الجميلي
23-05-2005, 10:15 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
تقرر في الأصول أن الضرر الخاص يُـتحمل لدفع الضرر العام ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، وأنه إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً ، وأنه يُـختار أهون الشرين .
وقد تبين لكل عاقل أن ضرر ترك الجهاد وتعطيله أعظم بما لا مزيد عليه في الدين والدنيا مما قد يترتب على الجهاد من ضرر يلحق البعض في نفس أو مال أو نحو ذلك ، مع كون هذا الضرر هو من الضرر الخاص مقارنة بالفواجع والطوام التي تضرب الأمة كلها في دينها ودنياها
إن مشروعية رمي الكفار المحاربين بكل ما يمكن من السلاح وإن اختلط بهم من لا يجوز قتله من المسلمين تقررت بــ(أدلة خاصة ، بالإضافة للقواعد العامة التي سبق تقريرها ) وهذه الأدلة هي :
أولاً : ما قرره جماهير الفقهاء من رمي الكفار المحاربين حال تترسهم بالمسلمين ،
وهو ما يعرف بـ( مسألة الترس ) والمراد بالتترس هنا , أن يتخذ العدو طائفة من المسلمين بمثابة الترس – وهو الدرع – يدفع به عن نفسه استهداف المجاهدين له بالقتل ، وقد ذهب جماهير العلماء إلى مشروعية رمي الكفار المحاربين في هذه الحالة وإن ترتب على ذلك قتل المُتترّس بهم من المسلمين يقيناً ، لضرورة دفع عادية الكفار على المسلمين وعدم تكمن التوصل إلى قتل الكفار المحاربين إلا بذلك ، كما ذهب الأحناف والمالكية بجواز ذلك وإن لم تدع ضرورة إليه .
ومن فقه الأحناف : جاء في متن البداية - أشهر متون الأحناف- ( وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو الأسارى لم يكّفوا عن رميهم ، ويقصدون بالرمي الكفار )
قال شارح البداية : ( ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر ؛ لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذّب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ، ولأنه قل ما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسد بابه ، وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو الأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينّا ويقصدون بالرمي الكفار ؛ لأنه إن تعذر التمييز فعلاً فلقد أمكن قصداً والطاعة بحسب الطاقة ). انتهى كلامه رحمه الله (17)
وقال الكاساني في بدائع الصنائع : ( ولا بأس برميهم بالنبال وإن علموا أن فيهم مسلمين من الأسارى و التجار لما فيه من الضرورة ، إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير أو تاجر فاعتباره يؤدي إلى انسداد الجهاد ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون المسلمين ؛ لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق ، وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين ، فلا بأس بالرمي إليهم لضرورة إقامة الفرض لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال ) . انتهى كلامه رحمه الله (18)
ومن فقه المالكية جاء في متن مختصر خليل : ( وإن تترسوا بذرية تُـركوا إلا لخوف ، ولمسلم لم يقصد الترس إن لم يُـخف على أكثر المسلمين ) . (19)
قال في الشرح الكبير : ( وإن تترسوا بمسلم قوتلوا ولم يُـقصد الترس بالرمي وإن خفنا على أنفسنا لأن دم المسلم لا يُباح بالخوف على النفس إن لم يُخف على أكثر المسلمين ، فإن خيف سقطت حرمة الترس وجاز رميهم ) . انتهى كلامه رحمه الله (20)
ومن فقه الشافعية ، قال النووي رحمه الله في روضة الطالبين : ( لو تترس الكفار بمسلمين من الأسارى وغيرهم نُظر ، إن لم تُدع إلى رميهم واحتمل الحال الإعراض عنهم لم يجز رميهم ، وإن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم فوجهان : أحدهما لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم ؛ لأن غايته أن نخاف على أنفسنا ، ودم المسلم لا يُباح بالخوف بدليل صورة الإكراه ) . انتهى كلامه رحمه الله
فقياس هذه الحالة على صورة الإكراه غير متجه البتة لأن المكره على قتل غيره يهدف إلى دفع الضرر الخاص عن نفسه ، وليست نفسه بأولى من نفس غيره ، أما هنا فالهدف هو دفع الضرر العام عن الأمة جميعاً ، في دينها قبل دنياها ، وليس للمجاهد الرامي حظ خاص لنفسه من قريب أو بعيد .
