولذلكَ يُعْتَبَرُ إرتدَادُهُ جريمةً كبرى يستحق عليها القتلُ إنْ لمْ يرجعْ. والناحيةُ الشخصيَّةُ مقيَّدةٌ بنظامِ الإسلامِ، ولذلكَ كانَ الزِنَا جريمةً يُعاقَبُ عليْهَا، دونَ رَأْفَةٍ معَ التشهيرِ {وَلِيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ{، وكانَ شُرْبُ الخَمْرِ جريمةً يُعاقبُ عليها، وكانَ الإعْتِدَاءُ على آخَرِينَ جريمةً تَخْتَلِفُ بإِخْتِلافِ هذا الإعتداءِ منْ قَذْفٍ أَوْ قتلٍ أوْ ما شابَهَ ذلكَ، والناحيةُ الاقتصاديَّةُ مقيَّدةٌ بالشَرْعِ، وبالأسْبَابِ الَّتي أباحَ للفردِ التَمَلُّكَ بهَا، وبحَقِيقَةِ هذهِ المِلْكِيَّةِ الفرديةِ من أنَّهَا إِذْنُ الشَارِعِ بالإنْتِفَاعِ بالعَيْنِ. وكانَ الخروجُ عنْ هذهِ القُيُودِ جريمةً تختلفُ بإختلافِ نَوْعِ هذا الخروجِ منْ سِرْقَةٍ أوْ نَهْبٍ أوْ ما شاكَلَ ذلكَ. ولهذا كانَ لا بُدَّ منَ الدولةِ الَّتي تَحْفَظُ هذهِ الجماعةَ وهذا الفردَ، وتُطَبِّقُ النظامَ على المجتمعِ، وكانَ لا بُدَّ منْ تَأْثِيرِ المبدأِ في مُعْتَنقِهِ لِيكونَ الحِفْظُ طبيعيَّاً آتِياً منْ قبلِ الناسِ أنْفُسِهِمْ. ولذلكَ كانَ المبدأُ هوَ الَّذي يُقَيِّدُ ويحفظُ، والدولةُ هيَ المُنَفِّذَةُ. ولهذا كانتْ السِيادةُ للشرعِ وليستْ للدولةِ ولا لِلأُمَّةِ، وإنْ كانتْ السُلْطَةُ للأمَّةِ ومَظْهَرُهَا في الدولةِ، ومنْ هنا كانتْ طريقةُ تنفيذِ النظامِ هيَ الدولةُ وإنْ كانَ الإعتمادُ على تَقْوَى اللهِ في الفردِ المؤمنِ لِيَقُومَ بأحكامِ الإسلامِ. وعليهِ كانَ لا بُدَّ منْ التشريعِ الَّذي تُنَفِّذُهُ الدولةُ، والتَوْجِيهِ للفردِ المؤمنِ لِيُنَفِّذَ الإسلامَ بدافعِ تقوى اللهِ. ومنْ هنا كانَ الإسلامُ عقيدةً وأنظمةً، وكانَ مبدأُ الإسلامِ فكرةً وطريقةً منْ جِنْسِ هذهِ الفكرةِ، وكانَ نظامُهُ منبثقاً عنْ عقيدَتِهِ، وكانتْ حضارَتُهُ طِرَازَاً معيَّناً في الحياةِ. وكانتْ طريقَتُهُ في حَمْلِ الدعوةِ أنْ يُطَبَّقَ منْ قبلِ الدولةِ، وأنْ يحملَ قيادةً فكريَّةً إلى العالمِ، تكونُ هيَ الأساسُ لِفَهْمِ نظامِ الإسلامِ والعملِ بهِ، وكانَ العملُ بهِ في الجماعةِ الَّتي تحكُمُ بنظامِ الإسلامِ، نشْراً للدعوةِ الإسلاميَّةِ، لأنَّ تطبيقَ نظامِ الإسلامِ على غيرِ المسلمينَ منَ الناسِ يعتبرُ منَ الطريقةِ العمليَّةِ للدعوةِ، فقدْ كانَ لهذا التطبيقِ الأثرُ الأكبرُ في إيجادِ هذا العالمِ الإسلاميِّ المُتَرَامِي الأطْرَافِ.

والحاصِلُ أنَّ المبادئَ الموجودةَ في العالمِ ثلاثة هيَ الرأسماليَّةُ، والإشتراكيَّةُ ومنْها الشيوعيَّةُ، والمبدأُ الثالثُ هوَ الإسلامُ، ولكلِّ واحدٍ منْ هذهِ المبادئِ عقيدةٌ تنبثقُ عنْهَا أنْظِمَتَهُ، ولهُ مِقْيَاسٌ لأعمالِ الإنسانِ في الحياةِ، ونظرةٌ خاصَّةٌ للمجتمعِ، وطريقةٌ لتنفيذِ النظامِ.

أمَّا منْ حيثُ العقيدةُ فالمبدأُ الشيوعيُّ يَرَى أنَّ المادَّةَ أصْلُ الأشياءِ، وأنَّ جميعَ الأشياءِ تَصْدرُ عنْهَا بطَرِيقِ التَطَوُّرِ المَادِّيِّ. والمبدأُ الرأسماليُّ يرى أنَّهُ يجبُ أنْ يُفْصَلَ الدينُ عنِ الحياةِ، ويَنْتُجُ عنْ ذلكَ فصلُ الدينِ عنِ الدولةِ، فالرأسماليُّونَ لا يُريدونَ أنْ يَبْحَثُوا هلْ هناكَ خالقٌ أمْ لا، وإنَّمَا يبحثونَ أنَّهُ لادَخْلَ للخالقِ في الحياةِ، سَوَاءٌ أُعْتُرِفَ بوجودِهِ أمْ أُنْكِرَ، ولذلكَ يستوي عندَهُمْ المُعْتَرِفُ بوجودِ الخالقِ والمُنْكِرُ لهُ في عقيدتِهِمْ، وهيَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ.

وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ اللهَ هوَ خالقُ الوجودِ، وأنَّهُ أرسلَ الأنْبِيَاءَ والرُسُلَ بدينِهِ لِبَني الإنسانِ، وأنَّهُ سَيُحَاسَبُ الإنسانُ يومَ القيامةِ على أعمالِهِ ولذلكَ كانتْ عقيدتُهُ الإيمانَ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخِرِ وبالقضاءِ والقدرِ خَيْرِهِمَا وشَرِّهِمَا منَ اللهِ.أشياءأأتاتنيابتنايت

وأمَّا منْ حيثُ كيفيَّةِ إنْبِثَاقِ النظامِ عنِ العقيدةِ فالمبدأُ الشيوعيُّ يرى أنَّ النظامَ يُؤْخَذُ منْ أدواتِ الإنْتَاجِ، لأنَّ المجتمعَ الإقطاعِيَّ مثلاً تكونُ الفَأْسُ فيهِ هيَ أداةُ الإنتاجِ، ومنها يُؤْخَذُ نظامُ الإقطاعُ، فإذا تطوَّرَ المجتمعُ إلى الرأسماليَّةِ تُصْبِحُ الآلةُ هيَ أداةُ الإنتاجِ. ولذلكَ يُؤْخَذُ النظامُ الرأسماليُّ منهَا، فنِظَامُهُ مَأْخُوذٌ منْ التطوُّرِ المادِّيِّ. وأمَّا المبدأُ الرأسماليُّ فيرى أنَّ الإنسانَ حينَ فصلَ الدينَ عنِ الحياةِ صارَ لا بُدَّ لهُ أنْ يضعَ نظاماً لنفسِهِ منَ الحياةِ ذاتِهَا،فصارَ يأخُذُ نظامَهُ منْ واقعِهِ يَضَعُهُ بِنَفْسِهِ. وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ اللهَ جعلَ لهُ نِظاماً في الحياةِ يسيرُ عليهِ، وأرسلَ سَيِّدَنَا محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ بهذا النظامِ وبَلَّغَهُ إيَّاهُ، فيجبُ أنْ يسيرَ عليهِ، ولذلكَ هوَ يَدْرُسُ المُشْكِلَةَ ويَسْتَنْبِطُ حَلَّهَا منَ الكتابِ والسُنَّةِ.

وأمَّا منْ حيثُ مقياسِ الأعمالِ في الحياةِ فالمبدأُ الشيوعيُّ يرى أنَّ المادِّيَّةَ أيْ النظامَ المادِّيَّ هوَ المِقْيَاسُ في الحياةِ، وبِتَطَوُّرِهِ يَتَطَوَّرُ المِقْياس، والمبدأُ الرأسماليُّ يرى أنَّ مقياسَ الأعمالِ في الحياةِ هوَ النفعيَّةُ، وحسبَ هذه النفعيَّةِ تُقاسُ الأعمالُ ويُقامُ بهَا على هذا الأساسِ. والإسلامُ يرى أنَّ مقياسَ الأعمالِ في الحياةِ هوَ الحلالُ والحرامُ، أيْ أوامرُ اللهِ ونواهيهِ، فالحلالُ يُعْمَلُ، والحرامُ يُتْرَكُ، ولا يَتَطَوَّرُ ذلكَ ولا يَتَغَيَّرُ. ولا تحكمُ فيه النفعيَّةُ، بلْ يحكمُ الشرعُ فقطْ.

وأمَّا منْ حيثُ النظرةُ للمجتمعِ فالمبدأُ الشيوعيُّ يرى أنَّ المجتمعَ مجموعةٌ عامَّةٌ، منهَا الأرضُ، وأدواتُ الإنتاجِ، والطبيعةُ، والإنسانُ، بإعتِبَارِهَا شيئاً واحداً هو المادَّةُ، وحينَ تَتَطَوَّرُ الطبيعةُ وما فيها يتطوَّرُ معها الإنسانُ، فيتطوَّرُ المجتمعُ كلُّهُ، ولذلكَ كانَ المجتمعُ خاضِعاً للتطوَّرِ المادِّيِّ، وما على الإنسانِ إلاَّ أنْ يُوجِدَ التناقضاتُ لِيُعَجِّلَ هذا التطوُّرَ، وحينَ يتطوَّرُ المجتمعُ، يتطوَّرُ الفردُ بِتطوَّرُهِ، فيدورُ معهُ كما يدورُ السِنُّ في الدولابِ.

وأمَّا المبدأُ الرأسماليُّ فإنَّهُ يرى أنَّ المجتمعَ مُكَوَّنٌ منْ أفرادٍ، وأنَّهُ إذا إنْتَظَمَتْ أُمورُ الفردِ إنتظمتْ أمورُ المجتمعِ، ولذلكَ لا بُدَّ منَ النظرةِ للفردِ فقطْ، فالدولةُ إنَّما تعملُ للفردِ ولهذا كانَ هذا المبدأُ فرديَّاً. وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ الأساسَ الَّذي يقومُ عليهِ المجتمعُ هوَ العقيدةُ، وما تحملُ منْ أفكارٍ ومشاعرَ،وما ينبثقُ عنها منْ أنظمَةٍ، فحينَ تَسُودُ الأفكارُ الإسلامِيَّةُ، والمَشاعِرُ الإسلاميَّةُ، ويُطَبَّقُ النظامُ الإسلاميُّ على الناسِ، يوجَدُ المجتمعُ الإسلاميُّ، ولذلكَ كانَ المجتمعُ مُؤَلَّفَاً منَ الإنسانِ، والأفكارِ، والمشاعرِ، والأنظمةِ. وأنَّ الإنسانَ وحدَهُ معَ الإنسانِ يُؤَلِّفُ جماعةً، ولكِنَّهُ لا يُؤَلِّفُ مجتمعاً إلاَّ بالأفكارِ الَّتي يحمِلُهَا الإنسانُ، والمشاعرِ المَوْجُودَةِ لَدَيْهِ، والأنظمةِ الَّتي تُطَبَّقُ عليْهِ، لأنَّ الَّذي يوجِدُ العلاقةَ بينَ الإنسانِ والإنسانِ إنما هوَ المَصْلَحَةُ، وهذهِ المصلحةُ إذا تَوَّحَدَتْ الأفكارُ عليْهَا، وإذا توَّحدتْ المشاعرُ نحوَهَا فَتُوَحِّدُ الرِضَا والغَضَبُ، و إنْ تَوَحَّدَ النظامُ الَّذي يُعالِجُ، فقدْ وُجِدَتْ العلاقةُ بينَ الإنسانِ والإنسانِ، وإنْ إخْتَلَفَتْ الأفكارُ على المصلحةِ، أوْ إختلفتْ المشاعرُ نَحْوَهَا، فلمْ يَتَوَّحَدْ الرِضَا والغضبُ، أوْ إختلفَ النظامُ الَّذي يُعالجُهَا بينَ الإنسانِ والإنسانِ لمْ توجدِ العلاقةُ، وبالتالي لْم يُوجَدِ المجتمعُ، ولذلكَ كانَ المجتمعُ مُكَوَّنَاً منَ الإنسانِ، والأفكارِ، والمشاعرِ، والأنظمةِ، لأنَّهَا هيَ الَّتي تُوَجِدُ العلاقةَ، وتجعلُ الجماعةَ مجتمعاً مُعَيَّنَاً.

ولذلكَ لوْ كانَ جميعُ الناسِ مُسْلِمينَ، وكانتْ الأفكارُ الَّتي يحمِلُونَهَا رأسماليَّةً ديمقراطيَّةً، والمشاعرُ الَّتي يحمِلُونَهَا روحيَّةً كَهَنُوتِيَّةً أوْ وطنيَّةً، والنظامُ الَّذي يُطَبَّقُ عليهِمْ رأسماليَّاً ديمقراطيَّاً، فإنَّ المجتمعَ يكونُ مجتمعاً غيرَ إسلاميٍّ ولوْ كانَ جُلُّ أهلِهِ منَ المسلميَن.

وأمَّا منْ حيثُ تنفيذِ النظامِ فالمبدأُ الشيوعِيُّ يرى أنَّ الدولةَ وحدَهَا هيَ الَّتي تُنَفِّذُ النظامَ بِقُوَّةِ الجُنْدِيِّ وصرامةِ القانونِ، وتتولَّى عنِ الفردِ وعنِ الجماعةِ شُؤُونَهُمْ، وهيَ الَّتي تُطَوِّرُ النظامَ. والرأسماليَّةُ ترى أنَّ الدولةَ إنَّما تُشْرِفُ على الحرِّيَّاتِ، فإذا إعْتَدَى أحدٌ على حرِّيَّةِ غيرِهِ مَنَعَتْ هذا الإعتداءَ، لأنَّهَا وُجِدَتْ لِضَمَانِ الحرِّيَّاتِ، وإذا لمْ يعتدِ أحدٌ على حرِّيَّةِ آخرٍ ولوْ إسْتَغَلَّهُ وأخَذَ حُقُوقَهُ، ولكنْ برضاهُ، لا يكونُ هناكَ إعتداءٌ على الحرِّيَّاتِ، فلا تتدخَّلُ الدولةُ، ولذلكَ فالدولةُ موجودةٌ لضمانِ الحرِّيَّاتِ.

وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ النظامَ إنَّما يُنَفِّذُهُ الفردُ المؤمِنُ بدافعِ تقوى اللهِ، وتنفِّذُهُ الدولةُ بشعورِ الجماعةِ بعدالَتِهِ، وبِتَعَاوُنِ الأُمَّةِ معَ الحاكمِ بالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ، وبسلطانِ الدولةِ. وتتولَّى الدولةُ شؤونَ الجماعةِ، ولا تتولَّى عنِ الفردِ شؤونَهُ إلاَّ إذا عَجِزَ عَنْهَا، ولا يتطوَّرُ النظامُ أَبَداً. والدولةُ لها صلاحيَّةُ تَبَنِّي الأحكامِ الشرعيَّةِ إذا تَعَدَّدَتْ نَتَائِجُ الإجتهاد فيهَا.

rajaab
03-05-2005, 10:36 PM
والقيادةُ الفكريَّةُ لمبدأِ الإسلامِ مُتَّفِقَةٌ معَ فطرةِ الإنسانِ، وهيَ على عُمْقِهَا سهلةٌ مَيْسُورَةٌ، سُرْعانَ ما يَفْتَحُ لها الإنسانُ عقلَهُ وقلبَهُ، وسرعانَ ما يُقْبِلُ عليْهَا ليَفْهَمُهَا، ولِيتعمَّقَ في فَهْمِ دَقَائِقِهَا بِشَغَفٍ وتَقْدِيرٍ،لأنَّ التَدَيُّنَ فِطْرِيٌّ في الإنسانِ، وكلُّ إنسانٍ بفطرتِهِ، مُتَدَيِّنٌ، ولا تستطيعُ أيُّ قُوَّةٍ أنْ تَنْزِعَ منْهُ هذهِ الفطرةَ، لأنَّها مُتَأَصِّلَةٌ فيهِ، فالإنسانُ بطبعِهِ يَشْعُرُ أنَّهُ ناقِصٌ، وأنَّ هناكَ قُوَّةٌ أكْمَلُ منهُ، وأنَّ هذهِ القوةَ تَسْتَحِقُّ التقديسَ، والتديُّنُ هوَ الإحتياجُ إلى الخالقِ المُدَبِّرِ، الناشئُ عنِ العَجْزِ الطبيعيِّ في تكوينِ الإنسانِ، وهوَ غريزةٌ ثابتةٌ لها رجعٌ مُعَيَّنٌ هوَ التقديسُ، ولذلكَ كانتْ الإنسانِيَّةُ في جميعِ العصورِ تعبُدُ شيئاً، فعبدتْ الإنسانَ، والأفْلاكَ، والحجارةَ، والحيوانَ، والنِيرانَ، وغيرَ ذلكَ. ولمَّا جاءَ الإسلامُ بعقيدتِهِ جاءَ لِيُخْرِجَ الإنسانيَّةَ منْ عبادةِ المخلوقاتِ إلى عبادةِ اللهِ الَّذي خلقَ كُلَّ شيءٍ.

ولمَّا ظهرَ المبدأُ المادِّيُّ الَّذي يُنْكِرُ وجودَ اللهِ وينكرُ الروحَ لمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَقْضِي على هذا التَدَيُّنِ الطبيعيِّ، وإنمَّا نقلَ تَصَوُّرَ الإنسانِ لقوَّةٍ أكبرَ منْهُ، ونقلَ تقديسَهُ لهذهِ القوَّةِ، نقلَ كلَّ ذلكَ إلى تصوُّرِ هذهِ القُوَّةِ في المبدأِ وفي حَمَلَتِهِ، وجعلَ تقديسَهُ لهما وحدَهُمَا، فكأنَّهُ رجعَ إلى الوراءِ، ونقلَ تقديسَ الناسِ منْ عبادةِ اللهِ إلى عبادةِ العبادِ، ومنْ تقديسِ آياتِ اللهِ إلى تقديسِ كلامِ المخلوقاتِ، فكانَ رَجْعِيَّاً في ذلكَ. ولمْ يستطِعْ القضاءَ على فطرةِ التديُّنِ، وإنمَّا حوَّلهَا بالمُغالَطَةِ تحوِيلاً رجعِيَّاً. ولذلكَ كانتْ قيادتُهُ الفكريَّةُ تختلِفُ معَ طبيعةِ الإنسانِ، وكانتْ قيادةً سَلْبِيَّةً. ومنْ هنا كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ في الشيوعيَّةِ مُخْفِقَةً منْ ناحِيَةٍ فِطْرِيَّةٍ، وإنَّما يَتَحَيَّلُ لها بالمعدةِ، وتستَهْوي الجائعينَ، والخائفينَ، والبائِسينَ، ويَتَمَسَّكُ بهَا المُنْخَفِضُونَ، والمُخْفِقُونَ في الحياةِ الحاقِدُونَ عليْهَا، والمُصَابُونَ بالشُذُوذِ العَقْلِيِّ، حتَّى يُقالَ أَنَّهُمْ منْ ذَوِي الفكرِ حينَ يَتَشَدَّقُونَ بالنظريَّةِ الديالِكْتيكِيَّةِ الَّتي هيَ أَظْهَرُ شيءٍ فساداً وبُطلاناً بشهادةِ الحِسِّ والعقلِ مَعَاً. وتَتَوَسَّلُ بالقوَّةِ لإخضاعِ الناسِ لِمَبْدَئِهَا، ومنْ هنا كانَ الضغْطُ والكَبْتُ، وكانتْ الثَوْرَاتُ والقَلاقِلُ، والتَخْرِيبُ والإضْطِرابُ منْ أهَمِّ وسائِلِهَا.

وكذلكَ كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ لِلرأسماليَّةِ مُخالِفَةً لفطرةِ الإنسانِ الَّتي هيَ فطرةُ التديُّنِ، لأنَّ فطرةَ التديِّنِ كما تَبْرُزُ في التقديسِ تَبْرُزُ في تدبيرِ الإنسانِ لأعمالِهِ في الحياةِ، لِظُهُورِ إختلافِهِ وتناقُضِهِ حينَ يَقُومُ بهذا التدبيرِ، وهذا آيةُ العجزِ. ولذلكَ كانَ لا بُدَّ أنْ يكونَ الدينُ هوَ المدبِّرُ لأعمالِ الإنسانِ في الحياةِ. فإبعادُ الدينِ عنِ الحياةِ مخالفٌ لفطرةِ الإنسانِ. على أنَّهُ ليسَ معنى وجودِ الدينِ في الحياةِ هوَ جعلَ أعمالِ الدنيا عباداتٌ بلْ معنى وجودِ الدينِ في الحياةِ هوَ جعلُ النظامِ الَّذي أمرَ اللهُ بهِ هوَ الَّذي يُعالجُ مشاكلَ الإنسانِ في الحياةِ، وهذا النظامُ صادِرٌ عنْ عقيدةٍ قَرَّرَتْ ما في فطرةِ الإنسانِ، فإبعادُهُ وأَخْذُ نظامٍ صادرٍ منْ عقيدةٍ لا تُوَافِقُ غريزةَ التديِّنِ مخُالفٌ لفطرةِ الإنسانِ. ولذلكَ كانتْ القيادةُ الرأسماليَّةُ مخفقةً منْ ناحيةٍ فطريَّةٍ، لأنَّها قيادةٌ سَلْبِيَّةٌ في فَصْلِهَا الدينَ عنِ الحياةِ، وفي إبْعادِهَا التَدَيُّنَ عنِ الحياةِ، وجعلِهِ مسألةً فرديَّةً، وفي إبعادِهَا النظامَ الَّذي أمرَ اللهُ بهِ عنْ معالجةِ مشاكلِ الإنسانِ.

والقيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ هيَ قيادةٌ إيجابيَّةٌ لأنَّها تجعلُ العقلَ أساساً للإيمانِ بوجودِ اللهِ، إذْ تَلْفِتُ النظرَ إلى ما في الكونِ والإنسانِ والحياةِ، ممَّا يحمِلُ على الجَزْمِ بِوُجُودِ اللهِ الَّذي خلقَ هذهِ المخلوقاتِ، وتُعَيِّنُ للإنسانِ ما يبحثُ عنهُ بفطرتِهِ منْ كَمَالٍ مُطْلَقٍ، لمْ يوجدْ في الإنسانِ والكونِ والحياةِ، وتُرْشِدُ عقلَهُ إليْهِ، فَيُدْرِكُهُ ويُؤْمِنْ بِهِ.

أمَّا القيادةُ الفكريَّةُ الشيوعيَّةُ فهيَ مبنِيَّةٌ على المادّيَةِ وليسَ على العقلِ، وإنْ توصَّلَ إليها العقلُ، لأنَّها تقولُ بوجودِ المادَّةِ قبلَ الفكرِ، وبجعلِهَا أَصْلَ الأشياءِ، فهيَ مادِّيَّةٌ. وأمَّا القيادةُ الفكريَّةُ الرأسماليَّةُ فهيَ مبنِيَّةٌ على الحلِّ الوسطِ الَّذي تَوَصَّلَتْ إليهِ منَ النِزَاعِ الدَامِي الَّذي إسْتَمَرَّ عِدَّةَ قُرونٍ بينَ رجالِ الكنيسةِ ورجالِ الفكرِ، وأنْتَجَ فصلَ الدينِ عنِ الدولةِ.

لذلكَ كانتْ القيادتَانْ الفكرِيَّتَانْ الشيوعِيَّةُ والرأسمالِيَّةُ مُخْفِقَتَيْنِ، لأنَّهُمَا مُتَنَاقِضَتَانِ معَ الفطرةِ، وغيرَ مَبْنِيَّتَيْنِ على العقلِ.

والحاصلُ أنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ هيَ القيادةُ وحدها الفكريةُ الصحيحةُ، وما عداها قياداتٌ فكريَّةٌ فاسدةٌ، لأنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ مَبْنِيَّةٌ على العقلِ، في حينِ أنَّ القياداتِ الفكريَّةِ الأخرى غيرُ مبنيَّةٍ على العقلِ، ولأنَّها قيادةٌ فطريَّةٌ تَتَّفِقُ معَ فطرةِ الإنسانِ، فيتجاوَبُ معهَا في حينِ أنَّ القياداتِ الفكريَّةَ الأُخْرَى تُخَالِفُ فطرةَ الإنسانِ. وذلكَ : أنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الشيوعيَّةَ مَبْنِيَّةٌ على المادِّيَّةِ لا على العقلِ، لأنَّها تقولُ إنَّ المادَّةَ تَسْبِقُ الفكرَ، أيْ تَسْبِقُ العقلَ، ولذلكَ فالمادَّةُ حينَ تَنْعَكِسُ على الدِمَاغِ تُوجِدُ به الفكرَ، فَيُفَكِّرُ في المادَّةِ الَّتي إنْعَكَسَتْ عليهِ. أمَّا قبلَ إنعكاسِ المادَّةِ على الدماغِ فلا يوجَدُ الفكرُ، ولذلكَ فكلُّ شيءٍ مَبْنِيٌّ على المادَّةِ، فأصْلُ العقيدةِ الشيوعيَّةِ أيْ القيادةِ الفكريَّةِ الشيوعيَّةِ هوَ المادِّيَّةُ وليسَ الفكرُ.

وهذا خطأٌ منْ وَجْهَيْنِ، الأوَّلُ أنَّهُ لا يوجدُ إنعكاسٌ بينَ المادَّةِ والدماغِ، فلا الدماغُ ينعكسُ على المادَّةِ، ولا المادَّةُ تنعكس على الدماغِ، لأنَّ الإنعكاسَ يحتاجُ إلى وجودِ قابِلِيَّةِ الإنعكاسِ في الشيءِ الَّذي يعكسُ الأشياءَ كالمرآةِ، فإنَّها تحتاجُ إلى قابليَّةِ الإنعكاسِ عليهَا، وهذا غيرُ موجودٍ، لا في الدِماغِ ولا في الواقعِ المادِّيِّ. ولذلكَ لايوجدُ إنعكاسٌ بينَ المادَّةِ والدماغِ مُطلقاً، لأنَّ المادَّةَ لا تنعكسُ على الدماغِ، ولا تَنْتَقِلُ إليهِ بلْ يَنْتَقِلُ الإِحْسَاسُ بالمادَّةِ إلى الدماغِ بواسطةِ الحواسِّ، ونقلِ الإحساسِ بالمادَّةِ إلى الدِماغِ ليسَ إنعكاساً للمادَّةِ على الدماغِ، ولا إنعكاساً للدماغِ على المادَّةِ، وإنمَّا هوَ حِسٌّ بالمادَّةِ، ولا فَرْقَ في ذلكَ بَيْنَ العَيْنِ وغيرِهَا منَ الحواسِّ، فَيَحْصُلُ منَ اللَّمْسِ، والشَمِّ، والذَوْقِ، والسَمْعِ، إحْسَاسٌ كمَا يَحْصُلُ منَ الإبْصارِ. إِذَنْ فالَّذي يَحصلُ منَ الأشياءِ ليسَ إنعكاساً على الدماغِ، وإنَّما هوَ حِسٌّ بالأشياءِ. فالإنسانُ يُحِسُّ بالأشياءِ بواسطةِ حواسِّهِ الخَمْسِ، ولا تعكِسُ على دماغِهِ الأشياءُ.

والثاني أنَّ الحِسَّ وحدَهُ لا يحصلُ منْهُ فكرٌ، بلْ الَّذي يحصلُ هوَ الحسُّ فقطْ، أيْ الإحساسُ بالواقِعِ، وإحساسٌ زَائِدُ إحساسٍ، زائدُ مِلْيَونِ إحساسٍ، مهما تعدَّدَ نوعُ الإحساسِ، إنَّما يحصلُ منهُ إحساسٌ فقطْ، ولا يحصلُ فكرٌ مطلقاً، بلْ لا بُدَّ منْ وجودِ معلوماتٍ سابقةٍ عندَ الإنسانِ يُفَسِّرُ بواسِطَتِهَا الواقعُ الَّذي أحسَّ بِهِ حتَّى يحصلَ فكرٌ، ولِنَأْخُذِ الإنسانَ الحالِيَّ، أيَّ إنسانِ ونُعطيهِ كتاباً سِرْيَانِيَّاً، ولا توجدُ لديهِ أيُّ معلوماتٍ تَتَّصِلُ بالسِرْيانِيَّةِ، ونجعلُ حِسَّهُ يقعُ على الكتابِ، بالرُؤْيَةِ، باللمْسِ، ونكرِّرُ هذا الحسَّ مليونَ مَرَّةٍ، فإنَّهُ لا يمكنُ أنْ يعرفَ كلمةً واحدةً، حتَّى يُعْطَى معلوماتٍ عنِ السريانيَّةِ، وعمَّا يَتَّصِلُ بالسريانِيَّةِ، فحينَئِذٍ يبدأُ يُفَكِّرُ بها ويُدْرِكُهَا. وكذلكَ لِنَأْخُذِ الطِفْلَ الَّذي وُجِدَ عندَهُ الإحساسُ ولمْ توجدْ عندهُ أيُّ معلوماتٍ، ولنضعَ أمامَهُ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وقِطعةَ نُحاسٍ، وحَجَرَاً، وتُجْعَلُ جميعُ إحساساتِهِ تَشْتَرِكُ في حِسِّ هذهِ الأشياءِ، فإنَّهُ لا يمكنهُ أنْ يُدْرِكَهَا، مهما تَكَرَّرَتْ هذهِ الإحساساتُ وتنوَّعَتْ. ولكنْ إذا أُعْطِيَ معلوماتٍ عنها، وأحَسَّهَا فإنَّهُ يستعملُ المعلوماتِ ويُدْرِكُهَا. وهذا الطفلُ لوْ كَبُرَتْ سِنُّهُ وبلغَ العشرينَ سنةً ولْم يأخذْ أيَّ معلوماتٍ فإنَّهُ يَبْقَى كأوَّلِ يومٍ يُحِسُّ بالأشياءِ فقطْ ولا يدركُهَا مهمَا كَبِرَ دماغُهُ، لأنَّ الَّذي يجعلُهُ يدركُ ليسَ الدماغُ، وإنَّما هوَ المعلوماتُ السابقةُ معَ الدماغِ، ومعَ الواقِعِ الَّذي يُحِسُّهُ. هذا منْ ناحيةِ الإدراكِ العقليِّ، وأمَّا منْ ناحيةِ الإدراكِ الشُعُورِيِّ فناتِجٌ عنِ الغرائزِ والحاجاتِ العُضْوِيَّةِ، والَّذي يحصلُ عندَ الحيوانِ فإنَّهُ يحصلُ عندَ الإنسانِ، فيعرِفُ منْ تِكْرَارِ إعطائِهِ التُفَّاحَةَ والحجرَ أنَّ التُفَّاحَةَ تُؤْكَلُ والحجرَ لا يُؤكلُ، كما يعرفُ الحمارُ أنَّ الشَعِيرَ يُؤكلُ والتُرابَ لا يُؤكلُ، ولكنَّ هذا التَمْيِيزَ ليسَ فِكْراً، ولا إدْرَاكاً، وإنَّما هوَ راجِعٌ للغرائزِ وللحاجاتِ العضويَّةِ، وهوَ موجودٌ عندَ الحيوانِ كما هوَ موجودٌ عندَ الإنسانِ، ولذلكَ لا يمكنُ أنْ يَحْصُلَ فكرٌ إلاَّ إذا وجدتْ المعلوماتٌ السابقةٌ معَ نقلِ الإحساسِ بالواقعِ بواسطةِ الحواسِّ إلى الدماغِ.

وعليهِ فالعقلُ أوِ الفكرُ أوِ الإدراكُ هوَ نقلُ الحِسِّ بالواقعِ بواسطةِ الحواسِّ إلى الدماغِ ووُجودِ معلوماتٍ سابقةٍ يُفَسَّرُ بواسِطَتِهَا الواقعُ.

وعلى ذلكَ فالقيادةُ الفكريةُ الشيوعيَّةُ مخطِئَةٌ وفاسدةٌ، لأنَّها غيرَ مبنِيَّةٍ على العقلِ، كما أنَّ معنى الفكرِ والعقلِ عندَهَا فاسِدٌ.

وكذلكَ القيادةُ الفكريَّةُ الرأسمالِيَّةُ مبنِيَّةٌ على الحلِّ الوسطِ بينَ رجالِ الكنيسةِ والمفكِّرينَ، فإنَّها بعدَ ذلكَ الصراعِ العنيفِ الَّذي إسْتَمَرَّ عِدَّةَ قُرُونٍ بينَ رجالِ الدينِ والمُفَكِّرينَ، تَوَصَّلُوا إلى حلٍّ وسطٍ هوَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ، أي الإعترافُ بوجودِ الدينِ ضِمْنَاً وفصلُهُ عنِ الحياةِ، ولذلكَ لمْ تكنْ القيادةُ الفكريَّةُ مبنيَّةٌ على العقلِ، وإنَّما هيَ حلُّ تَرْضِيَةٍ أوْ حلٌّ وسطٌ. ولذلكَ نجدُ فكرةَ الحلِّ الوسطِ أصيلةً عندَهُمْ، فَهُمْ يُقَرِّبُونَ بينَ الحَقِّ والباطلِ بحلٍّ وسطٍ، وبينَ الإيمانِ والكفرِ بحلٍّ وسطٍ، وبينَ النورِ والظَلامِ بحلٍّ وسطٍ، معْ أنَّ الحلَّ الوسطَ غيرُ موجودٍ، لأنَّ المسألةَ إمَّا الحقُّ أوِ الباطِلُ، وإمَّا الإيمانُ أو الكفرُ، وإمَّا النورُ أوِ الظلامُ، ولكنَّ الحلَّ الوسطَ الَّذي بَنُوا عليهِ عَقيدَتَهُمْ وقيادَتَهُمُ الفكريَّةَ أبْعَدَهُمْ عنِ الحقِّ، وعنِ الإيمان،ِ وعنِ النورِ، ولذلكَ كانتْ قيادتُهُمُ الفكريَّةُ فاسدةٌ لأنَّها غيرُ مبنيَّةٍ على العقلِ.

وأمَّا القيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ فإنَّهَا مبنيَّةٌ على العقلِ، إذْ تَفْرِضُ على المسلمِ أنْ يُؤمِنَ بوجودِ اللهِ، وبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ، وبالقرآنِ الكريمِ، عنْ طريقِ العقلِ. وتفرضُ الإيمانَ بالمَغِيبَاتِ، على أنْ تأتي منَ شيءٍ ثبتَ وجودُهُ بالعقلِ، كالقرآنِ والحديثِ المُتَواتِرِ، ولذلكَ كانتْ قيادةً فكريَّةً مبنِيَّةً على العقلِ.

هذا منْ ناحيةِ العقلِ، أمَّا منْ ناحيةِ الفطرةِ فإنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ تُوافِقُ الفطرةَ، لأنَّها تُؤْمِنُ بوجودِ الدينِ، وبوجوبِ وجودِهِ في الحياةِ، وتَسْيِيْرِهَا بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ. والتديُّنُ فطريٌّ لأنَّهُ غريزةٌ منَ الغرائزِ، لها رجْعٌ خاصٌّ هوَ التقديسُ، وهوَ يَختلِفُ عنْ رجعِ أيِّ غريزةٍ أُخرى غيرِهَا، وهوَ رَجْعٌ طبيعيٌّ لغريزةٍ مُعَيَّنَةٍ، ولهذا كانَ الإيمانُ بالدينِ، وبوجوبِ تسييرِ أعمالِ الإنسانِ في الحياةِ بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ، غريزِيَّاً، فهوَ موافقٌ للفطرةِ، ولذلكَ تتجاوبُ معَ الإنسانِ.

بخلافِ القيادتينِ الفكريِّتينِ الشيوعيَّةِ والرأسماليَّةِ فإنَّهُمَا تُخالِفانِ الفطرةَ، لأنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الشيوعيَّةَ تُنْكِرُ وجودَ الدينِ مُطْلَقَاً، وتحارِبُ الإعترافَ بهِ، فهيَ تتناقضُ معَ الفطرةِ. والقيادةُ الفكريَّةُ الرأسماليَّةُ لا تَعْتَرِفُ بالدينِ ولا تُنْكرُهُ، ولا تجعلُ الإعترافِ بهِ أو إنكارهِ موضوعَ بحثٍ، ولكنَّها تقولُ بوجوبِ فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ، فهيَ تريدُ أنْ يكونَ سَيْرُ الحياةِ نَفْعِيَّاً بَحْتَاً لا شأنَ للدينِ بهِ، وهذا مناقِضٌ للفطرةِ، وبعيدٌ عنْها. ولذلكَ كانتْ مُناقِضَةً لِفطرةِ الإنسانِ.

ومنْ هنا كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ وحدَهَا هيَ الصالحةَ، لموافَقَتِهَا لفطرةِ الإنسانِ، ولموافقتِهَا للعقلِ، وما عداها فهوَ باطلٌ. ولذلكَ كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ وحدَهَا هي الصحيحةَ، وكانتْ وحدها هيَ الناجحةَ.

بقيتْ مسألةٌ واحدةٌ هيَ هلْ طَبَّقَ المسلمونَ الإسلامَ؟ أمْ أنَّهُمْ كانوا يعتَنِقُونَ عقيدتَهُ ويُطَبِّقُونَ غيرهُ منَ الأنظمةِ والأحكامِ؟! والجوابُ على ذلكَ أنَّ المسلمينَ طبَّقوا الإسلامَ وحدَهُ في جميعِ العصورِ، منذُ أنْ وصلَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى المدينَةِ حتَّى سنةِ 1336هجريَّةٍ أيْ 1918ميلاديَّةٍ حينَ سقطتْ آخرُ دولةٍ إسلاميَّةٍ على يَدِ الإستعمارِ، وكانَ تطبيقُهَا شاملاً حتَّى نجحتْ في هذا التطبيق إلى أ بْعَدِ حُدودِ النجاحِ.

أمَّا كونُ المسلمينَ طبَّقُوا عَمَلِيَّاً الإسلامَ فإنَّ الَّذي يُطَبِّقُ النِظامَ هوَ الدولةُ، والَّذي يطبِّقُ في الدولةِ شخصانِ أحدُهُمَا القاضِي الَّذي يفصِلُ الخصوماتِ بينَ الناسِ، والثاني الحاكمُ الَّذي يحكُمُ الناسَ. أمَّا القاضي فإنَّهُ نُقِلَ بطريقِ التواترِ أنَّ القضاةَ الَّذينَ يَفْصِلُونَ الخصوماتِ بينَ الناسِ منذُ عهدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ حتَّى نهايَةِ الخلافةِ في استانبولَ، كانوا يفصِلُونَهَا حَسَبَ أحكامِ الشرعِ الشريفِ في جميعِ أمورِ الحياةِ، سواءٌ بينَ المسلمينَ وحدَهُمْ، أوْ بينَ المسلمينَ وغيرِهِمْ. وقدْ كانتْ المحكمةُ الَّتي تَفْصِلُ جميعَ الخصوماتِ منْ حقوقٍ وجَزَاءٍ وأحْوَالٍ شخصيَّةٍ وغيرَ ذلكَ، محكمةٌ واحدةٌ تحكُمُ بالشرعِ الإسلاميِّ وحدَهُ. ولمْ يَرْوِ أحدٌ أنَّ قضيَّةً واحدةً فُصِلَتْ على غيرِ الأحكامِ الشرعيَّةِ الإسلاميَّةِ، أوْ أنَّ محكمةً ما في البلادِ الإسلاميَّةِ حكمتْ بغيرِ الإسلامِ قبلَ فصلِ المحاكمِ إلى شَرْعِيَّةٍ ونِظَامِيَّةٍ بتَأْثِيرِ الإستعمارِ. وأقربُ دليلٍ على ذلكَ سِجِلاَّتُ المحاكمِ الشرعيَّةِ المحفوظةُ في البلدانِ القديمةِ كالقُدسِ وبغدادَ ودِمَشْقِ ومِصْرَ واستانبولَ وغيرِهَا فإنَّها دليلٌ يقينيٌّ بأنَّ الشرعَ الإسلاميَّ وحدَهُ هوَ الَّذي كانَ يُطَبِّقُهُ القضاةُ. حتَّى إنَّ غيرَ المسلمينَ منَ النصارى واليهودِ كانوا يدرُسونَ الفِقْهَ الإسلاميَّ ويُؤَلِّفُونَ فيهِ مِثْلَ سَلِيْمٍ البازِ شارحِ المجلَّةِ وغيرِهِ مِمَّنْ ألَّفُوا في الفقهِ الإسلاميِّ في العصورِ المُتَأَخِّرَةِ. وأمَّا مَا أُدْخِلَ مِنَ القوانِينَ فإنَّهُ أُدْخِلَ بِنَاءً على فَتَاوى العلماءِ بأنَّها لا تُخالِفُ أحكامَ الإسلامِ، وهكذا أُدخِلَ قانونُ الجَزَاءِ العُثْمَانِيِّ 1275 هـ الموافِقَ 1857م وأدخلَ قانونُ الحُقوقِ والتِجارَةِ 1276هـ الموافقَ 1858م ثمَّ في 1288هـ والموافقَ 1870م جُعِلَتْ المحاكمُ قِسْمَيْنِ محاكمَ شرعيَّةٍ ومحاكمَ نظاميَّةٍ، ووُضِعَ لها نظامٌ ثمَّ في 1295هـ الموافقِ 1877م وُضِعَتْ لائِحَةُ تشكيلِ المحاكمِ النظاميَّةِ. ووُضِعَ قانونُ أُصولِ المحاكماتِ الحقوقِيَّةِ والجزائِيَّةِ 1296هـ. ولمَّا لمْ يجدْ العلماءُ ما يُبَرِّرُ إدْخالَ القانونِ المَدَنِيِّ إلى الدولةِ وضَعَتْ المُجَلَّةُ قانوناً للمعاملاتِ، وَاسْتُبْعِدَ القانونُ المدنيُّ وذلكَ 1286هـ فهذهِ القوانينُ وُضِعَتْ كأحكامٍ يُجِيزُها الإسلامُ، ولمْ توضعْ مَوْضِعَ العَمَلِ إلاَّ بعدَ أنْ أخذتْ الفتوى بإجازَتِها، وبعدَ أن أَذِنَ شَيْخَ الإسلامِ بها، كما تَبَيَّنَ منَ المَرَاسِيمِ الَّتي صَدَرَتْ بِهَا. وإنَّهُ وإنْ كانَ الإستعمارُ منذُ سنةَ 1918م أيْ منذُ احْتِلالِهِ البِلادَ أَخَذَ يَفْصِلُ الخصوماتِ في الحقوقِ والجزاءِ على غيرِ الشريعةِ الإسلامِيَّةِ، ولكنَّ البلادَ الَّتي لمْ يَدْخُلْهَا الإستعمارُ بجيوشِهِ وإنْ دخلَهَا بِنُفُوذِهِ، لاتَزَالُ تُحْكَمُ قَضَائِيَّاً بالإسلامِ، فجزيرةُ العربِ كُلِّهَا : الحِجازُ ونجدُ والكويتُ، وكذلكَ بلادُ الأفَغَانِ، لا تزالُ تُطَبِّقُ الإسلامَ قضائِيَّاً ولمْ تحكُمْ حتَّى الآنَ في القضاءِ إلاَّ في الشريعةِ الإسلاميَّةِ ولوْ أنَّ الحُكَّامَ في هذهِ البلادِ الآنَ لا يُطَبِّقُونَ الإسلامَ. ومعْ ذلكَ نرى أنَّ الإسلامَ طُبِّقَ قضائِيَّاً ولمْ يُطَبَّقْ غيرَهُ في جميعِ عصورِ الدولةِ الإسلاميَّةِ.

rajaab
03-05-2005, 10:38 PM
أمَّا تطبيقُ الحاكمِ للإسلامِ فإنَّهُ يَتَمَثَّلُ في خمسَةِ أشياءٍ: في الأحكامِ الشرعيَّةِ المُتَعَلِّقَةُ بالإجْتِمَاعِ، والإقتصادِ، والتعليمِ، والسياسةِ الخارجِيَّةِ، والحُكْمِ. وقدْ طُبِّقَتْ هذهِ الأشياءُ الخمسة جميعُهَا منْ قبلِ الدولةِ الإسلاميَّةِ. أمَّا النظامُ الإجتماعيُّ الَّذي يُعَيِّنُ علاقةَ المرأةِ بالرجلِ وما يترتَّبُ على هذهِ العلاقةِ أي الأحوالُ الشخصيَّةُ، فإنَّها لا تزالُ تطبَّقُ حتَّى الآنَ رغمَ وجودِ الإستعمارِ ووجودِ حُكْمِ الكُفْرِ، ولمْ يُطَبَّقْ غيرُهَا مطلقاً حتَّى الآنَ. وأمَّا النظامُ الإقتصادِيُّ فيتَمَثَّلُ في ناحِيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا كَيْفِيَّةُ أخذِ الدولةِ للمالِ منَ الشعبِ لِتُعَالِجَ مشاكلَ الناسِ، والثانيةُ كيفيَّةُ إنْفَاقِهِ. أمَّا كيفيَّةُ أخذِهِ فقدْ كانتْ تأخُذُ الزكاةَ على الأموالِ، والأراضي، والأنعامِ، بإعْتِبَارِهَا عِبادَةً، وتُوَزِّعُهَا فقطْ على الأصْنافِ الثمانِيَّةِ الَّذينَ ذُكِرُوا في القرآنِ الكريمِ ولا تستعمِلُهَا في إدارةِ شؤونِ الدولةِ، وتأخذُ الأموالَ لإدارةِ شؤونِ الدولةِ والأمَّةِ حسبَ الشرعِ الإسلاميِّ، فهيَ لمْ تأخذْ أيَّ نظامٍ للضرائِبِ، وإنَّما كانتْ تُطَبِّقُ الإسلامَ، فتأخذُ الخراجَ على الأرضِ، وتأخذُ الجِزْيَةَ منْ غيرِ المسلمينَ، وتأخذُ ضرائبَ الجماركِ بِحُكْمِ إشْرَافِهَا على التجارةِ الخارجيَّةِ والداخلِيَّةِ، وما كانتْ تُحَصِّلُ الأموالَ إلاَّ حسبَ الشريعةِ الإسلاميَّةِ. وأمَّا تَوْزِيعُ المالِ فقدْ كانتْ تُطَبِّقُ أحكامَ النَفَقَةِ للعاجِزِ، وتَحْجُرُ على السفيهِ والمُبَذِّرِ، وتَنْصِبُ عليهِ وصِيَّاً، وكانتْ تُقِيمُ أمْكِنَةً في كلِّ مدينةٍ، وفي طريقِ الحجِّ، لإطعامِ الفقيرِ والمسكينِ وابنِ السَبِيلِ، ولا تزالُ آثارُهَا مَوجودةٌ حتَّى اليومِ في أمَّهاتِ بلادِ المسلمينَ. وبِالجُمْلَةِ كانَ يَجْرِي إنفاقُ المالِ منَ الدولةِ حسبَ الشريعةِ، ولمْ يجرِ حسبَ غيرِهَا مُطلقاً وما يُشَاهَدُ منْ هذهِ الناحيةِ هوَ إهْمَالٌ، وإساءةُ تطبيقٍ، وليسَ عدمَ تطبيقٍ.

وأمَّا التعليمُ فإنَّ سياسَتَهُ كانتْ مَبْنِيَّةً على أساسِ الإسلامِ، فكانتْ الثقافةُ الإسلاميَّةُ هيَ الأساسُ في مِنْهَاجِ التعليمِ، والثقافةُ الأجنبِيَّةُ يُحْرَصُ في عدمِ أخذِهَا إذا تناقضتْ معَ الإسلامِ. وأمَّا التقصيرُ في فتحِ المدارسِ فهوَ إنَّما كانَ في أواخرِ الدولةِ العثمانيَّةِ، على السواءِ في جميعِ البلادِ الإسلاميَّةِ، للإنحِطَاطِ الفكريِّ الَّذي بلغَ نهايتَهُ حِينَئِذٍ. وأمَّا في باقي العصورِ فإنَّ منَ المشهورِ في العالمِ كُلِّهِ أنَّ البلادَ الإسلاميَّةَ كانتْ وحدَهَا مَحَطَّ أنظارِ العلماءِ والمُتَعَلِّمِينَ، ولجامعاتِ قُرْطُبَةَ وبغدادَ ودِمَشقَ والإسكندريَّةِ والقاهرةِ أَثَرٌ كبيرٌ في توجيهِ التعليمِ في العالمِ.

وأمَّا السياسةُ الخارجيَّةُ فإنَّها كانتْ مبنِيَّةً على أساسٍ إسلاميٍّ، فالدولةُ الإسلاميَّةُ كانتْ تَبْنِي عَلاقَاتِهَا مَعَ الدولِ الأُخرى على أساسِ الإسلامِ، وكانتْ جميعُ الدولِ تنظرُ إليها بوصفِهَا دولةً إسلاميَّةً، وكانتْ علاقاتُها الخارجيَّةِ كلُّهَا مبنيَّةٌ على أساسِ الإسلامِ ومصلحةِ المسلمينَ بوصْفِهِمْ مسلمينَ، وإنَّ أمْرَ كونِ سياسةِ الدولةِ الإسلاميَّةِ الخارجِيَّةِ هيَ السياسةَ الإسلاميَّةَ مَشْهُورٌ شُهْرَةً عالمِيَّةً تُغْني عنِ الدليلِ.

وأمَّا بالنسبةِ لنظامِ الحكمِ فإنَّ جهازَ الدولةِ في الإسلامِ يقومُ على سبعةِ أركانٍ هيَ : الخليفةُ وهوَ رئيسُ الدولةِ، والمُعَاوِنُونَ لَهُ في الحُكْمِ، والوُلاةُ، والقُضَاةُ، والجَيْشُ، والجِهازُ الإدارِيُّ، ومَجْلِسُ الشُورَى، وهذا الجهازُ كانَ موجوداً، فإنَّ المسلمينَ لمْ يَمُرَّ عليهمْ زَمَنٌ لمْ يكنْ لهمْ فيهِ خليفةٌ، إلاَّ بعدَ أنْ أزالَ الكافِرُ المستعمرُ الخلافةَ على يدِ كمالٍ أتاتورك سنةَ 1342هجريَّةً و1924ميلاديَّةً. أمَّا قبلَ ذلكَ فقدْ كانَ خليفةُ المسلمينَ دائِمِيَّاً لا يذهبُ خليفةٌ إلاَّ وقدْ أتَى بعدهُ خليفةٌ، حتَّى في أشدِّ عصورِ الهبوطِ. ومتى وُجِدَ الخليفةُ فقد وُجِدَتْ الدولةُ الإسلاميَّةُ، لأنَّ الدولةَ الإسلاميَّةَ هيَ الخليفةُ، وأمَّا المُعَاوِنُونَ فقدْ كانوا كذلك موجودينَ في جميعِ العصورِ، وكانوا معاونينَ مُنَفِّذِينَ ولَيْسُوا وُزَرَاءَ، وإنَّهمْ وإنْ أُطْلِقَ عليهمْ في عصرِ العبَّاسيِّينَ لقبُ وزراءٍ ولكِنَّهُمْ كانوا معاونينَ. ولمْ تكنْ لهمْ صِفَةُ الوِزَارَةِ الموجودةِ في الحكمِ الديمقراطيِّ مطلقاً، بلْ كانوا معاونينَ، وهيئَةً تَنْفِيذِيَّةً فقطْ، والصلاحِيَّاتُ كلُّهَا للخليفةِ. وأمَّا الولاةُ والقضاةُ والجِهازُ الإدارِيُّ فَإِنَّ وُجُودَهَا ثابتٌ. والكافرُ المستعمِرُ حينَ إسْتَلَمَ البلادَ كانتْ أمورُهَا سائِرَةٌ، وفيها الولاةُ والقضاةُ والجهازُ الإداريُّ ممَّا لا يحتاجُ لدليلٍ. وأمَّا الجيشُ فإنَّهُ كانَ جيشاً إسلامِيَّاً، وكانَ العالمُ يَتَرَكَّزُ في ذهنِهِ أنَّ الجيشَ الإسلاميَّ لا يُغْلَبُ، وأمَّا مجلسُ الشُورَى فإنَّهُ بعدَ الخلفاءِ الراشدينَ لمْ يُعْنَ بوجودِهِ، والسببُ في ذلكَ أنَّ الشورى ليستْ قاعدةً منْ قواعدِ الحكمِ، وإنْ كانتْ منْ جهازِ الدولةِ، وإنِّمَا هيَ حقٌ منْ حقوقِ الرَعِيَّةِ على الراعي، فإنْ لمْ يفعلْ بها يكنْ قدْ قَصَّرَ، ولكنَّ الحكمَ يبقى حكماً إسلاميَّاً، وذلكَ لأنَّ الشورى هيَ لأخذِ الرأيِ وليستْ للحكمِ، بخلافِهَا في مجالِسِ النُوَّابِ الديمقراطيَّةِ. ومِنْ هذا يتبيَّنُ أنَّ نظامَ الحكمِ كانَ مُطبَّقاً في الإسلامِ.

وها هنا مسألةٌ في بَيْعَةِ الخليفةِ، فإنَّ منَ المقطوعِ بهِ أنَّهُ لمْ يكنْ في الخلافةِ نظامُ وِرَاثَةٍ، أيْ لمْ تكنْ الوراثَةُ حكماً مُقَرَّرَاً في الدولةِ يُؤْخَذُ الحكمُ-أيْ تُؤخذُ رئاسةُ الدولةِ- بموجِبِهَا كما هيَ الحالُ في النظامِ المَلَكِيِّ، وإنَّما كانَ الحكمُ المقرَّرُ في الدولةِ لأخذِ الحكمِ هوَ البيعةَ، كانتْ تؤخذُ منَ المسلمينَ في بعضِ العصورِ، ومنْ أهلِ الحلِّ والعقدِ في البعضِ الآخرَ، ومنْ شيخِ الإسلامِ في آخرِ العصرِ الهابطِ. والَّذي جَرَى عليهِ العملُ في جميعِ عصورِ الدولةِ الإسلاميَّةِ أنَّهُ لمْ يُنَصَّبْ أيُّ خليفةٍ إلاَّ بالبيعةِ، ولمْ يُنَصَّبْ بالوراثةِ دونَ بيعةٍ على الإطلاقِ، ولمْ تُرْوَ ولا حادثةٌ واحدةٌ أنَّهُ نُصِّبَ خليفةٌ بالوراثةِ منْ غيرِ بيعةٍ. غيرَ أنَّهُ كانَ يُساءُ تطبيقُ أخذِ البيعةِ، فَيَأْخُذُهَا الخليفةُ منَ الناسِ في حياتِهِ لإبنِهِ، أو أخيهِ، أو إبنِ عمِّهِ، أو شخصٍ منْ أسرتِهِ، ثُمَّ تُجَدَّدُ البيعةُ لذلكَ الشخصِ بعدَ وفاةِ الخليفةِ، وهذهِ إساءةٌ لتطبيقِ البيعةِ وليستْ وراثةً، ولا ولايةَ عَهْدٍ. كما أنَّ إساءةَ تطبيقِ نظامِ الإنتخاباتِ لمجلسِ النُوَّابِ في النظامِ الديمقراطيِّ تُسَمَّى إنْتِخَابَاً ولا تُسَمَّى تَعْيِينَاً، ولوْ فازَ في الإنتخاباتِ الأشخاصُ الَّذينَ تريدُهُمْ الحكومةُ، ومنْ ذلكَ كلِّهِ نرى أنَّ النظامَ الإسلاميَّ طُبِّقَ عملِيَّاً، ولمْ يُطَبَّقْ غيرَهُ في جميعِ عصورِ الدولةِ الإسلاميَّةِ.

