المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلامُ والعلمانيةُ .. شركاء أم فرقاء



الجبل الشامخ
08-05-2005, 06:54 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الإسلامُ والعلمانيةُ .. شركاء أم فرقاء
بقلم : على عبدالعال


كشفت المحاولات المتوالية على مدى عقود، أن الكيان الإسلامى، كان ـــ ولازال ـــ قادراً على أن يلفظ أى جسم غريب عنه ولا يقبله.. ولقد أبت الأمةُ الإسلاميةً، التجربةَ العلمانيةَ، ولفظت كذلك الداعين لها.

حيث جاءت هذه التجربة، مناقضة لطبيعة القيم والأسس التى قامت عليها الأمة، والتى شكلها الإسلامُ منذ أكثر من أربعة عشر قرناً فى وجوه كثيرة .. وإن استطاعت ببعض مظاهرها أن تخدع الذين لا يعرفون الإسلام حق المعرفة.

لم يكن هذا النظام الوافد، إلا عاملاً من عوامل تهديم المجتمع المسلم، وتمزيق أوصاله، وضربه فى مقتل .. حيث فرض عليه القوانين البشرية الوضعية، واخضعه لنظام الربا، وأباح فيه أسلوباً من التعامل قريباً من الإباحية وحمى التفسخ، وأتاح لكل عوامل الفساد والإنحلال والفوضوية أن تنمو فى حياطة القانون وحمايته.

فمنذ أن أتى الفكر الغربى بـ (العلمانية) كنظرية دنيوية، للخلاص من أسر الكنيسة، وتسلط ــ ماعرف ــ برجال الدين .. والشرائعُ السماويةُ فى صراع وعراك مع هذه النظرية لايكاد ينتهى.

وما أن أنتقل هذا السرطانُ إلى بلاد المسلمين، وتلوث به الكثيرون من المنتسبين إلى الأمة، إلا وتعالت صيحاتُ اعتماده كمنهج للمجتمع المسلم، وبُذلت محاولات عدة، كان الهدف منها تطويع الإسلام، وترويضه لقبول العلمانية، كمقدمة للإجهاز على الدين والقرآن معاً، واسقاطهما من ذاكرة الأمة إلى الأبد.

ونحن هنا نطرح بعض الأدلة، التى تؤكد على أن الأسس التى وُضعت للجمع بين الإسلام والعلمانية، فى إطار واحد، يصلح للتطبيق داخل المجتمع المسلم، أسس باطلة من الألف إلى الياء.

ولما كان من المستحيل أن يجمع الرجل بين اليهودية والمسيحية فى آن واحد، أو أن يجمع بينهما وبين الإسلام، فإن الجمع بين الإسلام والعلمانية أكثر إستحالة.

وإن إيمان الرجل الكامل بالإسلام، لابد أن يخرجه عن العلمانية، وإن إيمانه الكامل بالعلمانية لابد أن يخرجه كذلك عن الإسلام.

فنقول : العلمانية (secularism) وترجمتها : "اللادينية" أو "الدنيوية" أو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد.

تقول عنها دائرة المعارف البريطانية مادة (secularism) : " هى حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الإهتمام بالآخرة، إلى الإهتمام بهذه الدنيا وحدها" .. ومن ثم فالمدلول الصحيح للعلمانية هو "إقامة الحياة على غير الدين" .

و(العلمانية) نظرية بشرية، من صنع الإنسان، فهى بنتُ العقل، واختراع آدمى فى المقام الأول.

لجأت إليها الحضارة الغربية، كرد فعل على أوضاع خاطئة، عانى إنسانُ هذه الحضارة من قسوتها وظلمها المفرط له.

أتت كإنقلاب على الدين وتعاليمه، وكإنفلات من أسر الأوصياء عليه، هدفها تحقيق المصلحة والمنفعة القريبة لهذا الإنسان فى الحياة الدنيا، ورفع كل القيود عن كاهله ـــ بما فيها قيود الدين والأخلاق ــ وتحريره من شريعة الله.

أما الإسلام فهو دين ربانى، شريعة وعقيدة، منهج حياة للدنيا والآخرة، أرتضاه الله للبشرية جمعاء، أوحى به إلى خاتم رسله ــ صلى الله عليه وسلم ــ وأمره بتبليغه، وختم به الشرائع السابقة عليه ... له مصدران : القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.