ومن فقه الحنابلة ، قال ابن قدامة رحمه الله في الكافي : ( وإن تترسوا بأسارى المسلمين أو أهل الذمة لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب والخوف على المسلمين لأنهم معصومون لأنفسهم فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة ، وفي حال الضرورة يُباح رميهم لأن حفظ الجيش أهم ). انتهى كلامه رحمه الله (23)
وقال ابن مفلح في المبدع : ( وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم كأن تكون الحرب غير قائمة ، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو من أمن من شرهم إلا أن يُـخاف على المسلمين مثل كون الحرب قائمة أو لم يُـقدر عليهم إلا بالرمي فيرميهم ، نص عليه للضرورة ). انتهى كلامه رحمه الله (24)
يتحصل لنا من تلك النصوص السابقة عن فقهاء وأئمة المذاهب المختلفة :
أولاً : أن الجميــع متفقون على جواز رمي الكفار المحاربين حال تترسهم بالمسلمين وإن تيقنّا قتل
المُتترس بهم عند الخوف على المسلمين أن ينزل بهم ضرر من أعدائهم من نكاية أو هزيمة .
ثانياً : أن الأحناف والشافعية في الصحيح عندهم ، والحنابلة في أحد القولين على جواز الرمي في تلك الحالة إذا كانت الحرب قائمة ، أو لم يـُـقدر عليهم إلا بذلك وإن لم نخف على المسلمين .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يُقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار ، ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضاً في أحد قولي العلماء ، ومن قُتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله وهو في الباطن مظلوم كان شهيدا وبُعث على نيته ولم يكن قتله أعظم فساداً من قتل من يُقتل من المؤمنين المجاهدين ) . انتهى كلامه رحمه الله (25)
والكلام الأخير من شيخ الإسلام ظاهره ترجيح القول بجواز الرمي ولو لم نخف على المسلمين .
خامساً : سبق معنا قول القرطبي : ( فإن لم يفعل قتل الكفار الترس ) أما في حالتنا اليوم فإن لم يفعل فتن الكفار الترس بفتنة الكفر والردة حتى يتمكن حكم الصليبيين في الأرض ، ويترسخ ويصبح له الصولة والدولة ومن ثم يستبيح دين المسلمين وحرماتهم ، ثم يسوقهم سوقاً جميعاً نحو الانسلاخ من الدين عبر حكمه وشرعه المضاد لحكم الله وشرعه .
وقد أشار لعين هذا المعنى شيخ الإسلام فقال : ( وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يُقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم ، وإن لم يُخف على المسلمين ففي جواز القتال المفضي إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء ، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يُقتل شهيداً ، فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قُتل من المسلمين يكون شهيداً ، ومن قُتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً ) . انتهى كلامه رحمه الله (27)
وقال أيضاً : ( وكذلك مسألة التترس التي ذكرها الفقهاء فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها ؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يُفضي إلى قتل أولئك المُتترس بهم جاز ذلك وإن لم يُـخف الضرر ، لكن لم يُـمكن الجهاد إلا بما يُـفضي إلى قتلهم ففيه قولان ، ومن يُسوّغ ذلك يقول : قتلهم لأجل مصلحة الجهاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء ). انتهى كلامه رحمه الله (28)
فنص شيخ الإسلام على أن قتل الترس أقل مضرة من شيوع الكفر وظهوره .