أمَّا نجاحُ هذهِ القيادةِ عمليَّاً فقدْ كانَ نجاحاً مُنْقَطِعَ النظيرِ ولاسِيَّمَا في الأمرينِ التالِيَيْنِ:

أمَّا أحدُهُمَا فإنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ نقلتْ الشعبَ العربِيَّ بِمُجْموعهِ منْ حالةٍ فكريَّةٍ مُنْحَطَّةٍ تَتَخَبَّطُ في دَيَاجِيرِ العصبيَّةِ العائليَّةِ، وظلامِ الجهلِ الدامسِ، إلى عصرِ نهضةٍ فكريَّةٍ، يَتَلأْلأُ بنورِ الإسلامِ الَّذي لمْ يقتصرْ بُزُوغُ شمسِهِ على العربِ، بلْ عَمَّ العالمَ. فقدْ إندفعَ المسلمونَ في الكرةِ الأرضيَّةِ، وحملوا الإسلامَ للعالمِ، واستَوْلَوْا على فارسَ والعراقِ وبلادِ الشامِ ومصرَ وشماليِّ إفريقيا. وكانتْ لكلِّ شعبٍ منْ هذهِ الشعوبِ قوميَّةٌ غيرُ قوميَّاتِ الشعوبِ الأخرى، ولغةٌ غيرُ لغاتِهَا، فكانتْ قوميَّة الفُرْسِ في فارِسَ غيرَ قوميَّةِ الرومِ في الشامِ، وغيرَ قوميَّةِ القُبْطِ في مصرَ، وغيرَ قوميَّةِ البَرْبَرِ في شماليِّ إفريقيا، وكانتْ عاداتُهُمْ وتقاليدهمْ وأديانُهُمْ مختلفةً. وما أنِ إسْتَظَلَّتْ بالحكمِ الإسلاميِّ، وفَهِمَتْ الإسلامَ، حتَّى دخلتْ الإسلامَ كلُّها، وأصبحتْ جميعُهَا أمَّةً واحدةً، هيَ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ. ولذلكَ كانَ نجاحُ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ في صَهْرِ هذهِ الشعوبِ والقوميَّاتِ نجاحاً مُنْقَطِعَ النظيرِ، معْ أنَّ وسيلةَ المواصلاتِ في حملِهَا هي الناقةُ والجملُ، ووسيلةَ نشرِهَا اللِسانُ والقلمُ.

أمَّا الفتحُ فكانَ لإزالةِ القوَّةِ بالقوَّةِ، وكسرِ الحواجزِ المادِّيَّةِ، حتَّى يُخَلَّى بينَ الناسِ وما يُرشِدُهُمْ إليهِ العقلُ، أوْ تَهدِيهِمْ إليهِ الفطرةُ، ولذلكَ دخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجَاً. أمَّا الفتحُ الجائِرُ فإنَّهُ يُبَاعِدُ بينَ الفاتحِ والمفتوحِ، والغالبِ والمغلوبِ، وما أَمْرُ إستعمارِ الغربِ للشرقِ عشرات من السنين دونَ أنْ يَظْفَرَ بِنائِلٍ بِبَعِيدٍ، ولولا أثرٌ منَ الثقافةِ المُضَلِّلَةِ سيُمْحَى، وضغطٌ منَ الزعامةِ المأجورةِ سيضْمَحِلُّ، لكانَ العَوْدُ إلى حظيرةِ الإسلامِ في مبدئِهِ ونظامِهِ أقربُ منْ رَدِّ الطَرْفِ...ونعودُ فنقولُ : لقدْ كانَ نجاحُ القيادةِ الفكريَّةِ الإسلاميَّةِ في صهرِ هذهِ الشعوبِ نجاحاً منقطعَ النظيرِ، وظَلَّتْ هذهِ الشعوبُ مُسْلِمَةً حتَّى اليومِ ، بالرغمِ منْ طَوَارِئِ الإستعمارِ وخُبْثِهِ ومَكْرِهِ في إفسادِ العقائدِ وتسميمِ الأفكارِ، وستظلُّ حتَّى تَقومُ الساعةُ أمَّةً واحدةً إسلاميَّةً. ولمْ يحصلْ مطلقاً أنْ أيَّ شعبٍ من الشعوب التي إعتنقَت الإسلامَ إِرْتَدَّ عنِ الإسلامِ.

أمَّا مُسْلِمُو الأندلسِ فقدْ أُفْنُوا إِفْنَاءً بمحاكمِ التفتيشِ، وبُيُوتِ النيرانِ، ومَقَاصِلِ الجلاَّدينَ، ومُسْلِمُو بُخَارَى والقَفْقَاسِ والتُرْكِسْتَانِ قدْ أصابَتْهُمْ قارِعَةُ الَّذينَ سَبَقُوهُمْ. وإسلامُ هذهِ الشعوبِ وصَيْرُورَتِهَا أُمَّةً واحدةً وشِدَّةَ حِرْصِهَا على عقيدتِهَا يُصَوِّرُ مَبْلَغَ نجاحِ هذهِ القيادةِ الفكريَّةِ، ومَبْلَغَ نجاحِ الدولةِ الإسلاميَّةِ في تطبيقِ نظامِ الإسلامِ.

أمَّا الأمرُ الثاني الَّذي يَدُلُّ على نجاحِ هذهِ القيادةِ، فهوَ أنَّ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ ظَلَّتْ أعْلَى أمَّةٍ في العالمِ حضارةً ومدنيَّةً وثقافةً وعِلْمَاً، وظلَّتِ الدولةُ الإسلاميَّةُ أعظمَ الدولِ في العالمِ وأَقْدَرَهَا مُدَّةَ إِثْنَيْ عَشَرَ قَرْنَاً: منَ القرنِ السادسِ الميلاديِّ حتَّى مُنْتَصَفِ القرنِ الثامنِ عشرَ الميلاديِّ، وكانتْ وَحْدَهَا زَهْرَةُ الدُنْيَا، والشمسُ المشرِقَةُ بينَ الأُمَمِ طِوالَ هذهِ المُدَّةِ، ممَّا يُؤَكِّدُ نجاحَ هذهِ القيادةِ، ونجاحَ الإسلامِ في تطبيقِ نِظامِهِ وعقيدتِهِ على الناسِ. وحينَمَا تَخَلَّتْ الدولةُ الإسلاميَّةُ والأمَّةُ الإسلاميَّةُ عنْ حملِ القيادة الفكرية حين أهملت الدعوةِ إلى الإسلامِ، وقَصَّرَتْ في فَهْمِ الإسلامِ وتطبيقِهِ، إنْتَكَسَتْ بين الأممِ.

ولهذا نَقولُ أنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ هيَ وحدَهَا الصالحةُ، وهيَ وحدَهَا التي يَجِبُ أنْ تُحْمَلَ للعالمِ. وإذا تحقَّقَتْ الدولةُ الإسلاميَّةُ الَّتي تحملُ هذهِ القيادةَ فسيكونُ نجاحُ هذهِ القيادةِ اليومَ كَمَا كانَ بالأمسِ.

قلنا إنَّ الإسلامَ يُوافِقُ فطرةَ الإنسانِ فيما إنبثقَ عنْهُ منَ نظمٍ، ولهذا لا يُعْتَبَرُ الإنسانُ كائِنَاً صِنَاعِيَّاً يعيشُ على المَسْطَرَةِ، ويُطَبِّقُ النظامَ بلا تَفَاوُتٍ بالقِيَاسِ الهَنْدَسِيِّ الدَقِيقِ، بلْ يُعْتَبَرُ الإنسانُ كائِناً إجتماعِيَّاً يُطَبِّقُ النظامَ كَكَائِنٍ إجتماعيٍّ تَتَفَاوَتُ فيهِ القُوَى والخاصِّيَّاتِ، فمنَ الطبيعيِّ منْ جِهَةِ أنْ يُقارِبَ بينَ الناسِ ولا يُسَاوِيَ، معْ ضمانِ الطُمَأْنِينَةِ للجميعِ، ومنَ الطبيعيِّ منْ جِهَةٍ أخرى وهذا موضِعُ البحثِ الآنَ أنْ يَشُذَّ على هذا الإعتبارِ عنْ تطبيقِ هذا النظامِ أفرادٌ فيخالفونه، وأن لايستجيب لهذا النظام أفراد، وأن يتولى عن هذا النظام أفراد، ولذلكَ كانَ لا غِنَى عنْ أنْ يكونَ في المجتمعِ فُسَّاقٌ وفُجَّارٌ، وأنْ يكونَ فيهِ كَفَّارٌ ومُنَافِقُونَ، وأنْ يكونَ فيهِ مُرْتَدُّونَ ومُلْحِدُونَ، ولكنَّ العِبْرَةَ بالمجتمعِ بمجموعِهِ منْ حَيْثُ كونِهِ أفكاراً ومشاعرَ وأنظمةً وناساً، فَيُعْتَبَرُ مجتمعاً إسلاميَّاً يُطَبِّقُ الإسلامَ، حينَ تَبْدُو فيهِ هذهِ الأشياءُ إسلاميَّةً.

والدليلُ على ذلكَ أنَّهُ لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يُطَبِّقَ نظاماً كما طبَّقَ محمَّدٌ رسولُ اللهِ، نظامَ الإسلامِ، ومعَ ذلكَ فقدْ وُجِدَ في أيَّامِهِ كُفَّارٌ ومنافقونَ وَوُجِدَ فُسَّاقٌ وفُجَّارٌ، ووُجِدَ مُرْتَدُّونَ وملحدونَ، ولكنْ لا يستطيعُ أحدٌ إلاَّ أنْ يقولَ جازِمَاً: إنَّ الإسلامَ كانَ مُطَبَّقَاً تطبيقاً كاملاً، وإنَّ المجتمعَ كانَ إسلاميَّاً. ولكنَّ هذا التطبيقِ كانَ على الإنسانِ الَّذي هوَكائنٌ إجتماعيٌّ، وليسَ كائناً صناعيَّاً.

ولقدْ ظلَّ الإسلامُ يطبَّقُ وحدَهُ على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ بكاملِهَا-عربٍ وغيرَ عربٍ- منذُ أنْ إستقرَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في المدينةِ، إلى أنِ إحتَلَّ الإستعمارُ بلادَ المسلمينَ، فاستبدلَ بهِ النظامَ الرأسماليَّ.

وعلى ذلكَ فالإسلامُ طُبِّقَ عملِيَّاً منذُ السنةِ الأولى للهجرةِ حتَّى سنةِ 1336هجريَّةً الموافق سَنَةَ 1918ميلاديَّةً. ولمْ تُطَبِّقُ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ طِوالَ هذهِ المُدَّةِ أيَّ نظامٍ سِوَى الإسلامِ.

حتَّى أنَّ المسلمينَ معَ كونهِمْ قدْ ترجَمُوا للعربيَّةِ الفَلْسَفَةِ والعلومِ والثقافاتِ الأجنبِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ، لكنَّهُمْ لمْ يُتَرْجِمُوا أيَّ تشريعٍ أوْ قانونٍ أوْ نظامٍ لأيِّ أمَّةٍ مطلقاً، لا للعملِ بهِ ، ولا لدراستِهِ. إلاَّ أنَّ الإسلامَ بوصفِهِ نظاماً كانَ يُحْسِنُ الناسُ تطبيقَهُ أوْ يُسِيئُونَ هذا التطبيقَ، تَبْعَاً لقوَّةِ الدولةِ أوْ ضَعْفِهَا، وتَبْعَاً لِدِقَّةِ فَهْمِهَا أوْ مُزَايَلَتِهَا للفهمِ، وتبعاً لقوَّةِ حملِ القيادةِ الفكريَّةِ أوِ التَرَاخِي فيهِ، ولذلكَ كانتْ إساءةُ تطبيقِ الإسلامِ في بعضِ العصورِ تَجْعَلُ المجتمعَ الإسلاميَّ مُنْحَدِرَاً بعضَ الإنحدارِ، ولا يَخْلُو مِنْهُ أيُّ نظامٍ، لأنَّهُ يَعْتَمِدُ في تطبيقِهِ على البَشَرِ، ولكنَّ إساءةَ التطبيقِ لا تَعْنِي أنَّ الإسلامَ لمْ يُطَبَّقْ، بلْ المَقْطُوعُ فيهِ أنَّ الإسلامَ قدْ طُبِّقَ، ولمْ يُطَبَّقْ غيرُهُ منَ المبادئِ والنُظُمِ، إذْ أنَّ العبرةَ في التطبيقِ للقوانينِ والأنظمةِ الَّتي تَأْمُرُ الدولةُ بالعملِ بهَا، ولمْ تَأْخُذِ الدولةُ الإسلاميَّةُ أيَّ شيءٍ منْ ذلكَ منْ غيرِ الإسلامِ، وكلُّ الَّذي حصلَ هوَ إساءةُ تطبيقٍ لبعضِ نُظُمِهِ منْ قبلِ بعضِ الحُكَّامِ. على أنَّ الشيءَ الَّذي يَنْبَغِي أنْ يكونَ واضِحَاً أنَّهُ يجبُ عليْنَا حينَ نَستعرِضُ تطبيقَ الإسلامِ منَ التاريخِ أنْ نُلاحظَ شيئينِ إثْنَيْنِ:

rajaab
03-05-2005, 10:42 PM
تتمه
القِيادَةُ الفِكْرِيَّةُ في الإسلامِ



تَنْشَأُ بينَ الناسِ كُلَّما انْحَطَّ الفِكرُ رابِطَةُ الوَطَنِ، وذلكَ بِحُكمِ عيشِهِمْ في أرضٍ واحدةِ والتصاقِهِمْ بها، فتأخُذُهُمْ غريزةُ البَقاءِ بالدفاعِ عنِ النفسِ، وتَحْمِلُهُمْ على الدفاعِ عنِ البلدِ الَّذي يَعِيشونَ فيه، والأرضِ الَّتي يعيشونَ عليها، ومنْ هنا تَأْتي الرابطةُ الوطنيَّةُ، وهيَ أقلُّ الروابطِ قُوَّةً وأكثَرُهَا انْخِفاضاً، وهيَ موجودةٌ في الحيوانِ والطيرِ كما هيَ موجودةٌ في الإنسانِ، وتأْخُذُ دائِماً المَظْهَرَ العاطِفِيَّ. وهي تَلْزَمُ في حالةِ اعتداءٍ أَجْنَبِيٍ على الوطنِ بِمُهاجَمَتِهِ أو الاسْتيلاءِ عَلَيْهِ، ولا شأْنَ لها في حالةِ سَلامةِ الوطنِ منَ الاعتداءِ وإذا رُدَّ الأَجْنَبِيُّ عنِ الوطنِ أوْ أُخْرِجَ مِنْهُ انتهَى عملُهَا، ولذلكَ كانتْ رابطةً منخفضةً.

وحينَ يكونُ الفكرُ ضَيِّقَاً تَنْشَأُ بينَ الناسِ رابطةُ القومِيَّةِ، وهيَ الرابطةُ العائليَّةُ ولكنْ بِشَكْلٍ أَوْسَعَ، وذلكَ أنَّ الإنسانَ تَتَأَصَّلُ فيهِ غريزةُ البقاءِ فَيوجِدُ عندَهُ حُبُّ السِيادَةِ، وهيَ في الإنسانِ المُنْخَفِضِ فِكْرِيَّاً فَرْدِيَّةٌ، وإذا نَمَا وَعْيُهُ يَتَّسِعُ حبَّ السِيَادَةِ لَدَيْهِ، فيرى سيادةَ عائِلَتِهِ وأُسْرَتِهِ، ثُمَّ يَتَّسعُ باتِّسَاعِ الأُفُقِ ونُمُوِّ الإدراكِ فيرى سيادةَ قَوْمِهِ في وَطَنِهِ أَوَّلاً ثُمَّ يرى عندَ تَتَحَقَّقُ سيادةُ قومهِ في وطنهِ سيادَتَهُمْ على غيرِهِمْ، ولذلكَ تَنْشَأُ عنْ هذهِ الناحِيَةِ مُخاصماتٌ مَحَلِّيَّةٌ بينَ الأفرادِ في الأُسرةِ على سيادِتِهَا، حتَّى إذا اسْتَقَرَّتْ السيادةُ في هذه الأسرة لأحَدِهَا بانْتِصَارِهِ على غيرِهِ انْتَقَلَتْ إلى مخاصماتٍ بينَ هذهِ الأُسرةِ وبين غيِرهَا منَ الأُسَرِ على السيادةِ، حتَّى تَسْتَقِرَّ السيادةُ على القومِ لأُسرةٍ أَوْ لِمَجْمُوعَةٍ منَ الناسِ منْ أُسَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ تَنْشَأُ المخاصمات بينَ هؤلاءِ القومِ وغيرِهِمْ على السيادةِ والارْتِفَاعِ في مُعْتَرَكِ الحياةِ. ولذلكَ تَغْلُبُ العَصَبِيَّةُ على أصْحابِ هذهِ الرابطةِ، ويَغْلِبُ عليهِمْ الهوى ونُصْرَةِ بَعْضِهِمْ على غيرِهِمْ. ولذلكَ كانتْ رابطةً غيرَ إنْسانِيَّةٍ، وتَظَلُّ هذهِ الرابطةُ عُرْضَةً لِلْمُخاصماتِ الداخِلِيَّةِ إِنْ لمْ تُشْغَلْ عَنْها بالمخاصماتِ الخارجِيَّةِ.

وعلى ذلكَ فالرابطةُ الوطنيَّةُ رابطةٌ فاسِدَةٌ لِثَلاثَةِ أسْبَابٍ : أَوَّلاً-لأنَّها رابطةٌ مُنْخَفِضَةٌ لا تَنْفَعُ لأنْ تَربُطَ الإنسانَ بالإنسانِ حينَ يسيرُ في طريقِ النهوضِ. وثانِياً-لأنَّهَا رابطةٌ عاطفيَّةٌ تنشأُ عنْ غريزةِ البقاءِ بالدفاعِ عنِ النفسِ والرابطةُ العاطفيَّةُ عُرْضَةٌ للتَغَيِيرِ والتبديلِ، فلا تصلُحُ للربطِ الدائمِ بينَ الإنسانِ والإنسانِ. وثالِثَاً-لأنَّهَا رابطةٌ مُؤَقَّتَةٌ تُوجَدُ في حالةِ الدفاعِ، أمَّا في حالةِ الاسْتِقْرارِ -وهيَ الحالةُ الأصْلِيَّةُ لِلإنسانِ- فلا وجودَ لها ولذلكَ لا تصلحُ لأنْ تكونَ رابطةً بينَ بَني الإنسانِ.

وكذلكَ الرابطةُ القوميَّةُ فاسدةٌ لثلاثةِ أسبابٍ : أوَّلاً-لأنَّها رابطةٌ قَبَلِيَّةٌ ولا تصلحُ لأنْ تربُطَ الإنسانَ بالإنسانِ حين يسير في طريقِ النهوضِ. وثانِياً-لأنَّها رابطةٌ عاطفيَّةٌ تنشأُ عنْ غريزةِ البقاءِ، فيوجدُ منْهَا حبُّ السيادةِ. وثالِثَاً-لأنَّهَا رابطةٌ غيُر إنسانِيَّةٌ، إذْ تُسَبِّبُ الخصوماتِ بينَ الناسِ على السيادةِ. ولذلكَ لا تصلحُ لأنْ تكونَ رابطةً بينَ بني الإنسانِ.

ومنَ الروابطِ الفاسدةِ الَّتي قدْ يُتَوَهَّمُ وجودُهَا رابطةً بينَ الناسِ الرابطةُ المَصْلَحِيَّةُ، والرابطةُ الرُوحِيَّةُ الَّتي ليسَ لها نِظامٌ ينبثِقُ عنْهَا. أمَّا الرابطةُ المصلحيَّةُ فهيَ رابطةٌ مُؤَقَّتَةٌ ولا تصلحُ لأنْ تربطَ بني الإنسانِ، لأنَّها عُرْضَةٌ لِلمُساوَمَةِ على مَصَالِحَ أكبرَ مِنْها، فَتَفْقُدُ وجودَهَا في حالةِ تَرْجِيحِ المَصْلَحَةِ. ولأنَّهَا إذا تبايَنَتْ المصلحةُ تنتهي، وتَفْصِلُ الناسَ عنْ بعضِهِمْ ولأنَّها تنتهي حينَ تَتِمُّ هذهِ المصالحُ ولذلكَ كانتْ رابطةً خَطِرَةً على أهلِهَا.

وأمَّا الرابطةُ الرُوحِيَّةُ بلا نظامٍ ينبثقُ عنْهَا، فإنَّهَا تَظْهَرُ في حالةِ التَدَيُّنِ، ولا تَظْهَرُ في مُعْتَرَكِ الحياةِ. ولذلكَ كانتْ رابطةً جُزْئِيَّةً غيرَ عَمَلِيَّةٍ، ولا تصلحُ لأنْ تكونَ رابطةٌ بينَ الناسِ في شُؤُونِ الحياةِ ومنْ هُنَا لمْ تصلحْ العقيدةُ النَصْرانِيَّةُ لأنْ تكونَ رابطةً بينَ الشُعُوبِ الأوروبِّيَّةِ معْ أنَّها كُلَّها تَعْتَنِقُهَا، لأنَّها رابطةٌ روحِيَّةٌ لا نظامَ لها.

ولذلكَ لا تصلحُ جَمِيعُ الروابطِ السابِقَةِ لأنْ تربطَ الإنسانَ بالإنسانِ في الحياةِ حينَ يسيرُ في طريقِ النُهوضِ. والرابطةُ الصَحيحةُ لِرَبْطِ بَنِي الإنسانِ في الحياةِ هيَ رابطةُ العقيدةِ العقليَّةِ الَّتي ينبثقُ عنْها نظامٌ. وهذهِ هيَ الرابطةُ المَبْدَئِيَّةُ.

و المبدأُ عقيدةٌ عقليَّةٌ ينبثقُ عنها نظامٌ. أمَّا العقيدةُ فهيَ فكرةٌ كلِّيَةٌ عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ هذهِ الحياةِ الدُنْيا، وعمَّا بعدَهَا وعنْ علاقَتِهَا بما قبلَهَا وما بعدَهَا. وأمَّا النظامُ المنبثقُ عنْ هذهِ العقيدةِ فهوَ مُعالجاتٌ لمشاكلِ الإنسانِ، وبيانٌ لكيفِيَّةِ تَنْفِيذِ المعالجاتِ، والمحافظةِ على العقيدةِ، وحملِ المبدأِ. فكانَ بيانُ الكيفيَّةِ للتنفيذِ وللمحافظةِ ولحملِ الدعوةِ: طريقةً، وما عدا ذلكَ وهوَ العقيدةُ والمعالجاتُ : فكرةً، ومِنْ هُنا كانَ المبدأُ فِكرةً وطريقةً.

والمبدأُ لا بُدَّ أنْ ينشأَ في ذهنِ الشخصِ، إمَّا بوحيِ اللهِ لَهُ بهِ وأمْرِهِ بتبليغِهِ. وإمَّا بعبقريَّةٍ تُشْرِقُ في ذلكَ الشخصِ. أمَّا المبدأُ الَّذي ينشأُ في ذهنِ الإنسانِ بوحيِ اللهِ لهُ بهِ فهوَ المبدأُ الصحيحُ، لأنَّهُ منْ خالقِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وهوَ اللهُ. فهوَ مبدأٌ قطعيٌّ. وأمَّا المبدأُ الَّذي ينشأ في ذهنِ شخصٍ بعبقريَّةٍ تُشرقُ فيهِ فهوَ مبدأٌ باطلٌ، لأنَّهُ ناشِئٌ عنْ عقلٍ محدودٍ يَعْجَزُ عنِ الإحاطَةِ بالوجودِ، ولأنَّ فهمَ الإنسانِ للتنظيمِ عُرْضَةً للتفاوتِ والإختلافِ والتناقضِ والتأثُّرِ بالبيئَةِ الَّتي يَعيشُ فيها ممَّا يُنْتِجُ النظامَ المتناقِضَ المؤدّي إلى شقاءِ الإنسانِ. ولذلكَ كانَ المبدأُ الَّذي يَنْشَأُ في ذهنِ شخصِ باطِلاً في عقيدَتِهِ وفي نظامِهِ الَّذي يَنْبَثِقُ عَنْهَا.

وعلى ذلكَ كانَ الأساسُ في المبدأِ هوَ الفكرةَ الكُلِّيَةَ عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وكانتْ الطريقَةُ الَّتي تجعلُ المبدأَ موجوداً مُنَفِّذاً في مُعْتَرَكِ الحياةِ أمْراً لازِماً لهذهِ الفكرةِ حتَّى يوجدَ المبدأُ. أمَّا كونُ الفكرةِ الكلِّيَةِ أساساً فَإِنِّها هيَ العقيدةُ، وهيَ القاعدةُ الفكريَّةُ، وهيَ القيادةُ الفكريَّةُ، وعلى أساسِهَا يَتَعَيَّنُ اتِّجَاهُ الإنسانِ الفكرِيُّ ووِجْهَةُ نظرِهِ في الحياةِ، وعليْها تُبْنَى جميعُ الأفكارِ، وعنْها تنبثقُ جميعُ معالجاتِ مشاكلِ الحياةِ، وأمَّا كونُ الطريقةِ أمْراً لازِماً، فإنَّ النظامَ الَّذي ينبثقُ عنِ العقيدةِ إذا لمْ يتضمَّنْ بَيَانَ كيفِيَّةِ التنفيذِ للمعالجاتِ، وبيانَ كيفيَّةِ المحافظةِ على العقيدةِ، وبيانَ كيفيَّةِ حملِ الدعوةِ للمبدأِ، كانتْ الفكرةُ فلسفةً خَيَالِيَّةً فَرْضِيَّةً تَبْقَى في بُطونِ الكتبِ مُسَجَّلَةً دونَ أنْ يكونَ لها أثرٌ في الحياةِ الدنيا. ولذلكَ كانَ لا بُدَّ منَ العقيدةِ، ولا بُدَّ منْ معالجاتِ المشاكلِ، ولا بُدَّ منَ الطريقةِ، حتَّى يكونَ المبدأُ. على أنَّ مجرَّدَ وجودِ الفكرةِ والطريقةِ في العقيدةِ الَّتي ينبثقُ عنْهَا نظامٌ لا يدلُّ على أنَّ المبدأَ صحيحٌ، بلْ يَدُلُّ فقطْ على أنَّ هذا يكونُ مبدأً، ولا يدلُّ على غيرِ ذلكَ. والَّذي يدلُّ على صِحَّةِ المبدأِ أوْ بُطْلانِهِ هوَ عقيدةُ المبدأِ منْ حيثُ كونِهَا صحيحةً أوْ باطلةً، لأنَّ هذهِ العقيدةَ هيَ القاعدةُ الفكريَّةُ الَّتي يَنْبَنِي عليْهَا كلُّ فكرٍ، والَّتي تُعَيِّنُ كلَّ وجهةِ نَظَرٍ، والَّتي تنبثِقُ عنها كلُّ معالجةٍ، وكلُّ طريقةٍ. فإذا كانَتْ هذهِ القاعدةُ الفكريَّةُ صحيحةً كانَ المبدأُ صحيحاً، وإذا كانتْ باطلةً كانَ المبدأ باطلاً منْ أساسِهِ.

والقاعدةُ الفكريَّةُ إذا اتَّفَقَتْ معَ فِطْرَةِ الإنسانِ، وكانتْ مَبْنِيَّةً على العقلِ، فهيَ قاعدةٌ صحيحةٌ، وإذا خالفتْ فطرةَ الإنسانِ، أوْ لمْ تَكُنْ مبنيَّةً على العقلِ، فهيَ قاعدةٌ باطلةٌ. ومعنى اتِّفاقِ القاعدةِ الفكريَّةِ معَ فطرةِ الإنسانِ كونُها تُقَرِّرُ ما في فطرةِ الإنسانِ منْ عَجْزٍ واحتياجٍ إلى الخالقِ المدبِّرِ، وبعبارةٍ أخرى، توافقُ غريزةَ التديِّنِ. ومعنى كونِها مبنيَّةً على العقلِ أنْ لا تكونَ مبنيَّةً على المادَّةِ، أوْ على الحلِّ الوسطِ.

وإذا استعرضنا العالَم كلَّهُ الآنَ لا نجدُ فيهِ إلاَّ ثلاثةَ مَبَادِئَ هيَ : الرَأْسِمَالِيَّةُ، والاشْتِرَاكِيَّةُ ومِنْها الشُيُوعِيَّةُ، والمبدأُ الثالثُ هوَ الإسلامُ. والمبدآنِ الأوَّلانِ تحملُ كلَّ واحدٍ منهمَا دولةٌ أوْ دُوَلٌ، والمبدأُ الثالثُ لا تحمِلُهُ دولةٌ، وإنمَّا يحملهُ أفرادٌ في شعوبٍ، ولكنَّهُ موجودٌ عالمِيَّاً في الكرةِ الأرْضيَّةِ.

أمَّا الرأسماليةُ فإنَّها تقومُ على أساسِ فَصْلِ الدينِ عنِ الحياةِ، وهذهِ الفكرةُ هيَ عقيدَتُهَا، وهيَ قِيَادَتُها الفكريَّةُ، وهيَ قاعدَتُهَا الفكريَّةُ، وبناءً على هذهِ القاعدةِ الفكريَّةِ كانَ الإنسانُ هوَ الَّذي يَضعُ نظامَهُ في الحياةِ، وكانَ لا بُدَّ منَ المحافظةِ على الحُرِّيَاتِ للإنسانِ، وهيَ حُرِّيةُ العقيدةِ، وحرِّيةُ الرَأْيِ، وحرِّيةُ المُلْكِيَّةِ، والحرِّيَةُ الشخصيَّةُ، وقدْ نتجَ عنْ حُرِّيَةِ المِلْكِيَّةِ النظامُ الاقتصاديُّ الرأسمالُّي، فكانتْ الرأسماليةُ هي أَبْرَزُ ما في هذا المبدأِ، وأبرزَ ما نتجَ عنْ عقيدةِ هذا المبدأِ، لذلكَ أُطْلِقَ على هذا المبدأِ أنَّهُ المبدأُ الرأسماليُّ، مِنْ بابِ تَسْمِيَةِ الشيءِ بأبرز ما فيهِ.

وأمَّا الدِيمُقْرَاطِيّةُ الَّتي أَخَذَ بها هذا المبدأُ فهيَ آتِيَةٌ منْ جهةِ أنَّ الإنسانَ هوَ الَّذي يضعُ نظامَهُ، ولذلكَ كانتْ الأمَّةُ هيَ مصدرُ السلطاتِ، فهيَ الَّتي تضعُ الأنظمةَ، وهيَ الَّتي تستأْجِرُ الحاكمَ لِيحكُمَهَا، وتنزعُ هذا الحكمَ منهُ متى أرادَتْ، وتضعُ لهُ النظامَ الَّذي تُرِيدُ، لأنَّ الحكمَ عقدُ إجارةٍ بينَ الشعبِ والحاكمِ لِيَحْكُمَ بالنظامِ الَّذي يضعهُ له الشعبُ لِيحكمَهُ بهِ.

والديمقراطيةُ وإنْ كانتْ منَ المبدأِ لكنها ليستْ أبرزَ مِنَ النظامِ الاقتصاديِّ فيهِ، بدليلِ أنَّ النظامَ الرأسماليَّ في الغربِ يُؤَثِّرُ على الحكمِ، ويجعلُهُ خاضِعاً لأصحابِ رؤوسِ الأموالِ، حتَّى ليَكادَ يكونُ الرأسماليِّونَ الحكَّامَ الحقيقيِّينَ في البلادِ الَّتي تعتنقُ المبدأَ الرأسمالِيَّ. وعلاوةً على ذلكَ فليستْ الديمقراطيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بهذا المبدأِ، فإنَّ الشيوعيِّينَ أيضاً يَدَّعُونَ الديمقراطيَّةَ ويقولونَ بِجَعْلِ الحكمِ للأمَّةِ. ولذلكَ كانَ منَ الادقِّ أنْ يُطْلَقَ على هذا المبدأِ بأنَّهُ المبدأُ الرأسماليُّ.

الأصلُ في نشوءِ هذا المبدأِ أنَّ القياصِرَةَ والملوكَ في أورُوبَّا ورُوسيا كانوا يتَّخِذونَ الدينَ وسيلةً لاسْتِغْلالِ الشعوبِ،وظلمها، ومَصِّ دِمَائِهَا، وكانوا يتَّخِذونَ رجالَ الدينِ مَطِيَّةً لذلكَ. فنشأَ عنْ هذا صِرَاعٌ رَهيبٌ قامَ أَثْنَاءَهُ فَلاسِفَةٌ ومفكِّرونَ مِنْهمْ منْ أنكرَ الدينَ مُطْلَقَاً، ومِنْهُمْ منْ اعْتَرَفَ بالدينِ ولَكِنَّهُ نادَى بِفَصْلِهِ عنِ الحياةِ. حتَّى استقر الرأيُ عِنْدَ جَمْهَرَةِ الفلاسفةِ والمفكِّرينَ على فكرةٍ واحدةٍ هيَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ، ونتجَ عنْ ذلكَ طبيعيَّاً فصلُ الدينِ عنِ الدولةِ. واستقرَّ الرأْيُ على عدمِ البحثِ في الدينِ منْ ناحيةِ إنْكارِهِ أوْ الاعترافِ بِهِ، وحَصْرِ البحثِ في أنَّهُ يجبُ أنْ يُفصَلَ الدينُ عنِ الحياةِ. وتُعْتَبَرْ هذهِ الفكرةُ حلاً وسطاً بينَ رجالِ الدينِ الَّذينَ يُريدونَ أنْ يكونَ كلُّ شيءٍ خاضِعاً لهمْ باسْمِ الدينِ، وبينَ الفلاسفةِ والمفكِّرينَ الَّذينَ يُنْكِرونَ الدينَ وسُلْطَةِ رجالِ الدينِ، فهيَ لمْ تنكرْ الدينَ، ولمْ تجعلْ لهُ دَخَلاً في الحياةِ، وإنَّما فَصَلَتْهُ عنِ الحياةِ، فكانتْ العقيدةُ الَّتي اعْتَنَقَهَا الغربُ قاطِبَةً هيَ هذا الفصلُ لِلْدينِ عنِ الحياةِ، وكانتْ هذهِ العقيدةُ هيَ الَّتي تُبْنَى عليْهَا جميعُ الأفكارِ، ويَتَعَيَّنُ على أساسِهَا الاتِّجَاهُ الفِكْرِيُّ لِلإنسانِ وَوِجْهَةُ نظرِهِ في الحياةِ، وعلى أساسها تُعالَجُ جميعُ مشاكلِ الحياةِ، وهيَ القيادةُ الفكريَّةُ الَّتي يحمِلُهَا الغربُ ويَدْعو العالمَ إلَيْهَا.

وعقيدةُ فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ اعْتِرَافٌ ضِمْنِيٌّ بِأنَّهُ يوجدُ شيءٌ يُسَمَّى الدينَ، أيْ يوجدُ خالقٌ للكونِ والإنسانِ والحياةِ، ويوجَدُ يومُ البعثِ، لأنَّ هذا هوَ أصْلُ الدينِ منْ حيثُ هوَ دينٌ، وهذا الاعترافُ هوَ إعطاءُ فكرةٍ عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وعمَّا قبلَ الحياةِ، وعمَّا بعدَهَا، لأنَّها لمْ تَنْفِ وجودَ الدينِ. بلْ إنَّها حيَن أعْطَتْ فكرةَ فصلِهِ، اعْتَرَفَتْ بوجودِهِ ضِمْنَاً فتكونَ قدْ أثْبَتَتْ وجودَ الدينِ وأعطتْ فكرةً بأنَّهُ لا علاقةَ لهذهِ الحياةِ بما قبلَهَا وما بعدَهَا حينَ قالتْ بفصلِ الدينِ عنِ الحياةِ وأنَّ الدينَ صِلَةٌ بينَ الفردِ وخالِقِهِ فَقَطْ. وبهذا تكونُ عقيدةُ (فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ) بِمَفْهُومِهَا الشامِلِ فكرةً كُلِّيَّةً عنِ الكونِ والإنسانِ والحياةِ، ومنْ هُنَا كانَ المبدأُ الرأسماليُّ على الوجهِ الَّذي بَيَّنَّاهُ مبدأً كباقي المبادئِ.

وأمَّا الاشتراكيَّةُ ومِنْهَا الشيوعِيَّةُ فهيَ ترى أنَّ الكونَ والإنسانَ والحياةَ مادَّةٌ فقطْ، وأنَّ المادةَ هيَ أصْلُ الأشياءِ، ومنْ تَطَوُّرِهَا صارَ وجودُ الأشياءِ، ولا يوجدُ وراءَ هذهِ المادَّةِ شيءٌ مطلقاً، وأنَّ هذهِ المادَّةُ أزلِيَّةٌ قديمةٌ لمْ يوجِدْهَا أحدٌ، أيْ أنَّها واجبةُ الوجودِ، ولذلكَ يُنْكِرُونَ كون الأشياءَ مخلوقةٌ لخالقٍ، أيْ يُنكرونَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الأشياءِ ويَعْتَبِرُونَ الاعْتِرَافَ بوجودِهَا خَطَراً على الحياةِ، ولذلكَ يعتبرونَ الدينَ أفْيُونَ الشعوبِ الَّتي يُخَدِّرُهَا، ويمنَعُهَا منَ العملِ. ولا وجودَ عندَهُمْ لِشيءٍ سِوى المادَّةِ، حتَّى الفِكْرَ إنَّما هوَ انْعِكَاسُ المادَّةِ على الدِمَاغِ، وعليهِ فالمادَّةُ أصْلُ الفكرِ، وأصلُ كُلِّ شيءٍ، ومنْ تَطَوُّرِهَا المادِّيُّ توجدُ الأشياءُ. وعلى هذا فَهُمْ يُنْكِرونَ وجودَ الخالقِ، ويَعْتَبِرُونَ المادَّةَ أَزَلِيَّةً، فَهُمْ يُنْكِرونَ ما قبلَ الحياةِ وما بَعْدَهَا، ولا يَعْتَرِفُونَ إلاَّ بالحياةِ فقطْ.

ومعْ اخْتِلافِ هَذَيْنِ المَبْدَأَيْنِ في النَظْرةِ الأسَاسِيَّةِ إلى الإنسانِ والكونِ والحياةِ، فَإنهُمَا يَتَّفِقَانِ في أنَّ المُثُلَ العُلْيا لِلإنسانِ هيَ القِيَمُ العُلْيا الَّتي يَضَعُهَا الإنسانُ نَفْسُهُ، وأنَّ السَعَادَةَ هيَ الأخْذُ بأكْبَرِ نَصِيبٍ منَ المُتَعِ الجَسَدِيَّةِ، لأنَّها في نَظَرِهِمَا هيَ الوسيلةُ إلى السعادةِ، بلْ هيَ السعادةُ. ومُتَّفِقَانِ معاً على إعْطاءِ الإنسانِ حُرِّيَّتَهُ الشخصيَّةُ يَتَصَرَّفُ بما يشاءُ وعلى نَحْوِ ما يُريدُ، ما دامَ يرى في هذا التصرُّفِ سعادَتَهُ. ولذلكَ كانَ السلوكُ الشخصيُّ أوْ الحُرِّيَةُ الشخصيَّةُ بعضَ ما يُقَدِّسُهُ هذانِ المَبْدَآنِ.

ويَخْتَلِفُ هذانِ المبدآنِ في النظرةِ إلى الفردِ والمجتمعِ، فالرأسماليَّةُ مبدأٌ فَرْدِيٌّ، يَرَى أنَّ المجتمعَ مُكَوَّنٌ منْ أفرادٍ، ولا ينظرُ لِلمجتمعِ إلا نظرةً ثانَوِيَّةً، ويَخُصُّ نَظْرَتَهُ بالفردِ، ولذلكَ يجبُ أنْ تُضْمَنَ الحُرِّياتُ للفردِ. ولِضمانِ الحريَّةِ لهُ يعملُ أيُّ فردٍ للمجتمعِ، ومنْ هنا كانتْ حريَّةُ العقيدةِ بعضَ ما تقدِّسُهُ، وكانتْ الحريَّةُ الاقْتِصَادِيَّةُ مُقَدَّسَةً أيضاً، ولا تُقَيَّدُ بِناءً على فَلْسَفَتِهَا، وإنَّمَا تُقَيَّدُ منْ قبلِ الدولةِ لضمانِ الحرِّياتِ، وتُنَفِّذُ الدولةُ هذا التَقْييدَ بِقُوَّةِ الجُنْدِيِّ وصَرَامَةِ القانونِ. إلاَّ أنَّ الدولةَ هيَ الوَسِيلةُ، وليستْ غايةً، ولذلكَ كانتْ السيادةُ نِهائِيَّاً لِلأفرادِ لا للدولةِ. ولذلكَ كانَ المبدأُ الرأسماليُّ يحمِلُ قيادةً فكريَّةً هيَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ، وعلى أساسِهَا يحكمُ بأنْظِمَتِهِ، ويَدْعُو لها، ويحاوِلُ أنْ يُطَبِّقُهَا في كُلِّ مكانٍ.

وأمَّا الاشتراكيَّةُ -ومِنها الشُيوعيَّةُ- فهي مبدأٌ يرى أنَّ المجتمعَ مجموعةٌ عامَّةٌ تتألَّفُ منَ البشرِ وعلاقاتِهِمْ بالطَبِيعَةِ، تلكَ العلاقاتُ المَحْتُومَةُ المُحَدَّدَةُ الَّتي يخضَعونَ لها خُضوعاً حَتْمِيَّاً وآلِيَّاً. وهذهِ المجموعةُ كُلُّهَا شَيْءٌ واحدٌ، الطبيعةُ، والإنسانُ، والعلاقاتُ، كلُّها شيءٌ واحدٌ، لا أجزاءٌ منفصلٌ بعضُها عنْ بعضٍ، فالإنسانُ تُعْتَبَرُ الطبيعةُجانِباً منْ شخصيَّتِهِ، وهيَ الجانبُ الَّذي يحمِلُهُ في ذاتِهِ، ولذلكَ لا يتطوَّرُ الإنسانُ إلاَّ وهوَ مُعَلَّقٌ بهذا الجانبِ منْ شخصِيَّتِهِ وهوَ الطبيعةُ، لأنَّ صلتَهُ بالطبيعةِ صلةُ الشيءِ بنفسِهِ، ولذلكَ يُعتبرُ المجتمعُ مجموعةً واحدةً تتطوَّرُ كلُّها معاً تطوُّراواحداً، ويدورُ الفردُ تَبْعاً لذلكَ كما يدورُ السِنُّ في الدولابِ. ولذلكَ لمْ تكنْ عندَهُمْ حريَّةُ عقيدةٍ للفردِ، ولا حريَّةٌ اقتصاديَّةٌ. فالعقيدةُ مقيَّدةٌ بما تُرِيدُهُ الدولةُ، والاقتصادُ مقيَّدٌ بما تريدُهُ الدولةُ، ولهذا كانتْ الدولةُ أيْضَاً بعضُ ما يُقَدِّسُهُ المبدأُ. وعنْ هذهِ الفلسفةِ المادِّيَّةِ انبثقتْ أنظمةُ الحياةِ، وجُعِلَ النظامُ الاقتصاديُّ هوَ الأساسُ الأوَّلُ، وهوَ المظهرُ العامُّ لجميعِ الأنظمةِ.

ولذلكَ كانَ المبدأُ الاشتراكيُّ ومنهُ الشيوعيُّ يحملُ قيادةً فكريَّةً، هيَ المادِّيَّةُ والتطوُّرُ المادِّيُّ، وعلى أساسِهَا يحكُمُ بأنظِمَتِهِ، ويدعو لها، ويحاوِلُ أنْ يُطَبِّقَهَا في كلِّ مكانٍ.

وأمَّا الإسلامُ فهوَ يبيِّنُ أنَّ وراءَ الكونِ والحياةِ والإنسانِ خالقاً خلقَهَا هو اللهُ تعالى، ولذلكَ كانَ أساسُهُ الاعتقادُ بوجودِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وكانتْ هذهِ العقيدةُ هيَ الَّتي عَيَّنَتْ الناحيةَ الروحيَّةَ، ألا وهيَ كونُ الإنسانِ والحياةِ والكونِ مخلوقةٌ لخالقٍ، ومنْ هنا كانتْ صلةُ الكونِ بوصفِهِ مخلوقاً، باللهِ الخالقِ. هيَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الكونِ. وصلةُ الحياةِ المخلوقةِ، باللهِ الخالقِ، هيَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الحياةِ. وصلةُ الإنسانِ المخلوقِ، باللهِ الخالقِ، هيَ الناحيةَ الروحيَّةَ في الإنسانِ، ومنْ هنا كانتْ الروحُ هيَ إدراكُ الإنسانِ لصلتِهِ باللهِ تعالى.

والإيمانُ باللهِ يجبُ أنْ يقترِنَ بالإيمانِ بِنُبُوَّةِ محمَّدٍ ورسالتِهِ، وبأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، فيجبُ الإيمانُ بكلِّ ما جاءَ بِهِ. ولهذا كانتْ العقيدةُ الإسلاميَّةُ تَقْضِي بأنَّهُ يوجدُ قبلَ الحياةِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ وهوَ اللهُ، وتقضي بالإيمانِ بما بعدَ الحياةِ، وهوَ يومُ القيامةِ، وبأنَّ الإنسانَ في هذهِ الحياة الدنيا مُقَيَّدٌ بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ، وهذهِ هيَ صلةُ الحياةِ بما قبلهَا، ومقيَّدٌ بالمحاسبةِ على إتِّبَاعِ هذهِ الأوامرَ واجتنابِ هذهِ النواهي، وهذهِ هيَ صلةُ الحياةِ بما بعدَهَا، ولذلكَ كانَ حتْماً على المسلمِ أنْ يُدرِكَ صِلَتَهَ باللهِ حينَ القيامِ بالأعمالِ، فَيُسَيِّرَ أعمالَهُ بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ وكانَ ذلكَ هوَ معنى مزجِ المادَّةِ بالروحِ والغايةُ منْ تسييرها بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ هيَ رِضْوانُ اللهِ. والغايةُ المقصودةُ منَ القيامِ بهَا هيَ القيمةُ الَّتي يُحَقِّقُهَا العملُ.

ولذلكَ لمْ تكنْ الأهدافُ العليا لصيانةِ المجتمعِ، منْ وضعِ الإنسانِ بلْ هيَ منْ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ، وهيَ ثابتةٌ لا تتغيَّرُ ولا تتطوَّرُ، فالمحافظةُ على نوعِ الإنسانِ، وعلى العقلِ، وعلى الكرامةِ الإنسانيَّةِ، وعلى نفسِ الإنسانِ، وعلى المِلْكِيَّةِ الفرديَّةِ، وعلى الدينِ وعلى الأمْنِ، وعلى الدولةِ، أهدافٌ عُلْيا ثابتةٌ لصيانةِ المجتمعِ، لا يَلْحَقُهَا التغييرُ ولا التطوُّرُ، وَوَضَعَ للمحافظةِ عليها عقوباتٍ صارمةً، فوضعَ الحدودَ والعقوباتِ للمُحافظةِ على هذهِ الأهدافِ الثابتةِ، ولذلكَ يعتبرُ القيامُ بالمحافظةِ على هذهِ الأهدافِ واجِباً، لأنَّها أوامرُ ونواهٍ منَ اللهِ، لا لأنَّها تُحَقِّقُ قِيَماً ماديَّةً. وهكذا يقومُ المسلمُ وتقومُ الدولةُ بكافَّةِ الأعمالِ حَسَبَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ لأنَّها هيَ الَّتي تُنَظِّمُ شؤونَ الإنسانِ كُلَّهَا، والقيامُ بالأعمالِ حَسَبَ أوامرِ اللهِ ونواهيهِ هوَ الَّذي يجعلُ الطُمَأْنِينَةَ عندَ المسلمِ. ومنْ هنا كانتْ السعادةُ ليستْ إشباعَ الجَسَدِ وإعطاءَهُ مُتَعَهُ، بلْ هيَ إرضاءُ اللهِ سبحانَهُ وتعالى.

rajaab
03-05-2005, 10:49 PM
أمَّا الحاجاتُ العضويَّةُ والغرائِزُ فقدْ نَظَّمَهَا الإسلامُ تنظيماً يضمنُ إشباعَ جميعِ جَوْعَاتِهَا، منْ جوعةِ مَعِدَةِ، أوْ جوعةِ نَوْعِ، أوْ جَوْعَةٍ رُوحيَّةٍ، أوْ غيرِ ذلكَ. لكنْ لا بإشباعِ بعضِهَا على حسابِ بعضٍ، ولا بِكَبْتِ بعضِهَا وإطلاقِ بعض، ولا بإطلاقِها جميعِهَا، بلْ نَسَّقَهَا جميعَهَا و أشْبَعَهَا جميعَهَا بنظامٍ دقيقٍ، ممَّا يُهَيِّءُ للإنسانِ الهناءةَ والرَفَاهَ، ويحولُ بينَهُ وبينَ الإنْتِكَاسِ إلى دَرَكِ الحيوانِ بِفَوْضَوِيَّةِ الغرائزِ.

ولضمانِ هذا التنظيمِ، يَنظرُ الإسلامُ للجماعةِ باعتبارِهَا كُلاً غيرَ مُجَزَّأٍ، وينظُرُ للفردِ باعتبارِهِ جُزْءَاً منْ هذهِ الجماعةِ غيرَ منفصلٍ عنْها. ولكِنَّ كونَهُ جُزْءاً منَ الجماعةِ لا يعني أنَّ جُزْئِيَّتَهُ هذهِ كَجُزْئِيَّةِ السِنِّ في الدولابِ، بلْ يعني أنَّهُ جُزْءٌ منْ كُلٍّ، كما أنَّ اليدَ جزءٌ منَ الجِسْمِ، ولذلكَ عُنِيَ الإسلامُ بهذا الفردِ بوصفِهِ جُزْءَاً منَ الجماعةِ، لا فرداً منفصلاً عنهَا، بحيثُ تُؤَدِّي هذهِ العنايةُ للمحافظةِ على الجماعةِ، وعُنِيَ في نفسِ الوقتِ بالجماعةِ لا بوصفِهَا كلاً ليسَ لهُ أجزاءٌ بلْ بوصفِهَا كلاً مُكَوَّنَاً منْ أجزاءٍ همْ الأفرادُ بحيثُ تُؤَدِّي هذهِ العنايةُ إلى المحافظةِ على هؤلاءِ الأفرادِ كأجزاءٍ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسَلَّمَ (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُوْدِ اللهِ والوَاقِعِ فِيْهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ إسْتَهَمُوا عَلَى سَفِيْنَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوْا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوْا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيْبِنَا خَرْقَاً ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوْهُمْ وَمَا أَرَادُوْا هَلَكُوْا جَمِيْعَاً، وَإِنْ أَخَذُوْا عَلَى أَيْدِيْهِمْ نَجُوا ونَجُوا جَمِيْعَاً).

وهذهِ النَظْرَةُ للجماعةِ والفردِ هيَ الَّتي تجعلُ للمجتمعِ مفهوماً خاصَّاً، لأنَّ هؤلاءِ الأفرادِ وهمْ أجزاءٌ منَ الجماعةِ لا بُدَّ أنْ تكونَ لديهِمْ أفكارٌ تَرْبِطُهُمْ، يعيشونَ حَسَبَهَا، وأنْ يكونَ لهمْ مشاعرٌ واحدةٌ يتأثَّرونَ بها ويندفِعُونَ بحسَبِهَا، وأنْ يكونَ لهمْ نظامٌ واحدٌ يعالِجُ مشاكلَ حياتهِمْ جميعَهَا. ومنْ هنا كانَ المجتمعُ مُؤَلَّفَاً منَ الإنسانِ والأفكارِ والمشاعرِ والأنظمةِ. وكان الإنسان مُقَيَّداً في الحياة بهذه الأفكار والمشاعرِ والأنظمة. ولذلك كانَ المسلمُ في الحياةِ مُقَيَّدَاً في كلِّ شيءٍ بالإسلامِ وليسَ لهُ حرِّيَّاتٌ مُطْلَقَاً. فالعقيدةُ للمسلمِ مقيَّدةٌ بحدودِ الإسلامِ وليستْ مُطْلَقَةً. ولذلكَ يُعْتَبَرُ إرتدَادُهُ جريمةً كبرى يستحق عليها القتلُ إنْ لمْ يرجعْ. والناحيةُ الشخصيَّةُ مقيَّدةٌ بنظامِ الإسلامِ، ولذلكَ كانَ الزِنَا جريمةً يُعاقَبُ عليْهَا، دونَ رَأْفَةٍ معَ التشهيرِ {وَلِيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ{، وكانَ شُرْبُ الخَمْرِ جريمةً يُعاقبُ عليها، وكانَ الإعْتِدَاءُ على آخَرِينَ جريمةً تَخْتَلِفُ بإِخْتِلافِ هذا الإعتداءِ منْ قَذْفٍ أَوْ قتلٍ أوْ ما شابَهَ ذلكَ، والناحيةُ الاقتصاديَّةُ مقيَّدةٌ بالشَرْعِ، وبالأسْبَابِ الَّتي أباحَ للفردِ التَمَلُّكَ بهَا، وبحَقِيقَةِ هذهِ المِلْكِيَّةِ الفرديةِ من أنَّهَا إِذْنُ الشَارِعِ بالإنْتِفَاعِ بالعَيْنِ. وكانَ الخروجُ عنْ هذهِ القُيُودِ جريمةً تختلفُ بإختلافِ نَوْعِ هذا الخروجِ منْ سِرْقَةٍ أوْ نَهْبٍ أوْ ما شاكَلَ ذلكَ. ولهذا كانَ لا بُدَّ منَ الدولةِ الَّتي تَحْفَظُ هذهِ الجماعةَ وهذا الفردَ، وتُطَبِّقُ النظامَ على المجتمعِ، وكانَ لا بُدَّ منْ تَأْثِيرِ المبدأِ في مُعْتَنقِهِ لِيكونَ الحِفْظُ طبيعيَّاً آتِياً منْ قبلِ الناسِ أنْفُسِهِمْ. ولذلكَ كانَ المبدأُ هوَ الَّذي يُقَيِّدُ ويحفظُ، والدولةُ هيَ المُنَفِّذَةُ. ولهذا كانتْ السِيادةُ للشرعِ وليستْ للدولةِ ولا لِلأُمَّةِ، وإنْ كانتْ السُلْطَةُ للأمَّةِ ومَظْهَرُهَا في الدولةِ، ومنْ هنا كانتْ طريقةُ تنفيذِ النظامِ هيَ الدولةُ وإنْ كانَ الإعتمادُ على تَقْوَى اللهِ في الفردِ المؤمنِ لِيَقُومَ بأحكامِ الإسلامِ. وعليهِ كانَ لا بُدَّ منْ التشريعِ الَّذي تُنَفِّذُهُ الدولةُ، والتَوْجِيهِ للفردِ المؤمنِ لِيُنَفِّذَ الإسلامَ بدافعِ تقوى اللهِ. ومنْ هنا كانَ الإسلامُ عقيدةً وأنظمةً، وكانَ مبدأُ الإسلامِ فكرةً وطريقةً منْ جِنْسِ هذهِ الفكرةِ، وكانَ نظامُهُ منبثقاً عنْ عقيدَتِهِ، وكانتْ حضارَتُهُ طِرَازَاً معيَّناً في الحياةِ. وكانتْ طريقَتُهُ في حَمْلِ الدعوةِ أنْ يُطَبَّقَ منْ قبلِ الدولةِ، وأنْ يحملَ قيادةً فكريَّةً إلى العالمِ، تكونُ هيَ الأساسُ لِفَهْمِ نظامِ الإسلامِ والعملِ بهِ، وكانَ العملُ بهِ في الجماعةِ الَّتي تحكُمُ بنظامِ الإسلامِ، نشْراً للدعوةِ الإسلاميَّةِ، لأنَّ تطبيقَ نظامِ الإسلامِ على غيرِ المسلمينَ منَ الناسِ يعتبرُ منَ الطريقةِ العمليَّةِ للدعوةِ، فقدْ كانَ لهذا التطبيقِ الأثرُ الأكبرُ في إيجادِ هذا العالمِ الإسلاميِّ المُتَرَامِي الأطْرَافِ.