للتفكير العلمانى مسلمتين مجافتين للحق والحقيقة معاً :

1ــ عالمية الحضارة الغربية ـــ من منطلق إستعلائى ـــ وما تقدمه من علوم إنسانية واجتماعية وطبيعية، وحتمية التواصل معها، والنقل عنها دون قيد أو شرط .

2ــ وإن من شروط التقدم : القطيعة مع تراث الأمة الإسلامية وعقيدتها وهويتها، والتنكر لهذه الهوية جملة وتفصيلا حتى يمكن اللحاق بركب الغرب المتقدم.

وذلك باعتبار الدين القوة المعطلة للحياة، ومن ثم يجب أن يظل شأناً خاصاً بين الإنسان وما يعبد، وذلك فى أحسن الحالات، وإلا فلا حاجة إليه أبداً، وليخرج من الحياة الإنسانية خروج لا رجعة بعده.

قامت العلمانية على فصل الدين عن الحياة، واعتقال الشرائع خلف جدران الكنيسة، ووضع الدين فى موضع المتفرج من الأحداث الحياتية .. " متفرج فى صمت".

أما الإسلام فهو المنهج الإلاهى الشامل، الذى أنزله اللهُ لتخرج به الإنسانيةُ من عبادة العباد، إلى توحيد الله وحده لا شريك له .. وأحكام الإسلام تلزم المسلمَ منذ الولادة إلى الوفاة، فهو يُولد ويستقبل الحياة بلا إله إلا الله، ويفارق الحياة على لا إله إلا الله، ويحيا بينهما بلا إله إلا الله .. يأكل ويشرب وينام ويتزوج ويعمل ويقاتل بلا إله إلا الله ، قال تعالى : " قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له " الأنعام 162 ، .... " قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون" .. والإسلام نظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع على السواء، وحدد العلاقة بين الراعى والرعية، ونظم كذلك العلاقات الخارجية للدولة المسلمة مع غيرها من الدول.

استفادة العلمانية من ثغرة ( الثنائية ) التى تبنتها الكنيسة بين الله تعالى وقيصر : " دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله " .. حيث رفعت شعار تقسيم النفوذ بين الله وقيصر، أو بين السلطة الدينية، والسلطة الدنيوية . وهو ما دفع (ويل ديورانت) إلى أن يصف إله الكنيسة بقوله : " إله مسكين، أشبه بملك الإنكليز، يملك ولا يحكم " .. وهو ما أنتهى بالعلمانية إلى أن تنفض يدها من السلطتين الدينية والدنيوية على السواء، لتصنع حياة بدون أى سلطة، ثم نادت : " أشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" .

أما الإسلام فهو لايقبل بهذه الثنائية، والعقيدة الإسلامية أساسها توحيد الله، لأن الأمر كله لله، وقيصر الإسلام لم يكن نداً لله يوماً ما، بل هو عبد من عباده، لا فضل له على سائر آحاد المسلمين.

قال تعالى : "ولايُشرك فى حكمه أحدا" .. " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" .وإن التوحيد، لهو القضية التى احتدمت فيها المعركة بين الرسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ وبين أقوامهم.

وانقسمت البشرية معه إلى قسمين .. موحدين ومشركين : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" الأنبياء.

العلمانيةُ منهج دنيوى فى الأساس، لارغبة لديه فى الآخرة، إذ أنها غيب بعيد أخبر عنه الدين، والعلمانية ليست مهتمة بما وراء الطبيعة، وما يخبر عنه الدين مما لا تراه، حيث أنها جاءت لتحقيق منتهى اللذة فى الحياة الدنيا.

أما الإسلامُ، فهو الدين الذى جعل نصب عينه الدنيا والآخرة معاً، وإن نظر إلى الدنيا على أنها ليست بدار مستقر، وأنها دار معاش للآخرة، يجب على الإنسان أن يعمرها لأنه مأمور بتعميرها من الله، لا لأن فى تعميرها تحقيق للذته فحسب، وهو يحتسب الأجر فى الآخرة على الله .. كما أن الإيمان بالغيب، أحد أركان الإيمان فى العقيدة الإسلامية.

نشأت العلمانيةُ، على خلفية الصراع الذى وقع بين الكنيسة والعلم، وما نتج عنه من مطاردة رجال الدين للعلماء الطبيعيين، واحتجت على استيلاء الكنيسة على مقدرات المجتمع، واحتكار ثرواته، وأبت وصاية رجل الدين على العلاقة بين المؤمن وربه، والمتاجرة بصكوك الغفران.