وهذا حديث بروايات متعددة _ وجميعها في صحيح مسلم _ تدخل بالموضوع
حديث أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعوذ عائذ بالبيت فيُـبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُـسف بهم " فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً ؟ قال : "يُـخسف به معهم ولكنه يُـبعث يوم القيامة على نيته ".(29)
وعن أم المؤمنين حفصة – رضي الله عنها – أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليؤمن هذا البيت جيشٌ يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يُـخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم ثم يُخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يُخبر عنهم ".(30)
وعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت : عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ، فقلنا يا رسول الله صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله ، فقال : " العجب ؛ إن ناساً من أمتي يؤمون بالبيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خُـسف بهم " فقلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس ! قال : " نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم ".(31)
وقال شيخ الإسلام : ( فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره مع قدرته على التمييز بينهم ، مع أنه يبعثهم على نياتهم ؛ فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المُكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك ؛ بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضاً ، ومن قُتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله و هو في الباطل مظلوم كان شهيداً ، وبُـعث على نيته ، ولم يكن قتله أعظم فساداً من قتل من يُقتل من المؤمنين المجاهدين ، وإذا كان الجهاد واجباً وإن قُتل من المسلمين ما شاء الله ؛ فقتل من يُقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا ) . انتهى كلامه رحمه الله (32)
المراجع
(17) الهدايةشرح البداية (2/137).
(18) بدائع الصنائع (7/101).
(19) مختصر خليل : كتاب الجهاد و أحكام المسابقة / ج1/ص 102.
(20) الشرح الكبير : باب فيه ذكر الجهاد / ج 2/ ص 178 .
(21) تفسير القرطبي (16 / 282 ـ 288).
(22)روضة الطالبين : كتاب السير / ج10/ص246
(23) الكافي ج4/ ص268
(24) المبدع : ج 3/ ص 323 .
(25) مجموع الفتاوى (28 / 546 ـ 547) .
(26) سورة محمد : الآية 4 .
(27) مجموع الفتاوى (28 / 537 ـ 538) .
(28) مجموع الفتاوى / أصول افقه / فصل في تعارض الحسنات والسيئات .
(29) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت / (2882) .
(30) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت / (2883) .
(31) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت / (2884) .
(32)مجموع الفتاوى (28 / 535 ـ 537).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
تقرر في الأصول أن الضرر الخاص يُـتحمل لدفع الضرر العام ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، وأنه إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً ، وأنه يُـختار أهون الشرين .
وقد تبين لكل عاقل أن ضرر ترك الجهاد وتعطيله أعظم بما لا مزيد عليه في الدين والدنيا مما قد يترتب على الجهاد من ضرر يلحق البعض في نفس أو مال أو نحو ذلك ، مع كون هذا الضرر هو من الضرر الخاص مقارنة بالفواجع والطوام التي تضرب الأمة كلها في دينها ودنياها
إن مشروعية رمي الكفار المحاربين بكل ما يمكن من السلاح وإن اختلط بهم من لا يجوز قتله من المسلمين تقررت بــ(أدلة خاصة ، بالإضافة للقواعد العامة التي سبق تقريرها ) وهذه الأدلة هي :
أولاً : ما قرره جماهير الفقهاء من رمي الكفار المحاربين حال تترسهم بالمسلمين ،
وهو ما يعرف بـ( مسألة الترس ) والمراد بالتترس هنا , أن يتخذ العدو طائفة من المسلمين بمثابة الترس – وهو الدرع – يدفع به عن نفسه استهداف المجاهدين له بالقتل ، وقد ذهب جماهير العلماء إلى مشروعية رمي الكفار المحاربين في هذه الحالة وإن ترتب على ذلك قتل المُتترّس بهم من المسلمين يقيناً ، لضرورة دفع عادية الكفار على المسلمين وعدم تكمن التوصل إلى قتل الكفار المحاربين إلا بذلك ، كما ذهب الأحناف والمالكية بجواز ذلك وإن لم تدع ضرورة إليه .