والحاصِلُ أنَّ المبادئَ الموجودةَ في العالمِ ثلاثة هيَ الرأسماليَّةُ، والإشتراكيَّةُ ومنْها الشيوعيَّةُ، والمبدأُ الثالثُ هوَ الإسلامُ، ولكلِّ واحدٍ منْ هذهِ المبادئِ عقيدةٌ تنبثقُ عنْهَا أنْظِمَتَهُ، ولهُ مِقْيَاسٌ لأعمالِ الإنسانِ في الحياةِ، ونظرةٌ خاصَّةٌ للمجتمعِ، وطريقةٌ لتنفيذِ النظامِ.

أمَّا منْ حيثُ العقيدةُ فالمبدأُ الشيوعيُّ يَرَى أنَّ المادَّةَ أصْلُ الأشياءِ، وأنَّ جميعَ الأشياءِ تَصْدرُ عنْهَا بطَرِيقِ التَطَوُّرِ المَادِّيِّ. والمبدأُ الرأسماليُّ يرى أنَّهُ يجبُ أنْ يُفْصَلَ الدينُ عنِ الحياةِ، ويَنْتُجُ عنْ ذلكَ فصلُ الدينِ عنِ الدولةِ، فالرأسماليُّونَ لا يُريدونَ أنْ يَبْحَثُوا هلْ هناكَ خالقٌ أمْ لا، وإنَّمَا يبحثونَ أنَّهُ لادَخْلَ للخالقِ في الحياةِ، سَوَاءٌ أُعْتُرِفَ بوجودِهِ أمْ أُنْكِرَ، ولذلكَ يستوي عندَهُمْ المُعْتَرِفُ بوجودِ الخالقِ والمُنْكِرُ لهُ في عقيدتِهِمْ، وهيَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ.

وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ اللهَ هوَ خالقُ الوجودِ، وأنَّهُ أرسلَ الأنْبِيَاءَ والرُسُلَ بدينِهِ لِبَني الإنسانِ، وأنَّهُ سَيُحَاسَبُ الإنسانُ يومَ القيامةِ على أعمالِهِ ولذلكَ كانتْ عقيدتُهُ الإيمانَ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخِرِ وبالقضاءِ والقدرِ خَيْرِهِمَا وشَرِّهِمَا منَ اللهِ.أشياءأأتاتنيابتنايت

وأمَّا منْ حيثُ كيفيَّةِ إنْبِثَاقِ النظامِ عنِ العقيدةِ فالمبدأُ الشيوعيُّ يرى أنَّ النظامَ يُؤْخَذُ منْ أدواتِ الإنْتَاجِ، لأنَّ المجتمعَ الإقطاعِيَّ مثلاً تكونُ الفَأْسُ فيهِ هيَ أداةُ الإنتاجِ، ومنها يُؤْخَذُ نظامُ الإقطاعُ، فإذا تطوَّرَ المجتمعُ إلى الرأسماليَّةِ تُصْبِحُ الآلةُ هيَ أداةُ الإنتاجِ. ولذلكَ يُؤْخَذُ النظامُ الرأسماليُّ منهَا، فنِظَامُهُ مَأْخُوذٌ منْ التطوُّرِ المادِّيِّ. وأمَّا المبدأُ الرأسماليُّ فيرى أنَّ الإنسانَ حينَ فصلَ الدينَ عنِ الحياةِ صارَ لا بُدَّ لهُ أنْ يضعَ نظاماً لنفسِهِ منَ الحياةِ ذاتِهَا،فصارَ يأخُذُ نظامَهُ منْ واقعِهِ يَضَعُهُ بِنَفْسِهِ. وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ اللهَ جعلَ لهُ نِظاماً في الحياةِ يسيرُ عليهِ، وأرسلَ سَيِّدَنَا محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ بهذا النظامِ وبَلَّغَهُ إيَّاهُ، فيجبُ أنْ يسيرَ عليهِ، ولذلكَ هوَ يَدْرُسُ المُشْكِلَةَ ويَسْتَنْبِطُ حَلَّهَا منَ الكتابِ والسُنَّةِ.

وأمَّا منْ حيثُ مقياسِ الأعمالِ في الحياةِ فالمبدأُ الشيوعيُّ يرى أنَّ المادِّيَّةَ أيْ النظامَ المادِّيَّ هوَ المِقْيَاسُ في الحياةِ، وبِتَطَوُّرِهِ يَتَطَوَّرُ المِقْياس، والمبدأُ الرأسماليُّ يرى أنَّ مقياسَ الأعمالِ في الحياةِ هوَ النفعيَّةُ، وحسبَ هذه النفعيَّةِ تُقاسُ الأعمالُ ويُقامُ بهَا على هذا الأساسِ. والإسلامُ يرى أنَّ مقياسَ الأعمالِ في الحياةِ هوَ الحلالُ والحرامُ، أيْ أوامرُ اللهِ ونواهيهِ، فالحلالُ يُعْمَلُ، والحرامُ يُتْرَكُ، ولا يَتَطَوَّرُ ذلكَ ولا يَتَغَيَّرُ. ولا تحكمُ فيه النفعيَّةُ، بلْ يحكمُ الشرعُ فقطْ.

وأمَّا منْ حيثُ النظرةُ للمجتمعِ فالمبدأُ الشيوعيُّ يرى أنَّ المجتمعَ مجموعةٌ عامَّةٌ، منهَا الأرضُ، وأدواتُ الإنتاجِ، والطبيعةُ، والإنسانُ، بإعتِبَارِهَا شيئاً واحداً هو المادَّةُ، وحينَ تَتَطَوَّرُ الطبيعةُ وما فيها يتطوَّرُ معها الإنسانُ، فيتطوَّرُ المجتمعُ كلُّهُ، ولذلكَ كانَ المجتمعُ خاضِعاً للتطوَّرِ المادِّيِّ، وما على الإنسانِ إلاَّ أنْ يُوجِدَ التناقضاتُ لِيُعَجِّلَ هذا التطوُّرَ، وحينَ يتطوَّرُ المجتمعُ، يتطوَّرُ الفردُ بِتطوَّرُهِ، فيدورُ معهُ كما يدورُ السِنُّ في الدولابِ.

وأمَّا المبدأُ الرأسماليُّ فإنَّهُ يرى أنَّ المجتمعَ مُكَوَّنٌ منْ أفرادٍ، وأنَّهُ إذا إنْتَظَمَتْ أُمورُ الفردِ إنتظمتْ أمورُ المجتمعِ، ولذلكَ لا بُدَّ منَ النظرةِ للفردِ فقطْ، فالدولةُ إنَّما تعملُ للفردِ ولهذا كانَ هذا المبدأُ فرديَّاً. وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ الأساسَ الَّذي يقومُ عليهِ المجتمعُ هوَ العقيدةُ، وما تحملُ منْ أفكارٍ ومشاعرَ،وما ينبثقُ عنها منْ أنظمَةٍ، فحينَ تَسُودُ الأفكارُ الإسلامِيَّةُ، والمَشاعِرُ الإسلاميَّةُ، ويُطَبَّقُ النظامُ الإسلاميُّ على الناسِ، يوجَدُ المجتمعُ الإسلاميُّ، ولذلكَ كانَ المجتمعُ مُؤَلَّفَاً منَ الإنسانِ، والأفكارِ، والمشاعرِ، والأنظمةِ. وأنَّ الإنسانَ وحدَهُ معَ الإنسانِ يُؤَلِّفُ جماعةً، ولكِنَّهُ لا يُؤَلِّفُ مجتمعاً إلاَّ بالأفكارِ الَّتي يحمِلُهَا الإنسانُ، والمشاعرِ المَوْجُودَةِ لَدَيْهِ، والأنظمةِ الَّتي تُطَبَّقُ عليْهِ، لأنَّ الَّذي يوجِدُ العلاقةَ بينَ الإنسانِ والإنسانِ إنما هوَ المَصْلَحَةُ، وهذهِ المصلحةُ إذا تَوَّحَدَتْ الأفكارُ عليْهَا، وإذا توَّحدتْ المشاعرُ نحوَهَا فَتُوَحِّدُ الرِضَا والغَضَبُ، و إنْ تَوَحَّدَ النظامُ الَّذي يُعالِجُ، فقدْ وُجِدَتْ العلاقةُ بينَ الإنسانِ والإنسانِ، وإنْ إخْتَلَفَتْ الأفكارُ على المصلحةِ، أوْ إختلفتْ المشاعرُ نَحْوَهَا، فلمْ يَتَوَّحَدْ الرِضَا والغضبُ، أوْ إختلفَ النظامُ الَّذي يُعالجُهَا بينَ الإنسانِ والإنسانِ لمْ توجدِ العلاقةُ، وبالتالي لْم يُوجَدِ المجتمعُ، ولذلكَ كانَ المجتمعُ مُكَوَّنَاً منَ الإنسانِ، والأفكارِ، والمشاعرِ، والأنظمةِ، لأنَّهَا هيَ الَّتي تُوَجِدُ العلاقةَ، وتجعلُ الجماعةَ مجتمعاً مُعَيَّنَاً.

ولذلكَ لوْ كانَ جميعُ الناسِ مُسْلِمينَ، وكانتْ الأفكارُ الَّتي يحمِلُونَهَا رأسماليَّةً ديمقراطيَّةً، والمشاعرُ الَّتي يحمِلُونَهَا روحيَّةً كَهَنُوتِيَّةً أوْ وطنيَّةً، والنظامُ الَّذي يُطَبَّقُ عليهِمْ رأسماليَّاً ديمقراطيَّاً، فإنَّ المجتمعَ يكونُ مجتمعاً غيرَ إسلاميٍّ ولوْ كانَ جُلُّ أهلِهِ منَ المسلميَن.

وأمَّا منْ حيثُ تنفيذِ النظامِ فالمبدأُ الشيوعِيُّ يرى أنَّ الدولةَ وحدَهَا هيَ الَّتي تُنَفِّذُ النظامَ بِقُوَّةِ الجُنْدِيِّ وصرامةِ القانونِ، وتتولَّى عنِ الفردِ وعنِ الجماعةِ شُؤُونَهُمْ، وهيَ الَّتي تُطَوِّرُ النظامَ. والرأسماليَّةُ ترى أنَّ الدولةَ إنَّما تُشْرِفُ على الحرِّيَّاتِ، فإذا إعْتَدَى أحدٌ على حرِّيَّةِ غيرِهِ مَنَعَتْ هذا الإعتداءَ، لأنَّهَا وُجِدَتْ لِضَمَانِ الحرِّيَّاتِ، وإذا لمْ يعتدِ أحدٌ على حرِّيَّةِ آخرٍ ولوْ إسْتَغَلَّهُ وأخَذَ حُقُوقَهُ، ولكنْ برضاهُ، لا يكونُ هناكَ إعتداءٌ على الحرِّيَّاتِ، فلا تتدخَّلُ الدولةُ، ولذلكَ فالدولةُ موجودةٌ لضمانِ الحرِّيَّاتِ.

وأمَّا الإسلامُ فيرى أنَّ النظامَ إنَّما يُنَفِّذُهُ الفردُ المؤمِنُ بدافعِ تقوى اللهِ، وتنفِّذُهُ الدولةُ بشعورِ الجماعةِ بعدالَتِهِ، وبِتَعَاوُنِ الأُمَّةِ معَ الحاكمِ بالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ، وبسلطانِ الدولةِ. وتتولَّى الدولةُ شؤونَ الجماعةِ، ولا تتولَّى عنِ الفردِ شؤونَهُ إلاَّ إذا عَجِزَ عَنْهَا، ولا يتطوَّرُ النظامُ أَبَداً. والدولةُ لها صلاحيَّةُ تَبَنِّي الأحكامِ الشرعيَّةِ إذا تَعَدَّدَتْ نَتَائِجُ الإجتهاد فيهَا.

والقيادةُ الفكريَّةُ لمبدأِ الإسلامِ مُتَّفِقَةٌ معَ فطرةِ الإنسانِ، وهيَ على عُمْقِهَا سهلةٌ مَيْسُورَةٌ، سُرْعانَ ما يَفْتَحُ لها الإنسانُ عقلَهُ وقلبَهُ، وسرعانَ ما يُقْبِلُ عليْهَا ليَفْهَمُهَا، ولِيتعمَّقَ في فَهْمِ دَقَائِقِهَا بِشَغَفٍ وتَقْدِيرٍ،لأنَّ التَدَيُّنَ فِطْرِيٌّ في الإنسانِ، وكلُّ إنسانٍ بفطرتِهِ، مُتَدَيِّنٌ، ولا تستطيعُ أيُّ قُوَّةٍ أنْ تَنْزِعَ منْهُ هذهِ الفطرةَ، لأنَّها مُتَأَصِّلَةٌ فيهِ، فالإنسانُ بطبعِهِ يَشْعُرُ أنَّهُ ناقِصٌ، وأنَّ هناكَ قُوَّةٌ أكْمَلُ منهُ، وأنَّ هذهِ القوةَ تَسْتَحِقُّ التقديسَ، والتديُّنُ هوَ الإحتياجُ إلى الخالقِ المُدَبِّرِ، الناشئُ عنِ العَجْزِ الطبيعيِّ في تكوينِ الإنسانِ، وهوَ غريزةٌ ثابتةٌ لها رجعٌ مُعَيَّنٌ هوَ التقديسُ، ولذلكَ كانتْ الإنسانِيَّةُ في جميعِ العصورِ تعبُدُ شيئاً، فعبدتْ الإنسانَ، والأفْلاكَ، والحجارةَ، والحيوانَ، والنِيرانَ، وغيرَ ذلكَ. ولمَّا جاءَ الإسلامُ بعقيدتِهِ جاءَ لِيُخْرِجَ الإنسانيَّةَ منْ عبادةِ المخلوقاتِ إلى عبادةِ اللهِ الَّذي خلقَ كُلَّ شيءٍ.

ولمَّا ظهرَ المبدأُ المادِّيُّ الَّذي يُنْكِرُ وجودَ اللهِ وينكرُ الروحَ لمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَقْضِي على هذا التَدَيُّنِ الطبيعيِّ، وإنمَّا نقلَ تَصَوُّرَ الإنسانِ لقوَّةٍ أكبرَ منْهُ، ونقلَ تقديسَهُ لهذهِ القوَّةِ، نقلَ كلَّ ذلكَ إلى تصوُّرِ هذهِ القُوَّةِ في المبدأِ وفي حَمَلَتِهِ، وجعلَ تقديسَهُ لهما وحدَهُمَا، فكأنَّهُ رجعَ إلى الوراءِ، ونقلَ تقديسَ الناسِ منْ عبادةِ اللهِ إلى عبادةِ العبادِ، ومنْ تقديسِ آياتِ اللهِ إلى تقديسِ كلامِ المخلوقاتِ، فكانَ رَجْعِيَّاً في ذلكَ. ولمْ يستطِعْ القضاءَ على فطرةِ التديُّنِ، وإنمَّا حوَّلهَا بالمُغالَطَةِ تحوِيلاً رجعِيَّاً. ولذلكَ كانتْ قيادتُهُ الفكريَّةُ تختلِفُ معَ طبيعةِ الإنسانِ، وكانتْ قيادةً سَلْبِيَّةً. ومنْ هنا كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ في الشيوعيَّةِ مُخْفِقَةً منْ ناحِيَةٍ فِطْرِيَّةٍ، وإنَّما يَتَحَيَّلُ لها بالمعدةِ، وتستَهْوي الجائعينَ، والخائفينَ، والبائِسينَ، ويَتَمَسَّكُ بهَا المُنْخَفِضُونَ، والمُخْفِقُونَ في الحياةِ الحاقِدُونَ عليْهَا، والمُصَابُونَ بالشُذُوذِ العَقْلِيِّ، حتَّى يُقالَ أَنَّهُمْ منْ ذَوِي الفكرِ حينَ يَتَشَدَّقُونَ بالنظريَّةِ الديالِكْتيكِيَّةِ الَّتي هيَ أَظْهَرُ شيءٍ فساداً وبُطلاناً بشهادةِ الحِسِّ والعقلِ مَعَاً. وتَتَوَسَّلُ بالقوَّةِ لإخضاعِ الناسِ لِمَبْدَئِهَا، ومنْ هنا كانَ الضغْطُ والكَبْتُ، وكانتْ الثَوْرَاتُ والقَلاقِلُ، والتَخْرِيبُ والإضْطِرابُ منْ أهَمِّ وسائِلِهَا.

وكذلكَ كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ لِلرأسماليَّةِ مُخالِفَةً لفطرةِ الإنسانِ الَّتي هيَ فطرةُ التديُّنِ، لأنَّ فطرةَ التديِّنِ كما تَبْرُزُ في التقديسِ تَبْرُزُ في تدبيرِ الإنسانِ لأعمالِهِ في الحياةِ، لِظُهُورِ إختلافِهِ وتناقُضِهِ حينَ يَقُومُ بهذا التدبيرِ، وهذا آيةُ العجزِ. ولذلكَ كانَ لا بُدَّ أنْ يكونَ الدينُ هوَ المدبِّرُ لأعمالِ الإنسانِ في الحياةِ. فإبعادُ الدينِ عنِ الحياةِ مخالفٌ لفطرةِ الإنسانِ. على أنَّهُ ليسَ معنى وجودِ الدينِ في الحياةِ هوَ جعلَ أعمالِ الدنيا عباداتٌ بلْ معنى وجودِ الدينِ في الحياةِ هوَ جعلُ النظامِ الَّذي أمرَ اللهُ بهِ هوَ الَّذي يُعالجُ مشاكلَ الإنسانِ في الحياةِ، وهذا النظامُ صادِرٌ عنْ عقيدةٍ قَرَّرَتْ ما في فطرةِ الإنسانِ، فإبعادُهُ وأَخْذُ نظامٍ صادرٍ منْ عقيدةٍ لا تُوَافِقُ غريزةَ التديِّنِ مخُالفٌ لفطرةِ الإنسانِ. ولذلكَ كانتْ القيادةُ الرأسماليَّةُ مخفقةً منْ ناحيةٍ فطريَّةٍ، لأنَّها قيادةٌ سَلْبِيَّةٌ في فَصْلِهَا الدينَ عنِ الحياةِ، وفي إبْعادِهَا التَدَيُّنَ عنِ الحياةِ، وجعلِهِ مسألةً فرديَّةً، وفي إبعادِهَا النظامَ الَّذي أمرَ اللهُ بهِ عنْ معالجةِ مشاكلِ الإنسانِ.

rajaab
03-05-2005, 10:54 PM
والقيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ هيَ قيادةٌ إيجابيَّةٌ لأنَّها تجعلُ العقلَ أساساً للإيمانِ بوجودِ اللهِ، إذْ تَلْفِتُ النظرَ إلى ما في الكونِ والإنسانِ والحياةِ، ممَّا يحمِلُ على الجَزْمِ بِوُجُودِ اللهِ الَّذي خلقَ هذهِ المخلوقاتِ، وتُعَيِّنُ للإنسانِ ما يبحثُ عنهُ بفطرتِهِ منْ كَمَالٍ مُطْلَقٍ، لمْ يوجدْ في الإنسانِ والكونِ والحياةِ، وتُرْشِدُ عقلَهُ إليْهِ، فَيُدْرِكُهُ ويُؤْمِنْ بِهِ.

أمَّا القيادةُ الفكريَّةُ الشيوعيَّةُ فهيَ مبنِيَّةٌ على المادّيَةِ وليسَ على العقلِ، وإنْ توصَّلَ إليها العقلُ، لأنَّها تقولُ بوجودِ المادَّةِ قبلَ الفكرِ، وبجعلِهَا أَصْلَ الأشياءِ، فهيَ مادِّيَّةٌ. وأمَّا القيادةُ الفكريَّةُ الرأسماليَّةُ فهيَ مبنِيَّةٌ على الحلِّ الوسطِ الَّذي تَوَصَّلَتْ إليهِ منَ النِزَاعِ الدَامِي الَّذي إسْتَمَرَّ عِدَّةَ قُرونٍ بينَ رجالِ الكنيسةِ ورجالِ الفكرِ، وأنْتَجَ فصلَ الدينِ عنِ الدولةِ.

لذلكَ كانتْ القيادتَانْ الفكرِيَّتَانْ الشيوعِيَّةُ والرأسمالِيَّةُ مُخْفِقَتَيْنِ، لأنَّهُمَا مُتَنَاقِضَتَانِ معَ الفطرةِ، وغيرَ مَبْنِيَّتَيْنِ على العقلِ.

والحاصلُ أنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ هيَ القيادةُ وحدها الفكريةُ الصحيحةُ، وما عداها قياداتٌ فكريَّةٌ فاسدةٌ، لأنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ مَبْنِيَّةٌ على العقلِ، في حينِ أنَّ القياداتِ الفكريَّةِ الأخرى غيرُ مبنيَّةٍ على العقلِ، ولأنَّها قيادةٌ فطريَّةٌ تَتَّفِقُ معَ فطرةِ الإنسانِ، فيتجاوَبُ معهَا في حينِ أنَّ القياداتِ الفكريَّةَ الأُخْرَى تُخَالِفُ فطرةَ الإنسانِ. وذلكَ : أنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الشيوعيَّةَ مَبْنِيَّةٌ على المادِّيَّةِ لا على العقلِ، لأنَّها تقولُ إنَّ المادَّةَ تَسْبِقُ الفكرَ، أيْ تَسْبِقُ العقلَ، ولذلكَ فالمادَّةُ حينَ تَنْعَكِسُ على الدِمَاغِ تُوجِدُ به الفكرَ، فَيُفَكِّرُ في المادَّةِ الَّتي إنْعَكَسَتْ عليهِ. أمَّا قبلَ إنعكاسِ المادَّةِ على الدماغِ فلا يوجَدُ الفكرُ، ولذلكَ فكلُّ شيءٍ مَبْنِيٌّ على المادَّةِ، فأصْلُ العقيدةِ الشيوعيَّةِ أيْ القيادةِ الفكريَّةِ الشيوعيَّةِ هوَ المادِّيَّةُ وليسَ الفكرُ.

وهذا خطأٌ منْ وَجْهَيْنِ، الأوَّلُ أنَّهُ لا يوجدُ إنعكاسٌ بينَ المادَّةِ والدماغِ، فلا الدماغُ ينعكسُ على المادَّةِ، ولا المادَّةُ تنعكس على الدماغِ، لأنَّ الإنعكاسَ يحتاجُ إلى وجودِ قابِلِيَّةِ الإنعكاسِ في الشيءِ الَّذي يعكسُ الأشياءَ كالمرآةِ، فإنَّها تحتاجُ إلى قابليَّةِ الإنعكاسِ عليهَا، وهذا غيرُ موجودٍ، لا في الدِماغِ ولا في الواقعِ المادِّيِّ. ولذلكَ لايوجدُ إنعكاسٌ بينَ المادَّةِ والدماغِ مُطلقاً، لأنَّ المادَّةَ لا تنعكسُ على الدماغِ، ولا تَنْتَقِلُ إليهِ بلْ يَنْتَقِلُ الإِحْسَاسُ بالمادَّةِ إلى الدماغِ بواسطةِ الحواسِّ، ونقلِ الإحساسِ بالمادَّةِ إلى الدِماغِ ليسَ إنعكاساً للمادَّةِ على الدماغِ، ولا إنعكاساً للدماغِ على المادَّةِ، وإنمَّا هوَ حِسٌّ بالمادَّةِ، ولا فَرْقَ في ذلكَ بَيْنَ العَيْنِ وغيرِهَا منَ الحواسِّ، فَيَحْصُلُ منَ اللَّمْسِ، والشَمِّ، والذَوْقِ، والسَمْعِ، إحْسَاسٌ كمَا يَحْصُلُ منَ الإبْصارِ. إِذَنْ فالَّذي يَحصلُ منَ الأشياءِ ليسَ إنعكاساً على الدماغِ، وإنَّما هوَ حِسٌّ بالأشياءِ. فالإنسانُ يُحِسُّ بالأشياءِ بواسطةِ حواسِّهِ الخَمْسِ، ولا تعكِسُ على دماغِهِ الأشياءُ.

والثاني أنَّ الحِسَّ وحدَهُ لا يحصلُ منْهُ فكرٌ، بلْ الَّذي يحصلُ هوَ الحسُّ فقطْ، أيْ الإحساسُ بالواقِعِ، وإحساسٌ زَائِدُ إحساسٍ، زائدُ مِلْيَونِ إحساسٍ، مهما تعدَّدَ نوعُ الإحساسِ، إنَّما يحصلُ منهُ إحساسٌ فقطْ، ولا يحصلُ فكرٌ مطلقاً، بلْ لا بُدَّ منْ وجودِ معلوماتٍ سابقةٍ عندَ الإنسانِ يُفَسِّرُ بواسِطَتِهَا الواقعُ الَّذي أحسَّ بِهِ حتَّى يحصلَ فكرٌ، ولِنَأْخُذِ الإنسانَ الحالِيَّ، أيَّ إنسانِ ونُعطيهِ كتاباً سِرْيَانِيَّاً، ولا توجدُ لديهِ أيُّ معلوماتٍ تَتَّصِلُ بالسِرْيانِيَّةِ، ونجعلُ حِسَّهُ يقعُ على الكتابِ، بالرُؤْيَةِ، باللمْسِ، ونكرِّرُ هذا الحسَّ مليونَ مَرَّةٍ، فإنَّهُ لا يمكنُ أنْ يعرفَ كلمةً واحدةً، حتَّى يُعْطَى معلوماتٍ عنِ السريانيَّةِ، وعمَّا يَتَّصِلُ بالسريانِيَّةِ، فحينَئِذٍ يبدأُ يُفَكِّرُ بها ويُدْرِكُهَا. وكذلكَ لِنَأْخُذِ الطِفْلَ الَّذي وُجِدَ عندَهُ الإحساسُ ولمْ توجدْ عندهُ أيُّ معلوماتٍ، ولنضعَ أمامَهُ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وقِطعةَ نُحاسٍ، وحَجَرَاً، وتُجْعَلُ جميعُ إحساساتِهِ تَشْتَرِكُ في حِسِّ هذهِ الأشياءِ، فإنَّهُ لا يمكنهُ أنْ يُدْرِكَهَا، مهما تَكَرَّرَتْ هذهِ الإحساساتُ وتنوَّعَتْ. ولكنْ إذا أُعْطِيَ معلوماتٍ عنها، وأحَسَّهَا فإنَّهُ يستعملُ المعلوماتِ ويُدْرِكُهَا. وهذا الطفلُ لوْ كَبُرَتْ سِنُّهُ وبلغَ العشرينَ سنةً ولْم يأخذْ أيَّ معلوماتٍ فإنَّهُ يَبْقَى كأوَّلِ يومٍ يُحِسُّ بالأشياءِ فقطْ ولا يدركُهَا مهمَا كَبِرَ دماغُهُ، لأنَّ الَّذي يجعلُهُ يدركُ ليسَ الدماغُ، وإنَّما هوَ المعلوماتُ السابقةُ معَ الدماغِ، ومعَ الواقِعِ الَّذي يُحِسُّهُ. هذا منْ ناحيةِ الإدراكِ العقليِّ، وأمَّا منْ ناحيةِ الإدراكِ الشُعُورِيِّ فناتِجٌ عنِ الغرائزِ والحاجاتِ العُضْوِيَّةِ، والَّذي يحصلُ عندَ الحيوانِ فإنَّهُ يحصلُ عندَ الإنسانِ، فيعرِفُ منْ تِكْرَارِ إعطائِهِ التُفَّاحَةَ والحجرَ أنَّ التُفَّاحَةَ تُؤْكَلُ والحجرَ لا يُؤكلُ، كما يعرفُ الحمارُ أنَّ الشَعِيرَ يُؤكلُ والتُرابَ لا يُؤكلُ، ولكنَّ هذا التَمْيِيزَ ليسَ فِكْراً، ولا إدْرَاكاً، وإنَّما هوَ راجِعٌ للغرائزِ وللحاجاتِ العضويَّةِ، وهوَ موجودٌ عندَ الحيوانِ كما هوَ موجودٌ عندَ الإنسانِ، ولذلكَ لا يمكنُ أنْ يَحْصُلَ فكرٌ إلاَّ إذا وجدتْ المعلوماتٌ السابقةٌ معَ نقلِ الإحساسِ بالواقعِ بواسطةِ الحواسِّ إلى الدماغِ.

وعليهِ فالعقلُ أوِ الفكرُ أوِ الإدراكُ هوَ نقلُ الحِسِّ بالواقعِ بواسطةِ الحواسِّ إلى الدماغِ ووُجودِ معلوماتٍ سابقةٍ يُفَسَّرُ بواسِطَتِهَا الواقعُ.

وعلى ذلكَ فالقيادةُ الفكريةُ الشيوعيَّةُ مخطِئَةٌ وفاسدةٌ، لأنَّها غيرَ مبنِيَّةٍ على العقلِ، كما أنَّ معنى الفكرِ والعقلِ عندَهَا فاسِدٌ.

وكذلكَ القيادةُ الفكريَّةُ الرأسمالِيَّةُ مبنِيَّةٌ على الحلِّ الوسطِ بينَ رجالِ الكنيسةِ والمفكِّرينَ، فإنَّها بعدَ ذلكَ الصراعِ العنيفِ الَّذي إسْتَمَرَّ عِدَّةَ قُرُونٍ بينَ رجالِ الدينِ والمُفَكِّرينَ، تَوَصَّلُوا إلى حلٍّ وسطٍ هوَ فصلُ الدينِ عنِ الحياةِ، أي الإعترافُ بوجودِ الدينِ ضِمْنَاً وفصلُهُ عنِ الحياةِ، ولذلكَ لمْ تكنْ القيادةُ الفكريَّةُ مبنيَّةٌ على العقلِ، وإنَّما هيَ حلُّ تَرْضِيَةٍ أوْ حلٌّ وسطٌ. ولذلكَ نجدُ فكرةَ الحلِّ الوسطِ أصيلةً عندَهُمْ، فَهُمْ يُقَرِّبُونَ بينَ الحَقِّ والباطلِ بحلٍّ وسطٍ، وبينَ الإيمانِ والكفرِ بحلٍّ وسطٍ، وبينَ النورِ والظَلامِ بحلٍّ وسطٍ، معْ أنَّ الحلَّ الوسطَ غيرُ موجودٍ، لأنَّ المسألةَ إمَّا الحقُّ أوِ الباطِلُ، وإمَّا الإيمانُ أو الكفرُ، وإمَّا النورُ أوِ الظلامُ، ولكنَّ الحلَّ الوسطَ الَّذي بَنُوا عليهِ عَقيدَتَهُمْ وقيادَتَهُمُ الفكريَّةَ أبْعَدَهُمْ عنِ الحقِّ، وعنِ الإيمان،ِ وعنِ النورِ، ولذلكَ كانتْ قيادتُهُمُ الفكريَّةُ فاسدةٌ لأنَّها غيرُ مبنيَّةٍ على العقلِ.

وأمَّا القيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ فإنَّهَا مبنيَّةٌ على العقلِ، إذْ تَفْرِضُ على المسلمِ أنْ يُؤمِنَ بوجودِ اللهِ، وبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ، وبالقرآنِ الكريمِ، عنْ طريقِ العقلِ. وتفرضُ الإيمانَ بالمَغِيبَاتِ، على أنْ تأتي منَ شيءٍ ثبتَ وجودُهُ بالعقلِ، كالقرآنِ والحديثِ المُتَواتِرِ، ولذلكَ كانتْ قيادةً فكريَّةً مبنِيَّةً على العقلِ.

هذا منْ ناحيةِ العقلِ، أمَّا منْ ناحيةِ الفطرةِ فإنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ تُوافِقُ الفطرةَ، لأنَّها تُؤْمِنُ بوجودِ الدينِ، وبوجوبِ وجودِهِ في الحياةِ، وتَسْيِيْرِهَا بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ. والتديُّنُ فطريٌّ لأنَّهُ غريزةٌ منَ الغرائزِ، لها رجْعٌ خاصٌّ هوَ التقديسُ، وهوَ يَختلِفُ عنْ رجعِ أيِّ غريزةٍ أُخرى غيرِهَا، وهوَ رَجْعٌ طبيعيٌّ لغريزةٍ مُعَيَّنَةٍ، ولهذا كانَ الإيمانُ بالدينِ، وبوجوبِ تسييرِ أعمالِ الإنسانِ في الحياةِ بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ، غريزِيَّاً، فهوَ موافقٌ للفطرةِ، ولذلكَ تتجاوبُ معَ الإنسانِ.

بخلافِ القيادتينِ الفكريِّتينِ الشيوعيَّةِ والرأسماليَّةِ فإنَّهُمَا تُخالِفانِ الفطرةَ، لأنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الشيوعيَّةَ تُنْكِرُ وجودَ الدينِ مُطْلَقَاً، وتحارِبُ الإعترافَ بهِ، فهيَ تتناقضُ معَ الفطرةِ. والقيادةُ الفكريَّةُ الرأسماليَّةُ لا تَعْتَرِفُ بالدينِ ولا تُنْكرُهُ، ولا تجعلُ الإعترافِ بهِ أو إنكارهِ موضوعَ بحثٍ، ولكنَّها تقولُ بوجوبِ فصلِ الدينِ عنِ الحياةِ، فهيَ تريدُ أنْ يكونَ سَيْرُ الحياةِ نَفْعِيَّاً بَحْتَاً لا شأنَ للدينِ بهِ، وهذا مناقِضٌ للفطرةِ، وبعيدٌ عنْها. ولذلكَ كانتْ مُناقِضَةً لِفطرةِ الإنسانِ.

ومنْ هنا كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ وحدَهَا هيَ الصالحةَ، لموافَقَتِهَا لفطرةِ الإنسانِ، ولموافقتِهَا للعقلِ، وما عداها فهوَ باطلٌ. ولذلكَ كانتْ القيادةُ الفكريَّةُ الإسلاميَّةُ وحدَهَا هي الصحيحةَ، وكانتْ وحدها هيَ الناجحةَ.

بقيتْ مسألةٌ واحدةٌ هيَ هلْ طَبَّقَ المسلمونَ الإسلامَ؟ أمْ أنَّهُمْ كانوا يعتَنِقُونَ عقيدتَهُ ويُطَبِّقُونَ غيرهُ منَ الأنظمةِ والأحكامِ؟! والجوابُ على ذلكَ أنَّ المسلمينَ طبَّقوا الإسلامَ وحدَهُ في جميعِ العصورِ، منذُ أنْ وصلَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى المدينَةِ حتَّى سنةِ 1336هجريَّةٍ أيْ 1918ميلاديَّةٍ حينَ سقطتْ آخرُ دولةٍ إسلاميَّةٍ على يَدِ الإستعمارِ، وكانَ تطبيقُهَا شاملاً حتَّى نجحتْ في هذا التطبيق إلى أ بْعَدِ حُدودِ النجاحِ.
أمَّا كونُ المسلمينَ طبَّقُوا عَمَلِيَّاً الإسلامَ فإنَّ الَّذي يُطَبِّقُ النِظامَ هوَ الدولةُ، والَّذي يطبِّقُ في الدولةِ شخصانِ أحدُهُمَا القاضِي الَّذي يفصِلُ الخصوماتِ بينَ الناسِ، والثاني الحاكمُ الَّذي يحكُمُ الناسَ. أمَّا القاضي فإنَّهُ نُقِلَ بطريقِ التواترِ أنَّ القضاةَ الَّذينَ يَفْصِلُونَ الخصوماتِ بينَ الناسِ منذُ عهدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ حتَّى نهايَةِ الخلافةِ في استانبولَ، كانوا يفصِلُونَهَا حَسَبَ أحكامِ الشرعِ الشريفِ في جميعِ أمورِ الحياةِ، سواءٌ بينَ المسلمينَ وحدَهُمْ، أوْ بينَ المسلمينَ وغيرِهِمْ. وقدْ كانتْ المحكمةُ الَّتي تَفْصِلُ جميعَ الخصوماتِ منْ حقوقٍ وجَزَاءٍ وأحْوَالٍ شخصيَّةٍ وغيرَ ذلكَ، محكمةٌ واحدةٌ تحكُمُ بالشرعِ الإسلاميِّ وحدَهُ. ولمْ يَرْوِ أحدٌ أنَّ قضيَّةً واحدةً فُصِلَتْ على غيرِ الأحكامِ الشرعيَّةِ الإسلاميَّةِ، أوْ أنَّ محكمةً ما في البلادِ الإسلاميَّةِ حكمتْ بغيرِ الإسلامِ قبلَ فصلِ المحاكمِ إلى شَرْعِيَّةٍ ونِظَامِيَّةٍ بتَأْثِيرِ الإستعمارِ. وأقربُ دليلٍ على ذلكَ سِجِلاَّتُ المحاكمِ الشرعيَّةِ المحفوظةُ في البلدانِ القديمةِ كالقُدسِ وبغدادَ ودِمَشْقِ ومِصْرَ واستانبولَ وغيرِهَا فإنَّها دليلٌ يقينيٌّ بأنَّ الشرعَ الإسلاميَّ وحدَهُ هوَ الَّذي كانَ يُطَبِّقُهُ القضاةُ. حتَّى إنَّ غيرَ المسلمينَ منَ النصارى واليهودِ كانوا يدرُسونَ الفِقْهَ الإسلاميَّ ويُؤَلِّفُونَ فيهِ مِثْلَ سَلِيْمٍ البازِ شارحِ المجلَّةِ وغيرِهِ مِمَّنْ ألَّفُوا في الفقهِ الإسلاميِّ في العصورِ المُتَأَخِّرَةِ. وأمَّا مَا أُدْخِلَ مِنَ القوانِينَ فإنَّهُ أُدْخِلَ بِنَاءً على فَتَاوى العلماءِ بأنَّها لا تُخالِفُ أحكامَ الإسلامِ، وهكذا أُدخِلَ قانونُ الجَزَاءِ العُثْمَانِيِّ 1275 هـ الموافِقَ 1857م وأدخلَ قانونُ الحُقوقِ والتِجارَةِ 1276هـ الموافقَ 1858م ثمَّ في 1288هـ والموافقَ 1870م جُعِلَتْ المحاكمُ قِسْمَيْنِ محاكمَ شرعيَّةٍ ومحاكمَ نظاميَّةٍ، ووُضِعَ لها نظامٌ ثمَّ في 1295هـ الموافقِ 1877م وُضِعَتْ لائِحَةُ تشكيلِ المحاكمِ النظاميَّةِ. ووُضِعَ قانونُ أُصولِ المحاكماتِ الحقوقِيَّةِ والجزائِيَّةِ 1296هـ. ولمَّا لمْ يجدْ العلماءُ ما يُبَرِّرُ إدْخالَ القانونِ المَدَنِيِّ إلى الدولةِ وضَعَتْ المُجَلَّةُ قانوناً للمعاملاتِ، وَاسْتُبْعِدَ القانونُ المدنيُّ وذلكَ 1286هـ فهذهِ القوانينُ وُضِعَتْ كأحكامٍ يُجِيزُها الإسلامُ، ولمْ توضعْ مَوْضِعَ العَمَلِ إلاَّ بعدَ أنْ أخذتْ الفتوى بإجازَتِها، وبعدَ أن أَذِنَ شَيْخَ الإسلامِ بها، كما تَبَيَّنَ منَ المَرَاسِيمِ الَّتي صَدَرَتْ بِهَا. وإنَّهُ وإنْ كانَ الإستعمارُ منذُ سنةَ 1918م أيْ منذُ احْتِلالِهِ البِلادَ أَخَذَ يَفْصِلُ الخصوماتِ في الحقوقِ والجزاءِ على غيرِ الشريعةِ الإسلامِيَّةِ، ولكنَّ البلادَ الَّتي لمْ يَدْخُلْهَا الإستعمارُ بجيوشِهِ وإنْ دخلَهَا بِنُفُوذِهِ، لاتَزَالُ تُحْكَمُ قَضَائِيَّاً بالإسلامِ، فجزيرةُ العربِ كُلِّهَا : الحِجازُ ونجدُ والكويتُ، وكذلكَ بلادُ الأفَغَانِ، لا تزالُ تُطَبِّقُ الإسلامَ قضائِيَّاً ولمْ تحكُمْ حتَّى الآنَ في القضاءِ إلاَّ في الشريعةِ الإسلاميَّةِ ولوْ أنَّ الحُكَّامَ في هذهِ البلادِ الآنَ لا يُطَبِّقُونَ الإسلامَ. ومعْ ذلكَ نرى أنَّ الإسلامَ طُبِّقَ قضائِيَّاً ولمْ يُطَبَّقْ غيرَهُ في جميعِ عصورِ الدولةِ الإسلاميَّةِ.

أمَّا تطبيقُ الحاكمِ للإسلامِ فإنَّهُ يَتَمَثَّلُ في خمسَةِ أشياءٍ: في الأحكامِ الشرعيَّةِ المُتَعَلِّقَةُ بالإجْتِمَاعِ، والإقتصادِ، والتعليمِ، والسياسةِ الخارجِيَّةِ، والحُكْمِ. وقدْ طُبِّقَتْ هذهِ الأشياءُ الخمسة جميعُهَا منْ قبلِ الدولةِ الإسلاميَّةِ. أمَّا النظامُ الإجتماعيُّ الَّذي يُعَيِّنُ علاقةَ المرأةِ بالرجلِ وما يترتَّبُ على هذهِ العلاقةِ أي الأحوالُ الشخصيَّةُ، فإنَّها لا تزالُ تطبَّقُ حتَّى الآنَ رغمَ وجودِ الإستعمارِ ووجودِ حُكْمِ الكُفْرِ، ولمْ يُطَبَّقْ غيرُهَا مطلقاً حتَّى الآنَ. وأمَّا النظامُ الإقتصادِيُّ فيتَمَثَّلُ في ناحِيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا كَيْفِيَّةُ أخذِ الدولةِ للمالِ منَ الشعبِ لِتُعَالِجَ مشاكلَ الناسِ، والثانيةُ كيفيَّةُ إنْفَاقِهِ. أمَّا كيفيَّةُ أخذِهِ فقدْ كانتْ تأخُذُ الزكاةَ على الأموالِ، والأراضي، والأنعامِ، بإعْتِبَارِهَا عِبادَةً، وتُوَزِّعُهَا فقطْ على الأصْنافِ الثمانِيَّةِ الَّذينَ ذُكِرُوا في القرآنِ الكريمِ ولا تستعمِلُهَا في إدارةِ شؤونِ الدولةِ، وتأخذُ الأموالَ لإدارةِ شؤونِ الدولةِ والأمَّةِ حسبَ الشرعِ الإسلاميِّ، فهيَ لمْ تأخذْ أيَّ نظامٍ للضرائِبِ، وإنَّما كانتْ تُطَبِّقُ الإسلامَ، فتأخذُ الخراجَ على الأرضِ، وتأخذُ الجِزْيَةَ منْ غيرِ المسلمينَ، وتأخذُ ضرائبَ الجماركِ بِحُكْمِ إشْرَافِهَا على التجارةِ الخارجيَّةِ والداخلِيَّةِ، وما كانتْ تُحَصِّلُ الأموالَ إلاَّ حسبَ الشريعةِ الإسلاميَّةِ. وأمَّا تَوْزِيعُ المالِ فقدْ كانتْ تُطَبِّقُ أحكامَ النَفَقَةِ للعاجِزِ، وتَحْجُرُ على السفيهِ والمُبَذِّرِ، وتَنْصِبُ عليهِ وصِيَّاً، وكانتْ تُقِيمُ أمْكِنَةً في كلِّ مدينةٍ، وفي طريقِ الحجِّ، لإطعامِ الفقيرِ والمسكينِ وابنِ السَبِيلِ، ولا تزالُ آثارُهَا مَوجودةٌ حتَّى اليومِ في أمَّهاتِ بلادِ المسلمينَ. وبِالجُمْلَةِ كانَ يَجْرِي إنفاقُ المالِ منَ الدولةِ حسبَ الشريعةِ، ولمْ يجرِ حسبَ غيرِهَا مُطلقاً وما يُشَاهَدُ منْ هذهِ الناحيةِ هوَ إهْمَالٌ، وإساءةُ تطبيقٍ، وليسَ عدمَ تطبيقٍ.

وأمَّا التعليمُ فإنَّ سياسَتَهُ كانتْ مَبْنِيَّةً على أساسِ الإسلامِ، فكانتْ الثقافةُ الإسلاميَّةُ هيَ الأساسُ في مِنْهَاجِ التعليمِ، والثقافةُ الأجنبِيَّةُ يُحْرَصُ في عدمِ أخذِهَا إذا تناقضتْ معَ الإسلامِ. وأمَّا التقصيرُ في فتحِ المدارسِ فهوَ إنَّما كانَ في أواخرِ الدولةِ العثمانيَّةِ، على السواءِ في جميعِ البلادِ الإسلاميَّةِ، للإنحِطَاطِ الفكريِّ الَّذي بلغَ نهايتَهُ حِينَئِذٍ. وأمَّا في باقي العصورِ فإنَّ منَ المشهورِ في العالمِ كُلِّهِ أنَّ البلادَ الإسلاميَّةَ كانتْ وحدَهَا مَحَطَّ أنظارِ العلماءِ والمُتَعَلِّمِينَ، ولجامعاتِ قُرْطُبَةَ وبغدادَ ودِمَشقَ والإسكندريَّةِ والقاهرةِ أَثَرٌ كبيرٌ في توجيهِ التعليمِ في العالمِ.

وأمَّا السياسةُ الخارجيَّةُ فإنَّها كانتْ مبنِيَّةً على أساسٍ إسلاميٍّ، فالدولةُ الإسلاميَّةُ كانتْ تَبْنِي عَلاقَاتِهَا مَعَ الدولِ الأُخرى على أساسِ الإسلامِ، وكانتْ جميعُ الدولِ تنظرُ إليها بوصفِهَا دولةً إسلاميَّةً، وكانتْ علاقاتُها الخارجيَّةِ كلُّهَا مبنيَّةٌ على أساسِ الإسلامِ ومصلحةِ المسلمينَ بوصْفِهِمْ مسلمينَ، وإنَّ أمْرَ كونِ سياسةِ الدولةِ الإسلاميَّةِ الخارجِيَّةِ هيَ السياسةَ الإسلاميَّةَ مَشْهُورٌ شُهْرَةً عالمِيَّةً تُغْني عنِ الدليلِ.

وأمَّا بالنسبةِ لنظامِ الحكمِ فإنَّ جهازَ الدولةِ في الإسلامِ يقومُ على سبعةِ أركانٍ هيَ : الخليفةُ وهوَ رئيسُ الدولةِ، والمُعَاوِنُونَ لَهُ في الحُكْمِ، والوُلاةُ، والقُضَاةُ، والجَيْشُ، والجِهازُ الإدارِيُّ، ومَجْلِسُ الشُورَى، وهذا الجهازُ كانَ موجوداً، فإنَّ المسلمينَ لمْ يَمُرَّ عليهمْ زَمَنٌ لمْ يكنْ لهمْ فيهِ خليفةٌ، إلاَّ بعدَ أنْ أزالَ الكافِرُ المستعمرُ الخلافةَ على يدِ كمالٍ أتاتورك سنةَ 1342هجريَّةً و1924ميلاديَّةً. أمَّا قبلَ ذلكَ فقدْ كانَ خليفةُ المسلمينَ دائِمِيَّاً لا يذهبُ خليفةٌ إلاَّ وقدْ أتَى بعدهُ خليفةٌ، حتَّى في أشدِّ عصورِ الهبوطِ. ومتى وُجِدَ الخليفةُ فقد وُجِدَتْ الدولةُ الإسلاميَّةُ، لأنَّ الدولةَ الإسلاميَّةَ هيَ الخليفةُ، وأمَّا المُعَاوِنُونَ فقدْ كانوا كذلك موجودينَ في جميعِ العصورِ، وكانوا معاونينَ مُنَفِّذِينَ ولَيْسُوا وُزَرَاءَ، وإنَّهمْ وإنْ أُطْلِقَ عليهمْ في عصرِ العبَّاسيِّينَ لقبُ وزراءٍ ولكِنَّهُمْ كانوا معاونينَ. ولمْ تكنْ لهمْ صِفَةُ الوِزَارَةِ الموجودةِ في الحكمِ الديمقراطيِّ مطلقاً، بلْ كانوا معاونينَ، وهيئَةً تَنْفِيذِيَّةً فقطْ، والصلاحِيَّاتُ كلُّهَا للخليفةِ. وأمَّا الولاةُ والقضاةُ والجِهازُ الإدارِيُّ فَإِنَّ وُجُودَهَا ثابتٌ. والكافرُ المستعمِرُ حينَ إسْتَلَمَ البلادَ كانتْ أمورُهَا سائِرَةٌ، وفيها الولاةُ والقضاةُ والجهازُ الإداريُّ ممَّا لا يحتاجُ لدليلٍ. وأمَّا الجيشُ فإنَّهُ كانَ جيشاً إسلامِيَّاً، وكانَ العالمُ يَتَرَكَّزُ في ذهنِهِ أنَّ الجيشَ الإسلاميَّ لا يُغْلَبُ، وأمَّا مجلسُ الشُورَى فإنَّهُ بعدَ الخلفاءِ الراشدينَ لمْ يُعْنَ بوجودِهِ، والسببُ في ذلكَ أنَّ الشورى ليستْ قاعدةً منْ قواعدِ الحكمِ، وإنْ كانتْ منْ جهازِ الدولةِ، وإنِّمَا هيَ حقٌ منْ حقوقِ الرَعِيَّةِ على الراعي، فإنْ لمْ يفعلْ بها يكنْ قدْ قَصَّرَ، ولكنَّ الحكمَ يبقى حكماً إسلاميَّاً، وذلكَ لأنَّ الشورى هيَ لأخذِ الرأيِ وليستْ للحكمِ، بخلافِهَا في مجالِسِ النُوَّابِ الديمقراطيَّةِ. ومِنْ هذا يتبيَّنُ أنَّ نظامَ الحكمِ كانَ مُطبَّقاً في الإسلامِ.

rajaab
03-05-2005, 10:59 PM
وها هنا مسألةٌ في بَيْعَةِ الخليفةِ، فإنَّ منَ المقطوعِ بهِ أنَّهُ لمْ يكنْ في الخلافةِ نظامُ وِرَاثَةٍ، أيْ لمْ تكنْ الوراثَةُ حكماً مُقَرَّرَاً في الدولةِ يُؤْخَذُ الحكمُ-أيْ تُؤخذُ رئاسةُ الدولةِ- بموجِبِهَا كما هيَ الحالُ في النظامِ المَلَكِيِّ، وإنَّما كانَ الحكمُ المقرَّرُ في الدولةِ لأخذِ الحكمِ هوَ البيعةَ، كانتْ تؤخذُ منَ المسلمينَ في بعضِ العصورِ، ومنْ أهلِ الحلِّ والعقدِ في البعضِ الآخرَ، ومنْ شيخِ الإسلامِ في آخرِ العصرِ الهابطِ. والَّذي جَرَى عليهِ العملُ في جميعِ عصورِ الدولةِ الإسلاميَّةِ أنَّهُ لمْ يُنَصَّبْ أيُّ خليفةٍ إلاَّ بالبيعةِ، ولمْ يُنَصَّبْ بالوراثةِ دونَ بيعةٍ على الإطلاقِ، ولمْ تُرْوَ ولا حادثةٌ واحدةٌ أنَّهُ نُصِّبَ خليفةٌ بالوراثةِ منْ غيرِ بيعةٍ. غيرَ أنَّهُ كانَ يُساءُ تطبيقُ أخذِ البيعةِ، فَيَأْخُذُهَا الخليفةُ منَ الناسِ في حياتِهِ لإبنِهِ، أو أخيهِ، أو إبنِ عمِّهِ، أو شخصٍ منْ أسرتِهِ، ثُمَّ تُجَدَّدُ البيعةُ لذلكَ الشخصِ بعدَ وفاةِ الخليفةِ، وهذهِ إساءةٌ لتطبيقِ البيعةِ وليستْ وراثةً، ولا ولايةَ عَهْدٍ. كما أنَّ إساءةَ تطبيقِ نظامِ الإنتخاباتِ لمجلسِ النُوَّابِ في النظامِ الديمقراطيِّ تُسَمَّى إنْتِخَابَاً ولا تُسَمَّى تَعْيِينَاً، ولوْ فازَ في الإنتخاباتِ الأشخاصُ الَّذينَ تريدُهُمْ الحكومةُ، ومنْ ذلكَ كلِّهِ نرى أنَّ النظامَ الإسلاميَّ طُبِّقَ عملِيَّاً، ولمْ يُطَبَّقْ غيرَهُ في جميعِ عصورِ الدولةِ الإسلاميَّةِ.

أمَّا نجاحُ هذهِ القيادةِ عمليَّاً فقدْ كانَ نجاحاً مُنْقَطِعَ النظيرِ ولاسِيَّمَا في الأمرينِ التالِيَيْنِ:

أمَّا أحدُهُمَا فإنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ نقلتْ الشعبَ العربِيَّ بِمُجْموعهِ منْ حالةٍ فكريَّةٍ مُنْحَطَّةٍ تَتَخَبَّطُ في دَيَاجِيرِ العصبيَّةِ العائليَّةِ، وظلامِ الجهلِ الدامسِ، إلى عصرِ نهضةٍ فكريَّةٍ، يَتَلأْلأُ بنورِ الإسلامِ الَّذي لمْ يقتصرْ بُزُوغُ شمسِهِ على العربِ، بلْ عَمَّ العالمَ. فقدْ إندفعَ المسلمونَ في الكرةِ الأرضيَّةِ، وحملوا الإسلامَ للعالمِ، واستَوْلَوْا على فارسَ والعراقِ وبلادِ الشامِ ومصرَ وشماليِّ إفريقيا. وكانتْ لكلِّ شعبٍ منْ هذهِ الشعوبِ قوميَّةٌ غيرُ قوميَّاتِ الشعوبِ الأخرى، ولغةٌ غيرُ لغاتِهَا، فكانتْ قوميَّة الفُرْسِ في فارِسَ غيرَ قوميَّةِ الرومِ في الشامِ، وغيرَ قوميَّةِ القُبْطِ في مصرَ، وغيرَ قوميَّةِ البَرْبَرِ في شماليِّ إفريقيا، وكانتْ عاداتُهُمْ وتقاليدهمْ وأديانُهُمْ مختلفةً. وما أنِ إسْتَظَلَّتْ بالحكمِ الإسلاميِّ، وفَهِمَتْ الإسلامَ، حتَّى دخلتْ الإسلامَ كلُّها، وأصبحتْ جميعُهَا أمَّةً واحدةً، هيَ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ. ولذلكَ كانَ نجاحُ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ في صَهْرِ هذهِ الشعوبِ والقوميَّاتِ نجاحاً مُنْقَطِعَ النظيرِ، معْ أنَّ وسيلةَ المواصلاتِ في حملِهَا هي الناقةُ والجملُ، ووسيلةَ نشرِهَا اللِسانُ والقلمُ.