أما الإسلام فلم يسجل عليه التاريخ حادثة صراع واحدة بينه وبين حقائق العلم، وكيف تكون نفرة بين العلم والدين، وحلقات ودروس الطب والفلك والرياضة، بل والشعر والأدب، كانت كلها تُعقد فى الجوامع جنباً إلى جنب مع حلقات الحديث والفقه والتفسير ؟!

والطبيب والفلكى والرياضى يجلس جنباً إلى جنب مع الفقيه وكبير القضاة فى مجلس الخليفة ؟ والمراصد وبيوت الحكمة تُغدق عليها الأموال من بيت مال المسلمين ؟ .. والإسلام حث على طلب العلم ورفع الجهل عن الإنسان بكل سبيل متاح.

وبينما أقترنت النهضةُ العلميةُ لدى الغرب بإنفكاك هذه الحضارة من أسر الدين، فإن المسلمين لم تقم لنهضتهم العلمية قائمة، إلا فى ظلال تمسكهم بهذه العقيدة .

ولم يعرف الإسلامُ مصطلح "رجال الدين" ، ولا وصايتهم على الشرائع، أو وساطتهم بين الله وخلقه .. بل يوجد لدى الإسلام "العالم فى الدين" المتخصص فى دراسة الشريعة، والملتزم بمبادئها وأخلاقياتها، وهو أحد المسلمين وإن تبحر فى العلم وبلغ فيه مبلغاً، ولا فضل له على أدنى آحاد الأمة، مهما كان علمه، كما أن علماء الإسلام قاطبة لاحق لهم فى وضع حرف أو حذفه من أحد مصادر الشريعة مهما علت منزلتهم.

والعلاقة بين الله وعباده، علاقة لا دخل لعالم ولا لشيخ ولا لفقيه فيها، فمن أراد التوبة من أى معصية، فليس أمامه سوى التوجه إلى الله وحده ـــ بعد الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها ـــ وطلب المغفرة منه سبحانه، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء .. فلا واسطة بين الله وعباده، والإسلام لا يعرف الكهنوت و لا الأسرار .

يقول (اتين دينيه) الذى اعتنق الإسلام : "الوسيلة هى إحدى كبريات المسائل التى فاق بها الإسلام جميع الأديان، إذ ليس بين الله وعباده وسيط ، وليس فى الإسلام قساوسة ولا رهبان" .

قال تعالى : " وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " .... " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله" .

يقع المسلم فى ظل النظرية العلمانية، فى تناقض حتمى، إذ أنها لا تعترف بعبودية الإنسان لخالقه، وتنظر إلى الإسلام نظرة بعيدة كل البعد عن جوهره والحق الذى جاء به.

فالإسلام فى الرؤية العلمانية إرث ثقافى وحضارى، أو ما تركه القدماء من أطلال للمحدثين، وتختزله فى مجموعة من الطقوس والشعائر الدورية، التى لا مردود لها على النفس والأخلاق، والسلوك الإجتماعى .. ذلك أنها لا تعبأ بميزان الحرام والحلال أو الجنة والنار.

ولا تقبل العلمانية باعتبار العقيدة الإسلامية، هى المحك فى تحديد العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض، وبين المسلمين وغيرهم من الأمم .. ذلك لأنها لا تعترف بشمولية الإسلام، ومن ثم فهى لا تقر بأن يدير الإسلامُ شئون الحياة ويسير أمور المجتمع، وتحتكم الإنسانية إلى شريعته.

فالعلمانية لايمكن أن تقف من الإسلام موقف المحايد، لأن هدفها الأول والأخير هو تفريغ هذا الدين من مضمونه.

وتسعى من جانب آخر لأن يقنع الإسلامُ بهامش صفحة الحياة، وأن يكتف بزاوية أو ركن صغير فى جريدة، أو بخمسة دقائق من البث المتلفز يومياً قبل نشرة الأخبار.

وإن المتتبع للكتابات العلمانية على مدى عقود يتبين له مدى خلو هذه الكتابات من أى توقير لدور الدين الحقيقى فى حياة الفرد والمجتمع، بل وتتضح أمامه إشارات إزدراءه وتهميشه.

والإسلام بطبيعته، وعلو عقيدته، وقوة الحق الذى معه، لا يرض بهذه الدونية، ولايقبل هذا التهميش، لأن الإسلام ليس ضيفاً على العلمانية، بل هو صاحب الدار، وهو هوية هذه الأمة وعقيدتها التى لا مجال فى التخلى عنها.

ودمتم في رعاية الله