ومن فقه الأحناف : جاء في متن البداية - أشهر متون الأحناف- ( وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو الأسارى لم يكّفوا عن رميهم ، ويقصدون بالرمي الكفار )
قال شارح البداية : ( ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر ؛ لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذّب عن بيضة الإسلام وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ، ولأنه قل ما يخلو حصن من مسلم فلو امتنع باعتباره لانسد بابه ، وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو الأسارى لم يكفوا عن رميهم لما بينّا ويقصدون بالرمي الكفار ؛ لأنه إن تعذر التمييز فعلاً فلقد أمكن قصداً والطاعة بحسب الطاقة ). انتهى كلامه رحمه الله (17)
وقال الكاساني في بدائع الصنائع : ( ولا بأس برميهم بالنبال وإن علموا أن فيهم مسلمين من الأسارى و التجار لما فيه من الضرورة ، إذ حصون الكفرة قلما تخلو من مسلم أسير أو تاجر فاعتباره يؤدي إلى انسداد الجهاد ولكن يقصدون بذلك الكفرة دون المسلمين ؛ لأنه لا ضرورة في القصد إلى قتل مسلم بغير حق ، وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين ، فلا بأس بالرمي إليهم لضرورة إقامة الفرض لكنهم يقصدون الكفار دون الأطفال ) . انتهى كلامه رحمه الله (18)
ومن فقه المالكية جاء في متن مختصر خليل : ( وإن تترسوا بذرية تُـركوا إلا لخوف ، ولمسلم لم يقصد الترس إن لم يُـخف على أكثر المسلمين ) . (19)
قال في الشرح الكبير : ( وإن تترسوا بمسلم قوتلوا ولم يُـقصد الترس بالرمي وإن خفنا على أنفسنا لأن دم المسلم لا يُباح بالخوف على النفس إن لم يُخف على أكثر المسلمين ، فإن خيف سقطت حرمة الترس وجاز رميهم ) . انتهى كلامه رحمه الله (20)
ومن فقه الشافعية ، قال النووي رحمه الله في روضة الطالبين : ( لو تترس الكفار بمسلمين من الأسارى وغيرهم نُظر ، إن لم تُدع إلى رميهم واحتمل الحال الإعراض عنهم لم يجز رميهم ، وإن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم فوجهان : أحدهما لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم ؛ لأن غايته أن نخاف على أنفسنا ، ودم المسلم لا يُباح بالخوف بدليل صورة الإكراه ) . انتهى كلامه رحمه الله
فقياس هذه الحالة على صورة الإكراه غير متجه البتة لأن المكره على قتل غيره يهدف إلى دفع الضرر الخاص عن نفسه ، وليست نفسه بأولى من نفس غيره ، أما هنا فالهدف هو دفع الضرر العام عن الأمة جميعاً ، في دينها قبل دنياها ، وليس للمجاهد الرامي حظ خاص لنفسه من قريب أو بعيد .
ومن فقه الحنابلة ، قال ابن قدامة رحمه الله في الكافي : ( وإن تترسوا بأسارى المسلمين أو أهل الذمة لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب والخوف على المسلمين لأنهم معصومون لأنفسهم فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة ، وفي حال الضرورة يُباح رميهم لأن حفظ الجيش أهم ). انتهى كلامه رحمه الله (23)
وقال ابن مفلح في المبدع : ( وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم كأن تكون الحرب غير قائمة ، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو من أمن من شرهم إلا أن يُـخاف على المسلمين مثل كون الحرب قائمة أو لم يُـقدر عليهم إلا بالرمي فيرميهم ، نص عليه للضرورة ). انتهى كلامه رحمه الله (24)
يتحصل لنا من تلك النصوص السابقة عن فقهاء وأئمة المذاهب المختلفة :
أولاً : أن الجميــع متفقون على جواز رمي الكفار المحاربين حال تترسهم بالمسلمين وإن تيقنّا قتل
المُتترس بهم عند الخوف على المسلمين أن ينزل بهم ضرر من أعدائهم من نكاية أو هزيمة .
ثانياً : أن الأحناف والشافعية في الصحيح عندهم ، والحنابلة في أحد القولين على جواز الرمي في تلك الحالة إذا كانت الحرب قائمة ، أو لم يـُـقدر عليهم إلا بذلك وإن لم نخف على المسلمين .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يُقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار ، ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضاً في أحد قولي العلماء ، ومن قُتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله وهو في الباطن مظلوم كان شهيدا وبُعث على نيته ولم يكن قتله أعظم فساداً من قتل من يُقتل من المؤمنين المجاهدين ) . انتهى كلامه رحمه الله (25)
والكلام الأخير من شيخ الإسلام ظاهره ترجيح القول بجواز الرمي ولو لم نخف على المسلمين .