أمَّا الفتحُ فكانَ لإزالةِ القوَّةِ بالقوَّةِ، وكسرِ الحواجزِ المادِّيَّةِ، حتَّى يُخَلَّى بينَ الناسِ وما يُرشِدُهُمْ إليهِ العقلُ، أوْ تَهدِيهِمْ إليهِ الفطرةُ، ولذلكَ دخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجَاً. أمَّا الفتحُ الجائِرُ فإنَّهُ يُبَاعِدُ بينَ الفاتحِ والمفتوحِ، والغالبِ والمغلوبِ، وما أَمْرُ إستعمارِ الغربِ للشرقِ عشرات من السنين دونَ أنْ يَظْفَرَ بِنائِلٍ بِبَعِيدٍ، ولولا أثرٌ منَ الثقافةِ المُضَلِّلَةِ سيُمْحَى، وضغطٌ منَ الزعامةِ المأجورةِ سيضْمَحِلُّ، لكانَ العَوْدُ إلى حظيرةِ الإسلامِ في مبدئِهِ ونظامِهِ أقربُ منْ رَدِّ الطَرْفِ...ونعودُ فنقولُ : لقدْ كانَ نجاحُ القيادةِ الفكريَّةِ الإسلاميَّةِ في صهرِ هذهِ الشعوبِ نجاحاً منقطعَ النظيرِ، وظَلَّتْ هذهِ الشعوبُ مُسْلِمَةً حتَّى اليومِ ، بالرغمِ منْ طَوَارِئِ الإستعمارِ وخُبْثِهِ ومَكْرِهِ في إفسادِ العقائدِ وتسميمِ الأفكارِ، وستظلُّ حتَّى تَقومُ الساعةُ أمَّةً واحدةً إسلاميَّةً. ولمْ يحصلْ مطلقاً أنْ أيَّ شعبٍ من الشعوب التي إعتنقَت الإسلامَ إِرْتَدَّ عنِ الإسلامِ.

أمَّا مُسْلِمُو الأندلسِ فقدْ أُفْنُوا إِفْنَاءً بمحاكمِ التفتيشِ، وبُيُوتِ النيرانِ، ومَقَاصِلِ الجلاَّدينَ، ومُسْلِمُو بُخَارَى والقَفْقَاسِ والتُرْكِسْتَانِ قدْ أصابَتْهُمْ قارِعَةُ الَّذينَ سَبَقُوهُمْ. وإسلامُ هذهِ الشعوبِ وصَيْرُورَتِهَا أُمَّةً واحدةً وشِدَّةَ حِرْصِهَا على عقيدتِهَا يُصَوِّرُ مَبْلَغَ نجاحِ هذهِ القيادةِ الفكريَّةِ، ومَبْلَغَ نجاحِ الدولةِ الإسلاميَّةِ في تطبيقِ نظامِ الإسلامِ.

أمَّا الأمرُ الثاني الَّذي يَدُلُّ على نجاحِ هذهِ القيادةِ، فهوَ أنَّ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ ظَلَّتْ أعْلَى أمَّةٍ في العالمِ حضارةً ومدنيَّةً وثقافةً وعِلْمَاً، وظلَّتِ الدولةُ الإسلاميَّةُ أعظمَ الدولِ في العالمِ وأَقْدَرَهَا مُدَّةَ إِثْنَيْ عَشَرَ قَرْنَاً: منَ القرنِ السادسِ الميلاديِّ حتَّى مُنْتَصَفِ القرنِ الثامنِ عشرَ الميلاديِّ، وكانتْ وَحْدَهَا زَهْرَةُ الدُنْيَا، والشمسُ المشرِقَةُ بينَ الأُمَمِ طِوالَ هذهِ المُدَّةِ، ممَّا يُؤَكِّدُ نجاحَ هذهِ القيادةِ، ونجاحَ الإسلامِ في تطبيقِ نِظامِهِ وعقيدتِهِ على الناسِ. وحينَمَا تَخَلَّتْ الدولةُ الإسلاميَّةُ والأمَّةُ الإسلاميَّةُ عنْ حملِ القيادة الفكرية حين أهملت الدعوةِ إلى الإسلامِ، وقَصَّرَتْ في فَهْمِ الإسلامِ وتطبيقِهِ، إنْتَكَسَتْ بين الأممِ.

ولهذا نَقولُ أنَّ القيادةَ الفكريَّةَ الإسلاميَّةَ هيَ وحدَهَا الصالحةُ، وهيَ وحدَهَا التي يَجِبُ أنْ تُحْمَلَ للعالمِ. وإذا تحقَّقَتْ الدولةُ الإسلاميَّةُ الَّتي تحملُ هذهِ القيادةَ فسيكونُ نجاحُ هذهِ القيادةِ اليومَ كَمَا كانَ بالأمسِ.

قلنا إنَّ الإسلامَ يُوافِقُ فطرةَ الإنسانِ فيما إنبثقَ عنْهُ منَ نظمٍ، ولهذا لا يُعْتَبَرُ الإنسانُ كائِنَاً صِنَاعِيَّاً يعيشُ على المَسْطَرَةِ، ويُطَبِّقُ النظامَ بلا تَفَاوُتٍ بالقِيَاسِ الهَنْدَسِيِّ الدَقِيقِ، بلْ يُعْتَبَرُ الإنسانُ كائِناً إجتماعِيَّاً يُطَبِّقُ النظامَ كَكَائِنٍ إجتماعيٍّ تَتَفَاوَتُ فيهِ القُوَى والخاصِّيَّاتِ، فمنَ الطبيعيِّ منْ جِهَةِ أنْ يُقارِبَ بينَ الناسِ ولا يُسَاوِيَ، معْ ضمانِ الطُمَأْنِينَةِ للجميعِ، ومنَ الطبيعيِّ منْ جِهَةٍ أخرى وهذا موضِعُ البحثِ الآنَ أنْ يَشُذَّ على هذا الإعتبارِ عنْ تطبيقِ هذا النظامِ أفرادٌ فيخالفونه، وأن لايستجيب لهذا النظام أفراد، وأن يتولى عن هذا النظام أفراد، ولذلكَ كانَ لا غِنَى عنْ أنْ يكونَ في المجتمعِ فُسَّاقٌ وفُجَّارٌ، وأنْ يكونَ فيهِ كَفَّارٌ ومُنَافِقُونَ، وأنْ يكونَ فيهِ مُرْتَدُّونَ ومُلْحِدُونَ، ولكنَّ العِبْرَةَ بالمجتمعِ بمجموعِهِ منْ حَيْثُ كونِهِ أفكاراً ومشاعرَ وأنظمةً وناساً، فَيُعْتَبَرُ مجتمعاً إسلاميَّاً يُطَبِّقُ الإسلامَ، حينَ تَبْدُو فيهِ هذهِ الأشياءُ إسلاميَّةً.

والدليلُ على ذلكَ أنَّهُ لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يُطَبِّقَ نظاماً كما طبَّقَ محمَّدٌ رسولُ اللهِ، نظامَ الإسلامِ، ومعَ ذلكَ فقدْ وُجِدَ في أيَّامِهِ كُفَّارٌ ومنافقونَ وَوُجِدَ فُسَّاقٌ وفُجَّارٌ، ووُجِدَ مُرْتَدُّونَ وملحدونَ، ولكنْ لا يستطيعُ أحدٌ إلاَّ أنْ يقولَ جازِمَاً: إنَّ الإسلامَ كانَ مُطَبَّقَاً تطبيقاً كاملاً، وإنَّ المجتمعَ كانَ إسلاميَّاً. ولكنَّ هذا التطبيقِ كانَ على الإنسانِ الَّذي هوَكائنٌ إجتماعيٌّ، وليسَ كائناً صناعيَّاً.

ولقدْ ظلَّ الإسلامُ يطبَّقُ وحدَهُ على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ بكاملِهَا-عربٍ وغيرَ عربٍ- منذُ أنْ إستقرَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في المدينةِ، إلى أنِ إحتَلَّ الإستعمارُ بلادَ المسلمينَ، فاستبدلَ بهِ النظامَ الرأسماليَّ.

وعلى ذلكَ فالإسلامُ طُبِّقَ عملِيَّاً منذُ السنةِ الأولى للهجرةِ حتَّى سنةِ 1336هجريَّةً الموافق سَنَةَ 1918ميلاديَّةً. ولمْ تُطَبِّقُ الأمَّةُ الإسلاميَّةُ طِوالَ هذهِ المُدَّةِ أيَّ نظامٍ سِوَى الإسلامِ.

حتَّى أنَّ المسلمينَ معَ كونهِمْ قدْ ترجَمُوا للعربيَّةِ الفَلْسَفَةِ والعلومِ والثقافاتِ الأجنبِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ، لكنَّهُمْ لمْ يُتَرْجِمُوا أيَّ تشريعٍ أوْ قانونٍ أوْ نظامٍ لأيِّ أمَّةٍ مطلقاً، لا للعملِ بهِ ، ولا لدراستِهِ. إلاَّ أنَّ الإسلامَ بوصفِهِ نظاماً كانَ يُحْسِنُ الناسُ تطبيقَهُ أوْ يُسِيئُونَ هذا التطبيقَ، تَبْعَاً لقوَّةِ الدولةِ أوْ ضَعْفِهَا، وتَبْعَاً لِدِقَّةِ فَهْمِهَا أوْ مُزَايَلَتِهَا للفهمِ، وتبعاً لقوَّةِ حملِ القيادةِ الفكريَّةِ أوِ التَرَاخِي فيهِ، ولذلكَ كانتْ إساءةُ تطبيقِ الإسلامِ في بعضِ العصورِ تَجْعَلُ المجتمعَ الإسلاميَّ مُنْحَدِرَاً بعضَ الإنحدارِ، ولا يَخْلُو مِنْهُ أيُّ نظامٍ، لأنَّهُ يَعْتَمِدُ في تطبيقِهِ على البَشَرِ، ولكنَّ إساءةَ التطبيقِ لا تَعْنِي أنَّ الإسلامَ لمْ يُطَبَّقْ، بلْ المَقْطُوعُ فيهِ أنَّ الإسلامَ قدْ طُبِّقَ، ولمْ يُطَبَّقْ غيرُهُ منَ المبادئِ والنُظُمِ، إذْ أنَّ العبرةَ في التطبيقِ للقوانينِ والأنظمةِ الَّتي تَأْمُرُ الدولةُ بالعملِ بهَا، ولمْ تَأْخُذِ الدولةُ الإسلاميَّةُ أيَّ شيءٍ منْ ذلكَ منْ غيرِ الإسلامِ، وكلُّ الَّذي حصلَ هوَ إساءةُ تطبيقٍ لبعضِ نُظُمِهِ منْ قبلِ بعضِ الحُكَّامِ. على أنَّ الشيءَ الَّذي يَنْبَغِي أنْ يكونَ واضِحَاً أنَّهُ يجبُ عليْنَا حينَ نَستعرِضُ تطبيقَ الإسلامِ منَ التاريخِ أنْ نُلاحظَ شيئينِ إثْنَيْنِ:

أمَّا أوَّلُهُمَا فيجِبُ أنْ لا نَأْخُذَ هذا التاريخَ عنْ أعداءِ الإسلامِ المُبْغِضِينَ لَهُ، وأنْ نَأْخُذَهُ بالتحقيقِ الدقيقِ منَ المسلمينَ أنْفُسِهِمْ، حتَّى لا نَأْخُذَ الصورةَ المُشَوَّهَةَ. والشيءُ الثاني هوَ أنَّهُ لا يجُوزُ أنْ نستعملَ القِيَاسَ الشُمُولِيَّ على المجتمعِ في تاريخِ الأفرادِ، ولا في تاريخِ ناحِيَةٍ منَ المجتمعِ، فمِنَ الخطأ أنْ نأخذَ العصرَ الأُمَوِيَّ منْ تاريخِ يَزِيدَ مَثَلاً، وأنْ نأخذَ تاريخَ العصرَ العبَّاسِيَّ منْ بعضِ حوادثِ خلفائِهِ، كذلكَ لا يجوزُ أنْ نحكمَ على المجتمعِ في العصرِ العبَّاسيِّ منْ قراءةِ كِتابِ الأغاني الَّذي أُلِّفَ لأخبارِ المُجَّانِ والشُعَرَاءِ والأُدَبَاءِ، أوْ منْ قراءةِ كُتُبِ التَصَوُّفِ وما شاكَلَهَا، فنَحْكُمَ على العَصْرِ بأنَّهُ عصرُ فِسْقٍ وفُجُورٍ، أوْ عصرُ زُهْدٍ وإنْعِزَالٍ، بلْ يجبُ أنْ نأخذَ المجتمعَ بأكمَلِهِ. على أنَّهُ لمْ يُكْتَبْ تاريخُ المجتمعِ الإسلامِيِّ في أيِّ عصرٍ، وإنَّما الَّذي كُتِبَ هوَ أخبارُ الحُكَّامِ وبعضُ المُتَنَفِّذِينَ والَّذينَ كَتَبُوا ذلكَ لَيْسُوا منَ الثُقَاتِ، وكُلُّهُمْ إمَّا قادِحٌ أوْ مادِحٌ، ولا يُقْبَلُ لواحدٍ منهُمَا قولٌ.

وحينَ نَدْرُسُ المجتمعَ الإسلاميَّ على هذا الأساسِ، أيْ نَدْرُسَهُ منْ جميعِ نواحيهِ، وبالتحقيقِ الدقيقِ، نجدُهُ خيرَ المجتمعاتِ، لأنَّهُ هكذا كانَ في القرنِ الأوَّلِ والثاني والثالثِ، ثُمَّ سائرِ القرونِ حتَّى مُنْتَصَفِ القرنِ الثاني عشرَ الهجريِّ، ونجدُهُ طبَّقَ الإسلامَ في جميعِ عُصورِهِ، حتَّى أواخرَ الدولةِ العُثْمَانِيَّةِ بوصْفِهَا دولةٌ إسلاميَّةٌ. على أنَّ الَّذي يجبُ أنْ يُلاحظَ أنَّ التاريخَ لا يجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَرَاً للنظامِ والفقهِ، بلْ النظامُ يُؤْخَذُ منْ مصادرِهِ الفقهِيَّةِ لا منَ التاريخِ، لأنَّ التاريخَ ليسَ مصدراً لهُ، فحينَ نريدُ أنْ نفهمَ النظامَ الشُيوعِيَّ لا نأخذُهُ منْ تاريخِ روسيا، بلْ نأخذُهُ منْ كتبِ المبدأِ الشيوعيِّ نفسِهِ، وحينَ نريدُ أنْ نعرفَ الفقهَ الإنجليزِيَّ لا نأخذُهُ منْ تاريخِ إنجلترا بلْ نأخذُهُ منَ الفقهِ الإنجليزيِّ، وهذا ينطبقُ على أيِّ نظامٍ أو قانونٍ.

والإسلامُ مبدأٌ لهُ عقيدةٌ ونظامٌ، فحينَ نريدُ معرِفَتَهُ وأخذَهُ لا يجوزُ أنْ نجعلَ التاريخَ مصدراً لهُ مطلقاً، لا منْ حيثُ معرفَتِهِ ولا منْ حيثُ إِسْتِنْبَاطِ أحكامِهِ.

أمَّا مِنْ حَيْثُ مَصْدَرِ مَعْرِفَتِهِ فهوَ كتبُ الفِقْهِ الإسْلامِيِّ، وأمَّا منْ حيثُ مصدرِ إسْتِنْبَاطِ أحْكامِهِ فهوَ أَدِلَّتُهَا التَفْصِيلِيَّةُ. ولذلكَ لا يَصِحُّ أنْ يكونَ التاريخُ مَصدراً للنظامِ الإسلاميِّ، لا منْ حيث معرفتِهِ، ولا منْ حيث الإسْتِدْلالِ بهِ، وعليهِ فَلا يَصِحُّ أنْ يكونَ تاريخُ عمرَ بنِ الخطَّابِ، أو عُمرَ ابنِ عبدِ العزيزِ، أو هَارونَ الرَشِيدِ، أوْ غيرَهُمْ مَرْجِعَاً لِلأحْكامِ الشَرْعِيَّةِ، لا في الحوادثِ التاريخيَّةِ الَّتي رُوِيَتْ عَنْهُمْ، ولا في الكتبِ الَّتي أُلِّفَتْ في تاريخِهِمْ. وإِذا أُتُّبِعَ رَأْيٌ لِعُمرَ في حادثةٍ فإنَّما يُتَّبَعُ بإعْتِبَارِهِ حُكْمَاً شَرْعِيَّاً إِسْتَنْبَطَهُ عُمَرٌ وطَبَّقَهُ، كما يُتَّبَعُ الحكمُ الَّذي إسْتَنْبَطَهُ أبو حَنِيفَةُ والشَافِعِيُّ وجَعْفَرُ وأمثالهُمْ، ولا يُتَّبَعُ بإعْتِبَارِهِ حادثةً تاريخيَّةً. وعلى ذلكَ فلا وُجودَ للتاريخِ في أَخْذِ النِظَامِ، ولا في مَعْرِفَتِهِ. على أنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِ النظامِ كانَ مُطَبَّقاً أمْ لا، لا تُؤْخَذْ كذلكَ منَ التاريخِ، بلْ تُؤْخذُ منَ الفقْهِ، لأنَّ أيَّ عَصْرٍ منَ العُصُورِ كانتْ لهُ مشاكلُ، وكانَ يُعَالِجُ هذهِ المشاكِلَ بنظامٍ، فحتَّى نَعْرِفَ ما هوَ النظامُ الَّذي كانتْ تُعالَجُ بهِ المشاكلُ لا نَرْجِعُ إلى حوادثِ التاريخِ، لأنَّهُ إنَّمَا يَنْقُلُ إلَيْنَا الأخبارُ نَقْلاً، بلْ يجبُ أنْ نَرجعَ إلى النظامِ الَّذي كانَ يُطَبَّقُ، أيْ إلى الفقهِ الإسلامِيِّ. وبالرُجُوعِ إليهِ لا نجدُ فيهِ أيَّ نظامٍ أخذَهُ المسلمونَ منْ غيرِهِمْ، ولا أيَّ نظامٍ إخْتَارَهُ المسلمونَ منْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، بلْ نجدُهُ كلَّهُ أحكاماً شرعِيَّةً مُسْتَنْبَطَةً منَ الأدلَّةِ الشرعِيَّةِ. وأنَّ المسلمينَ كانَ حِرْصُهُمْ شَديداً على تَنْقِيَةِ الفِقْهِ منَ الأقْوالِ الضَعِيفَةِ، أيْ منَ الإسْتِنْبَاطَاتِ الضَعِيفَةِ، حتَّى نَهُوا عنِ العملِ بالقولِ الضعيفِ ولوْ كانَ لِمُجْتَهِدٍ مُطْلَقٍ.

ولذلكَ لايوجدُ نَصٌّ واحِدٌ تَشْرِيعِيٌّ غيرَ الفقهِ الإسْلاميِّ في العالمِ الإسلاميِّ كُلِّهِ، بلْ الموجودُ هوَ الفقهُ الإسلاميُّ فَحَسْب، ووجودُ نصٍّ فقهِيٍّ وحدَهُ في أمَّةٍ دونَ أنْ يوجدَ معَهُ نَصٌّ آخَرْ يَدُلُّ على أنَّ الأُمَّةَ لمْ تكنْ تستعْمِلُ في تشريعِهَا غيرَ هذا النَصِّ.

والتَارِيخُ إِذَا جَازَ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ فَإِنَّمَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ لإِسْتِعْرَاضِ كَيْفِيَّةِ التَطْبِيقِ. ويُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَ التَارِيخُ الحَوَادِثَ السِيَاسِيَّةَ، فَتَرَى فِيهِا كَيْفِيَّةَ التَطْبِيقِ. إِلاَّ أَنَّ هَذَا أَيْضَاً لا يَجُوزُ أَنْ نَأْخُذَهُ إِلاَّ بِالتَحْقِيقِ الدَقِيقِ مِنَ المُسْلِمِينَ، ولِلْتَارِيخِ ثَلاثَةُ مَصَادِرٍ: أَحَدُهَا الكُتُبُ التَارِيخِيَّةُ، والثاني الآثَارُ، والثالِثُ الرِوَايَةُ. أَمَّا الكُتُب فلا يَجُوزُ أَنْ تُتَّخَذَ مَصْدَراً مُطْلَقَاً وذَلِكَ لأَنَّهَا خَضَعَتْ في جَمِيعِ العُصُورِ لِلْظُرُوفِ السِيَاسِيَّةِ، وكَانَتْ تُحْشَى بالكَذِبِ، إِمَّا بِجَانِبِ الَّذِي كُتِبَتْ في أَيَّامِهِ، وإِمَّا ضِدَّ الَّذِينَ كُتِبَتْ عَنْهُمْ في أَيَّامِ غَيْرِهِمْ، وأَقْرَبُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ تَارِيخُ الأُسْرَةِ العَلَوِيَّةِ في مِصْرَ، فإِنَّهَا قَبْلَ 1952 كَانَتْ لَهَا صُورَةٌ مُشْرِقَةٌ وبَعْدَ 1952 تَغَيَّرَ هَذَا التَارِيخُ إِلى صُورَةٍ قَاتِمَةٍ عَكْسَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ. ومِثْلُ ذَلِكَ تَارِيخُ الحَوَادِثِ السِيَاسِيَّةِ في عَصْرِنَا هَذَا، وفيمَا قَبْلَهُ. ولذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ تُتَّخَذَ الكُتُبُ التَارِيخيَّةُ مَصْدَراً لِلتَارِيخِ، حَتَّى ولوْ كَانَتْ مُذَكِّرَاتٌ شَخْصِيَّةٌ كَتَبَهَا أَصْحَابُهَا.

أَمَّا مِنْ حَيْثِ الآثَارِ فإِنَّها إِذَا دُرِسَتْ بِنَزَاهَةٍ تُعْطِي حَقِيقَةً تَارِيخيَّةً عَنِ الشَيْءِ، وهَذِهِ وإِنْ كَانَتْ لا تُشَكِّلُ تَسَلْسُلاً تَارِيخيَّاً، ولَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ بَعْضِ الحَوَادِثِ. ومَنْ تَتَبَّعَ آثَارَ المُسْلِمِينِ في بِلادِهِمْ سَوَاءً أَكانَ في بِنَائِهِمْ، أَو أَدَوَاتِهِمْ، أَو أَيَّ شَيْءٍ يُعْتَبَرُ أَثَراً تَارِيخيَّاً، يَدُلُّ دَلالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودَاً في العالمِ الإِسْلامِيِّ كُلِّهِ إِلاَّ الإِسْلامُ، وإِلاَّ نِظَامُ الإِسْلامِ، وإِلاَّ أَحْكَامُ الإِسْلامِ، وكَانَ عَيْشُ المُسْلِمِينِ وحَيَاتُهُمْ وتَصَرُّفَاتُهُمْ كُلُّهَا إِسْلامِيَّةٌ لَيْسَ غَيْرُ.

أَمَّا المَصْدَرُ الثالِثُ وهُوَ الرِوَايَةُ فهُوَ مِنَ المَصَادِرِ الصَحِيحَةِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا إِذَا صَحَّتْ الرِوَايَةُ، ويُتَّبَعُ فِيهِ الطَرِيقُ الَّذِي سُلِكَ في رِوَايَةِ الحَدِيثِ. وعَلَى هَذَا الأُسْلُوبِ يُكْتَبُ التَارِيخُ. ولذَلِكَ تَجِدُ المُسْلِمِينَ حِينَ بَدَأُوا يُؤَلِّفُونَ سَارُوا عَلَى طَرِيقَةِ الرِوَايَةِ. ولذَلِكَ نَجِدُ كُتُبَ التَارِيخِ القَدِيمَةِ كتَارِيخِ الطَبَرِيِّ، وسِيرَةِ بنِ هِشَامٍ، ونَحْوِهِمَا، أُلِّفَتْ عَلَى هَذَا الأُسْلُوبِ. وعَلَى هَذَا فالمُسْلِمُونَ لا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَبْنَاءَهُمْ تَارِيخَهُمْ مِنَ الكُتُبِ الَّتِي أُلِّفَتْ ومَصَادِرُهَا كُتُبٌ مِثْلُهَا، كَمَا لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِسْتِعْرَاضُ تَطْبِيقِ نِظَامِ الإِسْلامِ مِنْ هَذَا التَارِيخِ. ومِنْ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الإِسْلامَ طُبِّقَ وَحْدَهُ عَلَى الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ، ولمْ يُطَبَّقْ غَيْرَهُ في جَمِيعِ العُصُورِ.

غَيْرَ أَنَّهُ مُنْذُ إِنْتَهَتْ الحَرْبُ العالمِيَّةُ الأُولى بإِنْتِصَارِ الحُلَفَاءِ وأَعْلَنَ اللوردُ اللنبي قَائِدُ الحَمْلَةِ حِينَ إِحْتَلَّ بَيْتِ المَقْدِسِ قَائِلاً: الآنَ إِنْتَهَتْ الحُرُوبُ الصَلِيبِيَّةُ، مُنْذُ ذَلِكَ الحِينِ والكافِرُ المُسْتَعْمِرُ يُطَبِّقُ عَلَيْنَا نِظَامَهُ الرَأْسْمَاليِّ في جَمِيعِ شُؤُونِ الحَياةِ، حَتَّى يَجْعَلَ الإِنْتِصارَ الَّذِي أَحْرَزَهُ أَبَدِيَّاً. ولذَلِكَ لا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِ هَذَا النِظَامِ الفَاسِدِ البَالي، الَّذِي بِسَبِبِهِ يَتَمَكَّنُ الإِسْتِعْمَارُ مِنْ بِلادِنَا، ولا بُدَّ مِنْ قَلْعِهِ مِنْ جُذُورِهِ بِأَكْمَلِهِ جُمْلَةً وتَفْصِيلاً حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَسْتَأْنِفَ حَيَاةً إِسْلامِيَّةً.

وإِنَّهُ لَمِنْ سَطْحِيَّةِ التَفْكِيرِ أَنْ نَضَعَ بَدَلَ نِظَامِنَا أَيَّ نِظَامٍ، ومِنْ ضَحَالَةِ الفِكْرِ أَنْ نَظُنَّ أَنَّ الأُمَّةَ إِذَا طَبَّقَتْ النِظَامَ وَحْدَهُ دُونَ عَقِيدَةٍ يُنْقِذُهَا، بَلْ لا بُدَّ أَنْ تَعْتَنِقَ الأُمَّةُ العَقِيدَةَ أَوَّلاً، ثُمَّ تُطَبِّقَ النِظَامَ المُنْبَثِقَ عَنْ هَذِهِ العَقِيدَةِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ تَطْبِيقُ النِظَامُ وإِعْتِنَاقَ العَقِيدَةِ مُنْقِذَاً. هَذَا بِالنِسْبَةِ للأُمَّةِ الَّتِي تتَكَوَّنُ عَلَى مَبْدَأٍ، وتَقُومُ دَوْلَتُهَا عَلَى هَذَا الأَسَاسِ، أَمَّا بالنِسْبَةِ لغَيْرِهَا مِنَ الشُعوبِ والأُمَمِ فلا ضَرُورَةَ لأَنْ تَعْتَنِقَ تِلْكَ الشُعوبُ والأُمَمُ المَبْدَأَ حَتَّى يُطَبَّقَ عَلَيْها، بَلْ الأُمَّةُ الَّتِي تَعْتَنِقُ المَبْدَأَ وتَحْمِلُهُ، تُطَبِّقه عَلَى أَيِّ شَعْبٍ أَوْ أُمَّةٍ، ولَوْ لَمْ تَعْتَنِقْ المَبْدَأَ، لأَنَّهُ يُنْهِضُهَا أَيْضَاً، ويَجْذِبُهَا لإِعْتِنَاقِهِ، ولَيْسَ إِعْتِنَاقُ المَبْدَأِ شَرْطاً فِيمَنْ يُطَبَّقُ عَلَيْهِمْ، بَلْ إِعْتِنَاقُ المَبْدَأِ شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ فِيمَنْ يُطَبَّقُهُ.

ومِنَ الخَطَرِ أَنْ نَأْخُذَ القَوْمِيَّةَ والنِظَامَ الإِشْتِرَاكِيِّ، لأَنَّهُ لا يُؤْخَذُ مُنْفَصِلاً عَنْ فِكْرَتِهِ المَادِّيَّةِ، لأَنَّهُ لا يُنْتِجُ ولا يُؤَثِّرُ، ولا يُؤْخَذُ مُتَّصِلاً بِفِكْرَتِهِ المَادِّيَّةِ، لأَنَّهَا فِكْرَةٌ سَلْبِيَّةٌ تَتَناقضُ مَعَ فِطْرَة الإِنْسَانِ، وتَقْتَضِي أَنْ تَتْرُكَ الأُمَّةُ الإِسْلامِيَّةُ عَقِيدَةَ الإِسْلامِ. ولا يَجُوزُ أَنْ نَأْخُذَ الإِشْتِرَاكِيَّةَ ونَحْتَفِظَ بالنَاحِيَةِ الرُوحِيَّةِ مِنَ الإِسْلامِ، لأَنَّنَا لا نَكُون أَخَذْنَا لا الإِسْلامَ ولا الإِشْتِرَاكِيَّةَ، لِتَنَاقُضِهِمَا، ونَقْصِ المَأْخُوذِ مِنْهَا، ولا يَجُوزُ أَنْ نَأْخُذَ نِظَامَ الإِسْلامِ ونَتْرُكَ عَقِيدَتَهُ المُنْبَثِقَةَ عَنْهَا أَنْظِمَتُهُ، لأَنَّنَا نَكُونُ أَخَذْنَا النِظَام جامِداً لا رُوحَ فِيهِ، بَلْ لا بُدَّ أَنْ نَأْخُذَ الإِسْلامَ كامِلاً بعَقِيدَتِهِ وأَنْظِمَتِهِ، وأَنْ نَحْمِلَ قِيَادَتَهُ الفِكْرِيَّةَ حِينَ نَحْمِلُ دَعْوَتَهُ.

فسَبِيلُ نَهْضَتِنَا هُوَ سَبِيلٌ واحِدٌ، وهُوَ أَنْ نَسْتَأْنِفَ حَيَاةً إِسْلامِيَّةً. ولا سَبِيلَ إِلى إِسْتِئْنَافِ حَيَاةٍ إِسْلامِيَّةٍ إِلاَّ بالدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، ولا سَبِيلَ إِلى ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا أَخَذْنَا الإِسْلامَ كامِلاً: أَخَذْنَاهُ عَقِيدَةً تَحُلُّ العُقْدَةَ الكُبْرى، وتَتَرَكَّزُ عَلَيْهَا وِجْهَةُ النَظَرِ في الحَيَاةِ، وأَنْظِمَةٌ تَنْبَثِقُ عَنْ هَذِهِ العَقِيدَةِ، أَسَاسُهَا كتابُ اللهِ وسُنَّةُ رَسُولِهِ، وثَرْوَتُهَا الثَقَافِيَّةُ هِيَ الثَقَافَةُ الإِسْلامِيَّةُ بِمَا فِيهَا، مِنْ فِقْهٍ، وحَدِيثٍ، وتَفْسِيرٍ، ولُغَةٍ، وغَيْرِها، ولا سَبِيلَ إِلى ذَلِكَ إِلاَّ بِحَمْلِ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ الإِسْلامِيَّةِ حَمْلاً كامِلاً بالدَعْوَةِ إِلى الإِسْلامِ، وبإِيجَادِ الإِسْلامِ كامِلاً في كُلِّ مكَانٍ، حَتَّى إِذَا انتَقَلَ حَمْلُ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ إِلى الأُمَّةِ بِمَجْمُوعِهَا وإِلى الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، قُمْنَا بِحَمْلِ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ إِلى العَالَمِ.

هَذَا هُوَ السَبِيلُ الوَحيدُ لِلْنَهْضَةِ: حَمْلُ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ الإِسْلامِيَّةِ للمُسْلِمِينِ لاستِئْنَافِ الحَيَاةِ الإِسْلامِيَّةِ، ثُمَّ حَمْلُهَا للنَاسِ كافَّةً عَنْ طَرِيقِ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ.

rajaab
04-05-2005, 03:55 PM
كَيْفِيَّةِ حَمْلِ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ

لَمْ يَتَخَلَّفْ المُسْلِمُونَ عَنِ رَكْبِ العالمِ نَتِيجَةً لِتَمَسُّكِهِمْ بِدينِهِمْ، وإِنَّمَا بَدَأ تَخَلُّفُهُمْ يَوْمَ تَرَكُوا هَذَا التَمَسُّكَ وتَسَاهَلُوا فِيهِ، وسَمَحُوا لِلْحَضَارَةِ الأَجْنَبِيَّةِ أَن تَدْخُلَ دِيَارَهُمْ، ولِلْمَفَاهِيمِ الغَرْبِيَّةِ أَن تَحْتَلَّ أَذْهَانَهُمْ، يومَ أَن تَخَلَّوْا عَنِ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ في الإِسْلامِ حِينَ تَقَاعَسُوا عَنْ دَعْوَتِهِ، وأَسَاءوا تَطْبِيق أَحْكَامِهِ. فلا بُدَّ أَن يَسْتَأْنِفُوا حَيَاة إِسْلامِيَّةً حَتَّى يُتَاحَ لهمْ النُهُوَضُ، ولَنْ يَسْتَأْنِفُوا هَذِهِ الحَيَاة الإِسْلامِيَّةَ إِلاَّ إِذَا حَمَلُوا الدَعْوَةَ الإِسْلامِيَّةَ، بِحَمْلِ قِيَادَةِ الإِسْلامِ الفِكْرِيَّةِ، وأَوْجَدُوا بِهَذِهِ الدَعْوَةَ دَوْلَةً إِسْلامِيَّةً تَحْمِلُ القِيَادَةَ الفِكْرِيَّةَ بِحَمْلِ دَعْوَةِ الإِسْلامِ.

ويَجِبُ أَن يَكُون وَاضِحَاً أَن حَمْلَ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ بحَمْلِ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ لإِنْهَاضِ المُسْلِمِينَ، إِنَّمَا هُوَ لأَنَّ الإِسْلامَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُ العالمَ. ولأَنَّ النَهْضَةَ الحَقِيقِيَّةَ لا تَكُونُ إِلاَّ بِهِ، سَوَاءً المُسْلِمُونَ أَوْ غَيْرهُمْ. وعَلَى هَذَا الأَسَاس يَجِبُ أَن تُحْمَلَ دَعْوَةُ الإِسْلامِ.

ويَجِبُ أَن يُحْرَصَ عَلَى حَمْلِ هَذِهِ الدَعْوَةِ قِيَادَةً فِكْرِيَّةً لِلْعالمِ تَنْبَثِقُ عَنْهَا النُظُمُ، وعَلَى هَذِهِ القِيَادَة الفِكْرِيَّةِ تُبْنَى جَمِيعُ الأَفْكَارِ، ومن هَذِهِ الأَفْكَارِ تَنْبَثِقُ كَافَّةُ المَفَاهِيمِ الَّتِي تُؤَثِّرُ في وِجْهَةِ النَظَرِ في الحَيَاة دُونَ اسْتِثْنَاءٍ.

وتُحْمَلُ الدَعْوَةُ الإِسْلامِيَّةُ اليَوْمَ كَمَا حُمِلَتْ مِن قَبْلُ، ويُسَارُ بِهَا إِقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ دُونَ حَيْدِ قَيْدِ شَعْرَةٍ عَنْ تِلْكَ الطَرِيقَة في كُلِّيَاتِهَا وجُزْئِيَّاتِهَا، ودُونَ أَن يُحْسَبَ لاخْتِلافِ العُصُورِ أَيَّ حِسَابٍ، لأَنَّ الَّذِي اخْتَلَفَ هُوَ الوَسَائِلُ والأَشْكَالُ، وأَمَّا الجَوْهَرُ والمَعْنَى فَهُوَ هُوَ لَمْ يَخْتَلِفْ، ولَنْ يَخْتَلِفْ، مَهْمَا تَعَاقَبَتْ العُصُورُ، واخْتَلَفَتْ الشُعُوبُ والأَقْطَارُ.

ولذَلِكَ فَإِنَّ حَمْلَ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ يَقْتَضِي الصَرَاحَةَ والجُرْأَةَ، والقُوَّةَ والفِكْرَ، وتَحَدِّي كُلْ ما يُخالِفُ الفِكْرَة والطَرِيقَة، ومُجَابَهَتُهُ لِبَيَانِ زَيْفِهِ، بِغَضِّ النَظَرِ عَنِ النَتَائِجِ، وعَنِ الأَوْضَاعِ.

ويَقْتَضِي حَمْلُ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ أَن تَكُونَ السِيَادَةُ المُطْلَقَةُ لِلْمَبْدَأ الإِسْلاميِّ، بِغَضِّ النَظَرِ عَمَّا إِذَا وَافَقَ جُمْهُوَرَ الشَعْب أَمْ خَالَفَهُمْ، وتَمَشَّى مَعَ عاداتِ الناسِ أَمْ نَاقَضَهَا، وقَبِلَ بِهِ النَاسُ أَمْ رَفَضُوهُ وقَاوَمُوهُ. فَحَامِلُ الدَعْوَةِ لا يَتَمَلَّقُ الشَعْب ولا يُدَاهِنُهُ، ولا يُدَاجِي مِن بِيَدِهِمْ الأُمُورُ ولا يُجَامِلُهُمْ. ولا يَعْبَأُ بِعاداتِ الناسِ وتَقَالِيدِهِمْ، ولا يَحْسِبُ لِقُبُولِ النَاسِ إِيَّاهُ أَوْ رَفْضِهِمْ لَهُ أَيَّ حِسَابٍ، بَلْ يَتَمَسَّكُ بالمَبْدَأِ وَحْدَهُ، ويُصَرِّحُ بالمَبْدَأِ وَحْدَهُ، دُونَ أَنْ يَدْخُلَ في الحِسَابِ أَيَّ شَيْءٍ سِوَى المَبْدَأِ. ولا يُقَالُ لأَصْحَابِ المَبَادِئِ الأُخْرَى تَمَسَّكُوا بِمَبْدَئِكُمْ، بَلْ يُدْعَوْنَ بِلا إِكْرَاهٍ إِلى المَبْدَأِ لِيَعْتَنِقُوهُ، لأَنَّ الدَعْوَةَ تَقْتَضِي أَنْ لا يَكُونَ غَيْرَهُ، وأَنْ تَكُونَ السِيادَةُ لَهُ وَحْدَهُ }هُوَ الَّذِي أرسلَ رَسُولَهُ بالهُدَىَ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ{.

فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ جَاءَ إِلَى العَالَمِ بِرِسَالَتِهِ مُتَحَدِّيَاً سَافِرَاً مُؤْمِنَاً بالحَقِّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، يَتَحَدَّى الدُنْيَا بِأَكْمَلِهَا، ويُعْلِنُ الحَرْبَ عَلَى الأَحْمَرِ والأَسْوَدِ مِنَ الناسِ، دُونَ أَنْ يَحْسِبَ أَيَّ حِسَابٍ لِعَادَاتٍ أَوْ تَقَالِيدٍ، أَوْ أَدْيَانٍ أَوْ عَقَائِدٍ، أَوْ حُكَّامٍ أَوْ سَوَقَةٍ، ولم يَلْتَفِتْ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ سِوَى رِسَالَةِ الإِسْلامِ، فَقَدْ بَادَأَ قُرَيْشَاً بِذِكْرِ آلِهَتِهِمْ وعَابَهَا، وتَحَدَّاهُمْ في مُعْتَقَدَاتِهِمْ وسَفَّهَهَا، وهُوَ فَرْدٌ أَعْزَلٌ، لا عُدَّةَ مَعَهُ، ولا مُعِينٌ لَهُ، ولا سِلاحٌ عِنْدَهُ سِوَى إِيمَانِهِ العَمِيقِ بالإِسْلامِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ. ولمْ يَأْبَهْ بِعَاداتِ العَرَبِ ولا تَقَالِيدِهِمْ، ولا بِأَدْيَانِهِمْ وعَقَائِدِهِمْ، ولمْ يُجَامِلْهُمْ بِهَا، وَلَمْ يُرَاعِهِمْ في شَأْنِهَا.

وكذَلِكَ يَكُونُ حامِلُ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ سَافِرَاً مُتَحَدِّيَاً كُلَّ شَيْءٍ: مُتَحَدِّيَاً العاداتَ والتقاليدَ والأَفْكَارَ السَقِيمَةَ والمَفَاهِيمَ المَغْلُوطَةَ، مُتَحَدِّيَاً حَتَّى الرأْيَ العامَ إِذَا كَانَ خاطِئَاً، ولوْ تَصَدَّى لِكِفَاحِهِ، مُتَحَدِّيَاً العَقائِدَ والأَدْيَانَ، ولوْ تَعَرَّضَ لِتَعَصُّبِ أَهْلِهَا، ونَقْمَةِ الجامِدينَ عَلَى ضَلالِهَا.

وحَمْلُ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ يَقْتَضِي الحِرْصَ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الإِسْلامِ تَنْفِيذاً كامِلاً، وعَدَمِ التَسَاهُلِ في أَيَّ شَيْءٍ مَهْمَا قَلَّ، وحَامِلُ الدَعْوَةِ لا يَقْبَلُ المُهَادَنَةَ ولا التَسَاهُلَ، ولا يَقْبَلُ التَفْرِيطَ ولا التَأْجِيلَ، وإِنَّما يَأْخُذُ الأَمْرَ كامِلاً، ويَحْسِمُهُ عاجِلاً، ولا يَقْبَلُ في الحَقِّ شَفِيعَاً، فرَسُولُ اللهِ لَمْ يَقْبَلْ مِنَ وَفْدِ ثَقِيفٍ أَنْ يَدَعَ لَهُمْ صَنَمَهُمْ اللاتَ ثلاثَ سنينِ لا يَهْدِمُهُ، وأَنْ يُعفِيهِمْ مِنَ الصَلاةِ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا الإِسْلامَ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَدَعَ اللاتَ سنتينِ أَوْ شهراً كما طَلَبُوا، بَلْ أَبَى ذَلِكَ كُلَّ الإِبَاءِ، وكَانَ إِباءَهُ حاسِماً لا تَرَدُّدَ فِيهِ ولا هُوَادةَ لأَنَّ الإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يُؤْمِنَ وإما أن لا يُؤْمِنْ، لأَنَّ النَتِيجَةَ إِمَّا الجَنَّةَ أَوْ النارَ، ولَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَلامُ قَبِلَ أَنْ لا يَهْدِمُوا هُمْ صَنَمَهُمْ اللاتَ، ووَكَّلَ بِهِ أَبا سُفْيَانَ والمُغِيْرَةَ بِنْ شُعْبَةَ أَنْ يَهْدِمَاهُ. نَعَمْ لَمْ يَقْبَلْ إلاَّ العَقِيدَةَ الكامِلَةَ، والتَنْفِيذَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ، أَمَّا الوَسِيلَةَ والشَكْلَ فَقَدْ قَبِلَهُمَا، لأَنَّهُمَا لا يَتَّصِلانِ بحَقِيقَةِ هَذِهِ العَقِيدَةِ، ولذَلِكَ لا بُدَّ للدَعوَةِ الإِسلامِيَّةِ مِن حِرْصٍ عَلَى بَقَاءِ كَمَالِ الفِكْرَةِ، ومِنْ حِرْصٍ عَلَى كَمَالِ تَنْفِيذِهَا، دُونَ أَيَّ تَسَامُحٍ في الفِكْرَةِ أَوْ الطَرِيقَةِ، ولا يُضِيرُهَا أَنْ تَسْتَعْمِلَ مِنَ الوَسَائِلِ ما تَشَاءُ.

وحَمْلُ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ يَقْضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهَا مِنْ أَجْلِ غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ويَقْتَضِي بأَنْ يَظَلَّ حَامِلُ الدَعْوَةِ دائِماً يَتَصَوَّرُ هَذِهِ الغايةَ، ويَعْمَلُ دائِماً للوُصُولِ إِلَيْها، ويَدْأَبُ دَأْبَاً لا راحةَ فِيهِ لتَحْقِيقِ الغايةِ. ولذَلِكَ تَجِدُهُ لا يَرْضَى بالفِكْرِ دُونَ العَمَلِ، ويَعْتَبِرُهُ فَلْسَفَةً خَيالِيَّةً مُخَدِّرَةً، ولا يَرْضَى بالفكرِ والعَمَلِ لغَيْرِ غَايَةٍ، ويَعْتَبِرُهُ حَركَّةً لَوْلَبِيَّةً تَنْتَهِي بالجُمودِ واليَأْسِ، بَلْ يُصِرُّ عَلَى اقْتِرَانِ الفِكْرِ بالعَمَلِ، وعَلَى جَعْلِ الفِكْرِ والعَمَلِ مَعَاً مِنْ أَجْلِ غَايَةٍ يُحَقِّقُهَا عَمَلِيَّاً ويُبْرِزُهَا للوُجُودِ. فالرَسُولُ عَلَيْهِ السَلامُ حَمَلَ القِيَادَةَ الفِكْرِيَّةَ في مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ مُجْتَمَعَ مَكَّةَ لا يُحَقِّقُ جَعْلَ الإِسْلامِ نِظَاماً للمُجْتَمَعِ يُعْمَلُ بِهِ، هَيَّأَ مُجْتَمَعَ المَدِينَةِ، ثُمَّ أَوْجَدَ الدَوْلَةَ، وطَبَّقَ الإِسْلامَ، وحَمَلَ رِسَالَتَهُ، وهَيَّأَ الأُمَّةَ لِتَحْمِلَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وتَسِيرَ في الطَرِيقِ الَّتِي رَسَمَهَا لها. ولذَلِكَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَمْلُ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ في حالِ عَدَمِ وُجودِ خَليفَةٍ للمُسْلِمِينَ شامِلاً الدَعْوَةَ إِلَى الإِسْلامِ، وإِلى إِسْتِئْنَافِ حَيَاةٍ إِسْلامِيَّةٍ بالعَمَلِ لإِيجادِ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ الَّتِي تُطَبِّقُ الإِسْلامَ، وتَحْمِلُ رِسَالَتَهُ للعَالَمِ، فَتُنْقَلُ مِنْ دَعْوَةٍ لاسْتِئْنَافِ حَيَاةٍ إِسْلامِيَّةٍ في الأُمَّةِ إِلَى حَمْلِ الدَوْلَةِ الدَعْوَةَ إِلَى العَالَمِ، ومِنْ دَعْوَةٍ مَحَلِّيَةٍ في العَالَمِ الإِسْلاميِّ إِلَى دَعْوَةٍ عَالَمِيَّةٍ.

والدَعْوَةُ إِلَى الإِسْلامِ لا بُدَّ أَنْ يَبْرُزَ فِيهَا تَصْحِيحُ العَقَائِدِ، وتَقْوِيَةُ الصِلَةِ باللهِ، وأَنْ تُبَيِّنَ للنَاسِ حَلَّ مَشَاكِلِهِمْ، حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الدَعْوَةُ حَيَّةً في جَمِيعِ مَيَادِينِ الحَيَاةِ. فالرَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَ يَتْلُو عَلَى الناسِ في مَكَّةَ: }تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ{ ويَتْلُو عَلَيْهِم في نَفْسِ الوَقْتِ :}إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وما هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، قَلِيلاً ما تُؤْمِنُون{ ويَتْلُو عَلَيْهِم في مَكَّةَ: }وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَاسِ يَسْتَوْفُونَ وإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ{ ويَتْلُو عَلَيْهِم: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ{ ويَتْلُو عَلَيْهِم في المَدِينَةِ : }وأَقِيمُوا الصَلاةَ وآتُوا الزَكَاةَ{ كَمَا يَتْلُو عَلَيْهِمْ: }انْفِرُوا خِفَافَاً وثِقَالاً وجاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ{ ويَتْلُو عَلَيْهِمْ: }يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَاكْتُبُوهُ{ ويتلُو عَليْهِم:}كيْ لا يَكُونَ دُولَةً بينَ الأَغنِيَاءِ مِنْكُم{ ويَتْلُو }لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ الفَائِزُونَ{ ولذَلِكَ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الدَعْوَةُ الإِسْلامِيَّةُ حَامِلةً للنَاسِ الأَنْظِمَةَ الَّتِي يُعَالِجُونَ بِهَا مَشَاكِلَ حَيَاتِهِمْ، لأَنَّ سِرَّ نَجَاحِ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ هُوَ كَوْنُهَا حَيَّةٌ تُعَالِجُ الإِنْسَانَ كُلَّهُ كإِنْسَانٍ، وتُحْدِثُ فِيهِ كُلَّهُ الإِنْقِلابَ الشَامِلَ.

ولا يَتَأَتَّى لِحَمَلَةِ هَذِهِ الدَعْوَةِ أَنْ يَضْطَلِعُوا بالمَسْئولِيَّةِ، ويَقُومُوا بالتَبِعَاتِ، إِلاَّ إِذَا غَرَزُوا في نُفُوسِهِمْ النُزُوعَ إِلَى الكَمَالِ، وكَانُوا يُنَقِّبُونَ دَائِماً عَنِ الحَقِيقَةِ، ويُقَلِّبُونَ دَائِمَاً في كُلِّ مَا عَرَفُوهُ، حَتَّى يُنَقُّوا مِنْهُ كُلَّ مَا يَعْلَقُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ غَرِيبٍ عَنْهُ، ويُبْعِدُوا عَنْهُ كُلَّ ما يكَوْنِ مِنْ قُرْبِهِ مِنْهُ احْتِمَالُ أَنْ يُلْصَقَ بِهِ، حَتَّى تَظَلَّ الأَفْكَارُ الَّتِي يحَمِلُونَهَا نَقِيَّةٌ صَافِيَةٌ، وصَفَاءُ الأَفْكَارِ ونَقَاؤُهَا هُوَ الضَمَانُ الوَحِيدُ لِلْنَجَاحِ، ولاسْتِمْرَارِ النَجَاحِ.

وَعَلَى حَمَلةِ هَذِهِ الدَعْوَةِ أَنْ يُؤَدُّوا وَاجِبَهَا كَوَاجِبٍ كَلَّفَهُمْ بِهِ اللهُ، وأَنْ يُقْبِلُوا عَلَيْهَا مُتَهَلِّلِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِرِضَا اللهِ، وأَنْ لا يَبْتَغُوا مِنْ عَمَلِهِمْ جَزَاءً، ولا يَنْتَظِرُوا مِنَ النَاسِ شُكْرَاً، وأَنْ لا يَعْرِفُوا إِلاَّ طَلَبَ رِضْوَانِ اللهِ.

rajaab
04-05-2005, 04:15 PM
الحَضَارَة الإِسْلامِيَّة

هنالِكَ فَرْقٌ بينَ الحَضَارَةِ والمَدَنِيَّةِ، فالحَضَارَةُ هِيَ مجموع المَفَاهِيم عَنِ الحَيَاة، والمَدَنِيَّة هِيَ الأَشْكَال المَادِّيَّة للأَشْيَاء المحسوسة الَّتِي تُستعَمَل في شُؤونِ الحَيَاة. وتَكُونُ الحَضَارَة خَاصَّة حسب وِجْهَة النظر في الحَيَاة، في حِينِ تَكُونُ المَدَنِيَّةُ خَاصَّةً وعامَّةً.فالأَشْكَالُ المَدَنِيَّةُ الَّتِي تَنْتُجُ عَنِ الحَضَارَةِ كالتَمَاثِيلِ تَكُونُ خَاصَّةً، والأَشْكَالُ المَدَنِيَّةُ الَّتِي تَنْتُجُ عَنِ العِلْمِ وتَقَدُّمِهِ، والصِنَاعَةِ ورُقِيِّهَا، تَكُونُ عَامَّةً، ولا تَخْتَصُّ بِهَا أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ، بَلْ تَكُونُ عَالَمِيَّةً كالصِنَاعَةِ والعِلْمِ.

وهذا التَفْرِيقُ بَيْنَ الحَضَارَةِ والمَدَنِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يُلاحَظَ دَائِمَاً، كَمَا يَلْزَمُ أَنْ يُلاحَظَ التَفْرِيقُ بَيْنَ الأَشْكَالِ المَدَنِيَّةِ النَاجِمَةِ عَنِ الحَضَارَةِ، وبَيْنَ الأَشْكَالِ المَدَنِيَّةِ الَناجِمَةِ عَنِ العِلْمِ والصِنَاعَةِ. وذَلِكَ ليُلاحَظَ عِنْدَ أَخْذِ المَدَنِيَّةِ التَفْرِيقُ بَيْنَ أَشْكَالِهَا، والتَفْرِيقُ بَيْنَهَا وبَيْنَ الحَضَارَةِ. فالمَدَنِيَّةُ الغَرْبِيَّةُ النَاجِمَةُ عَنِ العِلْمِ والصِنَاعَةِ لا يُوجَدُ ما يَمْنَعُ مِنْ أَخْذِهَا، وأَمَّا المَدَنِيَّة الغَرْبِيَّةُ النَاجِمَةُ عَنِ الحَضَارَةِ الغربيةِ فلا يَجُوزُ أَخْذُهَا بِحَالٍ، لأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَخْذُ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، لِتَنَاقُضِهَا مَعَ الحَضَارَةِ الإِسْلامِيَّةِ، في الأَسَاسِ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ، وفي تَصْوِيرِ الحَيَاةِ الدُنْيَا، وفي مَعْنَى السَعَادَةِ للإِنْسَانِ.

أَمَّا الحَضَارَةُ الغَرْبِيَّةُ فإِنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسِ فَصْلِ الدِينِ عَنِ الحَيَاةِ، وإِنْكَارِ أَنَّ للدِينِ أَثَراً في الحَيَاةِ، فَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ فِكْرةُ فَصْلِ الدِينِ عَنِ الدَوْلَة. لأَنَّها طَبِيعِيَّة عند مِن يَفْصِلُ الدِين عَنِ الحَيَاة، ويُنْكِرُ وُجُودَ الدِينِ في الحَيَاةِ. وعَلَى هَذَا الأَسَاسِ قَامَتْ الحَيَاةُ، وقامَ نِظَامُ الحَيَاةِ. أَمَّا تَصْوِيرُ الحَيَاةِ فَإِنَّهُ المَنْفَعَةُ، لأَنَّها هِيَ مِقْيَاسُ الأَعْمَالِ، ولذَلِكَ كَانَتْ النَفْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهِا النِظَام، وتَقُومُ عَلَيْهِا الحَضَارَةُ، ومِنْ هُنَا كَانَتْ النَفْعِيَّةُ هِيَ المَفْهُوَمُ البَارِزُ في النِظَامِ، وفي الحَضَارَةِ، لأَنَّها تُصَوِّرُ الحَيَاةَ بأَنَّها المَنْفَعَةٌ. ولذَلِكَ كَانَتْ السَعَادَةُ عِنْدَهُمْ إِعْطَاءِ الإِنْسَانِ أَكْبَرَ قِسْطٍ مِنَ المُتْعَةِ الجَسَدِيَّةِ وتَوْفِيرِ أَسْبَابِهَا لَهُ. ولهذَا كَانَتْ الحَضَارَةُ الغَرْبِيَّةُ حَضَارَةٌ نَفْعِيَّةٌ بَحْتَةٌ، لا تُقِيمُ لغَيْرِ المَنْفَعَةِ أَيَّ وَزْنٍ، ولا تَعْتَرِفُ إِلاَّ بالنَفْعِيَّةِ، وتَجْعَلُهَا هِيَ المِقْيَاسَ للأَعْمَالِ. وأَمَّا النَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ فَهِيَ فَرْدِيَّةٌ لا شَأَنَ للجَمَاعَةِ بِهَا، وهيَ مَحْصُورَةٌ في الكَنِيسَةِ ورِجَالِ الكَنِيسَةِ. ولذَلِكَ لا تُوجَدُ في الحَضَارَة الغَرْبِيَّةِ قِيمَةٌ أَخْلاقِيَّةٌ، أَوْ رُوحِيَّةٌ، أَوْ إِنْسَانيَّةٌ، وإِنَّما تُوجَدُ قِيمَةٌ مَادِّيَّةٌ ونَفْعِيَّةٌ فَقَطْ. وعَلَى هَذَا الأساسِ جُعِلَتْ الأَعْمَالُ الإِنْسَانيَّةُ تابَعَةً لمُنَظَّمَاتٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنِ الدَوْلَةِ، كَمُؤَسَّسَةِ الصَليبِ الأَحْمَرِ، والإِرْسَالِيَّاتِ التَبْشِيرِيَّةِ، وعَزَلَتْ عَنِ الحَيَاةِ كُلَّ قِيمَةٍ إِلاَّ القِيمَةَ المَادِّيَّةَ وهِيَ الرِبْحُ. فكَانَتْ الحَضَارَةُ الغَرْبِيَّةُ هِيَ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ مِنَ المَفَاهِيمِ عَنِ الحَيَاةِ.