خامساً : سبق معنا قول القرطبي : ( فإن لم يفعل قتل الكفار الترس ) أما في حالتنا اليوم فإن لم يفعل فتن الكفار الترس بفتنة الكفر والردة حتى يتمكن حكم الصليبيين في الأرض ، ويترسخ ويصبح له الصولة والدولة ومن ثم يستبيح دين المسلمين وحرماتهم ، ثم يسوقهم سوقاً جميعاً نحو الانسلاخ من الدين عبر حكمه وشرعه المضاد لحكم الله وشرعه .
وقد أشار لعين هذا المعنى شيخ الإسلام فقال : ( وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يُقاتلوا فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم ، وإن لم يُخف على المسلمين ففي جواز القتال المفضي إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء ، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يُقتل شهيداً ، فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قُتل من المسلمين يكون شهيداً ، ومن قُتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيداً ) . انتهى كلامه رحمه الله (27)
وقال أيضاً : ( وكذلك مسألة التترس التي ذكرها الفقهاء فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها ؛ ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يُفضي إلى قتل أولئك المُتترس بهم جاز ذلك وإن لم يُـخف الضرر ، لكن لم يُـمكن الجهاد إلا بما يُـفضي إلى قتلهم ففيه قولان ، ومن يُسوّغ ذلك يقول : قتلهم لأجل مصلحة الجهاد مثل قتل المسلمين المقاتلين يكونون شهداء ). انتهى كلامه رحمه الله (28)
فنص شيخ الإسلام على أن قتل الترس أقل مضرة من شيوع الكفر وظهوره .
وهذا حديث بروايات متعددة _ وجميعها في صحيح مسلم _ تدخل بالموضوع
حديث أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعوذ عائذ بالبيت فيُـبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُـسف بهم " فقلت : يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً ؟ قال : "يُـخسف به معهم ولكنه يُـبعث يوم القيامة على نيته ".(29)
وعن أم المؤمنين حفصة – رضي الله عنها – أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليؤمن هذا البيت جيشٌ يغزونه حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يُـخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم ثم يُخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يُخبر عنهم ".(30)
وعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت : عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ، فقلنا يا رسول الله صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله ، فقال : " العجب ؛ إن ناساً من أمتي يؤمون بالبيت لرجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خُـسف بهم " فقلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس ! قال : " نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم ".(31)
وقال شيخ الإسلام : ( فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره مع قدرته على التمييز بينهم ، مع أنه يبعثهم على نياتهم ؛ فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المُكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك ؛ بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضاً ، ومن قُتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله و هو في الباطل مظلوم كان شهيداً ، وبُـعث على نيته ، ولم يكن قتله أعظم فساداً من قتل من يُقتل من المؤمنين المجاهدين ، وإذا كان الجهاد واجباً وإن قُتل من المسلمين ما شاء الله ؛ فقتل من يُقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا ) . انتهى كلامه رحمه الله (32)
المراجع
(17) الهدايةشرح البداية (2/137).
(18) بدائع الصنائع (7/101).
(19) مختصر خليل : كتاب الجهاد و أحكام المسابقة / ج1/ص 102.
(20) الشرح الكبير : باب فيه ذكر الجهاد / ج 2/ ص 178 .
(21) تفسير القرطبي (16 / 282 ـ 288).
(22)روضة الطالبين : كتاب السير / ج10/ص246
(23) الكافي ج4/ ص268
(24) المبدع : ج 3/ ص 323 .
(25) مجموع الفتاوى (28 / 546 ـ 547) .
(26) سورة محمد : الآية 4 .
(27) مجموع الفتاوى (28 / 537 ـ 538) .
(28) مجموع الفتاوى / أصول افقه / فصل في تعارض الحسنات والسيئات .
(29) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت / (2882) .
(30) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت / (2883) .
(31) صحيح مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت / (2884) .
(32)مجموع الفتاوى (28 / 535 ـ 537).