أَمَّا الحَضَارَةُ الإِسْلامِيَّةُ فإِنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ هُوَ النَقِيضُ مِنْ أَسَاسِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وتَصْوِيرُهَا للحَيَاةِ غَيْرَ تَصْوِيرِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ لَهَا، ومَفْهُوَمُ السَعَادَةِ فِيهِا يَخْتَلِفُ عَنْ مَفْهُوَمِهَا في الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ كُلَّ الإِخْتِلافِ. فالحَضَارَةُ الإِسْلامِيَّة تَقُوم عَلَى أَسَاسِ الإِيمَانِ باللهِ، وأَنَّهُ جَعَلَ لِلْكَوْنِ والإِنْسَانِ والحَيَاةِ نِظَامَاً يَسِيرُ بِمُوجِبِهِ، وأَنَّهُ أَرْسَلَ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالإِسْلامِ دِيناً، أَيْ أَنَّ الحَضَارَةَ الإِسْلامِيَّةَ تَقُومُ عَلَى أَسَاسِ العَقِيدَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وهِيَ الإِيمَانُ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وباليَوْمِ الآخِرِ وبالقَضَاءِ والقَدَرِ خَيْرِهِمَا وشَرِّهِمَا مِنَ اللهِ تعالى. فكَانَتْ العَقِيدَةُ هِيَ الأَسَاسُ للحَضَارَةِ، فهيَ قائِمَةٌ عَلَى أَسَاسٍ رُوحِيّ.

أَمَّا تَصْوِيرُ الحَيَاةِ في الحَضَارَةِ الإِسْلامِيَّةِ فَإِنَّهُ يَتَمَثَّلُ في فَلْسَفَةِ الإِسْلامِ الَّتِي انْبَثَقَتْ عَنِ العَقِيدَةِ الإِسْلامِيَّةِ، والَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا الحَيَاةُ، وأَعْمَالُ الإِنْسَانِ في الحَيَاةِ، هَذِهِ الفَلْسَفَةُ الَّتِي هِيَ مَزْجُ المَادَّةِ بالرُوحِ، أَيْ جَعَلُ الأَعْمَالِ مُسَيَّرَةٌ بِأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، هِيَ الأَسَاسُ لتَصْوِيرِ الحَيَاةِ. فالعَمَلُ الإِنْسَانيُّ مَادَّةٌ، وإِدْرَاكُ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ حِينَ القِيَامِ بالعَمَلِ مِنْ كَوْنِ هَذَا العَمَلِ حَلالاً أَوْ حَرَامَاً هُوَ الرُوحُ. فَحَصَلَ بِذَلِكَ مَزْجُ المَادَّةِ بالرُوحِ. وبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَانَ المُسَيِّرُ لأَعْمَالِ المُسْلِمِ هُوَ أَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ. والغَايَةُ مِنْ تَسْييرِ أَعْمَالِهِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، هِيَ رِضْوَانُ اللهِ تعالى، ولَيْسَ النَفْعِيَّةُ مُطْلَقَاً. أَمَّا القَصْدُ مِنَ القِيَامِ بِنَفْسِ العَمَلِ فهُوَ القِيَمَةُ الَّتِي يُرَاعَى تَحْقِيقُهَا حِينَ القِيَامِ بالعَمَلِ. وهَذِهِ القِيَمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَعْمَالِ. فَقَدْ تَكُونُ قِيَمَةٌ مَادِّيَّةٌ كَمَنْ يُتَاجِرُ بِقَصْدِ الرِبْحِ، فَإِنَّ تِجَارَتَهُ عَمَلٌ مَادِّيٌّ، ويُسَيِّرُهُ فِيهِا إِدْرَاكَهُ لِصِلَتِهِ باللهِ حَسَبَ أَوَامِرِهِ ونَوَاهِيهِ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ. والقِيَمَةُ الَّتِي يُرَاعَى تَحْقِيقُهَا مِنَ القِيَامِ بالعَمَلِ هِيَ الرِبْحُ، وهُوَ قِيَمَةٌ مَادِّيَّةٌ.

وقَدْ تَكُونُ القِيمَةُ رُوحِيَّةُ، كالصَلاةِ والزَكَاةِ والصَوْمِ والحَجِّ. وقَدْ تَكُونُ القِيَمَةُ أَخْلاقِيَّةٌ، كالصِدْقُ والأَمَانَةُ والوَفَاءُ. وقَدْ تَكُونُ القِيَمَةُ إِنْسَانِيَّةٌ، كإِنْقَاذِ الغَرِيقِ وإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ. وهَذِهِ القِيَمُ يُرَاعِيهَا الإِنْسَانُ حِينَ القِيَامِ بالعَمَلِ حَتَّى يُحَقِّقُهَا. إِلاَّ أَنَّها لَيْسَتْ المُسَيِّرَةُ للأَعْمَالِ، ولَيْسَتْ المَثَلُ الأَعْلَى الَّذِي يَهْدِفُ إِلَيْهِ، بَلْ هِيَ القِيمَةُ مِنَ العَمَلِ وتَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ نَوْعِهِ.

وأَمَّا السَعَادَةُ فَهِيَ نَيْلُ رِضْوَانِ اللهِ، ولَيْسَتْ إِشْبَاعَ جَوْعَاتِ الإِنْسَانِ، لأَنَّ إِشْبَاعَ جَوْعَاتِ الإِنْسَانِ جَمِيعِهَا، مِنْ جَوْعَاتِ الحاجاتِ العُضْوِيَّةِ، وجَوْعَاتِ الغَرَائِزِ، هُوَ وَسِيلَةٌ لازِمَةٌ للمُحَافَظَةِ عَلَى ذاتِ الإِنْسَانِ، ولا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا السَعَادَةُ. هَذَا هُوَ تَصْوِيرُ الحَيَاةِ. وهذا هُوَ الأَسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ هَذَا التَصْوِيرُ. وهُوَ الأَسَاسُ للحَضَارَةِ الإِسْلامِيَّةِ. وإِنَّهَا لَتُنَاقِضُ الحَضَارَةَ الغَرْبِيَّةَ كُلَّ المُنَاقَضَةِ، كَمَا أَنَّ الأَشْكَالَ المَدَنِيَّةَ النَاجَمة عَنْهَا تُنَاقِضُ الأَشْكَالَ المَدَنِيَّةَ الناجَمة عَنِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ. فمَثَلاً: الصُورَةُ شَكْلٌ مَدَنِيٌّ، والحَضَارَةُ الغَرْبِيَّةُ تَعْتَبِرُ صُورَةَ امْرَأَةٍ عَارِيَةٍ تُبْرِزُ فِيهَا جَمِيعَ مَفَاتِنَهَا شَكْلاً مَدَنِيَا، يَتَّفِقُ مَعَ مَفَاهِيمِهَا في الحَيَاةِ مَعَ المَرْأَةِ. ولذَلِكَ يَعْتَبِرُهَا الغَرْبِيُّ قِطْعَةٌ فَنِّيَةٌ يَعْتَزُّ بِهَا كشَكْلٍ مَدَنِيٍّ، وقِطْعَةٌ فَنِّيَةٌ إِذَا اسْتَكْمَلَتْ شُرُوطَ الفَنِّ، ولَكِنَّ هَذَا الشَكْلَ يَتَنَاقَضُ مَعَ حَضَارَةِ الإِسْلامِ، ويُخَالِفُ مَفَاهِيمَهُ عَنِ المَرْأَةِ الَّتِي هِيَ عَرْضٌ يَجِبُ أَنْ يُصَانَ، ولذَلِكَ يُمْنَعُ هَذَا التَصْوِيرُ لأَنَّهُ يُسَبِّبُ إِثَارَةَ غَرِيزَةِ النَوْعِ ويُؤَدِّي إِلَى فَوْضَوِيَّةِ الأَخْلاقِ. ومِثْلُ ذَلِكَ أَيْضَاً ما إِذَا أَرَادَ المُسْلِمُ أَنْ يُقِيمَ بَيْتاً وهُوَ شَكْلٌ مَدَنِيٌّ، فَإِنَّهُ يُرَاعِي فِيهِ عَدَمَ انكِشَافِ المَرْأَةِ في حَالِ تَبَذُّلِهَا لِمَنْ هُوَ خارِجُ البَيْتِ، فَيُقِيمُ حَوْلَهُ سُوراً، بِخِلافِ الغَرْبِيِّ فَإِنَّهُ لا يُرَاعِي ذَلِكَ حَسَبَ حَضَارَتِهِ. وهَكَذَا كافَّةُ ما يُنْتِجُ مِنَ الأَشْكَالِ المَدَنِيَّةِ عَنِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ كالتَمَاثِيلِ ونَحْوِهَا. وكذَلِكَ المَلابِسُ، فإِنَّها إِنْ كَانَتْ خَاصَّةً بالكُفَّارِ بِاعْتِبَارِهِمْ كُفَّارَاً لَمْ يَجُزْ للمسْلِمِ أَنْ يَلْبِسَهَا، لأَنَّها تحَمِلُ وِجْهَةَ نَظَرٍ مُعَيَّنَةٍ، وإِنْ لَمْ تَكُنْ كذَلِكَ بأَنْ تَعَارَفُوا عَلَى مَلابِسَ مُعَيَّنَةٍ لا بِاعْتِبَارِ كُفْرِهِمْ، بَلْ أَخَذُوهَا لِحَاجَةٍ أَوْ زِينَةٍ فَإِنَّهَا تُعَدُّ حِينَئِذٍ مِنَ الأَشْكَالِ المَدَنِيَّةِ العَامَّةِ ويَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا.

أَمَّا الأَشْكَالُ المَدَنيةُ الناتِجَةُ عَنِ العِلْمِ والصِنَاعَةِ كأَدَواتِ المُخْتَبَرَاتِ والآلاتِ الطِبِّيَةِ والصِنَاعِيَّةِ، والأَثَاثِ والطَنَافِسِ وما شَاكَلَهَا، فإِنَّهَا أَشْكَالٌ مَدَنِيَّةٌ عَالَمِيَّةٌ لا يُرَاعَى في أَخْذِهَا أَيُّ شَيْءٍ، لأَنَّها لَيْسَتْ ناجِمَةً عَنِ الحَضَارَةِ، ولا تَتَعَلَّقُ بِهَا. ونَظْرَةٌ خَاطِفَةٌ للحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ الَّتِي تَتَحَكَّمُ في العَالَمِ اليَوْمَ، تُرِينَا أَنَّ الحَضَارَةَ الغَرْبِيَّةِ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْمَنَ للإِنْسَانيَّةِ طُمَأْنِينَتُهَا، بَلْ إِنَّهَا عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ سَبَّبَتْ هَذَا الشَقَاءَ الَّذِي يَتَقَلَّبُ العَالَمُ عَلَى أَشْوَاكِهِ، ويَصْطَلِي بِنَارِهِ. والحَضَارَةُ الَّتِي تجَعَلُ أَسَاسَهَا فَصْلُ الدِينِ عَنِ الحَيَاةِ خِلافَاً لِفِطْرَةِ الإِنْسَانِ، ولا تُقِيمُ للنَاحِيَةِ الرُوحِيَّةِ وَزْنَاً في الحَيَاةِ العَامَّةِ، وتُصَوِّرُ الحَيَاةَ بأَنَّها المَنْفَعَةُ فَقَطْ، وتَجْعَلُ الصِلَةَ بَيْنَ الإِنْسَانِ والإِنْسَانِ في الحياةِ هِيَ المَنْفَعَةُ، هَذِهِ الحَضَارَةُ لا تُنْتِجُ إِلاَّ شَقَاءً وقَلَقَاً دَائِمَيْنِ، فَما دَامَتْ هَذِهِ المَنْفَعَةُ هِيَ الأَسَاسُ، والتَنَازُعُ عَلَيْهَا طَبِيِعِيٌّ، والنِضَالُ في سَبِيلِهَا طَبِيِعِيٌّ، والاعْتِمَادُ عَلَى القُوَّةِ في إِقَامَةِ الصِلاتِ بَيْنَ البَشَرِ طَبِيِعِيٌّ. ولذَلِكَ يَكَوْنُ الإِسْتِعْمَارُ طَبِيِعِيَّاً عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الحَضَارَةِ، وتَكُوْنُ الأَخْلاقُ مُزَعْزَعَةٌ، لأَنَّ المَنْفَعَةَ وَحْدَهَا سَتَظَلُّ هِيَ أَسَاسُ الحَيَاةِ. ولهذا فَمِنَ الطَبِيِعِيِّ أَنْ تُنْفَى مِنَ الحَيَاةِ الأَخْلاقُ الكَرِيمَةُ كَمَا نُفِيَتْ مِنْهَا القِيَمُ الرُوحِيَّةُ، وأَنْ تَقُومَ الحَيَاةُ عَلَى أَسَاسِ التَنَافُسِ والنِضَالِ والاعْتِدَاءِ والاسْتِعمَارِ. وما هُوَ وَاقِعٌ في العَالَمِ اليَوْمَ مِنْ وُجُودِ أَزَمَاتٍ رُوحِيَّةٌ في نُفُوسِ البَشَرِ، ومِنْ قَلَقٌ دَائِمٌ وشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، خَيْرُ دَلِيلٍ عَلَى نَتَائِجِ هَذِهِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، لأَنَّها هِيَ الَّتِي تَتَحَكَّمُ في العَالَمِ وهِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَذِهِ النَتَائِجِ الخَطِيرَةِ والخَطِرَةِ عَلَى الإِنْسَانيَّةِ.

ونَظْرَةٌ إِلَى الحَضَارَةِ الإِسْلامِيَّةِ الَّتِي تَحَكَّمَتْ في العَالَمِ مُنْذُ القَرْنِ السَادسِ المِيلادِيِّ حَتَّى أَوَاخِرِ القَرْنِ الثَامِنِ عَشَرَ المِيلادِيِّ، تُرِينَا أَنَّها لَمْ تَكُنْ مُسْتَعْمِرَةٌ، ولَيْسَ مِنْ طَبْعِهَا الإِسْتِعْمَارُ، لأَنَّها لَمْ تُفَرِّقُ بَيْنَ المُسْلِمينَ وغَيْرِهِمْ، فَضَمَنَتْ العَدَالَةَ لجَمِيعِ الشُعُوبِ الَّتِي دَانَتْ لها طُوَالَ مُدَّةِ حُكْمِهَا، لأَنَّها حَضَارَةٌ تَقُومُ عَلَى الأَسَاسِ الرُوحِيِّ الَّذِي يُحَقِّقُ القِيَمُ جَمِيعُهَا: مِنْ مَادِّيَّةٍ، ورُوحِيَّةٍ، وأَخْلاقِيَّةٍ، وإِنْسَانِيَّةٍ. وتَجْعَلَ الوَزْنَ كُلَّهُ في الحَيَاةِ للعَقِيدَةِ. وتُصَوِّرُ الحَيَاةَ بأَنَّها مُسَيَّرَةٌ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، وتَجْعَلُ مَعْنَى السَعَادَةِ بأَنَّها رِضْوَانُ اللهِ، وحِينَ تَسُودُ هَذِهِ الحَضَارَةَ الإِسْلامِيَّةَ كَمَا سَادَتْ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا سَتَكْفَلُ مُعَالَجَةَ أَزَمَاتِ العَالَمِ، وتَضْمَنُ الرَفَاهِيَّةَ للإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ.



نِظَامُ الإِسْلامِ

الإِسْلامُ هُوَ الدِينُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى سَيِّدَنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِتَنْظِيمِ عَلاقَةِ الإِنْسَانِ بخَالِقِهِ، وبِنَفْسِهِ، وبغَيْرِهِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ. وعَلاقَةُ الإِنْسَانِ بخَالِقِهِ تَشْمُلُ العَقَائِدَ والعِبَادَاتِ، وعَلاقَتُهُ بِنَفْسِهِ تَشْمُلُ الأَخْلاقَ والمَطْعُومَاتِ والمَلْبُوسَاتِ، وعَلاقَتُهُ بغَيْرِهِ مِنْ بَني الإِنْسَانِ تَشْمُلُ المُعَامَلاتِ والعُقُوبَاتِ. فالإِسْلامُ مَبْدَأٌ لِشُؤُونِ الحَيَاةِ جَمِيعاً، ولَيْسَ دِيناً لاهُوتِيَّاً، ولا يَتَّصِلُ بالكَهَنُوتِيَّةِ بِسَبَبٍ. وإِنَّهُ لَيَقْضِي عَلَى الأُوتُوقْرَاطِيَّةِ الدِينِيَّةِ (الاسْتِبْدَادِ الدِينيِّ) فلا يُوجَدُ في الإِسْلامِ جَمَاعَةٌ تُسَمَّى رِجَالُ الدِينِ، وجَمَاعَةٌ تُسَمَّى رِجَالُ الدُنْيَا، بَلْ جَمِيعُ مَنْ يَعْتَنِقُونَ الإِسْلامَ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ، وكُلُّهُمْ أَمَامَ الدِينِ سَوَاءٌ. فلا يُوجَدُ فِيهِ رِجَالٌ رُوحِيُّونَ، ورِجَالٌ زَمَنِيُّونَ. والنَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ فِيهِ هِيَ كَوْنُ الأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةٌ لخَالِقٍ، ومُدَبَّرَةٌ بأَمْرِ هَذَا الخَالِقِ. لأَنَّ النَظْرَةَ العَمِيقَةَ للكَوْنِ والإِنْسَانِ والحَيَاةِ، ومَا حَوْلَهَا وما يَتَعَلَّقُ بِهَا، والاسْتِدلالُ بذَلِكَ يُرِي الإِنْسَانَ النَقْصَ والعَجْزَ والاحتِيَاجَ المُشَاهَدَ المَلْمُوسَ في هَذِهِ الأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا، مِمَّا يَدُلُّ دَلالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّها مَخْلُوقَةٌ لخَالِقٍ، ومُدَبَّرَةٌ بأَمْرِهِ، وأَنَّ الإِنْسَانَ وهُوَ سَائِرٌ في الحَيَاةِ لا بُدَّ لَهُ مِنْ نِظَامٍ يُنَظِّمُ غَرَائِزَهُ وحاجاتِهِ العُضْوِيَّةِ. ولا يَتَأَتَّى هَذَا النِظَامُ مِنَ الإِنْسَانِ. لِعَجْزِهِ وعَدَمِ إِحَاطَتِهِ. ولأَنَّ فَهْمَهُ لِهَذَا التَنْظِيمِ عُرْضَةً لِلْتَفَاوُتِ والاخْتِلافِ والتَنَاقُضِ مِمَّا يُنْتِجُ النِظَامَ المتُنَاقِضَ المُؤَدِّيَ إِلَى شَقَاءِ الإِنْسَانِ. ولذَلِكَ كَانَ حَتْمَاً أَنْ يَكَوْنَ النِظَامُ مِنَ اللهِ تَعَالى.ولِهَذا كَانَ لِزَامَاً عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُسَيِّرَ أَعْمَالَهُ بِنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ. إِلاَّ أَنَّ هَذَا التَسْييرَ بالنِظَامِ إِنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَنْفَعَةِ هَذَا النِظَامِ، وَلَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللهِ، لا تَكُنْ فِيهِ نَاحِيَةٌ رُوحِيَّةٌ. بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكَوْنَ تَنْظِيمُ الإِنْسَانِ أَعْمَالَهُ في الحَيَاةِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِهِ صِلَتَهُ باللهِ، حَتَّى تُوجَدَ الرُوحُ في الأَعْمَالِ. أَيْ لا بُدَّ مِنْ إِدْرَاكِ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ، وبناءً عَلَىَ إِدرَاكِهِ لهذِهِ الصِلَةِ بِاللهِ يُسَيِّرُ أعمَالَهُ بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيِهِ، حَتَّىَ تُوجَد الرُّوح عِندَ القِيَامِ بِالأَعمَالِ، إِذْ الرُّوحُ هيَ إدراكُ الإِنسَانُ صِلَتَهُ بِاللهِ، ومَعْنَى مَزْجِهَا مَعَ المَادَّةِ، هُوَ وُجُودُ الإِدْرَاكِ لِلْصِلَةِ باللهِ حِينَ القِيَامِ بالعَمَلِ، فيَسِيرَ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ هَذِهِ الصِلَةِ باللهِ. فالعَمَلُ مَادَّةٌ، وإِدْرَاكُ الصِلَةِ باللهِ حِينَ القِيَامِ بِهِ هُوَ الرُوحُ، فَصَارَ تَسْييرُ العَمَلِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ الصِلَةِ هُوَ مَزْجُ المَادَّةِ بالرُوحِ. ومِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ تَسْيِيرُ غَيْرِ المُسْلِمِ أَعْمَالَهُ بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ المُسْتَنْبَطَةِ مِنَ القُرْآنِ والسُنَّةِ تَسْيِيراً بالرُوحِ، ولا مُتَحَقِّقَاً فِيهِ مَعْنَى مَزْجُ المَادَّةِ بالرُوحِ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بالإِسْلامِ، فَلَمْ يُدْرِكْ الصِلَةَ باللهِ، بَلْ أَخَذَ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ نِظَاماً أَعْجَبَهُ فَنَظَّمَ بِهِ أَعْمَالَهُ، بِخِلافِ المُسْلِمِ فَقَدْ كَانَ قِيَامُهُ بأَعْمَالِهِ وِفْقَ أَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ مَبْنِيَّاً عَلَى إِدْرَاكِهِ لِصِلَتِهِ باللهِ وكَانَتْ غَايَتُهُ مِنْ تَسْيِيرِ أَعْمَالِهِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ هِيَ رِضْوَانُ اللهِ، لا الانتِفَاعُ بالنِظَامِ فَقَطْ. وعَلَى ذَلِكَ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النَاحِيَةِ الرُوحِيَّةِ في الأَشْيَاءِ، ولا بُدَّ مِنَ الرُوحِ حِينَ القِيَامِ بالأَعْمَالِ. عَلَى أَنْ يَكُونَ وَاضِحَاً دَائِمَاً عِنْدَ الجَمِيعِ أَنَّ النَاحِيَةَ الرُوحِيَّةَ تَعْنِي كَوْنَ الأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةٌ لخَالِقٍ خَلَقَهَا، أَيْ هِيَ صِلَةُ المَخْلُوقِ بالخَالِقِ، وأَنَّ الرُوحَ هِيَ إِدْرَاكُ هَذِهِ الصِلَةِ، أَيْ إِدْرَاكُ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ تعالى. هَذِهِ هِيَ النَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ، وهَذِهِ هِيَ الرُوحُ. وهَذَا وَحْدَهُ هُوَ المَفْهُومُ الصَحِيحُ، وما عَدَاهُ مَفْهُومٌ مَغْلُوطٌ قَطْعَاً. والنَظْرَةُ العَمِيقَةُ المُسْتَنِيرَةُ إِلَى الكَوْنِ والحَيَاةِ والإِنْسَانِ هِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى النَتَائِجِ الصادِقَةِ، وهِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَذَا المَفْهُومِ الصَحِيحِ.

rajaab
04-05-2005, 04:17 PM
وقَدْ نَظَرَتْ بَعْضُ الأَدْيَانِ إِلَى أَنَّ الكَوْنَ فِيهِ المَحْسُوسُ والمَغِيبُ، والإِنْسَانُ فِيهِ السُمُوُّ الرُوحِيُّ والنَزْعَةُ الجَسَدِيَّةُ، والحَيَاةُ فِيها النَاحِيَةُ المَادِّيَّةُ والنَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ ، وأَنَّ المَحْسُوسَ يَتَعَارَضُ مَعَ المَغِيبِ، وأَنَّ السُمُوَّ الرُوحِيَّ لا يَلْتَقِي مَعَ النَزْعَةِ الجَسَدِيَّةِ، وأَنَّ المَادَّةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الرُوحِ. ولذَلِكَ فَهاتانِ النَاحِيَتانِ مُنْفَصِلَتَانِ عِنْدَهُمْ، لأَنَّ التَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَسَاسِيٌّ في طَبِيعَتِهِمَا، ولا يُمْكِنُ امْتِزَاجُهُمَا، وأَنَّ كُلَّ تَرْجِيحٍ لأَحَدِهِمَا في المِيزَانِ فِيهِ تَخْفِيضٌ لِوَزْنِ الأُخْرَى. ولِهَذا كَانَ على مُرِيدُ الآخِرَةِ أَنْ يُرَجِّحَ النَاحِيَةَ الرُوحِيَّةَ. ومِنْ هُنَا قَامَتْ فِي المَسِيحِيَّةِ سُلْطَتَانِ: السُلْطَةُ الرُوحِيَّةُ، والسُلْطَةُ الزَمَنِيَّةُ (أَعْطِ ما لِقَيْصَرٍ لِقَيْصَرِ وما لله للهِ) وكَانَ رِجَالُ السُلْطَةِ الرُوحِيَّةِ هُمْ رِجَالُ الدِينِ وكَهَنَتُهُ، وكَانُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ تَكُونَ السُلْطَةُ الزَمَنِيَّةُ بِأَيْدِيهِمْ، حَتَّى يُرَجِّحُوا عَلَيْهَا السُلْطَةَ الرُوحِيَّةَ في الحَيَاةِ، ومِنْ ثُمَّ نَشَأَ النِزَاعُ بَيْنَ السُلْطَةِ الزَمَنِيَّةِ والسُلْطَةِ الرُوحِيَّةِ. وأَخِيراً تَمَّ جَعْلُ رِجَالِ الدِينِ مُسْتَقِلِّينَ بالسُلْطَةِ الرُوحِيَّةِ، لا يَتَدَخَّلُونَ بالسُلْطَةِ الزَمَنِيَّةِ، وقَدْ فُصِلَ الدِينُ عَنِ الحَيَاةِ لأَنَّهُ كَهَنُوتِيٌّ، وهَذَا الفَصْلُ بَيْنَ الدِينِ والحَيَاةِ، هُوَ عَقِيدَةُ المَبْدَأِ الرَأْسِمَالِيِّ، وهُوَ أَسَاسُ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وهُوَ القِيَادَةُ الفِكْرِيَّةُ الَّتِي يَحْمِلُهَا الإِسْتِعْمَارُ الغَرْبِيُّ للعَالَمِ ويَدْعُو لَهَا، ويجَعَلُها عِمَادَ ثَقَافَتِهِ، ويُزَعْزِعُ عَلَى أَسَاسِهَا عَقِيدَةَ المُسْلِمِينَ بالإِسْلامِ، لأَنَّهُ يَقِيسُ الإِسْلامَ بالمَسِيحِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ القِيَاسِ الشُمُولِيِّ. فَكُلُّ مَنْ يَحْمِلُ هَذِهِ الدَعْوَةَ ((فَصْلُ الدِينِ عَنِ الحَيَاةِ)) أَوْ فَصْلُ الدِينِ عَنِ الدَوْلَةِ أَوْ عَنِ السِيَاسَةِ، إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ ومُوَجَّهٌ بِتَوْجِيهِ القِيَادَةِ الفِكْرِيَّةِ الأَجْنَبِيَّةِ، وعامِلٌ -بِحُسْنِ نِيَّةٍ أَوْ بسُوئِهَا- مِنْ عُمَلاءِ الاسْتِعمَارِ. وهُوَ جَاهِلٌ بالإِسْلامِ أَوْ مُعَادٍ لَهُ.

وأَمَّا الإِسْلامُ فَيَرَى أَنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي يُدْرِكُهَا الحِسُّ هِيَ أَشْيَاءٌ مَادِّيَّةٌ، والنَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ هِيَ كَوْنُهَا مَخْلُوقَةٌ لخَالِقٍ، والرُوحُ هِيَ إِدْرَاكُ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ، وعَلَى ذَلِكَ لا تُوجَدُ نَاحِيَةٌ رُوحِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ النَاحِيَةِ المَادِّيَّةِ، ولا تُوجَدُ في الإِنْسَانِ أَشْوَاقٌ رُوحِيَّةٌ ونَزَعَاتٌ جَسَدِيَّةٌ، بَلْ الإِنْسَانُ فِيهِ حَاجَاتٌ عُضْوِيَّةٌ، وغَرَائِزُ، لا بُدَّ مِنْ إِشْبَاعِهَا، ومِنَ الغَرَائِزِ غَرِيزَةُ التَدَيُّنِ الَّتِي هِيَ الاحتِيَاجُ إِلَى الخَالِقِ المُدَبِّرِ النَاشِئِ عَنِ العَجْزِ الطَبِيِعِيِّ في تَكْوِينِ الإِنْسَانِ. وإِشْبَاعُ هَذِهِ الغَرَائِزِ لا يُسَمَّى نَاحِيَةً رُوحِيَّةً ولا نَاحِيَةً مَادِّيَّةً، وإِنَّمَا هُوَ إِشْبَاعٌ فَقَطْ. إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الحاجاتِ العُضْوِيَّةِ والغَرَائِزَ إِذَا أُشْبِعَتْ بنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ الصِلَةِ باللهِ كَانَتْ مُسَيَّرَةً بالرُوحِ، وإِنْ أُشْبِعَتْ بِدُونِ نِظَامٍ، أَوْ بنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، كَانَ إِشْبَاعاً مَادِّيَّاً بَحْتاً يُؤَدِّي إِلَى شَقَاءِ الإِنْسَانِ. فغَرِيزَةُ النَوْعِ إِنْ أُشْبِعَتْ مِنْ غَيْرِ نِظَامٍ أَوْ بنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ كَانَ ذَلِكَ مُسَبِّبَاً لِلْشَقَاءِ، وإِنْ أُشْبِعَتْ بنِظَامِ الزَوَاجِ الَّذِي مِنْ عِنْدِ اللهِ حَسَبَ أَحْكَامِ الإِسْلامِ كَانَ زَوَاجَاً مُوجِدَاً لِلْطُمَأْنِينَةِ. وغَرِيزَةُ التَدَيُّنِ إِنْ أُشْبِعَتْ مِنْ غَيْرِ نِظَامٍ أَوْ بنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ أَوْ عِبَادَةِ الإِنْسَانِ، كَانَ ذَلِكَ إِشْرَاكاً وكُفْرَاً، وإِنْ أُشْبِعَتْ بأَحْكَامِ الإِسْلامِ كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً. ولِهَذَا كَانَ لِزَامَاً أَنْ تُرَاعَى النَاحِيَةَ الرُوحِيَّةَ في الأَشْيَاءِ، وأَنْ تُسَيَّرَ جَمِيعُ الأَعْمَالِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ، أَيْ أَنْ تُسَيَّرَ بالرُوحِ، ولذَلِكَ لَمْ يَكُنْ في العَمَلِ الواحِدِ شَيْئَانِ اِثْنَانِ، بَلْ المَوُجُودُ شَيْءٌ واحِدٌ هُوَ العَمَلُ، وإِمَّا وَصْفُهُ بأَنَّهُ مَادِّيٌّ بَحْتٌ، أَوْ مُسَيَّرٌ بالرُوحِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ آتِيَاً مِنْ نَفْسِ العَمَلِ، بَلْ آتٍ مِنْ تَسْيِيرِهِ بِأَحْكَامِ الإِسْلامِ، أَوْ عَدَمِ تَسْيِيرِهِ بِهَا. فَقَتْلُ المُسْلِمِ عَدُوَّهُ في الحَرْبِ يُعْتَبَرُ جِهَاداً يُثَابُ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ عَمَلٌ مُسَيَّرٌ بأَحْكَامِ الإِسْلامِ، وقَتْلُ المُسْلِمِ نَفْسَاً مَعْصُومَةً (مُسْلِمَةً أَوْ غَيْرَ مُسْلِمَةٍ) بغَيْرِ حَقٍّ يُعْتَبَرُ جَرِيمَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ عَمَلٌ مَخَالِفٌ لأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ. وكِلا العَمَلَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ القَتْلُ، صَادِرٌ عَنِ الإِنْسَانِ، فالقَتْلُ يَكُونُ عِبَادَةً حِينَ يُسَيَّرُ بالرُوحِ، ويَكُونُ جَرِيمَةً حِينَ لا يُسَيَّرُ بالرُوحِ. ولذَلِكَ كَانَ لِزَامَاً عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يُسَيِّرَ أَعْمَالَهُ بالرُوحِ، وكَانَ مَزْجُ المَادَّةِ بالرُوحِ لَيْسَ أَمْراً مُمْكِنَاً فحَسْبْ بَلْ هُوَ أَمْرٌ واجِبٌ. ولا يَجُوزُ أَنْ تُفْصَلَ المَادَّةُ عَنِ الرُوحِ، أَيْ لا يَجُوزُ أَنْ يُفْصَلَ أَيُّ عَمَلٍ عَنْ تَسْيِيرِهِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ الصِلَةِ باللهِ. ولِهَذا يَجِبُ أَنْ يُقْضَى عَلَى كُلِّ مَا يُمَثِّلُ النَاحِيَةَ الرُوحِيَّةَ مُنْفَصِلَةً عَنِ النَاحِيَةِ المَادِّيَّةِ. فَلا رِجَالَ دِينٍ في الإِسْلامِ، ولَيْسَ فِيهِ سُلْطَةٌ دِينِيَّةٌ بالمَعْنَى الكَهَنُوتِيِّ، ولا سُلْطَةٌ زَمَنِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الدِينِ، بَلْ الإِسْلامُ دِينٌ مِنْهُ الدَوْلَةُ، وهِيَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كأَحْكَامِ الصَلاةِ، وهِيَ طَرِيقَةٌ لتَنْفِيذِ أَحْكَامِ الإِسْلامِ وحَمْلِ دَعْوَتِهِ. ويَجِبُ أَنْ يُلْغَى كُلُّ مَا يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الدِينِ بالمَعْنَى الرُوحِيِّ وعَزْلِهِ عَنِ السِيَاسَةِ والحُكْمِ، فَتُلْغَى المُؤَسَّسَاتُ الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى النَوَاحِي الرُوحِيَّةِ، فَتُلْغَى إِدَارَةُ المَسَاجِدِ وتَكُونُ تَابِعَةً لإِدَارَةِ المَعَارِفِ، وتُلْغَى المَحَاكِمُ الشَرْعِيَّةُ والمَحَاكِمُ النِظَامِيَّةُ، ويُجْعَلُ القَضَاءُ واحِداً لا يُحْكَمُ إِلاَّ بالإِسْلامِ، فَسُلْطَانُ الإِسْلامِ سُلْطَانٌ وَاحِدٌ.

والإِسْلامُ عَقِيدَةٌ ونُظُمٌ، أَمَّا العَقِيدَةُ فَهِيَ الإِيمَانُ باللهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وباليَوْمِ الآخِرِ، وبالقَضَاءِ والقَدَرِ خَيْرِهِمَا وشَرِّهِمَا مِنَ اللهِ تَعَالى. وقَدْ بَنَى الإِسْلامُ العَقِيدَةَ عَلَى العَقْلِ فِيمَا يُدْرِكُهُ العَقْلُ ، كالإِيمَانِ باللهِ، وبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ، وبالقُرْآنِ الكَرِيمِ، وبَنَاهَا في المَغِيبَاتِ، أَيْ مَا لا يُمْكِنُ للعَقْلِ أَنْ يُدْرِكَهُ كيَوْمِ القِيَامَةِ والمَلائِكَةِ والجَنَّةِ والنَارِ عَلَى التَسْلِيمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرُهَا ثَابِتاً بالعَقْلِ وهُوَ القُرْآنُ الكَرِيمُ والحَدِيثُ المُتَوَاتِرُ. وقَدْ جَعَلَ الإِسْلامُ العَقْلَ مَنَاطَ التَكْلِيفِ.

أَمَّا النُظُمُ فَهِيَ الأَحْكَامُ الشَرْعِيَّةُ الَّتِي تُنَظِّمُ شُؤُونَ الإِنْسَانِ، وقَدْ تَنَاوَلَ نِظَامُ الإِسْلامُ جَمِيعَ هَذِهِ الشُؤُونِ، ولَكِنَّهُ تَنَاوَلَهَا بِشَكْلٍ عَامٍ، بِمَعَانٍ عَامَّةٍ، وتَرَكَ التَفْصِيلاتِ تُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ المَعَانِي العَامَّةِ حِينَ إِجْرَاءِ التَطْبِيقَاتِ. فَقَدْ جَاءَ القُرْآنُ الكَرِيمُ والحَدِيثُ الشَرِيفُ يَتَضَمَّنَانِ خُطُوطَاً عَرِيضَةً، أَيْ مَعَانِيَ عَامَّةٍ لِمُعَالَجَةِ شُؤُونِ الإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ، وتَرَكَ لِلْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يَسْتَنْبِطُوا مِنْ هَذِهِ المَعَانِي العَامَّةِ الأَحْكَامَ الجُزْئِيَّةِ، للمَشَاكِلِ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ واختِلافِ الأَمْكِنَةِ.

وللإِسْلامِ طَرِيقَةٌ واحِدَةٌ في مُعَالَجَةِ المَشَاكِلِ، فَهُوَ يَدْعُو المُجْتَهِدَ لأَنْ يَدْرُسَ المُشْكِلَةَ الحَادِثَةَ حَتَّى يَفْهَمُهَا، ثُمَّ يَدْرُسَ النُصُوصَ الشَرْعِيَّةَ المُتَعَلِّقَةَ بِهَذِهِ المُشْكِلَةِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ حَلَّ هَذِهِ المُشْكِلَةِ، مِنَ النُصُوصِ، أَيْ يَسْتَنْبِطَ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ لِهَذِهِ المَسْأَلَةِ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَرْعِيَّةِ، ولا يَسْلُكُ طَرِيقَةً غَيْرَهَا، مُطْلَقاً. عَلَى أَنَّه حِينَ يَدْرُسُ هَذِهِ المُشْكِلَةَ، يَدْرُسُهَا بِاعْتِبَارِهَا مُشْكِلَةً إِنْسَانِيَّةً لَيْسَ غَيْرُ، لا بِاعْتِبَارِهَا مُشْكِلَةً اقتِصَادِيَّةً أَوْ اجتِمَاعِيَّةً أَوْ مُشْكِلَةَ حُكْمٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ بِاعتِبَارِهَا مَسْأَلَةً تَحْتَاجُ إِلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، حَتَّى يُعْرَفُ حُكْمُ اللهِ فِيهَا.

rajaab
04-05-2005, 04:22 PM
الحُكْمُ الشَرْعِيُّ

هُوَ خِطَابُ الشَارِعِ المُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ العِبَادِ، وهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ كالقُرْآنِ الكَرِيمِ والحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ، أَوْ ظَنِّيَّ الثُبُوتِ كالحَدِيثِ غَيْرِ المُتَوَاتِرِ: فإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ يُنْظَرْ، فإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الدِلالَةِ يَكُونُ الحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَطْعِيَّاً كَرَكَعَاتِ الفَرَائِضِ كُلِّهَا، فإِنَّهَا وَرَدَتْ في الحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ، وكَتَحْرِيمِ الرِبَا وقَطْعِ يَدِ السَارِقِ وجَلْدِ الزَانِي، فإِنَّهَا أَحْكَامٌ قَطْعِيَّةٌ، والصَوَابُ فِيهَا مُتَعَيِّنٌ، ولَيْسَ فِيهَا إِلاَّ رَأْيٌ وَاحِدٌ قَطْعِيٌّ.

وإِنْ كَانَ خِطَابُ الشَارِعِ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ ظَنِّيَّ الدِلالَةِ فإِنَّ الحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ظَنِّيٌّ مِثْلُ آيَةِ الجِزْيَةِ، فإِنَّهَا قَطْعِيَّةُ الثُبُوتِ، ولَكِنَّهَا ظَنِّيَّةُ الدِلالَةِ في التَفْصِيلِ، فالحَنَفِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تُسَمَّى جِزْيَةً، وأَنْ يُظْهَرَ الذِلُّ عَلَى مُعْطِيهَا حِينَ إِعْطَائِهَا. والشَافِعِيَّةُ لا يَشْتَرِطُونَ تَسْمِيَتَهَا جِزْيَةً، بَلْ يَصِحُّ أَنْ تُؤْخَذَ بِاسمِ زَكَاةٍ مُضَاعَفَةٍ، ولا ضَرُورَةَ لإِظْهَارِ الذُلِّ، بَلْ يَكْفِي الخُضُوعُ لأَحْكَامِ الإِسْلامِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ خِطَابُ الشَارِعِ ظَنِّيُ الثُبُوتِ كالحَدِيثِ غَيْرَ المُتَوَاتِرِ، فيَكُونُ الحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ظَنِّيَّاً، سَوَاءً أَكَانَ قَطْعِيَّ الدِلالَةِ كَصِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ بالسُنَّةِ، أَوْ ظَنِّيَّ الدِلالَةِ كَمَنْعِ إِجارَةِ الأَرْضِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بالسُنَّةِ.

وخِطَابُ الشَارِعِ يُفْهَمُ مِنْهُ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ بِاجتِهَادٍ صَحِيحٍ، ولِذَلِكَ كَانَ اجتِهَادُ المُجْتَهِدِينَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ، وعَلَى ذَلِكَ فَحُكْمُ اللهِ في حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ هُوَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجتِهَادُهُ وغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.

فالمُكَلَّفُ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الإجتهاد بِتَمَامِهَا في مَسْأَلَةٍ مِنَ المَسَائِلِ فَإِنْ اجتَهَدَ فِيهَا وأَدَّاهُ اجتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ فِيهَا، فَقَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، في خِلافِ ما أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، ولا يجوزُ لهُ تَرْكُ ظَنِّهِ إِلاَّ إِذَا تَبَنَّى الخَلِيفَةُ حُكْمَاً شَرْعِيَّاً، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ العَمَلُ بِمَا أَمْرَ بِهِ الخَلِيفَةُ، لأَنَّ ما أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ هُوَ حُكْمُ اللهِ في المَسْأَلَةِ وهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ولأَنَّ أَمْرَ الإِمَامِ يَرْفَعُ الخِلافَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَجْتَهِدْ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الإجتهاد فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، لأَنَّ إِجْمَاعَ الصَحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ للمُجْتَهِدِ أَنْ يَتْرُكَ اجتِهَادَهُ ويُقَلِّدَ غَيْرَهُ مِنَ المُجْتَهِدِينَ.

وأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الإجتهاد فَهُوَ المُقَلِّدُ، وهُوَ قِسْمَانِ مُتَّبِعٌ وعَامِّيٌ فالمُتَّبِعُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُحَصِّلاً لِبَعْضِ العُلُومِ المُعْتَبَرَةِ في الإجتهاد، فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ المُجْتَهِدَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُ اللهِ في حَقِّ هَذَا المُتَّبِعِ هُوَ قَوْلَ المُجْتَهِدِ الَّذِي اتَّبَعَهُ. وأَمَّا العَامِّيُّ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُحَصِّلاً لِبَعْضِ العُلُومِ المُعْتَبَرَةِ في الإجتهاد فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ المُجْتَهِدَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ. وهذا العَامِّيُّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ قَوْلِ المُجْتَهِدِينَ والأَخْذُ بالأَحْكَامِ الَّتِي استَنبَطُوهَا، ويَكُونُ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ في حَقِّهِ هُوَ الَّذِي إِسْتَنْبَطَهُ المُجْتَهِدُ الَّذِي قَلَّدَهُ. وعَلَى ذَلِكَ فالحُكْمُ الشَرْعِيُّ هُوَ الَّذِي إِسْتَنْبَطَهُ مُجْتَهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ الإجتهاد، وهُوَ في حَقِّهِ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ ويَتَّبِعَ غَيْرَهُ مُطْلَقَاً، وكذَلِكَ هُوَ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ.

والمُقَلِّدُ إِذَا قَلَّدَ بَعْضَ المُجْتَهِدِينَ في حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الحَوَادِثِ وعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، فلَيْسَ لَهُ الرُجُوعُ عَنْهُ في ذَلِكَ الحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مُطْلَقَاً. وأَمَّا تَقْلِيدُ غَيْرِ ذَلِكَ المُجْتَهِدِ في حُكْمٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ مِنْ تَسوِيغِ استِفتَاءِ المُقَلِّدِ لِكُلِّ عَالَمٍ في مَسْأَلَةٍ. وأَمَّا إِذَا عَيَّنَ المُقَلِّدُ مَذْهَبَاً كَمَذْهَبِ الشَافِعِيِّ مَثَلاً وقَالَ أَنَا عَلَى مَذْهَبِهِ ومُلْتَزِمٌ لَهُ فَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ في ذَلِكَ وهُوَ: إِنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنَ المَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدَهُ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِهَا فلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا مُطْلَقَاً، وما لَمْ يَتَّصِلُ عَمَلُهُ بِهَا فَلا مَانِعَ مِنْ إِتِّبَاعِ غَيْرِهِ فِيهَا. وأَمَّا المُجْتَهِدُ فَإِنَّهُ إِذَا تَوَصَّلَ بِاجتِهَادِهِ إِلَى حُكْمِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ ما تَوَصَّلَ إِلَيْهِ اجتِهَادُهُ فِيهَا وأَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِجَمْعِ المُسْلِمِينَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ كَمَا حَصَلَ مَعَ عُثْمَانَ عِنْدَ بَيْعَتِهِ.



أَنْوَاعُ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ

الأَحْكَامُ الشَرْعِيَّةُ هِيَ الفَرْضُ، والحَرَامُ، والمَنْدُوبُ، والمَكْرُوهُ، والمُبَاحُ. والحُكْمُ الشَرْعِيُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخِطَابِ الطَلَبِ لِلْفِعْلِ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخِطَابِ الطَلَبِ لِلْتَرْكِ، فإِنْ كَانَ بِخِطَابِ الطَلَبِ لِلْفِعْلِ فهُوَ إِنْ تَعَلَّقَ بِالطَلَبِ الجَازِمِ لِلْفِعْلِ، فَهُوَ الفَرْضُ والوَاجِبُ، وكِلاهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وإِنْ تَعَلَّقَ بالطَلَبِ غَيْرِ الجَازِمِ لِلْفِعْلِ فهُوَ النَدْبُ، وإِنْ تَعَلَّقَ بِخِطَابِ الطَلَبِ لِلْتَرْكِ فإِنْ تَعَلَّقِ بالطَلَبِ الجَازِمِ لِلْتَرْكِ فهُوَ الحَرَامُ والمَحْظُورُ، وكِلاهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وإِنْ تَعَلَّقَ بالطَلَبِ غَيْرِ الجَازِمِ لِلْتَرْكِ فهُوَ الكَرَاهَةُ. وعَلَى ذَلِكَ فالفَرْضُ والوَاجِبُ هُوَ مَا يُمْدَحُ فاعِلُهُ ويُذَمُّ تَارِكُهُ، أَوْ هُوَ ما يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ العِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ. والحَرَامُ هُوَ ما يُذَمُّ فَاعِلُهُ ويُمْدَحُ تَارِكُهُ، أَوْ هُوَ ما يَسْتَحِقُّ فاعِلُهُ العِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ. والمَنْدُوبُ هُوَ ما يُمْدَحُ فاعِلُهُ ولا يُذَمُّ تَارِكُهُ، أَوْ هُوَ ما يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ولا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، والمَكْرُوهُ هُوَ ما يُمْدَحُ تَارِكُهُ، أَوْ هُوَ ما كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ. والمُبَاحُ هُوَ مَا دَلَّ الدَلِيلُ السَمْعِيُّ عَلَى خِطَابِ الشَارِعِ بالتَخْيِيرِ فِيهِ بَيْنَ الفِعْلِ والتَرْكِ.



السُنَّةُ

السُنَّةُ في اللُّغَةِ: الطَرِيقَةُ. وأَمَّا في الشَرْعِ فقدْ تُطْلَقُ عَلَى ما كَانَ نافِلَةً مَنْقُولَةً عَنِ النَبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ كَرَكَعَاتِ السُنَنِ، فَإِنَّهَا تُسَمَّى سُنَّةً، أَيْ مُقَابِلَ الفَرْضِ، ولَيْسَ مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا سُنَّةً أَنَّهَا مِنَ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ، والفَرْضَ مِنَ اللهِ، بَلْ السُنَّةُ والفَرْضُ مِنَ اللهِ، والرَسُولُ إِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ، لأَنَّهُ لا يَنْطِقُ عَنِ الهُوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. فَهِيَ وإِنْ كَانَتْ سُنَّةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ ولَكِنَّهَا مَنْقُولَةٌ نَافِلَةً، فَسُمِّيَتْ سُنَّةً، كَمَا أَنَّ الفَرْضَ مَنْقُولٌ فَرْضَاً فَسُمِّيَ فَرْضَاً، فَرَكْعَتَا الفَجْرِ فَرْضَاً مَنْقُولَةٌ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ بطَرِيقَةِ التَوَاتُرِ فَرْضَاً، ورَكْعَتَا الفَجْرِ سُنَّةً كذَلِكَ مَنْقُولَةٌ عَنِ النَبِيِّ بطَرِيقِ التَوَاتُرِ نَفْلاً، وكِلْتَاهُمَا مِنَ اللهِ تَعَالى ولَيْسَتَا مِنْ شَخْصِ الرَسُولِ. فالأَمْرُ فَرْضٌ ونَافِلَةٌ في العِبَاداتِ، وفَرْضٌ ومَنْدُوبٌ في غَيْرِهَا. فالنَافِلَةُ هِيَ نَفْسُ المَنْدُوبِ سُمِّيَتْ نافِلَةً وأُطْلِقَ عَلَيْهَا سُنَّةٌ.

وكذَلِكَ تُطْلَقُ السُنَّةُ عَلَى مَا صَدَرَ عنَ الرَسُولِ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَرْعِيَّةِ مِمَّا لَيْسَ قُرأناً. ويَدْخُلُ في ذَلِكَ أَقْوالُ النَبِيِّ وأَفْعَالُهُ وتَقَارِيرُهُ-سُكُوتُهُ-.



التَأَسِّي بِأَفْعَالِ الرَسُولِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ

الأَفْعَالُ الَّتِي صَدَرَتْ عَنِ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلهِ وسَلَّمَ قِسْمَانِ، مِنْهَا ما كَانَ مِنَ الأَفْعَالِ الجِبِلِّيَّةِ، ومِنْهَا ما سِوَى ذَلِكَ: أَمَّا الأَفْعَالُ الجِبِلِّيَّةُ كالقِيَامِ، والقُعُودِ، والأَكْلِ، والشُرْبِ، ونَحْوِهِ، فَلا نِزَاعَ في كَوْنِهَا عَلَى الإِبَاحَةِ بالنِسْبَةِ إِلَيْهِ ولأُمَّتِهِ، ولذَلِكَ لا تَدْخُلُ في المَنْدُوبِ.

وأَمَّا الأَفْعَالُ الَّتِي لَيْسَتْ جِبِلِّيَّةً فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا ثَبَتَ كونها مِنْ خَواصِّهِ الَّتِي لا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، أَوْ لا تَكُونَ مِنْ خَوَاصِّهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا ثَبَتَ كَوْنُهَا مِنْ خَواصِّهِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وذَلِكَ كاختِصَاصِهِ بإِباحَةِ الوِصَالِ في الصَوْمِ، أَيْ مُوَاصَلَةِ النَهَارِ باللَيْلِ في الصَوْمِ، وكالزِيَادَةِ في النِكَاحِ عَلَى أَرْبَعةِ نِسْوَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ خَصَائِصِهِ، فَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُشَارِكَهُ بِهَا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ خَوَاصِّهِ بالإِجْمَاعِ، ولذَلِكَ لا يَجُوزُ التَأَسِّي بِهِ فِيهَا.

وأَمَّا مَا عُرِفَ كَوْنُ فِعْلِهِ بَياناً لَنَا فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ غَيْرِ خِلافٍ، وذَلِكَ إِمَّا بِصَرِيحِ مَقَالِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) وَ ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ بَيَانٌ لَنَا لِنَتَّبِعَهُ، وإِمَّا بِقَرَائِنِ الأَحْوَالِ، وذَلِكَ كَقَطْعِهِ يَدَ السَارِقِ مِنَ الكوعِ بَيَاناً لِقَوْلِهِ تَعَالى }فاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا{، وهَذَا البَيَانُ في فِعْلِهِ بالقَوْلِ أَوْ قَرَائِنِ الأَحْوَالِ تَابِعٌ للمُبَيَّنِ في الوُجُوبِ أَوِ النَدْبِ أَوِ الإِبَاحَةِ عَلَى حَسَبِ دِلالَةِ الدَلِيلِ.

أَمَّا الأَفْعَالُ الَّتِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا ما يَدُلُّ عَلَى أَنَّها لِلْبَيَانِ لا نَفْيَاً ولا إِثْبَاتَاً فَهِيَ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا قَصْدُ القُرْبَةِ وإِمَّا أَنْ لا يَظْهَرَ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهَا قَصْدُ القُرْبَةِ فَهِيَ تَدْخُلُ في المَنْدُوبِ يُثَابُ المَرْءُ عَلَى فِعْلِهَا ولا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا مِثْلَ سُنَّةِ الضُحَى، وإِنْ لَمْ يَظهَرْ فِيهَا قَصْدُ القُرْبَةِ فَهِيَ تَدْخُلُ في المُبَاحِ.



تَبَنِّي الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ

لَقَدْ كَانَ المُسْلِمونَ في عَصْرِ الصَحَابَةِ يَأْخُذُونَ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الكِتَابِ والسُنَّةِ، وكَانَ القُضَاةُ حِينَ يَفْصِلُونَ الخُصوماتِ بَيْنَ الناسِ يَسْتَنْبِطُونَ بِأَنْفُسِهِمْ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ في كُلِّ حَادِثَةٍ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ، وكَانَ الحُكَّامُ مِنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ إِلَى الوُلاةِ وغَيْرِهِمْ، يَقُومُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِاستِنبَاطِ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ لِمُعَالَجَةِ كُلِّ مُشْكِلَةٍ مِنَ المَشَاكِلِ تُعْرَضُ لَهُمْ أَثْنَاءَ حُكْمِهِمْ، فَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وشُرَيحٌ كَانَا قَاضِيَيْنِ يَسْتَنْبِطَانِ الأَحْكَامَ ويَحْكُمَانِ بِاجتِهَادِهِمَا، وكَانَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالِيَاً في أَيَّامِ الرَسُولِ يَسْتَنْبِطُ الأَحْكَامَ ويَحْكُمُ في وِلايَتِهِ بِاجتِهَادِهِ، وكَانَ أَبُو بَكْرٍ وعُمَرَ في خِلافَتِهِمَا يَسْتَنْبِطَانِ الأَحْكَامَ بِأَنْفُسِهِمَا ويَحْكُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الناسَ بِمَا يَسْتَنْبِطُهُ هُوَ، وكَانَ مُعَاوِيَةُ وعَمْرُو بْنُ العَاصِ والِيَيْنِ، وكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَنْبِطُ الأَحْكَامَ بِنَفْسِهِ ويَحْكُمُ الناسَ في وِلايَتِهِ، بِمَا إِسْتَنْبَطَهُ في اجتِهَادِهِ، ومَعْ هَذَا الإجتهاد لَدَى الوُلاةِ والقُضَاةِ، فَقَدْ كَانَ الخَلِيفَةُ يَتَبَنَّى حُكْمَاً شَرْعِيَّاً خَاصَّاً يَأْمُرُ الناسَ بالعَمَلِ بِهِ، فكَانُوا يَلْتَزِمُونَ العَمَلَ بِهِ ويَتْرُكُونَ رَأْيَهُمْ، واجتِهَادَهُمْ، لأَنَّ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ أَنَّ أَمْرَ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِرَاً وبَاطِنَاً ومِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَبَنَّى إِيْقَاعَ الطَلاقِ الثَلاثِ واحِدَةً، وتَوْزِيعَ المالِ عَلَى المُسْلِمينَ بالتَسَاوِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى القِدَمِ في الإِسْلامِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَاتَّبَعَهُ المُسْلِمونَ في ذَلِكَ، وسَارَ عَلَيْهِ القُضَاةُ والوُلاةُ. ولَمَّا جَاءَ عُمَرُ تَبَنَّى رَأْيَاً في هاتَيْنِ الحادِثَتَيْنِ خِلافَ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَلْزَمَ وُقُوعَ الطَلاقِ الثَلاثِ ثَلاثَاً. وَوَزَّعَ المَالَ حَسَبَ القِدَمِ والحَاجَةِ بالتَفَاضُلِ لا بالتَسَاوِي، واتَّبَعَهُ في ذَلِكَ المُسْلِمونَ وحَكَمَ بهِ القُضَاةُ والوُلاةُ. ثُمَّ تَبَنَّى عُمَرُ جَعْلَ الأَرْضِ الَّتِي تُغْنَمُ في الحَرْبِ غَنِيمَةً لِبَيْتِ المَالِ تَبْقَى في يَدِ أَهْلِهَا ولا تُقَسَّمُ عَلَى المُحَارِبِينَ ولا عَلَى المُسْلِمينَ فَاتَّبَعَهُ في ذَلِكَ الوُلاةُ والقُضَاةُ وسَارُوا عَلَى الحُكْمِ الَّذِي تَبَنَّاهُ، فكَانَ الإِجْمَاعُ ((إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ)) مُنْعَقِدَاً عَلَى أَنَّ لِلإِمَامِ أَنْ يَتَبَنَّى أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً ويَأْمُرَ بالعَمَلِ بِهَا، وعَلَى المُسْلِمينَ طَاعَتَهَا ولَوْ خَالَفَتْ اجتِهَادَهُمْ. والقَوَاعِدُ الشَرْعِيَّةُ المَشْهُورَةُ هِيَ ((لِلْسُلْطَانِ أَنْ يُحْدِثَ مِنَ الأَقضِيَةِ بقَدَرِ مَا يَحْدُثُ مِنْ مُشْكِلاتٍ)) وَ((أَمْرُ الإِمَامِ يَرْفَعُ الخِلافَ)) وَ((أَمْرُ الإِمَامِ نَافِذٌ ظَاهِرَاً وبَاطِنَاً)) ولِذَلِكَ صَارَ الخُلَفَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَبَنُّونَ أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً، فَقْدْ تَبَنَّى هَارُونُ الرَشِيدُ كِتَابَ ((الخَرَاجِ)) في النَاحِيَةِ الاقتِصَادِيَّةِ وأَلْزَمَ النَاسَ بالعَمَلِ بالأَحْكَامِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ.

rajaab
04-05-2005, 04:24 PM
الدُسْتُورُ والقَانُونُ

كَلِمَةُ القانونِ اصطِلاحٌ أَجْنَبِيٌّ، ومَعْنَاهُ عِنْدَهُمُ الأَمْرُ الَّذِي يُصْدِرُهُ السُلْطاَنُ لِيَسِيرَ عَلَيْهِ الناسُ، وقَدْ عُرِّفَ القانونُ بأَنَّهُ ((مَجْمُوعُ القَوَاعِدِ الَّتِي يُجْبِرُ السُلْطَانُ الناسَ عَلَى إتِّبَاعِهَا في عَلاقَاتِهِمْ)) وقَدْ أُطْلِقَ عَلَى القانونِ الأَسَاسِيِّ لِكُلِّ حُكُومَةٍ كَلِمَةُ الدُسْتُورِ، وأُطْلِقَ عَلَى القانونِ النَاتِجِ مِنَ النِظَامِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الدُسْتُورُ كَلِمَةُ القانونِ. وقَدْ عُرِّفَ الدُسْتُورُ بأَنَّهُ ((القانونُ الَّذِي يُحَدِّدُ شَكْلَ الدَوْلَةِ ونِظَامَ الحُكْمِ فِيهَا، ويُبَيِّنُ حُدودَ واخْتِصَاصَ كُلِّ سُلْطَةٍ فِيهَا)) أَوِ ((القانونُ الَّذِي يُنَظِّمُ السُلْطَةَ العَامَّةَ أَيْ الحُكُومَةَ ويُحَدِّدُ عَلاقَاتِهَا مَعَ الأَفْرَادِ ويُبَيِّنُ حُقُوقَهَا وَوَاجِبَاتِهَا قِبَلَهُمْ وَحُقُوقَهُمْ وَوَاجِبَاتِهِمْ قِبَلَهَا))، والدَسَاتيرُ مُخْتَلِفَةُ المَنْشَأِ، مِنْهَا ما صَدَرَ بصُورَةِ قانونٍ، ومِنْهَا ما نَشَأَ بالعَادَةِ والتَقَالِيدِ كالدُسْتُورِ الإِنْجِلِيزِيِّ،ومِنْهَا ما تَوَلَّى وَضْعَهُ لِجْنَةٌ مِنْ جَمْعِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ كَانَ لَهَا السُلْطَانُ في الأُمَّةِ وَقْتَئِذٍ، فَسَنَّتِ الدُسْتُورَ وبَيَّنَتْ كَيْفِيَّةَ تَنْقِيحِهِ ثُمَّ انحَلَّتْ هَذِهِ الهَيْئَةُ وقَامَ مَقَامَهَا السُلُطَاتُ الَّتِي أَنْشَأَهَا الدُسْتُورُ كَمَا حَدَثَ في فَرَنْسَا وأَمْرِيكَا. ولِلْدُسْتُورِ والقانونِ مَصَادِرُ أُخِذَ مِنْهَا، وهيَ قِسْمَانِ: الأَوَّلُ يُقْصَدُ بِهِ المَنْبَعُ الَّذِي نَبَعَ مِنْهُ الدُسْتُورُ والقانونُ مُبَاشَرَةً، كالعاداتِ، والدِينِ، وآرَاءِ الفُقَهَاءِ، وأَحْكَامِ المحَاكِمِ، وقَوَاعِدِ العَدْلِ والإِنْصَافِ، ويُسَمَّى هَذَا بالمَصْدَرِ التَشْرِيعِيِّ، مِثْلُ دَسَاتِيرِ بَعْضِ الدُوَلِ الغَرْبِيَّةِ كَإِنْجِلْتِرَا وأَمْرِيكا مَثَلاً. والثَانِي يُقْصَدُ بِهِ المَأْخَذُ المُشْتَقُّ مِنْهُ، أَوِ الَّذِي نُقِلَ عَنْهُ الدُسْتُورُ أَوِ القانونُ، مِثْلُ دُسْتُورِ فَرَنْسَا، ودَسَاتِيرِ بَعْضِ الدُوَيْلاتِ القَائِمَةِ في العَالَمِ الإِسْلامِيِّ، كَتُرْكِيَا، ومِصْرَ، والعِرَاقِ، وسُورِيَا مَثَلاً ويُسَمَّى هَذَا بالمَصْدَرِ التَارِيخِيِّ.

هَذِهِ خُلاصَةُ الاصطِلاحِ الَّذِي تَعْنِيهِ كَلِمَتَا الدُسْتُورِ والقانونِ، وهُوَ في خُلاصَتِهِ يَعْنِي أَنَّ الدَوْلَةَ تَأْخُذُ مِنْ مَصَادِرَ مُتَعَدِّدَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَصْدَراً تَشْرِيعِيَّاً، أَوْ مَصْدَراً تَارِيخِيَّاً، أَحْكَامَاً مُعَيَّنَةً، تَتَبَنَّاهَا وتَأْمُرُ بالعَمَلِ بِهَا، فَتُصْبِحُ هَذِهِ الأَحْكَامُ بَعْدَ تَبَنِّيهَا مِنْ قِبَلِ الدَوْلَةِ دُسْتُورَاً، إِنْ كَانَتْ مِنَ الأَحْكَامِ العَامَّةِ، وقَانُونَاً إِنْ كَانَتْ مِنَ الأَحْكَامِ الخَاصَّةِ.

والسُؤَالُ الَّذِي يُوَاجِهُ المُسْلِمِينَ الآنَ هُوَ: هَلْ يَجُوزُ استِعمَالُ هَذَا الاصطِلاحِ أَمْ لا يَجُوزُ؟ والجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ إِنَّ الأَلْفَاظَ الأَجْنَبِيَّةَ الَّتِي لَهَا مَعَانٍ اصطِلاحِيَّةٌ، إِنْ كَانَ اصطِلاحُهَا يُخَالِفُ اصطِلاحَ المُسْلِمِينَ لا يَجُوزُ استِعمَالُهَا، مِثْلُ كَلِمَةِ عَدَالَةٍ اجتمَاعِيَّةٍ، فَإِنَّهَا تَعْنِي نِظَاماً مُعَيَّنَاً، يَتَلَخَّصُ في ضَمَانِ التَعْلِيمِ والتَطْبِيبِ لِلْفُقَرَاءِ، وضَمَانِ حُقُوقِ العُمَّالِ والمُوَظَّفِينَ. فَإِنَّ هَذَا الاصطِلاحِ يُخَالِفُ اصطِلاحَ المُسْلِمينَ، لأَنَّ العَدْلَ عِنْدَ المُسْلِمينَ هُوَ ضِدُّ الظُلْمِ، أَمَّا ضَمَانُ التَعْلِيمِ والتَطْبِيبِ فَهُوَ لجَمِيعِ النَاسِ أَغْنِيَاءَ وفُقَرَاءَ، وضَمَانُ حُقُوقِ المُحْتَاجِ والضَعِيفِ حَقٌّ لِجَمِيعِ النَاسِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ التَابِعِيَّةَ الإِسْلامِيَّةَ. سَوَاءٌ أَكَانُوا مُوَظَّفِينَ أَمْ لَمْ يَكُونُوا، وكَانُوا عُمَّالاً أَوْ مُزَارِعِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ. أَمَّا إِنْ كَانَتْ الكَلِمَةُ تَعْنِي اِصْطِلاحَاً مَوْجُودَاً مَعْنَاهُ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، جَازَ استعمَالُهَا، مِثْلُ كَلِمَةِ ضَرِيبَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْنِي المالَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ النَاسِ لإِدَارَةِ الدَوْلَةِ، ويُوجَدُ لَدَى المُسْلِمِينَ مَالٌ تَأْخُذُهُ الدَوْلَةُ لإِدَارَةِ المُسْلِمِينَ، ولذَلِكَ صَحَّ أَنْ نَسْتَعْمِلَ كَلِمَةَ ضَرَائِبَ. وكذَلِكَ كَلِمَةُ الدُسْتُورِ والقَانُونِ، فَإِنَّهَا تَعْنِي تَبَنِّي الدَوْلَةِ لأَحْكَامٍ مُعَيَّنَةٍ تُعْلِنُهَا لِلْنَاسِ وتُلْزِمُهُمُ العَمَلَ بِهَا وتَحْكُمُهُمْ بِمُوجِبِهَا، وهَذَا المَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ المُسْلِمينَ. ولِذَلِكَ لا نَجِدُ ما يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ استعمَالِ كَلِمَتَيْ دُسْتُورٍ وقَانُونٍ. ويُرَادُ بِهِمَا الأَحْكَامُ الَّتِي تَبَنَّاهَا الخَلِيفَةُ مِنَ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقَاً بَيْنَ الدُسْتُورِ الإِسْلامِيِّ والقَوَانِينِ الإِسْلامِيَّةِ، وبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الدَسَاتِيرِ والقَوَانِينِ. فَإِنَّ بَاقِيَ الدَسَاتِيرِ والقَوَانِينِ مَصْدَرُهَا العَادَاتُ وأَحْكَامُ المَحَاكِمِ الخ. ومَنْشَؤُهَا جَمْعِيَّةٌ تَأسِيسيَّةٌ تَسُنُّ الدُسْتُورَ، ومَجَالِسُ مُنْتَخَبَةٌ مِنَ الشَعْبِ تَسُنُّ القَوَانِينَ، لأَنَّ الشَعْبَ عِنْدَهُمْ مَصْدَرُ السُلُطَاتِ، والسِيَادَةُ لِلْشَعْبِ. أَمَّا الدُسْتُورُ الإِسْلامِيُّ والقَوَانينُ الإِسْلامِيَّةُ فَإِنَّ مَصْدَرَهَا الكِتَابُ والسُنَّةُ لَيْسَ غَيْرُ، ومَنْشَؤُهَا اِجْتِهَادُ المُجْتَهِدِينَ يَتَبَنَّى الخَلِيفَةُ مِنْهُ أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً يَأْمُرُ بِهَا فَيُلْزِمُ الناسَ العَمَلَ بِهَا. لأَنَّ السِيَادَةَ لِلْشَرْعِ. والإجتهاد لاستِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ حَقٌّ لجَمِيعِ المُسْلِمينَ، وفَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَيْهِمْ، ولِلْخَلِيفَةِ وَحْدَهُ حَقَّ تَبَنِّي الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ.

هَذَا مِنْ نَاحِيَةِ جَوَازِ استِعمَالِ هَاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ دُسْتُورٍ وقانونٍ، أَمَّا مِنْ نَاحِيَةِ وُجُودِ ضَرُورَةِ تَبَنِّيِ الأَحْكَامِ، فالَّذِي عَلَيْهِ المُسْلِمونَ مُنْذُ أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى آخِرِ خَلِيفَةٍ مُسْلِمٍ، هُوَ ضَرُورَةُ تَبَنِّي أَحْكَامٍ مُعَيَّنَةٍ يُؤْمَرُ المُسْلِمونَ بالعَمَلِ بِهَا. لَكِنَّ هَذَا التَبَنِّيَ كَانَ لأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ يَكُنْ تَبَنِّيَاً عَامَّاً لجَمِيعِ الأَحْكَامِ الَّتِي تَحْكُمُ بِهَا الدَوْلَةُ، وَلَمْ تَتَبَنَّ الدَوْلَةُ تَبَنِّيَاً عَامَّاً إِلاَّ في بَعْضِ العُصُورِ، فَقَدْ تَبَنَّى الأَيُّوبِيُّونَ مَذْهَبَ الشَافِعِيِّ، وتَبَنَّتِ الدَوْلَةُ العُثْمَانِيَّةُ مَذْهَبَ الحَنَفِيَّةِ.

والسُؤَالُ الَّذِي يَرِدُ، هُوَ: هَلْ مِنْ مَصْلَحَةِ المُسْلِمينَ وَضْعُ دُسْتُورٍ شَامِلٍ وقَوانِينَ عَامَّةٍ لَهُمْ أَمْ لا؟ والجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ دُسْتُورٍ شَامِلٍ وقَوانينَ عَامَّةٍ لجَمِيعِ الأَحْكَامِ لا يُسَاعِدُ عَلَى الإِبْدَاعِ والإجتهاد، ولذَلِكَ كَانَ يَتَجَنَّبُ المُسْلِمونَ في العُصُورِ الأُولَى عَصْرِ الصَحَابَةِ والتَابِعِينَ وتَابِعِي التَابِعِينَ تَبَنِّيَ جَمِيعِ الأَحْكَامِ مِنْ قِبَلِ الخَلِيفَةِ، بَلْ كَانُوا يَقْتَصِرُونَ في تَبَنِّي الأَحْكَامِ عَلَى أَحْكَامٍ مُعَيَّنَةٍ لا بُدَّ مِنْ تَبَنِّيهَا لِبَقَاءِ وَحْدَةِ الحُكْمِ والتَشْرِيعِ والإِدَارَةِ، وعَلَى ذَلِكَ فَالأَفْضَلُ لإِيجَادِ الإِبْدَاعِ والإجتهاد أَنْ لا يَكُونَ لِلْدَوْلَةِ دُسْتُورٌ شَامِلٌ لجَمِيعِ الأَحْكَامِ، بَلْ يَكُونَ لها دُسْتُورٌ يَحْوِي الأَحْكَامَ العَامَّةَ الَّتِي تُحَدِّدُ شَكْلَ الدَوْلَةِ، وتَضْمَنُ بَقَاءَ وحْدَتِهَا. ويُتْرَكُ لِلْوُلاةِ والقُضَاةِ الإجتهاد والاِسْتِنْبَاطُ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الإجتهاد مُتَيَسِّراً، وكَانَ الناسُ مُجْتَهِدينَ كَمَا هُوَ الحَالُ في عَصْرِ الصَحَابَةِ والتَابِعِينَ وتَابِعِي التَابِعِينَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الناسُ جَمِيعاً مُقَلِّدِينَ، ولا يُوجَدُ بَيْنَهُمْ مُجْتَهِدُونَ إِلاَّ نَادِرَاً، فَإِنَّ مِنَ المُحَتَّمِ عَلَى الدَوْلَةِ أَنْ تَتَبَنَّى الأَحْكَامَ الَّتِي تَحْكُمُ الناسَ بِهَا، سَوَاءٌ الخَلِيفَةُ، والوُلاةُ، والقُضَاةُ، لأَنَّهُ يَتَعَسَّرُ الحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ قِبَلِ الوُلاةِ والقُضَاةِ لِعَدَمِ اجتِهَادِهِمْ إِلاَّ تَقْلِيدَاً مُخْتَلِفَاً ومُتَنَاقِضَاً، والتَبَنِّي إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الدَرْسِ ومَعْرِفَةِ الحَادِثَةِ وَمَعْرِفَةِ الدَلِيلِ، عَلاوَةً عَلَى أَنَّ تَرْكَ الوُلاةِ والقُضَاةِ يَحْكُمُونَ بِمَا يَعْرِفُونَ يُؤَدِّي إِلَى اِخْتِلافِ الأَحْكَامِ وتَنَاقُضِها في الدَوْلَةِ الوَاحِدَةِ، بَلْ في البَلَدِ الوَاحِدِ، بَلْ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُحْكَمَ بِغَيْرِ ما أَنْزَلَ اللهُ. ولذَلِكَ كَانَ لِزَامَاً عَلَى الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، والحَالُ مِنَ الجَهْلِ في الإِسْلامِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الآنَ، أَنْ تَتَبَنَّى أَحْكَاماً مُعَيَّنَةً، وأَنْ يَكُونَ هَذَا التَبَنِّي في المُعَامَلاتِ، والعُقُوبَاتِ لا في العَقَائِدِ والعِبَادَاتِ. وأَنْ يَكُونَ هَذَا التَبَنِّي عَامَّاً لِجَمِيعِ الأَحْكَامِ، حَتَّى تُضْبَطَ شُؤُونُ الدَوْلَةِ. وتَسِيرَ جَمِيعُ أُمُورِ المُسْلِمينَ، وَفْقَ أَحْكَامِ اللهِ. عَلَى أَنَّ الدَوْلَةَ حِينَ تَتَبَنَّى الأَحْكَامَ، وتَضَعُ الدُسْتُورَ والقَوانِينَ، يَجِبُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ فَقَطْ، ولا تَأْخُذَ غَيْرَهَا، بَلْ لا تَدْرُسَ غَيْرَهَا مُطْلَقَاً، فَلا تَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ أَيَّ شَيْءٍ، بِغَضِّ النَظَرِ عَمَّا إِذَا وَافَقَ الإِسْلامَ أَمْ خَالَفَهُ، فَلا تَأْخُذُ التَأْمِيمَ مَثَلاً بَلْ تَضَعُ حُكْمَ المِلْكِيَّةِ العَامَّةِ. ولذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَتَقَيَّدَ بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ في كُلِّ مَا يتَعَلَّقُ بالفِكْرةِ والطَرِيقَةِ، أَمَّا القَوانينُ والأَنْظِمَةُ الَّتِي تتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الفِكْرةِ والطَرِيقَةِ والَّتِي لا تُعَبِّرُ عَنْ وجْهَةِ نَظَرٍ مِثْلُ القَوانينِ الإِدَارِيَّةِ، وتَرْتِيبِ الدَوَائِرِ، ومَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّها تُعْتَبَرُ مِنَ الوَسِيلَةِ والأُسْلُوبِ، وهِيَ كالعُلُومِ والصِنَاعاتِ والفُنُونِ تَأْخُذُهَا الدَوْلَةُ وتُنَظِّمُ بِهَا شُؤُونَهَا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ حِينَ دَوَّنَ الدَوَاوِينَ فَإِنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ الفَارِسِيَّةِ، وهَذِهِ الأَشْيَاءُ الإِدَارِيَّةُ والفَنِّيَّةُ لَيْسَتْ مِنَ الدُسْتُورِ، ولا مِنَ القَوَانينِ الشَرْعِيَّةِ، فَلا تُوضَعُ في الدُسْتُورِ، ولذَلِكَ كَانَ وَاجِبُ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ أَنْ يَكُونَ دُسْتُورُهَا أَحْكَاماً شَرْعِيَّةً، أَيْ أَنْ يَكُونَ دُسْتُورُهَا إِسْلامِيَّاً، وقَانُونُهَا إِسْلامِيَّاً. وحِينَ تَتَبَنَّى أَيَّ حُكْمٍ يَجِبُ أَنْ تَتَبَنَّاهُ عَلَى أَسَاسِ قُوَّةِ الدَلِيلِ الشَرْعِيِّ، مَعَ الفَهْمِ الصَحِيحِ لِلْمُشْكِلَةِ القَائِمَةِ. ولذَلِكَ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَدْرُسَ المُشْكِلَةَ، أَوَّلاً لِتَفْهَمَهَا، لأَنَّ فَهْمَ المُشْكِلَةِ ضَرُورِيٌّ جِدَّاً، ثُمَّ تَفْهَمَ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى هَذِهِ المُشْكِلَةِ، ثُمَّ تَدْرُسَ دَلِيلَ الحُكْمِ الشَرْعِيِّ، ثُمَّ تَتَبَنَّى هَذَا الحُكْمَ عَلَى أَسَاسِ قُوَّةِ الدَلِيلِ، عَلَى أَنْ تُؤْخَذَ هَذِهِ الأَحْكَامُ الشَرْعِيَّةُ إِمَّا مِنْ رَأْيِ مُجْتَهِدٍ مِنَ المُجْتَهِدينَ، بَعْدَ الإِطِّلاعِ عَلَى الدَلِيلِ والاطمِئنَانِ إِلَى قُوَّتِهِ، وإِمَّا مِنَ الكِتَابِ والسُنَّةِ أَوِ الإِجْمَاعِ أَوِ القِيَاسِ ولَكِنْ بِاِجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ، ولَوْ اجتِهَادَاً جُزْئِيَّاً وهُوَ اِجْتِهَادُ المَسْأَلَةِ. فَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَتَبَنَّى مَنْعَ التَأْمِينِ عَلَى البِضَاعَةِ مَثَلاً، عَلَيْهَا أَنْ تَدْرُسَ أَوَّلاً مَا هُوَ التَأْمِينُ عَلَى البِضَاعَةِ، حَتَّى تعرِفَهُ، ثُمَّ تَدْرُسَ وَسَائِلَ التَمَلُّكِ، ثُمَّ تُطَبِّقَ حُكْمَ اللهِ في المِلْكِيَّةِ عَلَى التَأْمِينِ وتَتَبَنَّى الحُكْمَ الشَرْعِيَّ في ذَلِكَ. ولِهَذَا كَانَ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لِلْدُسْتُورِ، ولِكُلِّ قَانُونٍ، مُقَدِّمَةٌ تُبَيِّنُ بِوُضُوحٍ المَذْهَبَ الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُ كُلُّ مَادَّةٍ، ودَلِيلَهُ الَّذِي أُعْتُمِدَ عَلَيْهِ، أَوْ تُبَيِّنَ الدَلِيلَ الَّذِي استُنْبِطَتْ مِنْهُ المَادَّةُ إِنْ كَانَ اِسْتِنْبَاطُهَا بِاِجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، حَتَّى يَعْرِفَ المُسْلِمُونَ أَنَّ الأَحْكَامَ الَّتِي تَبَنَّتْهَا الدَوْلَةُ في الدُسْتُورِ والقَوَانِينِ هِيَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، مُسْتَنْبَطَةٌ بِاِجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، لأَنَّ المُسْلِمينَ لا يُلْزَمُونَ بِطَاعَةِ الدَوْلَةِ فِيمَا تَحْكُمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ حُكْمَاً شَرْعِيَّاً تَبَنَّتْهُ الدَوْلَةُ. وعَلَى هَذَا الأَسَاسِ تَتَبَنَّى الدَوْلَةُ أَحْكَامَاً شَرْعِيَّةً تَكُونُ دُسْتُورَاً وقَوَانِينَ، لِتَحْكُمَ بِهَا النَاسَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ تَابِعِيَّتَهَا.

وعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ نَضَعُ بَيْنَ أَيْدِي المُسْلِمِينَ مَشْرُوعَاً لِدُسْتُورِ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ في العَالَمِ الإِسْلامِيِّ، حَتَّى يَدْرُسَهُ المُسْلِمُونَ وهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامِةِ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ لِتَحْمِلَ الدَعْوَةَ الإِسْلامِيَّةَ إِلَى العَالَمِ. ولا بُدَّ أَنْ يُلاحَظَ أَنَّ هَذَا الدُسْتُورَ لَيْسَ مُخْتَصَّاً بِقُطْرٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ لِلْدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ في العَالَمِ الإِسْلامِيِّ، ولا يُقْصَدُ بِهِ أَيُّ قُطْرٍ أَوْ أَيُّ بَلَدٍ مُطْلَقَاً.

rajaab
04-05-2005, 04:29 PM
مَشْرُوعُ الدُسْـتُورِ

أَحْكَامٌ عَامَّةٌ

المَادَّةُ 1- العَقِيدَةُ الإِسْلامِيَّةُ هِيَ أَسَاسُ الدَوْلَةِ، بحَيْثُ لا يَتَأَتَّى وُجُودُ شَيْءٍ في كِيَانِهَا أَوْ جِهَازِهَا أَوْ مُحَاسَبَتِهَا، أَوْ كُلُّ مَا يتَعَلَّقُ بِهَا، إِلاَّ بجَعْلِ العَقِيدَةِ الإِسْلامِيَّةِ أَسَاساً لَهُ. وهِيَ في نَفْسِ الوَقْتِ أَسَاسُ الدُسْتُورِ والقَوَانِينِ الشَرْعِيَّةِ بحَيْثُ لا يُسْمَحُ بِوُجُودِ شَيْءٍ مِمَّا لَهُ عَلاقَةٌ بأَيِّ مِنْهُمَا إِلاَّ إِذَا كَانَ مُنْبَثِقَاً عَنِ العَقِيدَةِ الإِسْلامِيَّةِ.

المَادَّةُ 2- دَارُ الإِسْلامِ هِيَ البلاد الَّتِي تُطَبَّقُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِسْلامِ ويَكُونُ أَمَانُهَا بِأَمَانِ الإِسْلامِ، ودَارُ الكُفْرِ هِيَ الَّتِي تُطَبِّقُ أَنْظِمَةَ الكُفْرِ، أَوْ يَكُونُ أَمَانُهَا بِغَيْرِ أَمَانِ الإِسْلامِ.

المَادَّةُ 3- يَتَبَنَّى الخَلِيفَةُ أَحْكَامَاً شَرْعِيَّةً مُعَيَّنَةً يَسُنُّهَا دُسْتُورَاً وقَوَانِينَ، وإِذَا تَبَنَّى حُكْمَاً شَرْعِيَّاً في ذَلِكَ صَارَ هَذَا الحُكْمُ وَحْدَهُ هُوَ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ الوَاجِب العَمَلُ بِهِ، وأَصْبَحَ حِينَئِذٍ قَانُونَاً نَافِذَاً وَجَبَتْ طَاعَتُهُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الرَعِيَّةِ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً.

المَادَّةُ 4- لا يَتَبَنَّى الخَلِيفَةُ أَيَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُعَيَّنٍ في العِبَادَاتِ مَا عَدَا الزَكَاةِ والجِهَادِ، ولا يَتَبَنَّى أَيَّ فِكْرٍ مِنَ الأَفْكَارِ المُتَعَلِّقَةِ بالعَقِيدَةِ الإِسْلامِيَّةِ.

المَادَّةُ 5- جَمِيعُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ التَابِعِيَّةَ الإِسْلامِيَّةَ يَتَمَتَّعُونَ بالحُقُوقِ والوَاجِبَاتِ الشَرْعِيَّةِ.

المَادَّةُ 6- لا يَجُوزُ لِلْدَوْلَةِ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهَا أَيُّ تَمْيِيزٍ بَيْنَ أَفْرَادِ الرَعِيَّةِ في نَاحِيَةِ الحُكْمِ أَوْ القَضَاءِ أَوْ رِعَايَةِ الشُؤُونِ أَوْ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَنْظُرَ لِلْجَمِيعِ نَظَرَةً وَاحِدَةً بِغَضِّ النَظَرِ عَنِ العُنْصُرِ أَوِ الدِينِ أَوِ اللَوْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

المَادَّةُ 7- تُنَفِّذُ الدَوْلَةُ الشَرْعَ الإِسْلامِيَّ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ التَابِعِيَّةَ الإِسْلامِيَّةَ سَوَاءً أكَانُوا مُسْلِمِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ عَلَى الوَجْهِ التَالِي:

أ- تُنَفَّذُ عَلَى المُسْلِمينَ جَمِيعُ أَحْكَامِ الإِسْلامِ دُونَ أَيِّ استِثنَاءٍ.

ب- يُتْرَكُ غَيْرُ المُسْلِمينَ ومَا يَعْتَقِدُونَ ومَا يَعْبُدُونَ.

ج- المُرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلامِ يُطَبَّقُ عَلَيْهِم حُكمُ المُرْتَدِّ إِنْ كَانُوا هم المُرْتَدِّينَ، أما إِذَا كَانُوا أَوْلادَ مُرْتَدِّينَ وَوُلِدُوا غَيْرَ مُسْلِمينَ فيُعَامَلُونَ مُعَامَلَةَ غَيْرِ المُسْلِمينَ حَسَبَ وَضْعِهِمْ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ أَوْ أَهْلَ كِتَابِ.

د- يُعَامَلُ غَيْرُ المُسْلِمينَ في أُمُورِ المَطْعُومَاتِ والمَلْبُوسَاتِ حَسَبَ أَدْيَانِهِمْ ضِمْنَ مَا تُجِيزُهُ الأَحْكَامُ الشَرْعِيَّةُ.

هـ- تُفْصَلُ أُمُورُ الزَوَاجِ والطَلاقِ بَيْنَ غَيْرِ المُسْلِمينَ حَسَبَ أَدْيَانِهِمْ، وتُفْصَلُ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ المُسْلِمينَ حَسَبَ أَحْكَامِ الإِسْلامِ.

و- تُنَفِّذُ الدَوْلَةُ بَاقِي الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ وسَائِرَ أُمُورِ الشَرِيعَةِ الإِسْلامِيَّةِ مِنْ مُعَامَلاتٍ وعُقُوبَاتٍ وبَيِّنَاتٍ ونُظُمِ حُكْمٍ واِقْتِصَادٍ وغَيْر ذَلِكَ عَلَى الجَمِيعِ ويَكُونُ تَنْفِيذُهَا عَلَى المُسْلِمينَ وعَلَى غَيْرِ المُسْلِمينَ عَلَى السَوَاءِ، وتُنَفذَ كَذَلِكَ عَلَى المُعَاهِدِينَ والمُسْتَأْمِنِينَ وكُلِّ مَنْ هُوَ تَحْتَ سُلْطَانِ الإِسْلامِ كَمَا تُنَفذَ عَلَى أَفْرَادِ الرَعِيَّةِ إِلاَّ السُفَرَاءَ والقَنَاصِلَ والرُسُلَ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ. فَإِنَّ لَهُمْ الحَصَانَةَ الدِبْلُومَاسِيَّةَ.

المَادَّةُ 8- اللُغَةُ العَرَبِيَّةُ هِيَ وَحْدَهَا لُغَةُ الإِسْلامِ وهِيَ وَحْدَهَا اللُغَةُ الَّتِي تَسْتَعْمِلُهَا الدَوْلَةُ.

المَادَّةُ 9- الإجتهاد فَرْضُ كِفَايَةٍ، ولِكُلِّ مُسْلِمٍ الحَقُّ بالإجتهاد إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ.

المَادَّةُ 10- جَمِيعُ المُسْلِمينَ يَحْمِلُونَ مَسؤولِيَّةَ الإِسْلامِ، فَلا رِجَالَ دِينٍ في الإِسْلامِ، وعَلَى الدَوْلَةِ أَنْ تَمْنَعَ كُلَّ مَا يُشْعِرُ بوُجُودِهِمْ مِنَ المُسْلِمينَ.

المَادَّةُ 11- حَمْلُ الدَعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ هُوَ العَمَلُ الأَصْلِيُّ لِلْدَوْلَةِ.

المَادَّةُ 12- الكِتَابُ والسُنَّةُ وإِجْمَاعُ الصَحَابَةِ والقِيَاسُ هِيَ وَحْدَهَا الأَدِلَّةُ المُعْتَبَرَةُ لِلأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ.

المَادَّةُ 13- الأَصْلُ بَرَاءة الذِمَّةِ، ولا يُعَاقَبُ أَحَدٌ إِلاَّ بِحُكْمِ مَحْكَمَةٍ ولا يَجُوزُ تَعْذِيبُ أَحَدٍ مُطْلَقَاً، وكُلُّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُعَاقَبُ.

المَادَّةُ 14- الأَصْلُ في الأَفْعَالِ التَقَيُّدُ بالحُكْمِ الشَرْعِيِّ فَلا يُقَامُ بِفِعْلٍ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، والأَصْلُ في الأَشْيَاءِ الإِبَاحَةُ مَا لَمْ يَرِدْ دَلِيلُ التَحْرِيمِ.

المَادَّةُ 15- الوَسِيلَةُ إِلَى الحَرَامِ مُحَرَّمَةٌ إِذَا غلب على الظن أنها توصل إِلَى الحَرَامِ، فإن كان يُخشى أن تُوصل فلا تكون حراماً.

نظامُ الحُكمِ

المَادَّةُ 16- نِظَامُ الحُكْمِ هُوَ نِظَامُ وِحْدَةٍ ولَيْسَ نِظَاماً اتِّحَادِيَّاً.

المَادَّةُ 17- يَكُونُ الحُكْمُ مَرْكَزِيَّاً والإِدَارَةُ لا مَرْكَزِيَّةً.

المَادَّةُ 18- الحُكَّامُ أَرْبَعَةٌ هُمْ : الخَلِيفَةُ، ومُعَاوِنُ التَفْوِيضِ، والوَالِي، والعَامِلُ. ومَنْ عَدَاهُمْ لا يُعْتَبَرُونَ حُكَّامَاً، وإِنَّمَا هُمْ مُوَظَّفُونَ.

المَادَّةُ 19- لا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الحُكْم أَوْ أَيِّ عَمَلٍ يُعْتَبَرُ مِنَ الحُكْمِ إِلاَّ رَجُلٌ حُرٌّ، عَدْلٌ، ولا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلاَّ مُسْلِمَاً.

المَادَّةُ 20- مُحَاسَبَةُ الحُكَّامِ مِنْ قِبَلِ المُسْلِمِينَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وفَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَيْهِمْ. ولِغَيْرِ المُسْلِمينَ مِنْ أَفْرَادِ الرَعِيَّةِ الحَقُّ في إِظْهَارِ الشَكْوَى مِنْ ظُلْمِ الحَاكِمِ لَهُمْ، أَوْ إِسَاءةِ تَطْبِيقِ أَحْكَامِ الإِسْلامِ عَلَيْهِمْ.

المَادَّةُ 21- لِلْمُسْلِمِينَ الحَقُّ في إِقَامَةِ أحْزَاب سِيَاسِيَّة لِمُحَاسَبَةِ الحُكَّامِ، أَوْ الْوُصُولِ لِلْحُكْمِ عَنْ طَرِيقِ الأُمَّةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَسَاسُهَا العَقِيدَةُ الإِسْلامِيَّةُ، وأَنْ تَكُونَ الأَحْكَامُ الَّتِي تَتَبَنَّاهَا أَحْكَاماً شَرْعِيَّةً. ولا يَحْتَاجُ إِنْشَاءُ الحِزْبِ لأَيَّ تَرْخِيصٍ ويُمْنَعُ أَيُّ تَكَتُّلٍ يَقُومُ عَلَى غَيْرِ أَسَاسِ الإِسْلامِ.

المَادَّةُ 22- يَقُومُ نِظَامُ الحُكْمِ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ هِيَ:

1- السِيَادةُ لِلْشَرْعِ لا لِلْشَعْبِ.

2- السُلْطَانُ للأُمَّةِ.

3- نَصْبُ خَلِيفَةٍ وَاحِدٍ فَرْضٌ عَلَى المُسْلِمِينَ.

4- لِلْخَلِيفَةِ وَحْدَهُ حَقُّ تَبَنِّي الأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَسُنُّ الدُسْتُورَ وسَائِرَ القَوَانِينِ.

المَادَّةُ 23- يَقُومُ جِهَازُ الدَوْلَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَرْكَانٍ وَهِيَ:

1- الخَلِيفَةُ.

2- مُعَاوِنُ التَفْوِيض.

3- مُعَاوِنُ التَنْفِيذِ.

4- أَمِيرُ الجِهَادِ.

5- القَضَاءُ.

6- الوُلاةُ.

7- مَصَالِحُ الدَوْلَةِ.

8- مَجْلِسُ الأُمَّةِ.



الخَلِيفَةُ

المَادَّةُ 24- الخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي يَنُوبُ عَنِ الأُمَّةِ في السُلْطَانِ وفي تَنْفِيذِ الشَرْعِ.

المَادَّةُ 25- الخِلافَةُ عَقْدُ مراضاة واختيَارٍ، فَلا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى قُبُولِهَا، ولا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَتَوَلاَّهَا.

المَادَّةُ 26- لِكُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ رَجُلاً كَانَ أَوْ امَرْأَةً الحَقُّ في انتِخَابِ الخَلِيفَةِ وفي بَيْعَتِهِ، ولا حَقَّ لِغَيْرِ المُسْلِمينَ في ذَلِكَ.

المَادَّةُ 27- إِذَا تَمَّ عَقْدُ الخِلافَةِ لِوَاحِدٍ بِمُبَايَعَةِ مَنْ يَتِمُّ انْعِقَادُ البَيْعَةِ بِهِمْ تَكُونُ حِينَئِذٍ بَيْعَةُ البَاقِينَ بَيْعَةَ طَاعَةٍ لا بَيْعَةَ انْعِقَادٍ فَيُجْبَرُ عَلَيْهَا كُلُّ مَنْ يُلْمَحُ فِيهِ إِمْكَانِيَّةُ التَمَرُّدِ.

المَادَّةُ 28- لا يَكُونُ أَحَدٌ خَلِيفَةً إِلاَّ إِذَا وَلاَّهُ المُسْلِمُونَ. ولا يَمْلِكُ أَحَدٌ صَلاحِيَّاتِ الخِلافَةِ إِلاَّ إِذَا تَمَّ عَقْدُهُا لَه عَلَى الوَجْهِ الشَرْعِيِّ كأَيّ عَقْدٍ مِنَ العُقُودِ في الإِسْلامِ.

المَادَّةُ 29- يُشْتَرَطُ في القُطْرِ أَوِ البِلادِ الَّتِي تُبَايِعُ الخَلِيفَةَ بَيْعَةَ اِنْعِقَاد أَنْ يَكُونَ سُلْطَانُهَا ذَاتِيا يَسْتَنِدُ إِلَى المُسْلِمِينَ وَحْدَهُمْ لا إِلَى أَيَّة دَوْلَةٍ كَافِرَةٍ، وأَنْ يَكُونَ أَمْانُ المُسْلِمينَ في ذَلِكَ القُطْرِ دَاخِلِيا وخَارِجِيا بِأَمَانِ الإِسْلامِ لا بأَمَانِ الكُفْرِ. أَمَّا بَيْعَةُ الطَاعَةِ فَحَسْبْ مِنَ البِلادِ الأُخْرَى فَلا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ.

المَادَّةُ 30- لا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُبَايَعُ لِلْخِلافَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْمِلاً شُرُوطَ الانعِقَادِ لَيْسَ غَيْرُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِياً شُرُوطَ الأَفْضَلِيَّةِ، لأَنَّ العِبْرَةَ بِشُرُوطِ الانعِقَادِ.

rajaab
04-05-2005, 04:32 PM
المَادَّةُ 31- يُشْتَرَطُ في الخَلِيفَةِ حَتَّى تَنْعَقِدَ لَهُ الرِئَاسَةُ سِتَّةُ شُرُوطٍ وهِيَ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً مُسْلِماً حُراً بَالِغاً، عَاقِلاً، عَدْلاً.

المَادَّةُ 32- إِذَا خَلا مَنْصِبُ الخِلافَةِ بِمَوْتِ رَئِيسِهَا أَوِ اعْتِزَالِهِ، أَوْ عَزْلِهِ، يَجِبُ نَصْبُ خَلِيفَةٍ مَكَانَهُ خِلالَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ تاريخ خُلُوِّ مَنْصِبِ الخِلافَةِ.

المَادَّةُ 33- طَرِيقَةُ نَصْبِ الخَلِيفَةِ هِيَ:

أ- يُجْرِي الأَعْضَاءُ المُسْلِمونَ في مَجْلِسِ الأُمَّةِ حَصْرَ المُرَشَّحِينَ لِهَذَا المَنْصِبِ وتُعْلَنُ أَسْمَاؤُهُمْ ثُمَّ يُطْلَبُ مِنَ المُسْلِمينَ انْتِخَابُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

ب- تُعْلَنُ نَتِيجَةُ الانْتِخَابِ ويُعَرَّفُ المُسْلِمونَ مَنْ نَالَ أَكْثَرَ أَصْوَاتِ المُنْتَخِبِينَ.

ج- يُبَادِرُ المُسْلِمونَ بِمُبَايَعَةِ مَنْ نَالَ أَكْثَرَ الأَصْوَاتِ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمينَ عَلَى العَمَلِ بِكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ.

د- بَعْدَ تَمَامِ البَيْعَةِ يُعْلَنُ مَنْ أَصْبَحَ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمينَ لِلْمَلأِ حَتَّى يَبْلُغَ خَبَرُ نَصْبِهِ الأُمَّةِ كَافَّةَ، مَعَ ذِكْرِ اسْمِهِ وكَوْنِهِ يَحُوزُ الصِفَات الَّتِي تجَعَلُهُ أهلاً لانْعِقَادِ رِئَاسَةِ الدَوْلَةِ لَهُ.

المَادَّةُ 34- الأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تُنَصِّبُ الخَلِيفَةَ ولَكِنَّهَا لا تَمْلِكُ عَزْلَهُ مَتَى تَمَّ انعِقَادُ بَيْعَتِهِ عَلَى الوَجْهِ الشَرْعِيِّ.

المَادَّةُ 35- الخَلِيفَةُ هُوَ الدَوْلَةُ، فهُوَ يَمْلِكُ جَمِيعَ الصَلاحِيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْدَوْلَةِ، فَيَمْلِكُ الصَلاحِيَّاتِ التَالِيَةَ:

أ- هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ حِينَ يَتَبَنَّاهَا نَافِذَةً فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ قَوَانِينَ تَجِبُ طَاعَتُهَا، ولا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا.

ب- هُوَ المَسْؤُولُ عَنْ سِيَاسَةِ الدَوْلَةِ الدَاخِلِيَّةِ والخَارِجِيَّةِ مَعَاً، وهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قِيَادَةَ الجَيْشِ، ولَهُ حَقُّ إِعْلانِ الحَرْبِ، وعَقْدِ الصُلْحِ والهُدْنَةِ وسَائِرِ المُعَاهَدَاتِ.

ج- هُوَ الَّذِي لَهُ قُبُولُ السُفَرَاءِ الأَجَانِبِ ورَفْضُهُمْ، وتَعْيِينُ السُفَرَاءِ المُسْلِمينَ وعَزْلهمْ.

د- هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ ويَعْزِلُ المعاونين والولاة، وهم جميعاً مَسْؤُولُونَ أَمَامَهُ كما أنهم مَسْؤُولونَ أَمَامَ مَجْلِسِ الأُمَّةِ.

هـ- هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ ويَعْزِلُ قاضِي القُضَاةِ، ومُدِيرِي الدَوَائِرِ، وقُوَّادِ الجَيْشِ، وأُمَرَاءِ ألويته، وهُمْ جَمِيعاً مَسْؤُولُونَ أَمَامَهُ ولَيْسُوا مَسْؤُولِينَ أَمَامَ مَجْلِسِ الأُمَّةِ.

و- هُوَ الَّذِي يتَبَنَّى الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ الَّتِي تُوضَعُ بِمُوجِبِهَا مِيزَانِيَّةُ الدَوْلَةِ، وهُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ فُصُولَ المِيزَانِيَّةِ والمَبَالِغ الَّتِي تَلْزَمُ لِكُلِّ جِهَةٍ سَوَاءً أَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَاً بالوَارِدَاتِ أَمْ بِالنَفَقَاتِ.

المَادَّةُ 36- الخَلِيفَةُ مُقَيَّدٌ في التَبَنِّي بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يتَبَنَّى حُكْماً لَمْ يُسْتَنْبَطْ اسْتِنْبَاطَاً صَحِيحَاً مِنَ الأَدِلَّةِ الشَرْعِيَّةِ، وهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَبَنَّاهُ مِنْ أَحْكَامٍ، وبِمَا التَزَمَهُ مِنْ طَرِيقَةِ استِنبَاطٍ، فَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يتَبَنَّى حُكْماً اسْتُنْبِطَ حَسَبَ طَرِيقَةٍ تُنَاقِضُ الطَرِيقَةَ الَّتِي تَبَنَّاهَا، ولا أَنْ يُعْطِي أَمْراً يُنَاقِضُ الأَحْكَامَ الَّتِي تَبَنَّاهَا.

المَادَّةُ 37- للخَلِيفَةِ مُطْلَقُ الصلاحية في رِعَايَةِ شُؤُونِ الرَعِيَّةِ حَسَبَ رَأْيِهِ واجْتِهَادِهِ. فله أن يتبنّى من المباحات كلّ ما يحتاج إليه لتسيير شؤون الدولة، و رعاية شؤون الرعية، ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ أَيَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِحُجَّةِ المَصْلَحَةِ، فلا يَمْنَعُ الأسرة الواحدة من إنجاب أكثر من ولد واحد بحجة قلّة المواد الغذائيّة مَثَلاً، ولا يُسَعِّرُ عَلَى النَاسِ بِحُجَّةِ مَنْعِ الاسْتِغْلالِ مَثَلاً، ولا يعين كافراً أو امرأةً والياً بحجة رعاية الشؤون أو المصلحة، ولا غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ أَحْكَامَ الشَرْعِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ حلالاً ولا أن يُحل حَرَاماً.

المَادَّةُ 38- لَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ مُدَّةٌ مَحْدُودَةٌ، فَمَا دَامَ الخَلِيفَةُ مُحَافِظَاً عَلَى الشَرْعِ مُنَفِّذاً لأَحْكَامِهِ، قَادِراً عَلَى القِيَامِ بِشُؤُونِ الدَوْلَةِ، يَبْقَى خَلِيفة مَا لَمْ تَتَغَيَّرُ حَالُهُ تَغيراً يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلِيفَةً فَإِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ هَذَا التَغَيُّرِ وَجَبَ عَزْلُهُ في الحَالِ.

المَادَّةُ 39- الأُمُورُ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا حَالُ الخَلِيفَةِ فَيَخْرُجُ بِهَا عَنِ الخِلافَةِ ثَلاثَةُ أُمُورٍ هِيَ:

أ- إِذَا اختل شرط من شروط انعقاد الخلافة كأن ارتدَ،أو فسق فسقا ظاهراً، أَوْ جُنَّ، أَوْ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ. لأَنَّ هَذِهِ الشُرُوطَ شُرُوط انعِقَادٍ، وشُرُوط استِمْرَارٍ.

ب- العَجْزُ عَنِ القِيَامِ بِأَعْبَاءِ الخِلافَةِ لأَيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ.

ج- القَهْرُ الَّذِي يجَعَلُهُ عَاجِزاً عَنِ التَصَرُّفِ بِمَصَالِحِ المُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ وِفْقَ الشَرْعِ. فَإِذَا قَهَرَهُ قَاهِرٌ إِلَى حَدٍ أَصْبَحَ فِيهِ عَاجِزاً عَنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الرَعِيَّةِ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ حَسَبَ أَحْكَامِ الشَرْعِ يُعْتَبَرُ عَاجِزاً حُكْماً عَنِ القِيَامِ بِأَعْبَاءِ الدَوْلَة فَيَخُرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَلِيفَةً. وهَذَا يُتَصَوَّرُ في حَالَتَيْنِ:

الحَالَةُ الأُولَى: أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ أَوْ عِدَّةُ أَفْرَادٍ مِنْ حَاشِيَتِهِ فَيَسْتَبِدُّونَ بِتَنْفِيذِ الأُمُورِ. فَإِنْ كَانَ مَأْمُولُ الخَلاصِ مِنْ تَسَلُّطِهِمْ يُنْذَرُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً ثُمَّ إِنْ لَمْ يَرَفَعْ تَسَلُّطَهُمْ يُخْلَعْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُولَ الخَلاصِ يُخْلَعْ في الحَالِ.

الحَالَةُ الثَانِيَةُ: أَنْ يَصِيرَ مَأْسُوراً في يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ، إِمَّا بِأَسْرِهِ بِالفِعْلِ أَوْ بِوُقُوعِهِ تَحْتَ تَسَلُّطِ عَدُوِّهِ وفي هَذِهِ الحَالُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مَأْمُولَ الخَلاصِ يُمْهَلُ حَتَّى يَقَعَ اليَأْسُ مِنْ خَلاصِهِ، فَإِنْ يُئِسَ مِنْ خَلاصِهِ يُخْلَعْ وإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُولَ الخَلاصِ يُخْلَعْ في الحَالِ.

المَادَّةُ 40- مَحْكَمَةُ المَظَالِمِ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقَرِّرُ مَا إِذَا كَانَتْ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الخَلِيفَةِ تَغْـيُّراً يُخْرِجُهُ عَنِ الخِلافَةِ أَمْ لا، وَهِيَ وَحْدَهَا الَّتِي لَهَا صَلاحِيَّةُ عَزْلِهِ أَوْ إِنْذَارِهِ.



مُعَاوِنُ التَفْوِيضِ

المَادَّةُ 41- يُعَيِّنُ الخَلِيفَةُ مُعَاوِنَ تَفْوِيضٍ لَهُ يَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّةَ الحُكْمِ، فَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الأُمُورِ بِرَأْيِهِ وإِمْضَاءهَا على اجْتِهَادِهِ.

المَادَّةُ 42- يُشْتَرَطُ في مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ مَا يُشْتَرَطُ في الخَلِيفَةِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً حُراً مُسْلِماً بَالِغاً عَاقِلاً عَدْلاً، ويُشْتَرَطُ فِيهِ عِلاوَةً عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّلَ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالٍ.

المَادَّةُ 43- يُشْتَرَطُ في تَقْلِيدِ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ أَنْ يَشْتَمِلَ تَقْلِيدُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا عُمُومُ النَظَرِ، والثَانِي النيَابَةُ. ولذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ لَهُ الخَلِيفَةُ قَلَّدْتُكَ مَا هُوَ إِلَيَّ نِيَابَةً عَنِّي، أَوْ مَا في هَذَا المَعْنَى مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ النَظَرِ والنِيَابَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَقْلِيدُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ لا يَكُون مُعَاوِنَاً، ولا يَمْلِكُ صَلاحِيَّاتِ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ إِلاَّ إِذَا كَانَ تَقْلِيدُهُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ.

المَادَّةُ 44- عَمَلُ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ هُوَ مُطَالَعَةُ الخَلِيفَةِ لِمَا أَمْضَاهُ مِنْ تَدْبِيرٍ، وأَنْفَذَهُ مِنْ وِلايَةٍ وتَقْليدٍ،حَتَّى لا يَصِيرَ في صَلاحِيَّاتِهِ كالخَلِيفَةِ. فعَمَلُهُ أَنْ يَرْفَعَ مُطَالَعَتَهُ وأَنْ يُنَفِّذَ مَا يُؤْمَرُ بِتَنْفِيذِهِ.

المَادَّةُ 45- يَجِبُ عَلَى الخَلِيفَةِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَعْمَالَ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ وتَدْبِيرَهُ لِلأُمُورِ، لِيُقِرَّ مِنْهَا المُوَافِقَ لِلْصَوَابِ، ويَسْتَدْرِكَ الخَطَأَ. لأَنَّ تَدْبِيرَ شُؤُونِ الأُمَّةِ مَوْكُولٌ لِلْخَلِيفَةِ ومَحْمُولٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ هُوَ.

المَادَّةُ 46- إِذَا دَبَّرَ مُعَاوِن التَفْوِيضِ أَمْراً وأَقَرَّهُ الخَلِيفَةُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُنَفِّذَهُ كَمَا أَقَرَّهُ الخَلِيفَةُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ ولا نُقْصَانٍ. فَإِنْ عَادَ الخَلِيفَةُ وعَارَضَ المُعَاوِنَ في رَدِّ مَا أَمْضَاهُ يُنْظَرْ، فَإِنْ كَانَ في حُكْمٍ نفَّذهُ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ مَالٍ وَضَعَهُ في حَقِّهِ، فَرَأْيُ المُعَاوِنِ هُوَ النَافِذُ ، لأَنَّهُ بِالأَصْلِ رَأْيُ الخَلِيفَةِ ولَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا نُفِّذَ مِنْ أَحْكَامٍ، وأُنْفِقَ مِنْ أَمْوَالٍ. وإِنْ كَانَ مَا أَمْضَاهُ المُعَاوِنُ في غَيْرِ ذَلِكَ مِثَلَ تَقْلِيدِ وَالٍ أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ جَازَ لِلْخَلِيفَةِ مُعَارَضَةُ المُعَاوِنِ ويُنَفَّذُ رَأْي الخَلِيفَةِ، ويُلْغَى عَمَلُ المُعَاوِنِ، لأَنَّ لِلْخَلِيفَةِ الحَقَّ في أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدْركَهُ مِنْ فِعْلِ مُعَاوِنِهِ.

المَادَّةُ 47- لا يُخَصَّصُ مُعَاوِنُ التَفْوِيضِ بِدَائِرَةٍ مِنَ الدَوَائِرِ أَوْ بِقِسْمٍ خَاصٍ مِنَ الأَعْمَالِ لأَنَّ وِلايَتَهُ عَامَّةٌ وكذَلِكَ لا يُبَاشِرُ الأُمُورَ الإِدَارِيَّةَ، ويَكُونُ إِشْرَافُهُ عَامَّاً عَلَى الجِهَازِ الإِدَارِيِّ.







مُعَاوِنُ التَنْفِيذِ

المَادَّةُ 48- يُعَيِّنُ الخَلِيفَةُ مُعَاوِناً لِلْتَنْفِيذِ، وعَمَلُهُ مِنَ الأَعْمَالِ الإِدَارِيَّةِ، ولَيْسَ مِنَ الحُكْمِ ودَائِرَتُهُ هِيَ جِهَازٌ لِتَنْفِيذِ مَا يَصْدُرُ عَنِ الخَلِيفَةِ لِلْجِهَاتِ الدَاخِلِيَّةِ والخَارِجِيَّةِ، ولِرَفْعِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الجِهَاتِ، فَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الخَلِيفَةِ وغَيْرِهِ، تُؤَدِّي عَنْهُ، وتُؤَدِّي إِلَيْهِ.

المَادَّةُ 49- يُشْتَرَطُ في مُعَاوِنِ التَنْفِيذِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِماً لأَنَّه مِنْ بِطَانَةِ الخَلِيفَةِ.

المَادَّةُ 50- يَكُونُ مُعَاوِنُ التَنْفِيذِ مُتَّصِلاً مُبَاشَرَةً مَعَ الخَلِيفَةِ، كَمُعَاوِنِ التَفْوِيضِ، ويُعْتَبَرُ مُعَاوِناً ولَكِنْ في التَنْفِيذِ ولَيْسَ في الحُكْمِ.

أَمِيرُ الجِهَادِ

المَادَّةُ 51- تَتَأَلَّفُ دَائِرَةُ أَمِيرِ الجِهَادِ مِنْ أَرْبَعِ دَوَائِرَ هِيَ: الخَارِجِيَّةُ، والحَرْبِيَّةُ، والأَمْنُ الدَاخِلِيُّ، والصِنَاعَةُ، ويُشْرِفُ عَلَيْهَا ويُدِيرُهَا أَمِيرُ الجِهَادِ.

المَادَّةُ 52- تَتَوَلَّى دَائِرَةُ الخَارِجِيَّةِ الشُؤُونَ الخَارِجِيَّةَ الَّتِي تتَعَلَّقُ بِعَلاقَةِ الدَوْلَةِ بِالدُوَلِ الأَجْنَبِيَّةِ مَهْمَا كَانَتْ هَذِهِ الشُؤُونُ.

المَادَّةُ 53- تَتَوَلَّى دَائِرَةُ الحَرْبِيَّةِ جَمِيعَ الشُؤُونِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ مِنْ جَيْشٍ وشُرْطَةٍ ومُعِدَّاتٍ ومَهَمَّاتٍ وعَتَادٍ ومَا شَاكَلَ ذَلِكَ. ومِنْ كُلِّيَاتٍ عَسْكَرِيَّةٍ، وبعثاتٍ عسكريةٍ ، وكُل ما يَلْزَمُ مِنَ الثَقَافَةِ الإِسْلامِيَّةِ، والثَقَافَةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ، وكُل مَا يتَعَلَّقُ بِالحَرْبِ والإِعْدَادِ لَهَا.

المَادَّةُ 54- دَائِرَةُ الأَمْنِ الدَاخِلِيِّ هِيَ الدَائِرَةُ الَّتِي تَتَوَلَّى إدَارَةَ كُلِّ مَا لَهُ مسَاسٌ بِالأَمْنِ وتَتَوَلَّى حِفْظَ الأَمْنِ في البِلادِ بِوَاسِطَةِ القُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ وتُتَّخَذُ الشُرْطَة الوَسِيلَة الرَئِيسِيَّة لِحِفْظِ الأَمْنِ.

المَادَّةُ 55- دَائِرَةُ الصِنَاعَةِ هِيَ الدَائِرَةُ الَّتِي تَتَوَلَّى جَمِيعَ الشُؤُونِ المتَعَلِّقَةِ بالصِنَاعَةِ سَوَاءً أكَانَتْ صِنَاعَةً ثَقِيلَةً كَصِنَاعَةِ المُحَرِّكَاتِ والآلاتِ، وصِنَاعَةِ هَيَاكِلِ المَرْكَبَاتِ، وصِنَاعَةِ المَوَادِّ، والصِنَاعَات الإِلِكْترُونِيَّةِ. أو كانت صِنَاعَةً خَفِيفَةً، وسَوَاءً أكَانَتْ المَصَانِعُ هِيَ مِنْ نَوْعِ المُلْكِيَّةِ العَامَّةِ، أَمْ مِنَ المَصَانِعِ الَّتِي تَدْخُلُ في المُلْكِيَّةِ الفَرْدِيَّةِ ولَهَا عَلاقَةٌ بِالصِنَاعَةِ الحَرْبِيَّةِ ـ والمَصَانِعُ بِأَنْوَاعِهَا يَجِبُ أَنْ تُقَامَ عَلَى أَسَاسِ السِيَاسَةِ الحَرْبِيَّةِ.



الجَيْشُ

المَادَّةُ 56- الجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى المُسْلِمينَ، والتَدْرِيبُ عَلَى الجُنْدِيَّةِ إِجْبَارِيٌّ فَكُلُّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَبْلُغُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَرَّبَ عَلَى الجُنْدِيَّةِ استعْدَاداً لِلْجِهَادِ، وأَمَّا التَجْنِيدُ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ.

المَادَّةُ 57- الجَيْشُ قِسْمَانِ قِسْمٌ احْتِيَاطِيٌ، وهُمْ جَمِيعُ القَادِرِينَ عَلَى حَمْلِ السِلاحِ مِنَ المُسْلِمينَ. وقِسْمٌ دَائِمٌ في الجُنْدِيَّةِ تُخَصَّصُ لَهُمْ رَوَاتِبُ في مِيزَانِيَّةِ الدَوْلَةِ كالمُوَظَّفِينَ.

المَادَّةُ 58- القُوَى المُسَلَّحَةُ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ الجَيْشُ، وتُخْتَارُ مِنْهَا فِرَقٌ خَاصَّةٌ تُنَظَّمُ تَنْظِيماً خَاصاً وتُعْطَى ثَقَافَةً مُعَيَّنَةً هِيَ الشُرْطَةُ.

المَادَّةُ 59- يُعْهَدُ إِلَى الشُرْطَةِ بِحِفْظِ النِظَامِ والإِشْرَافِ عَلَى الأَمْنِ الدَاخِلِيِّ والقِيَامِ بِجَمِيعِ النَوَاحِي التَنْفِيذِيَّةِ.

المَادَّةُ 60- تُجْعَلُ لِلْجَيْشِ أَلْوِيَةٌ ورَايَاتٌ والخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ اللِوَاءَ لِمَنْ يُوَلِّيهِ عَلَى الجَيْشِ، أَمَّا الرَايَاتُ فَيُقَدِّمُهَا رُؤَسَاءُ الأَلْوِيَةِ.

المَادَّةُ 61- الخَلِيفَةُ هُوَ قَائِدُ الجَيْشِ، وهُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ رَئِيسَ الأَرْكَانِ، وهُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ لِكُلِّ لِوَاءٍ أَمِيراً ولِكُلِّ فِرْقَةٍ قَائِداً. أَمَّا بَاقِي رُتَبِ الجَيْشِ فَيُعَيِّنُهُمْ قُوَّادُهُ وأُمَرَاءُ أَلْوِيَتِهِ. وأَمَّا تَعْيِينُ الشَخْصِ في الأَرْكَانِ فيَكُونُ حَسَبَ دَرَجَةِ ثَقَافَتِهِ الحَرْبِيَّةِ ويُعَيِّنُهُ رَئِيسُ الأَرْكَانِ.

المَادَّةُ 62- يُجْعَلُ الجَيْشُ كُلهُ جَيْشاً وَاحِداً يُوضَعُ في مُعَسْكَرَاتٍ خَاصَّةٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُوضَعَ بَعْضُ هَذِهِ المُعَسْكَرَات في مُخْتَلَفِ الوِلاياتِ. وبَعْضُهَا في الأَمْكِنَةِ الإِسْتَرَاتِيجِيَّةِ، ويُجْعَلُ بَعْضُهَا مُعَسْكَرَاتٍ مُتَنَقِّلَة
المَادَّةُ 31- يُشْتَرَطُ في الخَلِيفَةِ حَتَّى تَنْعَقِدَ لَهُ الرِئَاسَةُ سِتَّةُ شُرُوطٍ وهِيَ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً مُسْلِماً حُراً بَالِغاً، عَاقِلاً، عَدْلاً.

المَادَّةُ 32- إِذَا خَلا مَنْصِبُ الخِلافَةِ بِمَوْتِ رَئِيسِهَا أَوِ اعْتِزَالِهِ، أَوْ عَزْلِهِ، يَجِبُ نَصْبُ خَلِيفَةٍ مَكَانَهُ خِلالَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ تاريخ خُلُوِّ مَنْصِبِ الخِلافَةِ.

rajaab
04-05-2005, 04:34 PM
المَادَّةُ 33- طَرِيقَةُ نَصْبِ الخَلِيفَةِ هِيَ:

أ- يُجْرِي الأَعْضَاءُ المُسْلِمونَ في مَجْلِسِ الأُمَّةِ حَصْرَ المُرَشَّحِينَ لِهَذَا المَنْصِبِ وتُعْلَنُ أَسْمَاؤُهُمْ ثُمَّ يُطْلَبُ مِنَ المُسْلِمينَ انْتِخَابُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

ب- تُعْلَنُ نَتِيجَةُ الانْتِخَابِ ويُعَرَّفُ المُسْلِمونَ مَنْ نَالَ أَكْثَرَ أَصْوَاتِ المُنْتَخِبِينَ.

ج- يُبَادِرُ المُسْلِمونَ بِمُبَايَعَةِ مَنْ نَالَ أَكْثَرَ الأَصْوَاتِ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمينَ عَلَى العَمَلِ بِكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ.

د- بَعْدَ تَمَامِ البَيْعَةِ يُعْلَنُ مَنْ أَصْبَحَ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمينَ لِلْمَلأِ حَتَّى يَبْلُغَ خَبَرُ نَصْبِهِ الأُمَّةِ كَافَّةَ، مَعَ ذِكْرِ اسْمِهِ وكَوْنِهِ يَحُوزُ الصِفَات الَّتِي تجَعَلُهُ أهلاً لانْعِقَادِ رِئَاسَةِ الدَوْلَةِ لَهُ.

المَادَّةُ 34- الأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تُنَصِّبُ الخَلِيفَةَ ولَكِنَّهَا لا تَمْلِكُ عَزْلَهُ مَتَى تَمَّ انعِقَادُ بَيْعَتِهِ عَلَى الوَجْهِ الشَرْعِيِّ.

المَادَّةُ 35- الخَلِيفَةُ هُوَ الدَوْلَةُ، فهُوَ يَمْلِكُ جَمِيعَ الصَلاحِيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْدَوْلَةِ، فَيَمْلِكُ الصَلاحِيَّاتِ التَالِيَةَ:

أ- هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ حِينَ يَتَبَنَّاهَا نَافِذَةً فَتُصْبِحُ حِينَئِذٍ قَوَانِينَ تَجِبُ طَاعَتُهَا، ولا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا.

ب- هُوَ المَسْؤُولُ عَنْ سِيَاسَةِ الدَوْلَةِ الدَاخِلِيَّةِ والخَارِجِيَّةِ مَعَاً، وهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قِيَادَةَ الجَيْشِ، ولَهُ حَقُّ إِعْلانِ الحَرْبِ، وعَقْدِ الصُلْحِ والهُدْنَةِ وسَائِرِ المُعَاهَدَاتِ.

ج- هُوَ الَّذِي لَهُ قُبُولُ السُفَرَاءِ الأَجَانِبِ ورَفْضُهُمْ، وتَعْيِينُ السُفَرَاءِ المُسْلِمينَ وعَزْلهمْ.

د- هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ ويَعْزِلُ المعاونين والولاة، وهم جميعاً مَسْؤُولُونَ أَمَامَهُ كما أنهم مَسْؤُولونَ أَمَامَ مَجْلِسِ الأُمَّةِ.

هـ- هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ ويَعْزِلُ قاضِي القُضَاةِ، ومُدِيرِي الدَوَائِرِ، وقُوَّادِ الجَيْشِ، وأُمَرَاءِ ألويته، وهُمْ جَمِيعاً مَسْؤُولُونَ أَمَامَهُ ولَيْسُوا مَسْؤُولِينَ أَمَامَ مَجْلِسِ الأُمَّةِ.

و- هُوَ الَّذِي يتَبَنَّى الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ الَّتِي تُوضَعُ بِمُوجِبِهَا مِيزَانِيَّةُ الدَوْلَةِ، وهُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ فُصُولَ المِيزَانِيَّةِ والمَبَالِغ الَّتِي تَلْزَمُ لِكُلِّ جِهَةٍ سَوَاءً أَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَاً بالوَارِدَاتِ أَمْ بِالنَفَقَاتِ.

المَادَّةُ 36- الخَلِيفَةُ مُقَيَّدٌ في التَبَنِّي بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يتَبَنَّى حُكْماً لَمْ يُسْتَنْبَطْ اسْتِنْبَاطَاً صَحِيحَاً مِنَ الأَدِلَّةِ الشَرْعِيَّةِ، وهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَبَنَّاهُ مِنْ أَحْكَامٍ، وبِمَا التَزَمَهُ مِنْ طَرِيقَةِ استِنبَاطٍ، فَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يتَبَنَّى حُكْماً اسْتُنْبِطَ حَسَبَ طَرِيقَةٍ تُنَاقِضُ الطَرِيقَةَ الَّتِي تَبَنَّاهَا، ولا أَنْ يُعْطِي أَمْراً يُنَاقِضُ الأَحْكَامَ الَّتِي تَبَنَّاهَا.

المَادَّةُ 37- للخَلِيفَةِ مُطْلَقُ الصلاحية في رِعَايَةِ شُؤُونِ الرَعِيَّةِ حَسَبَ رَأْيِهِ واجْتِهَادِهِ. فله أن يتبنّى من المباحات كلّ ما يحتاج إليه لتسيير شؤون الدولة، و رعاية شؤون الرعية، ولا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ أَيَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِحُجَّةِ المَصْلَحَةِ، فلا يَمْنَعُ الأسرة الواحدة من إنجاب أكثر من ولد واحد بحجة قلّة المواد الغذائيّة مَثَلاً، ولا يُسَعِّرُ عَلَى النَاسِ بِحُجَّةِ مَنْعِ الاسْتِغْلالِ مَثَلاً، ولا يعين كافراً أو امرأةً والياً بحجة رعاية الشؤون أو المصلحة، ولا غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ أَحْكَامَ الشَرْعِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ حلالاً ولا أن يُحل حَرَاماً.

المَادَّةُ 38- لَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ مُدَّةٌ مَحْدُودَةٌ، فَمَا دَامَ الخَلِيفَةُ مُحَافِظَاً عَلَى الشَرْعِ مُنَفِّذاً لأَحْكَامِهِ، قَادِراً عَلَى القِيَامِ بِشُؤُونِ الدَوْلَةِ، يَبْقَى خَلِيفة مَا لَمْ تَتَغَيَّرُ حَالُهُ تَغيراً يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلِيفَةً فَإِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ هَذَا التَغَيُّرِ وَجَبَ عَزْلُهُ في الحَالِ.

المَادَّةُ 39- الأُمُورُ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا حَالُ الخَلِيفَةِ فَيَخْرُجُ بِهَا عَنِ الخِلافَةِ ثَلاثَةُ أُمُورٍ هِيَ:

أ- إِذَا اختل شرط من شروط انعقاد الخلافة كأن ارتدَ،أو فسق فسقا ظاهراً، أَوْ جُنَّ، أَوْ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ. لأَنَّ هَذِهِ الشُرُوطَ شُرُوط انعِقَادٍ، وشُرُوط استِمْرَارٍ.

ب- العَجْزُ عَنِ القِيَامِ بِأَعْبَاءِ الخِلافَةِ لأَيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ.

ج- القَهْرُ الَّذِي يجَعَلُهُ عَاجِزاً عَنِ التَصَرُّفِ بِمَصَالِحِ المُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ وِفْقَ الشَرْعِ. فَإِذَا قَهَرَهُ قَاهِرٌ إِلَى حَدٍ أَصْبَحَ فِيهِ عَاجِزاً عَنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الرَعِيَّةِ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ حَسَبَ أَحْكَامِ الشَرْعِ يُعْتَبَرُ عَاجِزاً حُكْماً عَنِ القِيَامِ بِأَعْبَاءِ الدَوْلَة فَيَخُرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَلِيفَةً. وهَذَا يُتَصَوَّرُ في حَالَتَيْنِ:

الحَالَةُ الأُولَى: أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ أَوْ عِدَّةُ أَفْرَادٍ مِنْ حَاشِيَتِهِ فَيَسْتَبِدُّونَ بِتَنْفِيذِ الأُمُورِ. فَإِنْ كَانَ مَأْمُولُ الخَلاصِ مِنْ تَسَلُّطِهِمْ يُنْذَرُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً ثُمَّ إِنْ لَمْ يَرَفَعْ تَسَلُّطَهُمْ يُخْلَعْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُولَ الخَلاصِ يُخْلَعْ في الحَالِ.

الحَالَةُ الثَانِيَةُ: أَنْ يَصِيرَ مَأْسُوراً في يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ، إِمَّا بِأَسْرِهِ بِالفِعْلِ أَوْ بِوُقُوعِهِ تَحْتَ تَسَلُّطِ عَدُوِّهِ وفي هَذِهِ الحَالُ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مَأْمُولَ الخَلاصِ يُمْهَلُ حَتَّى يَقَعَ اليَأْسُ مِنْ خَلاصِهِ، فَإِنْ يُئِسَ مِنْ خَلاصِهِ يُخْلَعْ وإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُولَ الخَلاصِ يُخْلَعْ في الحَالِ.

المَادَّةُ 40- مَحْكَمَةُ المَظَالِمِ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقَرِّرُ مَا إِذَا كَانَتْ قَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الخَلِيفَةِ تَغْـيُّراً يُخْرِجُهُ عَنِ الخِلافَةِ أَمْ لا، وَهِيَ وَحْدَهَا الَّتِي لَهَا صَلاحِيَّةُ عَزْلِهِ أَوْ إِنْذَارِهِ.



مُعَاوِنُ التَفْوِيضِ

المَادَّةُ 41- يُعَيِّنُ الخَلِيفَةُ مُعَاوِنَ تَفْوِيضٍ لَهُ يَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّةَ الحُكْمِ، فَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الأُمُورِ بِرَأْيِهِ وإِمْضَاءهَا على اجْتِهَادِهِ.

المَادَّةُ 42- يُشْتَرَطُ في مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ مَا يُشْتَرَطُ في الخَلِيفَةِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً حُراً مُسْلِماً بَالِغاً عَاقِلاً عَدْلاً، ويُشْتَرَطُ فِيهِ عِلاوَةً عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّلَ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالٍ.

المَادَّةُ 43- يُشْتَرَطُ في تَقْلِيدِ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ أَنْ يَشْتَمِلَ تَقْلِيدُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا عُمُومُ النَظَرِ، والثَانِي النيَابَةُ. ولذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ لَهُ الخَلِيفَةُ قَلَّدْتُكَ مَا هُوَ إِلَيَّ نِيَابَةً عَنِّي، أَوْ مَا في هَذَا المَعْنَى مِنَ الأَلْفَاظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ النَظَرِ والنِيَابَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَقْلِيدُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ لا يَكُون مُعَاوِنَاً، ولا يَمْلِكُ صَلاحِيَّاتِ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ إِلاَّ إِذَا كَانَ تَقْلِيدُهُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ.

المَادَّةُ 44- عَمَلُ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ هُوَ مُطَالَعَةُ الخَلِيفَةِ لِمَا أَمْضَاهُ مِنْ تَدْبِيرٍ، وأَنْفَذَهُ مِنْ وِلايَةٍ وتَقْليدٍ،حَتَّى لا يَصِيرَ في صَلاحِيَّاتِهِ كالخَلِيفَةِ. فعَمَلُهُ أَنْ يَرْفَعَ مُطَالَعَتَهُ وأَنْ يُنَفِّذَ مَا يُؤْمَرُ بِتَنْفِيذِهِ.

المَادَّةُ 45- يَجِبُ عَلَى الخَلِيفَةِ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَعْمَالَ مُعَاوِنِ التَفْوِيضِ وتَدْبِيرَهُ لِلأُمُورِ، لِيُقِرَّ مِنْهَا المُوَافِقَ لِلْصَوَابِ، ويَسْتَدْرِكَ الخَطَأَ. لأَنَّ تَدْبِيرَ شُؤُونِ الأُمَّةِ مَوْكُولٌ لِلْخَلِيفَةِ ومَحْمُولٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ هُوَ.

المَادَّةُ 46- إِذَا دَبَّرَ مُعَاوِن التَفْوِيضِ أَمْراً وأَقَرَّهُ الخَلِيفَةُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُنَفِّذَهُ كَمَا أَقَرَّهُ الخَلِيفَةُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ ولا نُقْصَانٍ. فَإِنْ عَادَ الخَلِيفَةُ وعَارَضَ المُعَاوِنَ في رَدِّ مَا أَمْضَاهُ يُنْظَرْ، فَإِنْ كَانَ في حُكْمٍ نفَّذهُ عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ مَالٍ وَضَعَهُ في حَقِّهِ، فَرَأْيُ المُعَاوِنِ هُوَ النَافِذُ ، لأَنَّهُ بِالأَصْلِ رَأْيُ الخَلِيفَةِ ولَيْسَ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا نُفِّذَ مِنْ أَحْكَامٍ، وأُنْفِقَ مِنْ أَمْوَالٍ. وإِنْ كَانَ مَا أَمْضَاهُ المُعَاوِنُ في غَيْرِ ذَلِكَ مِثَلَ تَقْلِيدِ وَالٍ أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ جَازَ لِلْخَلِيفَةِ مُعَارَضَةُ المُعَاوِنِ ويُنَفَّذُ رَأْي الخَلِيفَةِ، ويُلْغَى عَمَلُ المُعَاوِنِ، لأَنَّ لِلْخَلِيفَةِ الحَقَّ في أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدْركَهُ مِنْ فِعْلِ مُعَاوِنِهِ.

المَادَّةُ 47- لا يُخَصَّصُ مُعَاوِنُ التَفْوِيضِ بِدَائِرَةٍ مِنَ الدَوَائِرِ أَوْ بِقِسْمٍ خَاصٍ مِنَ الأَعْمَالِ لأَنَّ وِلايَتَهُ عَامَّةٌ وكذَلِكَ لا يُبَاشِرُ الأُمُورَ الإِدَارِيَّةَ، ويَكُونُ إِشْرَافُهُ عَامَّاً عَلَى الجِهَازِ الإِدَارِيِّ.







مُعَاوِنُ التَنْفِيذِ

المَادَّةُ 48- يُعَيِّنُ الخَلِيفَةُ مُعَاوِناً لِلْتَنْفِيذِ، وعَمَلُهُ مِنَ الأَعْمَالِ الإِدَارِيَّةِ، ولَيْسَ مِنَ الحُكْمِ ودَائِرَتُهُ هِيَ جِهَازٌ لِتَنْفِيذِ مَا يَصْدُرُ عَنِ الخَلِيفَةِ لِلْجِهَاتِ الدَاخِلِيَّةِ والخَارِجِيَّةِ، ولِرَفْعِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الجِهَاتِ، فَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الخَلِيفَةِ وغَيْرِهِ، تُؤَدِّي عَنْهُ، وتُؤَدِّي إِلَيْهِ.

المَادَّةُ 49- يُشْتَرَطُ في مُعَاوِنِ التَنْفِيذِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِماً لأَنَّه مِنْ بِطَانَةِ الخَلِيفَةِ.

المَادَّةُ 50- يَكُونُ مُعَاوِنُ التَنْفِيذِ مُتَّصِلاً مُبَاشَرَةً مَعَ الخَلِيفَةِ، كَمُعَاوِنِ التَفْوِيضِ، ويُعْتَبَرُ مُعَاوِناً ولَكِنْ في التَنْفِيذِ ولَيْسَ في الحُكْمِ.

أَمِيرُ الجِهَادِ

المَادَّةُ 51- تَتَأَلَّفُ دَائِرَةُ أَمِيرِ الجِهَادِ مِنْ أَرْبَعِ دَوَائِرَ هِيَ: الخَارِجِيَّةُ، والحَرْبِيَّةُ، والأَمْنُ الدَاخِلِيُّ، والصِنَاعَةُ، ويُشْرِفُ عَلَيْهَا ويُدِيرُهَا أَمِيرُ الجِهَادِ.

المَادَّةُ 52- تَتَوَلَّى دَائِرَةُ الخَارِجِيَّةِ الشُؤُونَ الخَارِجِيَّةَ الَّتِي تتَعَلَّقُ بِعَلاقَةِ الدَوْلَةِ بِالدُوَلِ الأَجْنَبِيَّةِ مَهْمَا كَانَتْ هَذِهِ الشُؤُونُ.

المَادَّةُ 53- تَتَوَلَّى دَائِرَةُ الحَرْبِيَّةِ جَمِيعَ الشُؤُونِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ مِنْ جَيْشٍ وشُرْطَةٍ ومُعِدَّاتٍ ومَهَمَّاتٍ وعَتَادٍ ومَا شَاكَلَ ذَلِكَ. ومِنْ كُلِّيَاتٍ عَسْكَرِيَّةٍ، وبعثاتٍ عسكريةٍ ، وكُل ما يَلْزَمُ مِنَ الثَقَافَةِ الإِسْلامِيَّةِ، والثَقَافَةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ، وكُل مَا يتَعَلَّقُ بِالحَرْبِ والإِعْدَادِ لَهَا.

المَادَّةُ 54- دَائِرَةُ الأَمْنِ الدَاخِلِيِّ هِيَ الدَائِرَةُ الَّتِي تَتَوَلَّى إدَارَةَ كُلِّ مَا لَهُ مسَاسٌ بِالأَمْنِ وتَتَوَلَّى حِفْظَ الأَمْنِ في البِلادِ بِوَاسِطَةِ القُوَّاتِ المُسَلَّحَةِ وتُتَّخَذُ الشُرْطَة الوَسِيلَة الرَئِيسِيَّة لِحِفْظِ الأَمْنِ.

المَادَّةُ 55- دَائِرَةُ الصِنَاعَةِ هِيَ الدَائِرَةُ الَّتِي تَتَوَلَّى جَمِيعَ الشُؤُونِ المتَعَلِّقَةِ بالصِنَاعَةِ سَوَاءً أكَانَتْ صِنَاعَةً ثَقِيلَةً كَصِنَاعَةِ المُحَرِّكَاتِ والآلاتِ، وصِنَاعَةِ هَيَاكِلِ المَرْكَبَاتِ، وصِنَاعَةِ المَوَادِّ، والصِنَاعَات الإِلِكْترُونِيَّةِ. أو كانت صِنَاعَةً خَفِيفَةً، وسَوَاءً أكَانَتْ المَصَانِعُ هِيَ مِنْ نَوْعِ المُلْكِيَّةِ العَامَّةِ، أَمْ مِنَ المَصَانِعِ الَّتِي تَدْخُلُ في المُلْكِيَّةِ الفَرْدِيَّةِ ولَهَا عَلاقَةٌ بِالصِنَاعَةِ الحَرْبِيَّةِ ـ والمَصَانِعُ بِأَنْوَاعِهَا يَجِبُ أَنْ تُقَامَ عَلَى أَسَاسِ السِيَاسَةِ الحَرْبِيَّةِ.



الجَيْشُ

المَادَّةُ 56- الجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى المُسْلِمينَ، والتَدْرِيبُ عَلَى الجُنْدِيَّةِ إِجْبَارِيٌّ فَكُلُّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَبْلُغُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهِ فَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَرَّبَ عَلَى الجُنْدِيَّةِ استعْدَاداً لِلْجِهَادِ، وأَمَّا التَجْنِيدُ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ.

المَادَّةُ 57- الجَيْشُ قِسْمَانِ قِسْمٌ احْتِيَاطِيٌ، وهُمْ جَمِيعُ القَادِرِينَ عَلَى حَمْلِ السِلاحِ مِنَ المُسْلِمينَ. وقِسْمٌ دَائِمٌ في الجُنْدِيَّةِ تُخَصَّصُ لَهُمْ رَوَاتِبُ في مِيزَانِيَّةِ الدَوْلَةِ كالمُوَظَّفِينَ.

المَادَّةُ 58- القُوَى المُسَلَّحَةُ قُوَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ الجَيْشُ، وتُخْتَارُ مِنْهَا فِرَقٌ خَاصَّةٌ تُنَظَّمُ تَنْظِيماً خَاصاً وتُعْطَى ثَقَافَةً مُعَيَّنَةً هِيَ الشُرْطَةُ.

المَادَّةُ 59- يُعْهَدُ إِلَى الشُرْطَةِ بِحِفْظِ النِظَامِ والإِشْرَافِ عَلَى الأَمْنِ الدَاخِلِيِّ والقِيَامِ بِجَمِيعِ النَوَاحِي التَنْفِيذِيَّةِ.

المَادَّةُ 60- تُجْعَلُ لِلْجَيْشِ أَلْوِيَةٌ ورَايَاتٌ والخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي يَعْقِدُ اللِوَاءَ لِمَنْ يُوَلِّيهِ عَلَى الجَيْشِ، أَمَّا الرَايَاتُ فَيُقَدِّمُهَا رُؤَسَاءُ الأَلْوِيَةِ.

المَادَّةُ 61- الخَلِيفَةُ هُوَ قَائِدُ الجَيْشِ، وهُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ رَئِيسَ الأَرْكَانِ، وهُوَ الَّذِي يُعَيِّنُ لِكُلِّ لِوَاءٍ أَمِيراً ولِكُلِّ فِرْقَةٍ قَائِداً. أَمَّا بَاقِي رُتَبِ الجَيْشِ فَيُعَيِّنُهُمْ قُوَّادُهُ وأُمَرَاءُ أَلْوِيَتِهِ. وأَمَّا تَعْيِينُ الشَخْصِ في الأَرْكَانِ فيَكُونُ حَسَبَ دَرَجَةِ ثَقَافَتِهِ الحَرْبِيَّةِ ويُعَيِّنُهُ رَئِيسُ الأَرْكَانِ.

المَادَّةُ 62- يُجْعَلُ الجَيْشُ كُلهُ جَيْشاً وَاحِداً يُوضَعُ في مُعَسْكَرَاتٍ خَاصَّةٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تُوضَعَ بَعْضُ هَذِهِ المُعَسْكَرَات في مُخْتَلَفِ الوِلاياتِ. وبَعْضُهَا في الأَمْكِنَةِ الإِسْتَرَاتِيجِيَّةِ، ويُجْعَلُ بَعْضُهَا مُعَسْكَرَاتٍ مُتَنَقِّلَة تَنَقُّلاً دَائِمِياً، تَكُونُ قُوَّات ضَارِبةً. وتُنَظَمُ هَذِهِ المُعَسْكَرَاتُ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَجْمُوعَةٍ مِنْهَا اسمُ جَيْشٍ ويُوضَعُ لَهَا رَقَمٌ فَيُقَالُ الجَيْشُ الأَوَّلُ، والجَيْشُ الثَالِثُ مَثَلاً، أَوْ تُسَمَّى بِاسمِ وِلايَةٍ مِنَ الوِلايَاتِ أَوْ عَمَالَةٍ مِنَ العَمَالاتِ.

المَادَّةُ 63- يَجِبُ أَنْ يُوَفَّرَ لِلْجَيْشِ التَعْلِيمُ العَسْكَرِيُّ العَالِي عَلَى أَرْفَعِ مُسْتَوَىً، وأَنْ يُرْفَعَ المُسْتَوَى الفِكْريُّ لَدَيْهِ بِقَدَرِ المُسْتَطَاعِ، وأَنْ يُثَقَّفَ كُلُّ شَخْصٍ في الجَيْشِ ثَقَافَةً إِسْلامِيَّةً تُمَكِّنُهُ مِنَ الوَعْيِ عَلَى الإِسْلامِ ولَوْ بشَكْلٍ إِجْمَالِيٍّ.

المَادَّةُ 64- يَجِبُ أَنْ يَكُونَ في كُلِّ مُعَسْكَرٍ عَدَدٌ كَافٍ مِنَ الأَرْكَانِ الَّذِينَ لَدَيْهِمْ المَعْرِفَةُ العَسْكَرِيَّةُ العَالِيَةُ والخِبْرَةُ في رَسْمِ الخُطَطِ وتَوْجِيهِ المَعَارِكَِ. وأَنْ يُوَفَّرَ في الجَيْشِ بِشَكْلٍ عِامٍّ هَؤُلاءِ الأَرْكَانِ بِأَوْفَرِ عَدَدٍ مُسْتَطَاعٍ.

المَادَّةُ 65- يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ لَدَى الجَيْشِ الأَسْلِحَةُ والمُعِدَّاتُ والتَجْهِيزَاتُ واللَوَازِمُ والمَهَمَّاتُ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنَ القِيَامِ بِمُهِمَّتِهِ بِوَصْفِهِ جَيْشاً إِسْلامياً.
دَائِمِياً، تَكُونُ قُوَّات ضَارِبةً. وتُنَظَمُ هَذِهِ المُعَسْكَرَاتُ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَجْمُوعَةٍ مِنْهَا اسمُ جَيْشٍ ويُوضَعُ لَهَا رَقَمٌ فَيُقَالُ الجَيْشُ الأَوَّلُ، والجَيْشُ الثَالِثُ مَثَلاً، أَوْ تُسَمَّى بِاسمِ وِلايَةٍ مِنَ الوِلايَاتِ أَوْ عَمَالَةٍ مِنَ العَمَالاتِ.

المَادَّةُ 63- يَجِبُ أَنْ يُوَفَّرَ لِلْجَيْشِ التَعْلِيمُ العَسْكَرِيُّ العَالِي عَلَى أَرْفَعِ مُسْتَوَىً، وأَنْ يُرْفَعَ المُسْتَوَى الفِكْريُّ لَدَيْهِ بِقَدَرِ المُسْتَطَاعِ، وأَنْ يُثَقَّفَ كُلُّ شَخْصٍ في الجَيْشِ ثَقَافَةً إِسْلامِيَّةً تُمَكِّنُهُ مِنَ الوَعْيِ عَلَى الإِسْلامِ ولَوْ بشَكْلٍ إِجْمَالِيٍّ.

المَادَّةُ 64- يَجِبُ أَنْ يَكُونَ في كُلِّ مُعَسْكَرٍ عَدَدٌ كَافٍ مِنَ الأَرْكَانِ الَّذِينَ لَدَيْهِمْ المَعْرِفَةُ العَسْكَرِيَّةُ العَالِيَةُ والخِبْرَةُ في رَسْمِ الخُطَطِ وتَوْجِيهِ المَعَارِكَِ. وأَنْ يُوَفَّرَ في الجَيْشِ بِشَكْلٍ عِامٍّ هَؤُلاءِ الأَرْكَانِ بِأَوْفَرِ عَدَدٍ مُسْتَطَاعٍ.

المَادَّةُ 65- يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ لَدَى الجَيْشِ الأَسْلِحَةُ والمُعِدَّاتُ والتَجْهِيزَاتُ واللَوَازِمُ والمَهَمَّاتُ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنَ القِيَامِ بِمُهِمَّتِهِ بِوَصْفِهِ جَيْشاً إِسْلامياً.

rajaab
04-05-2005, 04:38 PM
القَضَاءُ

المَادَّةُ 66- القَضَاءُ هُوَ الإِخْبَارُ بالحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الإِلْزَامِ، وهُوَ يَفْصِلُ الخُصُومَاتِ بَيْنَ النَاسِ، أَوْ يَمْنَعُ مَا يَضُرُّ حَقَّ الجَمَاعَةِ، أَوْ يَرْفَعُ النِزَاعَ الوَاقِعَ بَيْنَ النَاسِ وأَيّ شَخْصٍ مِمَّنْ هُوَ في جِهَازِ الحُكْمِ، حُكَّاماً أَوْ مُوَظَّفِينَ خَلِيفَةً أَوْ مَنْ دُونَهُ.

المَادَّةُ 67- يُعَيِّنُ الخَلِيفَةُ قَاضِيَاً لِلْقُضَاةِ مِنَ الرِجَالِ البَالِغِينَ الأَحْرَارِ المُسْلِمِينَ العُقَلاءِ العُدُولِ مِنْ أَهْلِ الفِقْهِ، وتَكُونُ لَهُ صَلاحِيَّةُ تَعْيِينِ القُضَاةِ وتَأْدِيبِهِمْ وعَزْلِهِمْ ضِمْنَ الأَنْظِمَةِ الإِدَارِيَّةِ، أَمَّا بَاقِي مُوَظَّفِي المَحَاكِمِ فَمَرْبُوطُونَ بِمُدِيرِ الدَائِرَةِ الَّتِي تَتَوَلَّى إِدَارَةَ شُؤُونِ المَحَاكِمِ.

المَادَّةُ 68- القُضَاةُ ثَلاثَةٌ: أَحَدُهُمْ القَاضِي؛ وهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الفَصْلَ في الخُصُومَاتِ ما بَيْنَ النَاسِ في المُعَامَلاتِ والعُقُوبَاتِ. والثَانِي المُحْتَسِبُ؛ وهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الفَصْلَ، في المُخَالَفَاتِ الَّتِي تَضُرُّ حَقَّ الجَمَاعَةِ. والثَالِثُ قَاضِي المَظَالِمِ؛ وهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى رَفْعَ النِزَاعِ الوَاقِعِ بَيْنَ النَاسِ والدَوْلَةِ.

المَادَّةُ 69- يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى القَضَاءَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِماً، حراً، بَالِغاً، عَاقِلاً، عَدْلاً، فَقِيهاً، مُدْرِكاً لِتَنْزِيلِ الأَحْكَامِ عَلَى الوَقَائِعِ. ويُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى قَضَاءَ المَظَالِمِ زِيَادَةً عَلَى هَذَه الشُروطِ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً وأَنْ يَكُونَ مُجْتَهِداً.

المَادَّةُ 70- يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ القَاضِي والمُحْتَسِبُ تَقْلِيداً عَاماً في القَضَاءِ بِجَمِيعِ القَضَايَا في جَمِيعِ البِلادِ، ويَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ تَقْلِيداً خَاصاً بالمَكَانِ وبِأَنْوَاعِ القَضَاءِ. أَمَّا قَاضِي المَظَالِمِ فَلا يُقَلَّدُ إِلاَّ تَقْلِيداً عَاماً مِنْ حَيْثُ القَضَاءُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ المكَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ في جَمِيعِ أَنْحَاءِ البِلادِ، ويَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ في نَاحِيَةٍ مِنْ النَوَاحِي.

المَادَّةُ 71- لا يَجُوزُ أَنْ تَتَأَلَّفَ المَحْكَمَةُ إِلاَّ مِنْ قَاضٍ وَاحِدٍ لَهُ صَلاحِيَّةُ الفَصْلِ في القَضَاءِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قَاضٍ آخَرَ أَوْ أَكْثَرُ، ولَكِنْ لَيْسَت لَهُمْ صَلاحِيَّةُ الحُكْمِ وإِنَّمَا لَهُمْ صَلاحِيَّةُ الاستِشَارَةِ وإِعْطَاءِ الرَأْيِ، ورَأْيُهُمْ غَيْرُ مُلْزِمٍ لَهُ.

المَادَّةُ 72- لا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ القَاضِي إِلاَّ في مَجْلِسِ قَضَاءٍ، ولا تُعْتَبَرُ البَيِّنَةُ واليَمِينُ إِلاَّ في مَجْلِسِ القَضَاءِ.

المَادَّةُ 73- يَجُوز أَن تتعدد درجات المحاكم بالنسبة لأَنواع القضايا، فيَجُوز أَن يخَصَّصَ بعض القُضاة بأقضيةٍ معينةٍ إِلَى حدٍ معين، وأَن يوكل أَمْر غَيْر هَذِهِ القضايا إِلَى محاكمَ أخرى.

المَادَّةُ 74- لا تُوجَدُ محاكمُ استِئْنَافٍ، ولا محاكمُ تمييزٍ، فالقَضَاء مِن حَيْث البتِ في القضيةِ درجةٌ واحدةٌ، فإذا نطق القاضي بالحُكْم فحُكْمه نافذٌ، ولا ينقضه حُكْمُ قاضٍ آخرَ مطلقاً.

المَادَّةُ 75- المحتسبُ هُوَ القاضي الَّذِي ينَظَرُ في كافة القضايا الَّتِي هِيَ حقوقٌ عَامَّةٌ لا يُوجَدُ فِيهِا مدَّعٍ،عَلَى أَنْ لا تَكَوْن داخلةً في الحدودِ والجناياتِ.

المَادَّةُ 76- يملك المحتسب الحُكْم في المخالفة فور العِلْم بِهَا في أَيِّ مكَانٍ دُونَ حاجةٍ لمجلسِ قَضَاءٍ، ويُجْعَلُ تحتَ يدهِ عددٌ مِن الشرطةِ لتَنْفِيذِ أَوَامِره، وينَفَّذُ حُكْمه في الحَال.

المَادَّةُ 77- للمحتسب الحَق في أَن يختار نواباً عنه تتوفر فيهم شُرُوط المحتسب، يوزعهم في الجهات المختلفة ،وتَكون لهؤلاء النواب صلاحية القِيَام بوظيفة الحِسَبَةِ في المنطقة أَوْ المحِلّة الَّتِي عُينت لَهُمْ في القضايا الَّتِي فوضوا فِيهِا.

المَادَّةُ 78- قاضي المظالم هُوَ قاضٍ يُنصَب لرفع كل مظلمة تحصل عَلَى أَيِّ شخص يعيش تحت سُلْطَان الدَوْلَة، سواءً أَكان مِن رعاياها أم مِن غَيْرهم، وسواء حصلت هَذِه المظلمة مِن الخَلِيفَة أَوْ ممن هُوَ دونه مِن الحكام والموظفين.

المَادَّةُ 79- يُعَيَّنُ قاضي المظالم مِن قبلِ الخَلِيفَة، أَوْ مِن قبلِ قاضي القضاة،أما محاسَبَتهُ وتأدِيبهُ وعَزْلهُ فيكونُ من قِبَلِ الخَليفةِ أو مِن قِبلِ محكَمةِ المظالِمِ إذا أعطاها الخليفةُ صلاحيَةَ ذلك.إلا أَنَّهُ لا يَصِحُ عزلُهُ أثناءَ قِيامِه بِالنظَرِ في مَظلمَةٍ على الخَليفَةِ ، أو معاوِنَ التفويضِ ، أو قاضي القضاةِ.

المَادَّةُ 80- لا يحصر قاضي المظالم بشخص واحد أو أكثر بَلْ لرئيس الدَوْلَة أَن يعين عدداً مِن قضاة المظالم حَسَبَ ما يحتاج رفع المظالم مَهْمَا بلغ عددهم. ولكن عِنْدَ مباشَرة القَضَاء لا تَكون صلاحية الحُكْم إلا لقاض واحد لَيْسَ غَيْر، ويَجُوز أَن يجلس معه عدد مِن قضاة المظالم أثناء جلسة القَضَاء، ولكن تَكون لَهُمْ صلاحية الاستشارة لَيْسَ غَيْر. وهُوَ غَيْر ملزم بالأخذ برأيهم.

المَادَّةُ 81- لِمحْكمة المظالم حَقُّ عزل أَيِّ حاكمٍ أَوْ موظفٍ في الدَوْلَة، كَمَا لها حَقُّ عزل الخَلِيفَة.

المَادَّةُ 82- تملك محكمة المظالم صلاحية النَظَرِ في أَيَّة مظلمةٍ مِن المظالم سواء أكَانَتْ متَعَلقةً بأشخاص مِن جهاز الدَوْلَة، أم متَعَلقة بمخالفة الخَلِيفَة لأَحْكَام الشَرْع، أم متَعَلَّقَة بمعنى نصٍ مِن نصوص التشريع في الدُسْـتُور والقانون وسائر الأَحْكَام الشَرْعيّة ضمن تَبَنِّي رئيس الدَوْلَة، أم متَعَلقة بفرض ضريبة مِن الضرائب، أم غَيْر ذَلِكَ.

المَادَّةُ 83- لا يُشْتَرَطُ في قَضَاء المظالم مجلسُ قَضَاء ولا دَعْوَةُ المدعى عَلَيْهِ، ولا وُجُود مدَّعٍ، بَلْ لها حَقُّ النَظَرِ في المظلمةِ ولو لَمْ يدَّعِ بِهَا أحد.

المَادَّةُ 84- لكل إِنْسَان الحَقّ في أَن يوكل عنه في الخصومة وفي الدفاع مَن يشاء سواء أكَانَ مُسْلِماً أم غَيْر مُسْلِم رجلاً كَانَ أَوْ امرأَة. ولا فرق في ذَلِكَ بَيْنَ الوكيل والموكِل. ويَجُوز للوكيل أَن يوكَّل بأجرٍ ويستحقَّ الأجرةَ عَلَى الموكِّلِ حَسَبَ تراضيهما.

المَادَّةُ 85- يَجُوز للشخص الَّذِي يملك صلاحيات في أَيِّ عَمَلٍ مِن الأَعْمَال الخَاصَّة كالوصي والولي، أَوْ الأَعْمَال العَامَّة كالخَلِيفَة والحاكم والموظف، وكقاضي المظالم والمحتسب، أَن يقِيم مقامه في صلاحياته وكيلاً عنه في الخصومة والدفاع فقط باعتبار كَوْنه وصياً أَوْ ولياً أَوْ رئيس دَوْلَة أَوْ حاكماً أَوْ موظفاً أَوْ قاضي مظالم أَوْ محتسباً. ولا فرق في ذَلِكَ بَيْنَ أَن يَكُون مدعياً أَوْ مدعى عَلَيْهِ.







الوُلاَة

المَادَّةُ 86- تقسَّمُ البلاد الَّتِي تَحكُمها الدَوْلَة إِلَى وحدات، وتسمى كل وحدة ولاية، وتقسم كل ولاية إِلَى وحدات وتسمى كل وحدة مِنْهَا عَمالة، ويسمى كل مَن يَتَوَلَّى الولاية والياً أَوْ أَمِيراً، ويسمى كل مَن يَتَوَلَّى العَمالة عاملاً أَوْ حاكماً.

المَادَّةُ 87- يُعَيَّنُ الولاة مِن قبل الخَلِيفَة، ويُعَيَّنُ العُمالُ مِن قبل الخَلِيفَة ومن قبل الولاةِ إِذَا فوِّض إليهم ذَلِكَ ويُشْتَرَطُ في الولاة والعُمال ما يُشْتَرَطُ في المُعَاوِنين فلا بُدَّ أَن يَكُونوا رجالاً أحراراً مسلمينَ بالغينَ عقَلاءَ عدولاً ، وأن يكونوا مِن أهل الكفاية فيما وُكِّلَ إليهم مِن أَعْمَال، ويُتَخَيرون مِن أهل التقوَى والقوة.

المَادَّةُ 88- للوالي صلاحية الحُكْم والإشَراف عَلَى أَعْمَال الدوائر في ولايته نيابة عَنِ الخَلِيفَة، فله مِن الصلاحيات في ولايته جميع ما لمعَاوِن التَفْوِيضِ في الدَوْلَة فله الإمارة عَلَى أهل ولايته، والنَظَر في جَمِيع ما يتَعَلَّقُ بِهَا ما عدا المالية والقَضَاء والجَيْشُ.إلا أَن الشرطة توضع تحت إمارته مِن حَيْث التَنْفِيذِ لا مِن حَيْث الإدَارُة.

المَادَّةُ 89- لا يَجِبُ عَلَى الوالي مطالعة الخَلِيفَة بما أمضاه في عَمَله عَلَى مقتضى إمارته إلا عَلَى وجه الاختيار، فإذا حدث إنشاءٌ جديدٌ غَيْرُ معهُوَدٍ وقَفَهُ عَلَى مطالعة الخَلِيفَة، ثُمَّ عَمِل بما أَمر به. فإن خاف فسادَ الأَمْرِ بالانتظارِ قامَ بالأَمْرِ وأَطْلَعَ الخَلِيفَةَ وجوباً عَلَى الأَمْرِ وعَلَى سببِ عَدَمِ مُطالعتهِ قبلَ القِيَام بالعَمَل.

المَادَّةُ 90- يَكُون في كل ولاية مجلس منتخب مِن أهلها يرأسه الوالي وتَكون لهذا المجلس صلاحية المشاركة في الرأي في الشؤون الإدَارية لا في شؤون الحُكْم، ورأيهُ غَيْرُ ملزمٍ للوالي.

المَادَّةُ 91- ينبغي أَن لا تطول مدةُ ولايةِ الشخصِ الواحدِ عَلَى الولايةِ، بَلْ يُعفى مِن وِلايته عَلَيْهِا كلما رُؤِي له تركز في البلد، أَوْ أفتُتِن الناس به.

المَادَّةُ 92- لا يُنقلُ الوالي مِن ولايةٍ إِلَى ولايةٍ، لأَنَّ توليتَه عَامَّةَ النَظَرِ محددةُ المكَانِ، ولكن يُعفى ويُولى ثانيةً.

المَادَّةُ 93- يُعزل الوالي إِذَا رأى الخَلِيفَةُ عزله، أَوْ إِذَا أظهر مجلس الأُمَّة عدم الرِّضى منه بسببٍ أَوْ بدون سببٍ، أَوْ إِذَا أظهر جمهرة أهل ولايته السخط منه. وعزله إِنَّمَا يجري مِن قبل الخَلِيفَة.

المَادَّةُ 94- عَلَى الخَلِيفَة أَن يتحرى أَعْمَال الولاة، وأَن يَكُون شديد المراقبة لَهُمْ، وأَن يعين مَن ينوبُ عنه للكشف عَن أحوالهم، والتفتيش عَلَيْهِم وأَن يجمعهم أَوْ قسماً مِنْهُمْ بَيْنَ الحِين والآخر، وأَن يُصغي إِلَى شكاوي الرعية مِنْهُمْ.



الجهاز الإدَارِي

المَادَّةُ 95- إدَارُةُ شؤونِ الدَوْلَةِ ومصالحِ الناسِ تتولاها مصالحُ ودوائرُ وإدَاراتٌ، تَقُوم عَلَى النهُوضِ بشؤونِ الدَوْلَةِ وقَضَاءِ مصالحِ الناسِ.

المَادَّةُ 96- سياسةُ إدَارَةِ المصالحِ والدوائرِ والإدَاراتِ تَقُوم عَلَى البَساطةِ في النِظَامِ والإسراعِ في إنجازِ الأَعْمَالِ، والكفايةِ فِيمَنْ يَتولونَ الإدَارَةَ.

المَادَّةُ 97- لكل مَنْ يحمل التابعية، وتتوفر فِيهِ الكفاية رجلاً كَانَ أَوْ امَرْأَة، مُسْلِماً كَانَ أَوْ غَيْر مُسْلِم أَن يُعَيَّنَ مُديراً لأَيَّةِ مصلحة مِن المصالحِ، أَوْ أَيَّةِ إدَارةٍ، وأَن يَكُونَ موظفاً فِيهِا.

المَادَّةُ 98- يُعَيَّن لكلِ مَصلحةٍ مديرٌ عامٌ ولكلِ دَائِرَة وإدَارةٍ مديرٌ يَتَوَلَّى إدَارَتها، ويَكُونُ مسؤولاً عَنْهَا مباشَرةً، ويَكُونُ هؤلاءِ المديرونَ مسئولين أَمامَ مَن يَتَوَلَّى الإدَارةَ العليا لمصالِحِهِم ،أَوْ دوائِرهم أَوْ إدَاراتِهم مِن حَيْثُ عَمَلهم ومسئولين أَمامَ الوالي والعاملِ مِن حَيْثُ التقيدِ بالأَحْكَامِ والأَنظمةِ العَامَّةِ.

المَادَّةُ 99- المديرون في جَمِيع المصالحِ والدوائرِ لا يُعْزلون إلا لِسببٍ ضِمنَ الأَنظمةِ الإدَارِية، ولكن يَجُوزُ نقلُهم مِن عمَلٍ إِلَى آخر، ويَجُوزُ توقيفُهم عَنِ العَمَلِ، ويَكُونُ تعيينُهم ونقلُهم وتوقيفُهم وتأديبُهم وعزلُهم مِن قبل مِن يَتَوَلَّى الإدَارةَ العليا لمصالحهم، أَوْ دوائرهم ،أَوْ إدَاراتهم.

المَادَّةُ 100- الموظفون غَيْر المديرين يتمُ تعيينُهم ونقلُهم وتوقيفُهم وتأديبُهم و عزلُهم مِن قبل مِن يَتَوَلَّى الإدَارةَ العليا لمصالِحهم أَوْ دوائِرهم أَوْ إدَاراتهم.



مجلسُ الأُمَّة

المَادَّةُ 101- الأشخاص الَّذِين يمثلون المُسْلِمين في الرأي ليرجع إليهم الخَلِيفَة؛ هم مجلس الأُمَّة ويَجُوز لغَيْر المُسْلِمين أَن يَكُونوا في مجلس الأُمَّة مِن أجل الشكوى مِن ظلم الحكام، أَوْ مِن إساءة تَطْبِيق أَحْكَام الإِسْلام.

المَادَّةُ 102- يُنتخب أعضاء مجلس الأُمَّة انْتِخَاباً.

المَادَّةُ 103- لكل مَن يحَمْل التابعية إِذَا كَانَ بالغاً عاقلاً الحَقّ في أَن يَكُون عضواً في مجلس الأُمَّة رجلاً كانَ أَوْ امَرْأَة، مُسْلِماً كانَ أَوْ غَيْر مُسْلِم، إلا أَنَّ عضويةَ غَيْرِ المُسْلِمِ قاصرةٌ عَلَى إظهارِ الشكوى مِن ظلم الحكام، أَوْ مِن إساءة تَطْبِيق الإِسْلام.

المَادَّةُ 104- الشورى هِيَ أخذ الرأيِ مطلقاً، والمشورة هِيَ أخذ الرأي الملزم. ولَيْسَ التشريع ولا التعريف ولا الأمور الفِكْريّة ككشف الحَقائق وكالأمور الفنية والعِلْمية مِن المشورة، وأَمَّا ما عداها مِن الآراء فَإِنَّهُ يدخل تحت المشورة.

المَادَّةُ 105- الشورى هِيَ حَقٌّ للمُسْلِمين فحَسَبَ. ولا حَقّ لغَيْر المُسْلِمين في الشورى. وأَمَّا إبداء الرأَيَّ فَإِنَّهُ يَجُوز لجَمِيع أفراد الرعية مُسْلِمين وغَيْر مُسْلِمين.

المَادَّةُ 106- المسائل الَّتِي تدخل تحت الشورى وتَكون مِن نَوْع المشورة يُؤْخَذ فِيهِا برأيِ الأكثرية بغض النَظَر عَنِ كَوْنه صواباً أم خطأً. أَمَّا ما عداها مما يدخل تحت الشورى فيُتَحرى فِيها عن الصواب بغض النَظَر عَنِ الأكثرية أَوْ الأقلية.

المَادَّةُ 107- لمجلس الأُمَّة صلاحيات أربع وهي:

أولاً:

أ- كل ما هُوَ داخل تحت ما تنطبق عَلَيْهِ كلمة مشورة مِن الأمور الدَاخِلِيَّةِ يَجِبُ أنْ يُؤْخَذ رأيُ مجلس الأُمَّة فِيهِ، وذَلِكَ مثل شؤون الحُكْم والتعليم والصحة والاقتصاد ونحوها، ويَكُون رأيُه ملزماً. وكل ما لَيْسَ داخلاً تحت ما تنطبق عَلَيْهِ كلمة مشورة لا يَجِبُ أَن يُؤْخَذ رأيُ مجلس الشورى فِيهِ، فلا يَجِبُ أَن يُؤْخَذ رأيُه في السياسة الخَارِجِيَّة والمالَية والجَيْشِ.

ب ـ لمجلس الأُمَّة الحَقّ في المحاسبة عَلَى جَمِيع الأَعْمَال الَّتِي تحصل بالفعل في الدَوْلَة سواء أكَانَتْ مِن الأمور الدَاخِلِيَّةِ أم الخَارِجِيَّة أم المالية أم الجَيْشُ ،ورأيُه ملزم إن لَمْ يخالف الشَرْع. وإن اختلف مجلس الأُمَّة والحكام عَلَى عَمَلٍ مِن النَاحِيَةِ الشَرْعيّةِ يُرجعُ فِيهِ لرأي محْكَمةِ المظالمِ.

ثانياً- لمجلس الأُمَّة حَقّ إظهار عدم الرضى مِن الولاة أَوْ المُعَاوِنين ويَكُون رأيَه في ذَلِكَ ملزماً، وعَلَى الخَلِيفَة عزلهم في الحَال.

ثالثاً- يُحيل الخَلِيفَة إِلَى مجلس الأُمَّة الأَحْكَام الَّتِي يريد أن يتبناها في الدُسْـتُور أو القوانين. وللمُسْلِمين مِن أعضائه حَقّ مناقشتها وإعطاء الرأي فِيهِا، ورأيهم في ذَلِكَ غَيْر ملزم.

رابعاً- للمُسْلِمين مِن أعضاء مجلس الأُمَّة حَقّ حصر المرشحِينَ للخِلافَةِ، ورأيهم في ذَلِكَ ملزم، فلا يُقْبَل ترشيح غَيْر مِن رَشَّحَهم.



النِظَام الاجتماعي

المَادَّةُ 108- الأصل في المَرْأَة أَنَّها أم ورَبَّةُ بَيْت وهي عرض يَجِبُ أَن يصان.

المَادَّةُ 109- الأصل أَن ينفَصلَ الرِجَال عَنِ النساء ولا يجتمعون إلا لحاجة يقرها الشَرْع ، ويقر الاجتماع مِن أجلها كالحَجّ والبيع.

المَادَّةُ 110- تُعطى المَرْأَة ما يُعطى الرجل مِن الحقوق، ويُفرض عَلَيْهِا ما يُفرض عَلَيْهِ مِن الواجبات إلا ما خصَّها الإِسْلام به، أَوْ خصَّ الرجل به بالأدلة الشَرْعيّة، فلها الحَقّ في أن تزاول التجارة والزراعة والصِنَاعَة وأَن تَتَوَلَّى العقود والمعاملات. وأَن تملك كل أَنواع الملك. وأَن تُنمي أموالها بنفسها وبغَيْرها، وأَن تُباشَرّ جَمِيع شؤون الحَيَاة بنفسها.

المَادَّةُ 111- يَجُوز للمَرْأَة أَن تُعَين في وظائف الدَوْلَة، وأَن تَنتخب أعضاءَ مجلس الأُمَّة، وأَن تَكون عضواً فِيهِ، وأَن تَشتركَ في انتِخَابِ الخَلِيفَة ومبايعته.

المَادَّةُ 112- لا يَجُوز أَن تَتَوَلَّى المَرْأَة الحُكْم، فلا تَكون خَلِيفَة ولا مُعَاوِناً ولا والياً ولا عاملاً ولا تُباشر أَيَّ عَمَلٍ يعتبر مِن الحُكْم.

المَادَّةُ 113- المَرْأَة تعيش في حَيَاةٍ عَامَّةٍ وفي حَيَاةٍ خَاصَّةٍ. ففي الحَيَاة العَامَّة يَجُوزُ أَن تعيش مَعَ النساء والرِجَال المحارم والرِجَال الأجانبَ عَلَى أَن لا يظهر مِنْهَا إلا وجهُها وكَفّاها، وغَيْر متبرجةٍ ولا متَبذّلةٍ. وأَمَّا في الحَيَاة الخَاصَّة فلا يَجُوز أَن تعيش إلا مَعَ النساء أَوْ مَعَ محارمها ولا يَجُوز أَن تعيش مَعَ الرِجَال الأجانب. وفي كلتا الحَياتين تتقيد بجَمِيع أَحْكَام الشَرْع.

المَادَّةُ 114- تُمنع الخلوةُ بغَيْر مَحرم، ويُمْنَعُ التبرجُ وكشفُ العورة أَمام الأجانب.

المَادَّةُ 115- يُمْنَعُ كل مِن الرجل والمَرْأَة مِن مباشَرة أَيِّ عَمَل فِيهِ خطر عَلَى الأَخْلاق، أَوْ فساد في المجتمع .

المَادَّةُ 116- الحَيَاة الزوجية حَيَاةُ اطمئنان، وعِشْرةُ الزوجينِ عشْرةُ صُحبةٍ. وقِوامةُ الزوجِ عَلَى الزوجةِ قِوامةُ رعايةٍ لا قِوامةُ حُكْمٍ، وقد فُرضت عَلَيْهِا الطاعةُ، وفُرض عَلَيْهِ نَفقتُها حَسبَ المعروفِ لِمثلها.

المَادَّةُ 117- يتعاون الزوجان في القِيَام بأعْمَال البَيْت تعاوناً تاماً، وعَلَى الزوج أَن يَقُومَ بجَمِيع الأَعْمَال الَّتِي يقام بِهَا خارج البَيْت، وعَلَى الزوجة أَن تَقُوم بجَمِيع الأَعْمَال الَّتِي يقام بِهَا داخل البَيْت حَسَبَ استطاعتها. وعَلَيْهِ أَن يحضر لها خُدَّاماً بالقَدَر الَّذِي يكفي لقَضَاء الحاجات الَّتِي لا تستطيع القِيَام بِهَا.

المَادَّةُ 118- كفالة الصغار واجب عَلَى المَرْأَة وحَقّ لها سواء أكَانَتْ مُسْلِمة أم غَيْر مُسْلِمة ما دام الصغير محتاجاً إِلَى هَذِهِ الكفالة. فإن استغنى عَنْهَا يُنْظَرُ، فإن كَانَتْ الحاضنةُ والوليُ مُسْلِمينِ خُيِّرَ الصغيرُ في الإقامة مَعَ مِن يريد، فمن يختاره له أَن ينضم إِلَيْهِ سواء أكَانَ الرجل أم المَرْأَة، ولا فرق في الصغير بَيْنَ أَن يَكُون ذكراً أَوْ أَنثى. أَمَّا إن كَانَ أحدهما غَيْر مُسْلِم، فلا يُخَيَّر بَيْنَهما بَلْ ينضم إِلَى المُسْلِم مِنْهُمْا.

rajaab
04-05-2005, 04:44 PM
النِظَام الاقتصادي

المَادَّةُ 119- سياسة الاقتصاد هِيَ النَظرَةُ إِلَى ما يَجِبُ أَن يَكُون عَلَيْهِ المجتمع عِنْدَ النَظرَة إِلَى إِشْبَاع الحاجات فيُجعَل ما يَجِبُ أَن يَكُون عَلَيْهِ المجتمع أَسَاساً لإِشْبَاع الحاجات.

المَادَّةُ 120- المشَكْلة الاقتصادية هِيَ توزيع الأموال والمنافع عَلَى جَمِيع أفراد الرعية، وتمكينهم مِن الانتفاع بِهَا، بتمكينهم مِن حيازتها ومن السعي لها.

المَادَّةُ 121- يَجِبُ أَن يُضمن إِشْبَاع الحاجات الأَسَاسِيّة لجَمِيع الأفراد فرداً فرداً إِشْبَاعاً كلياً. وأَن يُضمن تمكين كل فرد مِنْهُمْ مِن إِشْبَاع الحاجات الكمالية عَلَى أرفع مستوىً مستطاعٍ.

المَادَّةُ 122- المال لله وحده وهُوَ الَّذِي استخلف بني الإِنْسَان فِيهِ فصار لَهُمْ بهذا الاستخلاف العام حَقّ ملكيته، وهُوَ الَّذِي أذن للفرد بحيازته فصار له بهذا الإذن الخاص ملكيته بالفعل.

المَادَّةُ 123- الملكية ثلاثة أَنواع: ملكية فردية، وملكية عَامَّة، وملكية الدَوْلَة.

المَادَّةُ 124- الملكية الفردية هِيَ حُكْم شَرْعيّ مُقَدَّرٌ بالعين أَوْ المَنْفَعَة يَقْتَضِي تمكين مِن يضاف إِلَيْهِ مِن انتفاعه بالشَيْء وأخذ العوض عنه.

المَادَّةُ 125- الملكية العَامَّة هِيَ إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين.

المَادَّةُ 126- كل مالٍ مَصرِفه موقوفٌ عَلَى رأيِ الخَلِيفَة واجتهاده يعتبر ملكاً للدَوْلَة، كأموال الضرائب والخراج والجزية.

المَادَّةُ 127- الملكية الفردية في الأموال المنقولة و غَيْر المنقولة مقيدة بالأسباب الشَرْعيّة الخمسة وهي:

أ- العَمَل

ب- الإرث

ج- الحاجة إِلَى المال لأجل الحَيَاة

د- إعطاء الدَوْلَة مِن أموالها للرعية

هـ الأموال الَّتِي يَأْخُذها الأفراد دُونَ مقابل أَوْ جهد.

المَادَّةُ 128- التصرف بالملكية مقيد بإذن الشارع، سواءً أكَانَ تصرفاً بالإنفاق أَوْ تصرفاً بتنمية الملك. فيُمْنَعُ السرف والترف والتقتير، وتمنع الشَركات الرأسمالية والجمعيات التعاونية وسائر المعاملات المخالفة للشَرْع، ويُمْنَعُ الربا والغبن الفاحش والاحتكار والقمار وما شابه ذَلِكَ.

المَادَّةُ 129- الأرض العشرية هِيَ الَّتِي أسلَمَ أهلها عَلَيْها وأرض جزيرة العرب، والأرض الخراجية هِيَ الَّتِي فتحت حرباً أَوْ صلحاً ما عدا جزيرة العرب، والأرض العشرية يملك الأفراد رقبتها ومنفعتها. وأَمَّا الأرض الخراجية فرقبتها ملك للدَوْلَة ومنفعتها يملكها الأفراد ويحَقّ لكل فرد تبادُل الأرض العشرية، ومَنْفَعَة الأرض الخراجية بالعقود الشَرْعيّة وتورث عَنْهُم كسائر الأموال.

المَادَّةُ 130- الأرض الموات تُملَك بالإحياء والتَحجير، وأَمَّا غَيْر الموات فلا تُملك إلا بسبب شَرْعيّ كالإرث والشراء والإقطاع.

المَادَّةُ 131- يُمْنَعُ تأجير الأرض للزراعة مطلقاً سواء أكَانَتْ خراجية أم عشرية، كَمَا تُمنع المزارعة أَمَّا المساقاة فجائزة مطلقاً.

المَادَّةُ 132- يُجبَرُ كل مَن ملك أرضاً عَلَى استغلالها ويُعطى المحتاج مِن بَيْت المال ما يُمَكِّنهُ مِن هَذَا الاستغلال. وكل مَن يُهمل الأرض ثلاث سنين مِن غَيْر استغلال تؤخذ منه وتعطى لغَيْره.

المَادَّةُ 133- تتحَقّق الملكية العَامَّة في ثلاثة أَشْيَاء هِيَ:

أ- كل ما هُوَ من مرافق الجَمَاعَة كساحات البلدة

ب- المعادن الَّتِي لا تنقطع كمنابع البترول

ج- الأَشْيَاء الَّتِي طبيعتها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها كالأَنَّهار.

المَادَّةُ 134- المصنع مِن حَيْث هُوَ مِن الأملاك الفردية. إلا أَن المصنع يأخذ حُكْم المَادَّة الَّتِي يصنعُها. فإن كَانَتْ المَادَّةُ مِن الأملاك الفردية كَانَ المصنع ملكاً فردياً كمصانع النسيج. وإن كَانَتْ المَادَّةُ مِن الأملاك العَامَّة كَانَ المصنع ملكاً عاماً كمصانع استخراج الحديد.

المَادَّةُ 135- لا يَجُوز للدَوْلَة أَن تُحَوِّل ملكية فردية إِلَى ملكية عَامَّة، لأَن الملكية العَامَّة ثابتة في طبيعة المال وصفته لا برأي الدَوْلَة.

المَادَّةُ 136- لكل فرد مِن أفراد الأمة حَقّ الانتفاع بما هُوَ داخل في الملكية العَامَّة، ولا يَجُوز للدولة أَن تأذن لأحد دُونَ باقي الرعية بملكية الأملاك العَامَّة أَو استغلالها.

المَادَّةُ 137- يَجُوز للدَوْلَة أَن تحمي مِن الأرض الموات ومما هُوَ داخل في الملكية العَامَّة لأَيَّة مصلحة تراها مِن مصالح الرعية.

المَادَّةُ 138- يُمْنَعُ كنـز المال ولو أُخرِجت زكاته.

المَادَّةُ 139- تُجبى الزَكَاة مِن المُسْلِمين، وتُؤخذ عَلَى الأموال الَّتِي عيَّنَ الشَرْع الأخذ مِنْهَا من نَقدٍ وعروضِ تجارةٍ ومواشٍ وحبوبٍ. ولا تُؤخذُ مِن غَيْر ما ورد الشَرْع به. وتُؤخذ مِن كل مالكٍ سواء أكَانَ مُكلفاً كالبالغ العاقل أم غَيْر مُكلف كالصبي والمجنون، وتُوضع في باب خاص مِن بَيْت المال، ولا تُصرف إلا لواحد أَوْ أكثر مِن الأصناف الثمانية الَّذِين ذكرهم القُرْآن الكريم.

المَادَّةُ 140- تُجبى الجزية مِن الذميين، وتُؤخذ عَلَى الرِجَالِ البالغين إِذَا كَانوا يحتملونها، ولا تُؤخذ عَلَى النساء ولا عَلَى الأولاد.

المَادَّةُ 141- يُجبى الخراج عَلَى الأرض الخراجية بقَدَر احتمالها، وأَمَّا الأرض العشرية فتُجبى مِنْهَا الزَكَاة عَلَى الناتج الفعلي.

المَادَّةُ142- تُستوفى مِن المُسْلِمين الضريبة الَّتِي أجاز الشَرْع استيفاءها لسدِ نَفَقاتِ بيتِ المالِ ، على شَرطِ أن يكونَ استيفاؤها مما يزيد عَلَى الحاجات الَّتِي يَجِبُ توفيرها لصاحب المال بالمعروف، وأَن يُرَاعَى فِيهِا كفايتُها لسد حاجات الدَوْلَة، ولا تؤخذ مِن غَيْر المُسْلِمين ضريبة مطلقاً، ولا يُحصَّل مِنْهُمْ مال إلا الجزية.

المَادَّةُ 143- كل ما أوجب الشَرْع عَلَى الأُمَّة القِيَام به مِن الأَعْمَال ولَيْسَ في بَيْت المال مالٌ للقِيَام به فإن وجوبه ينتقل عَلَى الأُمَّة، وللدَوْلَة حِينَئذ الحَقّ في أَن تُحصله مِن الأُمَّة بفرض الضريبة عَلَيْهِا.وما لَمْ يَجِب عَلَى الأُمَّة شَرْعاً القِيَام به لا يَجُوز للدَوْلَة أَن تفرض أَيَّ ضريبة مِن أجله، فلا يَجُوز أَن تأخذ رسوماً للمحاكم أَوْ الدوائر أَوْ لقَضَاء أَيِّ مصلحة.

المَادَّةُ 144- لميزانية الدَوْلَة أبواب دائمية قررتها أَحْكَام شَرْعيّة. وأَمَّا فصول الميزانية والمبالغ الَّتِي يتضمنها كل فَصْلٍ، والأمور الَّتِي تُخصَّص لها هَذِهِ المبالغ في كل فَصْلٍ، فإن ذَلِكَ موكول لرأي الخَلِيفَة واجتهاده.

المَادَّةُ 145- واردات بَيْت المال الدائمية هِيَ الفيء كله، والجزية، والخراج، وخمس الركاز، والزَكَاة. وتؤخذ هَذِهِ الأموال دائمياً سواءً أكَانَتْ هناك حاجة أم لَمْ تكن.

المَادَّةُ 146- إِذَا لَمْ تكف واردات بَيْت المال الدائمية لنفقات الدَوْلَة فإن لها أَن تُحصِّل مِن المُسْلِمين ضرائب، ويَجِبُ أَن تسير في تحصيل الضرائب عَلَى الوجه التالي:

أ- لسد النفقات الواجبة عَلَى بَيْت المال للفقراء والمساكين وابن السَبِيل وللقِيَام بفرض الجِهَادِ.

ب- لسد النفقات الواجبة عَلَى بَيْت المال عَلَى سَبِيل البَدَل كنفقات الموظفين وأرزاق الجند وتعويضات الحكام.

ج- لسد النفقات الواجبة عَلَى بَيْت المال عَلَى وجه المصلحة والإرفاق دُونَ بَدَلٍ كإنشاء الطرقات واستخراج المياه وبناء المساجد والمدَارس والمستشفيات.

د- لسد النفقات الواجبة عَلَى بَيْت المال عَلَى وجه الضرورة كحادثٍ طرأ عَلَى الرعية مِن مجاعة أَوْ طوفان أَوْ زلزال.

المَادَّةُ 147- يعتبر مِن الواردات الَّتِي توضع في بَيْت المال الأموال الَّتِي تُؤخذ مِن الجمارك عَلَى ثغور البلاد، والأموال الناتجة مِن الملكية العَامَّة أَوْ مِن ملكية الدَوْلَة، والأموال الموروثة عمن لا وارث له.

المَادَّةُ 148- نفقات بَيْت المال مقسمة عَلَى ست جهات هِيَ:

أ- الأصناف الثمانية الَّذِين يستحِقّون أموال الزَكَاة يُصرف لَهُمْ مِن باب الزَكَاة. فإذا لَمْ يُوجَد مال في باب الزَكَاة لا يُصرف لَهُمْ شَيْء.

ب- الفقراء والمساكين وابن السَبِيل والجِهَادِ والغارمون إِذَا لَمْ يُوجَد في باب أموال الزَكَاة مالٌ صُرِفَ لَهُمْ مِن واردات بَيْت المال الدائمة، وإذا لَمْ يُوجَد لا يُصرف للغارمين شَيْء. وأَمَّا الفقراء والمساكين وابن السَبِيل والجِهَادِ فتُحصَّل ضرائب لسد نفقاتهم ويُقترض لأجل ذَلِكَ في حَالة خوف الفساد.

ج- الأشخاص الَّذِين يُؤدون خدمات للدَوْلَة كالموظفين والحكام والجند فَإِنَّهُ يُصرف لَهُمْ مِن بَيْت المال. وإذا لَمْ يكف مال بَيْت المال تحصَّل ضرائب في الحَال لسد هَذِهِ النفقات ويُقترض لأجلها في حَالة خوف الفساد.

د- المصالح والمرافق الأَسَاسِيّة كالطرقات والمساجد والمستشفيات والمدَارس يُصرف عَلَيْهِا مِن بَيْت المال، فإذا لَمْ يَفِ ما في بَيْت المال تحصَّل ضرائب في الحَال لسد هَذِهِ النفقات.

هـ المصالح والمرافق الكمالية يُصرف عَلَيْهِا مِن بَيْت المال، فإذا لَمْ يُوجَدُ ما يكفي لها في بَيْت المال لا يصرف لها وتؤجل.

و- الحَوَادِث الطارئة كالزلازل والطوفان يُصرف عَلَيْهِا مِن بَيْت المال، وإذا لَمْ يُوجَد يُقترض لأجلها المال في الحَال ثُمَّ يسدد مِن الضرائب الَّتِي تجمع.

المَادَّةُ 149- تَضمن الدَوْلَة إيجاد الأَعْمَال لكل مِن يَحْمل التابعية.

المَادَّةُ 150- الموظفون عِنْدَ الأفراد والشَرّكات كالموظفين عِنْدَ الدَوْلَة في جَمِيع الحُقوق والواجبات، وكل مِن يعَمَل بأجر هو موظف مَهْمَا اختلف نَوْع العَمَل أَوْ العامل. وإذا اختلف الأجير والمستأجِر عَلَى الأجرة يُحكم بأجر المِثلِ. أَمَّا إِذَا اختلفوا عَلَى غَيْرها فيحكَّم عقد الإجارة عَلَى حَسَبَ أَحْكَام الشَرْع.

المَادَّةُ 151- يَجُوز أَن تَكون الأجرة حَسَبَ مَنْفَعَة العَمَل، وأَن تَكون حَسَبَ مَنْفَعَة العامل، ولا تَكون حَسَبَ معلومات الأجير، أَوْ شهاداته العلمية، ولا تُوجَدُ ترقيات للموظفين بَلْ يُعطون جَمِيع ما يستحقّونه مِن أجر سواءً أكَانَ عَلَى العَمَل أم عَلَى العامل.

المَادَّةُ 152- تضمن الدَوْلَة نفقة مَن لا مال عنده ولا عَمَل له، ولا يُوجَدُ مَن تجب عَلَيْهِ نفقته وتَتَوَلَّى إيواء العجزة وذوي العاهات.

المَادَّةُ 153- تَعمَل الدَوْلَة عَلَى تداول المال بَيْنَ الرعية وتحول دُونَ تداوله بَيْنَ فئة خَاصَّة.

المَادَّةُ 154- تعالج الدَوْلَة تمكين كل فرد مِن أفراد الرعية مِن إِشْبَاع حاجاته الكمالية، وإيجاد التوازن في المجتمع عَلَى الوجه التالي:

أ- أَن تعطي المال منقولاً أَوْ غَيْر منقول مِن أموالها الَّتِي تملكها في بَيْت المال، ومن الفيء وما شابهه.

ب- أن تُقْطِعَ مِن الأراضي العامرة مَن لا يملِكون أرضاً كافية. أَمَّا مَن يملِكون أرضاً ولا يستغلونها فلا تُعطيهم. وتُعطي العاجزين عَنِ الزراعة مالاً لتوجد لديهم القُدَرةَ عَلَى الزراعة.

ج- تَقُوم بسداد ديون العاجزين عَنِ السداد مِن مال الزَكَاة ومن الفيء وما شابهه.

المَادَّةُ 155- تُشْرِفُ الدَوْلَة عَلَى الشؤون الزراعية ومحصولاتها وفق ما تتطَلَبه السياسة الزراعية الَّتِي تُحَقّق استغلال الأرض عَلَى أعلَى مستوى مِن الإنتاج.

المَادَّةُ 156- تُشْرِف الدَوْلَة عَلَى الشؤون الصناعية برمتها، وتَتَوَلَّى مباشَرة الصناعات الَّتِي تتَعَلَّقَ بما هُوَ داخل في الملكية العَامَّة.

المَادَّةُ 157- التجارة الخَارِجِيَّة تعتبر حَسَبَ تابعية التاجر لا حَسَبَ منشأ البضاعة، فالتجار الحربيون يُمْنَعُون مِن التجارةِ في بلادنا إلا بإذن خاص للتاجر أَوْ للمال. والتجار المعاهدون يُعاملون حَسَبَ المعاهدات الَّتِي بَيْنَنا وبَيْنَهم، والتجار الَّذِين مِن الرعية يُمْنَعُون مِن إخراج ما تحتاجه البلاد مِن المَوَادّ ومن إخراج المَوَادّ التي من شأنها أن يَتقوى بها العدوّ عسكرياً أو صناعياً أو اقتصادياً ، ولا يُمْنَعُون مِن إدخال أَيِّ مالٍ يملكونه.ويُستثنى من هذه الأحكام البلد الذي بيننا وبين أهله حربٌ فعليةٌ كإسرائيل ، فإنه يأخذ أحكام دارِ الحربِ الفعليةِ في جميعِ العلاقات معهُ تِجاريةً كانت أم غَيرَ تِجاريةٍ

المَادَّةُ 158- لجَمِيع أفراد الرعية الحَقّ في إنشاء المختبرات العِلْمية المتَعَلَّقَة بكافة شؤون الحَيَاة، وعَلَى الدَوْلَة أَن تقوم هي بإنشاء هذه المختبراتِ.

المَادَّةُ 159- يُمنع الأفراد مِن ملكية المختبرات الَّتِي تُنْتِجُ مَوَادَّ تؤدي ملكيتهم لها إِلَى ضررٍ عَلَى الأُمَّة أَوْ عَلَى الدَوْلَة.

المَادَّةُ 160- تُوفر الدَوْلَة جَمِيع الخدمات الصحية مجاناً للجَمِيع، ولكنها لا تمنع استئجار الأطباء ولا بيع الأدوية.

المَادَّةُ 161- يُمْنَعُ استغلال واستثمار الأموال الأَجْنَبِيّة في البلاد، كَمَا يُمْنَعُ منح الامتيازات لأَيِّ أَجْنَبِيّ.

المَادَّةُ 162- تُصدِر الدَوْلَة نقداً خاصاً بِهَا يَكُون مستقلاً ولا يَجُوزُ أَن يرتبط بأَيِّ نقدٍ أَجْنَبِيّ.

المَادَّةُ 163- نقود الدَوْلَة هِيَ الذهب والفضة مضروبة كَانَتْ أَوْ غَيْر مضروبة. ولا يَجُوز أَن يَكُون لها نقد غَيْرهما. ويَجُوز أَن تصدر الدَوْلَة بدل الذهب والفضة شيئاً آخر عَلَى شَرط أَن يَكُون في خزانة الدَوْلَة ما يساويه مِن الذهب والفضة. فيَجُوز أن تُصدر الدَوْلَة نحاساً أَوْ برونزاً أَوْ ورقاً أَوْ غَيْر ذَلِكَ وتضربه باسمها نقداً لها إِذَا كَانَ له مقابل يساويه تماماً مِن الذهب أَوْ الفضة.

المَادَّةُ 164- الصرف بَيْنَ عملة الدَوْلَة وبَيْنَ عملات الدول الأخرى جائز كالصرف بَيْنَ عملتها هِيَ سواءٌ بسواءٍ وجائز أَن يتفاضل الصرف بَيْنَهما إِذَا كَانَا مِن جنسين مختلفين عَلَى شَرط أَن يَكُون يداً بيد، ولا يصح أَن يَكُون نسيئة. ويُسمح بتغيير سعر الصرف دُونَ أَيِّ قيدٍ ما دام الجنسان مختلفين، ولكل فرد مِن أفراد الرعية أَن يشتري العملة الَّتِي يريدها مِن الداخل والخارج وأَن يشتري بِهَا دُونَ أَيّةِ حاجة إِلَى إذن عملة أَوْ غَيْره.





سياسَةُ التَعليمِ

المَادَّةُ 165- يَجِبُ أَن يَكُون الأَسَاس الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ منهج التعليم هُوَ العَقِيدَة الإِسْلامِيَّة، فتوضع مَوَادّ الدراسة وطرق التدريس جَمِيعها عَلَى الوجه الَّذِي لا يُحدِث أَيَّ خروج في التعليم عَن هَذَا الأَسَاس.

المَادَّةُ 166- سياسة التعليم هِيَ تكوين العقلية الإِسْلامِيَّة والنفسية الإِسْلامِيَّة، فتوضع جَمِيع مَوَادّ الدراسة الَّتِي يراد تدريسها عَلَى أَسَاس هَذِهِ السياسة.

المَادَّةُ 167- الغاية مِن التعليم هِيَ إيجاد الشَخْصِيَّة الإِسْلامِيَّة وتزويد الناس بالعلوم والمعارف المتَعَلِّقَة بشؤون الحَيَاة. فتُجعَلَ طرق التعليم عَلَى الوجه الَّذِي يحَقّق هَذِهِ الغاية وتُمنَع كل طَرِيقَة تؤدي لغَيْر هَذِهِ الغاية.

المَادَّةُ 168- يَجِبُ أَن تُجعَلَ حِصص العلوم الإِسْلامِيَّة والعربية أسبوعياً، بمقدَارِ حِصص باقي العلوم مِن حَيْث العدد ومن حَيْث الوقت.

المَادَّةُ 169- يَجِبُ أَن يُفرق في التعليم بَيْنَ العلوم التجريبية وما هُوَ ملحَق بِهَا كالرياضيات، وبَيْنَ المعارف الثقافية. فتُدرَّس العلوم التجريبية وما يلحَقّ بِهَا حَسَبَ الحاجة، ولا تُقيَّد في أَيَّ مرحلة مِن مراحل التعليم. أَمَّا المعارف الثقافية فإنها تُؤخذ في المراحل الأولى قبل العالية وفق سياسة معينة لا تَتَنَاقَضُ مَعَ أَفْكَار الإِسْلام وأَحْكَامه. وأَمَّا المرحلة العالية فتُؤخذُ كالعِلْم عَلَى شَرط أَن لا تُؤدي إِلَى أَيِّ خروج عَنِ سياسة التعليم وغايته.

المَادَّةُ 170- يَجِبُ تعليم الثقافة الإِسْلامِيَّة في جَمِيع مراحل التعليم، وأَن يُخصَّص في المرحلة العالية فروع لمختلف المعارف الإِسْلامِيَّة كَمَا يخصص للطب والهندسة والطَبِيِعِيّات وما شاكلها.

المَادَّةُ 171- الفنون والصناعات قد تُلحَق بالعِلْم مِن نَاحِيَة كالفنون التجارية والملاحة والزراعة وتُؤخذ دُونَ قيد أَوْ شَرط، وقد تُلحَق بالثقافة عندما تتأثر بوِجْهَة نَظَرٍ خَاصَّةٍ كالتَصْوِير والنحت فلا تُؤخذ إِذَا ناقضت وِجْهَة نَظَرِ الإِسْلام.

المَادَّةُ 172- يَكُون منهاج التعليم واحداً، ولا يُسمح بمنهاجٍ غَيْر منهاج الدَوْلَة، ولا تُمنع المدَارُس الأهلية ما دامت مُقيدة بمنهاجِ الدَوْلَة، قائمةً عَلَى أَسَاس خطةِ التعليم، مُتحَقِّقةً فِيهِا سياسة التعليم وغايته ،عَلَى أَن لا يكون التعليمُ فيها مختلطاً بين الذُكورِ والإناثِ لا في التلاميذِ ولا في المعلمينَ ، وعلى ألا تختصَّ بطائِفةٍ أو دين أو مذهَبٍ أو عنصُرٍ أو لونٍ.

المَادَّةُ 173- تعليم ما يَلْزَمُ للإِنْسَان في معترك الحَيَاة فرض عَلَى كل فرد ذكراً كَانَ أَوْ أَنثى. فيَكُون التعليم إلزامياً عَلَى الجَمِيع في المرحلتين الأولى والثانية وعَلَى الدَوْلَة أَن توفر ذَلِكَ للجَمِيع مجاناً، ويُفسح مجال التعليم العالي مجاناً للجَمِيع بأقصى ما يتيسر مِن إمكَانَيات.

المَادَّةُ 174- تُهيئ الدَوْلَة المكتَبات والمختبرات وسائر وسائل المعرفة في غَيْر المدَارس والجامعات لتمكين الَّذِين يرغبون مواصَلَة الأبحاث في شتى المعارف مِن فقهٍ وأصولِ فقهٍ وحَدِيثٍ وتفسيرٍ، ومن فِكْرٍ وطبٍ وهندسةٍ وكيمياءٍ، ومن اختراعاتٍ واكتشافاتٍ وغَيْر ذَلِكَ، حَتَّى يُوجَدَ في الأُمَّة حشدٌ مِن المُجْتَهِدين والمبدعين والمخترعين.

المَادَّةُ 175- يُمْنَعُ استغلال التأليف للتعليم في جَمِيع مراحله ولا يملك أحد مؤلفاً كَانَ أَوْ غَيْر مؤلف حقوق الطبع والنشْر إِذَا طبع الكتاب ونشَرَه. أَمَّا إِذَا كَانَ أَفْكَاراً لديه لَمْ تطبع وَلَمْ تُنْشَر فيَجُوز له أَن يأخذ أجرة إعطائها للناس كَمَا يَأْخُذ أجرة التعليم.



السياسة الخَارِجِيَّة

المَادَّةُ 176- السياسة هِيَ رعاية شؤون الأُمَّة داخلياً وخَارِجِيَّاً، وتَكون مِن قبل الدَوْلَة والأُمَّة. فالدَوْلَة هِيَ الَّتِي تُباشر هَذِهِ الرعاية عَمَلياً، والأُمَّة هِيَ الَّتِي تحاسب بِهَا الدَوْلَة.

المَادَّةُ 177- لا يَجُوز لأَيِّ فرد، أَوْ حزب، أَوْ كتلة، أَوْ جَمَاعَة، أَن تَكون لَهُمْ عَلاقَة بأَيِّ دَوْلَة مِن الدول الأَجْنَبِيّة مطلقاً. والعَلاقَة بالدول محصُورَة بالدَوْلَة وحدها، لأَن لها وحدها حَقّ رعاية شؤون الأُمَّة عَمَلياً. وعَلَى الأمة والتكتلات أَن تحاسب الدَوْلَة عَلَى هَذِهِ العلاقة الخَارِجِيَّة.

المَادَّةُ 178- الغاية لا تبرر الواسطة، لأَن الطَرِيقَة مِن جنس الفِكْرة فلا يتوصل بالحرام إِلَى الواجب ولا إِلَى المباح. والوسيلة السِيَاسِيَّة لا يَجُوز أَن تُنَاقِض طَرِيقَة السياسة.

المَادَّةُ 179- المناورات السِيَاسِيَّة ضرورية في السياسة الخَارِجِيَّة، والقوة فِيهِا تكمن في إعلان الأَعْمَال وإخفاء الأهداف.

المَادَّةُ 180- الجرأة في كشف جرائم الدول، وبيان خطر السياسات الزائفة، وفضح المؤامرات الخبيثة، وتحطيم الشخصيات المضلِلة، هُوَ مِن أهم الأساليب السِيَاسِيَّة.

المَادَّةُ 181- يُعتبر إظهار عظمة الأَفْكَار الإِسْلامِيَّة في رعاية شؤون الأفراد والأُمَم والدول مِن أعظم الطرق السِيَاسِيَّة.

المَادَّةُ 182- القضية السِيَاسِيَّة للأُمَّة هِيَ الإِسْلام في قوة شَخْصِيَّة دولته، وإحسان تطبيق أَحْكَامه، والدأب عَلَى حَمْل دعوته إلى العَالَم.

المَادَّةُ 183- حَمْل الدَعْوَة الإِسْلامِيَّة هُوَ المحور الَّذِي تدور حوله السياسة الخَارِجِيَّة، وعَلَى أَسَاسها تُبنى عَلاقَة الدَوْلَة بجَمِيع الدول.

المَادَّةُ 184- عَلاقَة الدَوْلَة بغَيْرها مِن الدول القائمة في العَالَم تَقُوم عَلَى اعتبارات أربعة:

أحدها: الدول القائمة في العَالَم الإِسْلامي تعتبر كأَنَّها قائمة في بلاد واحدة. فلا تُدخَل ضمن العلاقات الخَارِجِيَّة، ولا تُعتبر العلاقات معها مِن السياسة الخَارِجِيَّة، ويَجِبُ أَن يُعَمَل لتوحيدها كُلِّهَا في دَوْلَة واحدة.

ثانيها: الدول الَّتِي بَيْنَنا وبَيْنَها معاهدات اقتصادية، أَوْ معاهدات تجارية، أَوْ معاهدات حسن جوار، أَوْ معاهدات ثقافية، تعامل وفق ما تنص عَلَيْهِ المعاهدات. ولرعاياها الحَقّ في دخول البلاد بالهوية دُونَ حاجة إِلى جواز سفر إِذَا كَانَتْ المعاهدة تنص عَلَى ذَلِكَ، عَلَى شَرط المعاملة بالمثل فعلاً. وتَكون العلاقات الاقتصادية والتجارية معها محدودة بأَشْيَاء معينة، وصفات معينة عَلَى أَن تَكون ضرورية ، ومما لا يُؤَدِّي إِلَى تقويتها.

ثالثها: الدول الَّتِي لَيْسَ بَيْنَنا وبَيْنَها معاهدات و الدول الاستعمارية فعلاً كإنكلترا وأَمْريكا وفرنسا والدول الَّتِي تطمع في بلادنا كروسيا، تعتبر دولاً محاربة حُكْماً، فتُتَّخَذ جَمِيع الاحتياطات بالنسبة لها ولا يصح أَن تنشأ معها أَيَّة علاقات دبلوماسية. ولرعايا هَذِهِ الدول أَن يدخلوا بلادنا ولكن بجواز سفر وبتأشيرة خَاصَّة لكل فرد ولكل سفرة.

رابعها: الدول المحاربة فعلاً كإسرائيل مثلاً يَجِبُ أَن تُتَّخذَ معها حَالة الحرب أَسَاساً لكافة التصرفات وتُعامل وكأَننا وإياها في حرب فعلية سواء أكَانَتْ بَيْنَنا وبَيْنَها هدنة أم لا. ويُمْنَعُ جَمِيع رعاياها مِن دخول البلاد.

المَادَّةُ 185- تُمنع منعاً باتاً المعاهدات العسكرية، وما هُوَ مِن جنسها، أَوْ ملحَق بِهَا كالمعاهدات السِيَاسِيَّة، واتفاقيات تأجير القواعد والمطارات، ويَجُوز عقد معاهدات حسن الجوار، والمعاهدات الاقتصادية، والتجارية، والمالية، والثقافية، ومعاهدات الهدنة.

المَادَّةُ 186- المنظمات الَّتِي تَقُوم عَلَى غَيْر أَسَاس الإِسْلام، أَوْ تَطْبِيق أَحْكَام غَيْر أَحْكَام الإِسْلام، لا يَجُوز للدَوْلَة أَن تشترك فِيهِا، وذَلِكَ كالمنظمات الدولية مثل هيئة الأُمَم، ومحكمة العدل الدولية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وكالمنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية.

rajaab
04-05-2005, 04:49 PM
الأَخْلاق في الإِسْلام



عرف الإِسْلام بأَنَّه الدِين الَّذِي أَنزله الله عَلَى سَيِّدَنا مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وعَلَى آله وسَلَّمَ، بتَنْظِيم عَلاقَة الإِنْسَان بخَالِقه، وبنفسه، وبغَيْره مِن بني الإِنْسَان. وعَلاقَة الإِنْسَان بخَالِقه تَشْمُلُ العقائد والعبادات، وعَلاقَة الإِنْسَان بنفسه تَشْمُلُ الأَخْلاق والمطعومات والملبوسات وعَلاقَتُه بغَيْره مِن بني الإِنْسَان تَشْمُلُ المعاملات والعقوبات.

و الإِسْلام يعالج مشاكل الإِنْسَان كُلُّهَا، وينَظَرَ للإِنْسَان كلاً لا يتجزأ، ولذَلِكَ يعالج مشاكله بطَرِيقَة واحدة، وقد بنى نِظَامه عَلَى أَسَاس رُوحي، هُوَ العَقِيدَة، فكَانَتْ النَاحِيَة الرُوحيَّة هِيَ أَسَاس حَضَارَته، وهي أَسَاس دولته، وهي أَسَاس شَرّيعته.

ومع أَن الشَرّيعة الإِسْلامِيَّة فَصْلَت الأَنظمة تفصيلاً دقيقاً، كأَنظمة العبادات والمعاملات والعقوبات، فإنها لَمْ تجَعَلَ للأَخْلاق نِظَاماً مفَصْلاً، وإنما عالجت أَحْكَام الأَخْلاق عَلَى اعتبار أَنها أَوَامِر ونواه مِن الله، دُونَ النَظَرَ إِلَى تفصيل أَنَّها أَخْلاق يَجِبُ أَن تعطى جانباً خاصاً مِن العناية يمتاز عَلَى غَيْره، بَلْ هِيَ مِن حَيْث تفصيل الأَحْكَام، أقل تفصيلاً مِن غَيْرها، وَلَمْ تجَعَلَ لها في الفقه باباً خاصاً، فلا نجد في كُتُب الفقه الَّتِي تحوي الأَحْكَام الشَرْعيّة باباً يسمى باب الأَخْلاق. وَلَمْ يعن الفقهاء والمُجْتَهِدين في أَمْر الأَحْكَام الخلقية بالبحث والاستنباط.

والأَخْلاق لا تؤثر عَلَى قِيَام المجتمع بحَال، لأَن المجتمع يَقُومُ عَلَى أَنظمة الحَيَاة، وتؤثر فِيهِ المشاعر والأَفْكَار، وأَمَّا الخلق فلا يُؤَثِّرُ عَلَى قِيَام المجتمع، ولا في رقيه أَوْ انحطاطه، بَلْ المؤثر هُوَ العرف العام الناجم عَنِ المَفَاهِيم عَنِ الحَيَاة، والمسير للمجتمع لَيْسَ الخلق، وإنما هِيَ الأَنظمة الَّتِي تُطَبِّق فِيهِ، والأَفْكَار والمشاعر الَّتِي يحَمْلها الناس والخلق ذاته ناجم عَنِ الأَفْكَار والمشاعر ونتيجة لتَطْبِيق النِظَام.

وعَلَى ذَلِكَ فلا يَجُوز أَن تحَمْل الدَعْوَة إِلَى الأَخْلاق في المجتمع، لأَن الأَخْلاق نتائج لأَوَامِر الله، فهي تأتي مِن الدَعْوَة إِلَى العَقِيدَة، وإلى تَطْبِيق الإِسْلام بصفة عَامَّة. ولأَن في الدَعْوَة إِلَى الأَخْلاق قلباً للمَفَاهِيم الإِسْلامِيَّة عَنِ الحَيَاة، وإبعاداً للناس عَنِ تفهم حَقّيقة المجتمع ومقوماته، وتخديراً لَهُمْ بالفضائل الفردية يُؤَدِّي إِلَى الغفلة عَنِ الوسائل الحَقّيقِيّة لرقي الحَيَاة.

ولهذا كَانَ مِن الخطر أَن تجَعَلَ الدَعْوَة الإِسْلامِيَّة دَعْوَة إِلَى الأَخْلاق، لأَنَّها توهم أَن الدَعْوَة الإِسْلامِيَّة دَعْوَة خلقية، وتطمس الصُورَة الفِكْريّة عَنِ الإِسْلام، وتحول دُونَ فهم الناس له، وتصرفهم عَنِ الطَرِيقَة الوحيدة الَّتِي تؤدي إِلَى تَطْبِيقه وهي قِيَام الدَوْلَة الإِسْلامِيَّة. والشَرّيعة الإِسْلامِيَّة حِينَ عالجت عَلاقَة الإِنْسَان بنفسه بالأَحْكَام الشَرْعيّة المتَعَلَّقَة بالصفات الخلقية، لَمْ تجَعَلَ ذَلِكَ نِظَاماً كالعبادات والمعاملات، وإنما راعت فِيهِا تَحَقّيق قِيَم معينة، أَمْر الله بِهَا، كالصدق والأَمَّانة وعدم الغش والحسد، فهي تحصل مِن شَيْء واحد هُوَ الأَمْر مِن الله تعالى بالقِيَمة الخلقية، كالمكارم والفضائل.

فالأَمَّانة خلق أَمْر الله به، فيَجِبُ أَن تراعى قِيَمتها الخلقية حِينَ القِيَام بِهَا، ولذَلِكَ تتحَقّق بِهَا القِيَمة الخلقية وتسمى أَخْلاقاً. وأَمَّا حصول هَذِهِ الصفات مِن نتائج الأَعْمَال كالعفة الناتجة عَنِ الصَلاة، أَوْ حصولها مِن وجوب مراعاتها عِنْدَ القِيَام بالمعاملات كالصدق في البيع، فلا تحصل فِيهِ قِيَمة خلقية، لأَنَّها لَمْ تكن مقصودة مِن القِيَام بالعَمَل، بَلْ كَانَتْ هَذِهِ الصفات الحاصِلَة مِن نتائج الأَعْمَال، ومن وجوب المراعاة، صفات خلقية للمؤمن حِينَ يعبد الله، وحِينَ يَقُومُ بالمعاملات. فإن المؤمن حَقّق بالقصد الأول القِيَمة الرُوحيَّة مِن الصَلاة وحَقّق بالقصد الثاني القِيَمة المَادِّيَّة مِن التجارة، واتصف في نفس الوقت بالصفات الخلقية.

وقد بَيْنَ الشَرْع الصفات الَّتِي يعتبر الاتصاف بِهَا خلقاً حسناً والَّتِي يعتبر الإتصاف بِهَا خُلُقاً سيئاً، فحثَّ عَلَى الحَسَنِ مِنْهَا ونهى عَنِ السيء : حث عَلَى الصدق، والأَمَّانة، وطلاقة الوجه، والحياء، وبر الوالدِين، وصِلَة الرحم، وتفريج الكربات، وأَن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وأعتبر كل ذَلِكَ ومثله حثاً عَلَى إتباع أَوَامِر الله. ونهى عَنِ أضدادها كالكَذِب والخيانة والحسد والفجور وأمثالها، وأعتبر ذَلِكَ ومثله نهياً عما نهى الله عنه.

والأَخْلاق جزء مِن هَذِهِ الشَرّيعة، وقسم مِن أَوَامِر الله ونَوَاهِيه، لا بُدَّ مِن تَحَقّيقها في نفس المُسْلِم. ليتم عَمَله بالإِسْلام، ويكمل قِيَامه بأَوَامِر الله. غَيْر أَن الوصول إليها في المجتمع كله يَكُون عَنِ طَرِيقَة إيجاد المشاعر الإِسْلامِيَّة، والأَفْكَار الإِسْلامِيَّة، وبتَحَقّيقها في الجَمَاعَة تتحَقّق في الأفراد ضرورة، وبديهي أَن الوصول إليها لا يَكُون بالدَعْوَة إِلَى الأَخْلاق، بَلْ في الطَرِيقَة المشار إليها مِن إيجاد المشاعر والأَفْكَار، غَيْر أَن البدء يقضي بإعداد كتلة بالإِسْلام كله، يَكُون فِيهِا الأفراد كأجزاء في جَمَاعَة، لا كأفراد مستقلين، ليحَمْلوا الدَعْوَة الإِسْلامِيَّة الكاملة في المجتمع، فيُوجَدُوا المشاعر الإِسْلامِيَّة، والأَفْكَار الإِسْلامِيَّة، فيدخل الناس في الأَخْلاق أفواجاً تبعاً لدخولهم في الإِسْلام أفواجاً. وينبغي أَن يفهم جلياً أَن قولنا هَذَا يجَعَلَ الأَخْلاق لازمة لزوماً حتمياً لأَوَامِر الله، وتَطْبِيق الإِسْلام، ويؤكد ضرورة اتصاف المُسْلِم، بالأَخْلاق الحسنة.

وقد بَيْنَ الله تعالى في كثير مِن سور القُرْآن الكريم الصفات الَّتِي يَجِبُ أَن يتصف بِهَا الإِنْسَان، والَّتِي يَجِبُ أَن يسعى إليها. وهذه الصفات هِيَ العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأَخْلاق، ولا بُدَّ أَن تَكَوْن هَذِهِ الصفات الأربع مجتمعة، قال تعالى في سورة لقمان }وإذ قال لقمان لابنه وهُوَ يعظه يا بني لا تشَرّك بالله فإن الشَرّك لظلم عظيم، ووصينا الإِنْسَان بوالديه، حَمْلته أمه وهناً عَلَى وهن وفصاله في عامين أَن اشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك عَلَى أَن تشَرّك بي ما لَيْسَ لك به عِلْم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدُنْيَا معروفاً، واتبع سَبِيل مِن أَناب إلي، ثُمَّ إلي نرجعكم فأَنبئكم بما كنتم تعَمَلون. يا بني إنها إن تك مثقال حبة مِن خردل فتكن في صخرة، أَوْ في السماوات، أَوْ في الأرض، يأت بِهَا الله، إن الله لطيف خبير. يا بني أقم الصَلاة وأَمْر بالمعروف وإنه عَنِ المنكر، واصبر عَلَى ما أصابك، إن ذَلِكَ مِن عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد في مشيك واغضض مِن صوتك إن أَنكر الأصوات لصوت الحمير{. ويقول الله تعالى في سورة الفرقان } وعباد الرحمن الَّذِين يمشون في الأرض هُوَناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. والَّذِين يبَيْتون لربهم سجداً وقِيَاماً. والَّذِين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كَانَ غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً. والَّذِين إِذَا أَنفقوا لَمْ يسرفوا وَلَمْ يقتروا وكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قواماً. والَّذِين لا يدعون مَعَ الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس الَّتِي حرم الله إلا بالحَقّ ولا يزنون ومن يفعل ذَلِكَ يلق أثاماً. يضاعف له العذاب يَوْم القِيَامة ويخلد فِيهِ مهاناً. إلا مِن تاب وآمن وعَمَل عَمَلاً صالحاً فأولئك يبدل الله أَعْمَالهم سيئا تهم حسنات، وكَانَ الله غفوراً رحيماً. ومن تاب وعَمَل صالحاً فَإِنَّهُ يتوب إِلَى الله متاباً. والَّذِين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللهُوَ مروا كراما والَّذِين إِذَا ذكروا بآيات ربهم لَمْ يخروا عَلَيْهِا صماً وعمياناً. والَّذِين يقولون ربنا هب لنا مِن أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. ألئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فِيهِا تحية وسلاماً، خالدِين فِيهِا حسنت مستقراً ومقاماً{. ويقول الله تعالى في سورة الإسراء } وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدِين إحساناً. إِمَّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أَوْ كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة. وقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صغَيْراً. ربكم أعِلْم بما في نفوسكم إن تَكَوْنوا صالحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ للأوابَيْنَ غفوراً، وآت ذا القربى حَقّه والمسكين وابن السَبِيل ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كَانَوا إخوان الشياطين وكَانَ الشيطان لربه كفوراً، وإما تعرضن عَنْهُم ابتغاء رحمة مِن ربك ترجوها فقل لَهُمْ قولاً ميسوراً. ولا تجَعَلَ يدك مغلولة إِلَى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقسط إنه كَانَ بعباده خبيراً بصيراً. ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كَانَ خطئاً كبيراً. ولا تقربوا الزنا إنه كَانَ فاحشة وساء سَبِيلاً. ولا تقتلوا النفس الَّتِي حرم الله إلا بالحَقّ ومن قتل مظلوماً فقد جَعَلَنا لوليه سُلْطَانُاً فلا يسرف في القتل إنه كَانَ منصوراً. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كَانَ مسؤولاً. وأوفوا الكيل إِذَا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقِيَم ذَلِكَ خَيْر وأحسن تأويلاً. ولا تقف ما لَيْسَ لك به عِلْم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كَانَ عنه مسؤولاً. ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً. كل ذَلِكَ كان سيئة عِنْدَ ربك مكروهاً{.

فهذه الآيات في هَذِهِ السور الثلاث كل مِنْهَا وحدة كاملة تعرض الصفات المختلفة. تجلو صُورَة المُسْلِم وتبَيْنَ الشَخْصِيَّة الإِسْلامِيَّة في ذاتها المتميزة عَنِ غَيْرها ويُلاحَظُ فِيهِا أَنَّها أَوَامِر ونواه مِن الله تعالى، مِنْهَا أَحْكَام تتَعَلَّقَ بالعَقِيدَة، كَمَا أَن مِنْهَا أَحْكَاماً تتَعَلَّقَ بالعبادات، وأَحْكَاماً تتَعَلَّقَ بالمعاملات، وأَحْكَاماً تتَعَلَّقَ بالأَخْلاق، ويُلاحَظُ أَنَّها لَمْ تقتصر عَلَى صفات خلقية، بَلْ اشتملت عَلَى العَقِيدَة، والعبادات، والمعاملات، كَمَا اشتملت عَلَى الأَخْلاق. وهي الصفات الَّتِي تَكَوْن الشَخْصِيَّة الإِسْلامِيَّة، والاقتصار عَلَى الأَخْلاق لا يُوجَدُ الرجل الكامل، والشَخْصِيَّة الإِسْلامِيَّة، وكي تحَقّق الغاية الَّتِي وجدت مِن أجلها لا بُدَّ أَن تَكَوْن مبنية عَلَى الأَسَاس الرُوحي، وهُوَ العَقِيدَة الإِسْلامِيَّة، وأَن يَكُون الاتصاف بِهَا مبنياً عَلَى هَذِهِ العَقِيدَة. وعَلَى ذَلِكَ فالمُسْلِم لا يتصف بالصدق لذات الصدق، بَلْ يتصف به لأَن الله أَمْر به. وإن كَانَ يراعي تَحَقّيق القِيَمة الرُوحيَّة حِينَ يصدق. فالأَخْلاق لا يتصف بِهَا لذاتها، بَلْ لأَن الله أَمْر بِهَا.

ولهذا لا بُدَّ أَن يتصف المُسْلِم بصفاتها، وأَن يَقُومُ بِهَا طوعاً وانقيادا لأَنَّها مما يتصل بتقُوَى الله.

وبما أَنَّها تأتي مِن نتائج العِبَادَة} إن الصَلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر{ ومما يَجِبُ أَن يُرَاعَى في المعاملات ((الدِين المعاملة)) علاوة عَلَى كَوْنها وحدها أَوَامِر ونَوَاهِي معينة، فإن ذَلِكَ يثبتها في نفس المُسْلِم، ويجَعَلَها شيمة لازمة. وعَلَيْهِ فقد كَانَ اندماج الأَخْلاق بباقي أَنظمة الحَيَاة-مَعَ كَوْنها صفات مستقلة-كفيلاً بأَن يهيئ المُسْلِم تهيئة صالحة، لا سيما وأَن الاتصاف بالخلق هُوَ إجابة لأَمْر الله تعالى واجتناب لنَوَاهِيه، لا لأَن هَذَا الخلق ينفع أَوْ يضر في الحَيَاة. وهذا مما يجَعَلَ الاتصاف بالخلق الحسن دائمياً وثابتاً. ما ثبت المُسْلِم عَلَى القِيَام بتَطْبِيق الإِسْلام، ولا يدور حَيْث دَارُت المَنْفَعَة. لأَنَّه لا تقصد منه النَفْعِيَّة، بَلْ يَجِبُ أَن تستبَعْد منه، لأَن المقصود منه هُوَ القِيَمة الخلقية فقط. لا القِيَمة المَادِّيَّة أَوْ الإِنْسَانيَّة أَوْ الرُوحيَّة، بَلْ لا يَجُوز أَن تدخل هَذِهِ القِيَم فِيهِ لئلا يحصل اضطراب في القِيَام به. أَوْ الاتصاف به. ومما يَجِبُ التنبيه إِلَيْهِ أَنَّه يَجِبُ استبعاد القِيَمة المَادِّيَّة عَنِ الخلق، واستبعاد أَن يَكُون القِيَام به مِن أجل المنافع والفوائد، لأَن ذَلِكَ خطر عَلَيْهِ.

والحاصل: أَن الأَخْلاق لَيْسَت مِن مقومات المجتمع، بَلْ هِيَ مِن مقومات الفرد. ولذَلِكَ لا يصلح المجتمع بالأَخْلاق، بَلْ يصلح بالأَفْكَار الإِسْلامِيَّة والمشاعر الإِسْلامِيَّة وبتَطْبِيق الأَنظمة الإِسْلامِيَّة. ومع أَن الأَخْلاق مِن مقومات الفرد، ولكنها لَيْسَت هِيَ وحدها، ولا يَجُوز أَن تَكَوْن وحدها، بَلْ لا بُدَّ أَن تَكَوْن معها العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأَخْلاق. ولذَلِكَ لا يعتبر مَنْ كَانَتْ أَخْلاقه وعَقِيدَته غَيْر إِسْلامِيَّة، لأَنَّه يَكُون حِينَئذ كافراً، ولَيْسَ بَعْد الكفر ذنب. وكذَلِكَ مَنْ كَانَتْ أَخْلاقه حسنة وهُوَ غَيْر قائم بالعبادات، أَوْ غَيْر سائر في معاملاته حَسَبَ أَحْكَام الشَرْع. ومن هنا كَانَ لزاماً أَن يُرَاعَى في تقويم الفرد وُجُود العَقِيدَة، والعبادات، والمعاملات، والأَخْلاق. ولا يَجُوز شَرْعاً العناية بالأَخْلاق وحدها وترك باقي الصفات، بَلْ لا يَجُوز أَن يعنى بشَيْء ما قبل الاطمئنان إِلَى العَقِيدَة. والأَمْر الأَسَاسِيّ في الأَخْلاق هُوَ أَنَّه يَجِبُ أَن تَكَوْن مبنية عَلَى العَقِيدَة الإِسْلامِيَّة، وأَن يتصف المؤمن بِهَا عَلَى أَنَّها أَوَامِر ونواه مِن الله تعالى.

انتهى الكتاب