المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الممر الضيق



ايمانيات
25-05-2005, 11:33 PM
السلام عليكم و رحمة الله

هذه أول مشاركة ليٌ معكم في هذا المنتدى ، هذه رواية كتبتها منذ فترة أود أن أعرف رأيكم بها.

هذا هو الفصل الأول ، سأوالي نشر بقية الفصول هنا .

أتمنى أن تعجبكم ،فعلاً رأيكم يهمنى كثيراً.

الفصل الأول

فراق الأرواح

كان الوقت متأخرا جدا و قد شارفت الساعه على منتصف الليل و قد كنا في فصل الشتاء فكان الليل يسدل ستاره من الساعه السادسة مساءا و كانت الشوارع غارقة في ماء المطر و السيارات تمشي كالسلحفاة على أرض الأسفلت و كنت أجلس في الأتوبيس ترمقني نظرات الاٍستنكار وتحيطني من كل جانب لاٍني الفتاة الوحيدة الموجودة بين الركاب فلم أشعر بشئ من كل ما كان يدور حولي , لا من العربات التي كانت تمشي مسرعة فتفرش الماء على الأتوبيس حتى تصل لشبابيك الركاب و لا من شتائم السائق للسيارات الخاصة و لا من صوت المطر و لكن كل تفكيري كان منصب على أن أراه قبل ان يسافر و يعود الى دياره و وطنه في كوسفو فقد كان يحاول منذ فترة أن يفعل أي شئ ليكون بجانب أسرته و بالرغم من كل ما كنت أشعر به من ألم كأن أحد يقوم بالعبث بين ضلوعي لاٍنتزاع قلبي بسرعة خاطفة و اٍحتياجي الشديد اليه في هذة الفترة الحالكة العصيبة التي تمر بي أنا و أسرتي و التي أصبحت أنا العائل الوحيد لها و غدوت مسئولة بمفردي عن أبوايّ و بالرغم من كل العقبات و الصعاب التي تحيط بي كالجبال من كل جانب و أنا محاصرة بداخل هذا الممر الضيق كان وجوده الى جانبي يمثل لي شعاع النور الذي ينتظرني في أخر الممر الطويل و النفق المظلم و لكنني لا أستطيع غير أن أشجعه على أداء واجبه و العودة الى وطنه المكلوب الذي يحتاج اليه و الوقوف بجانب أسرته التي لم تكن تغيب عن باله لحظة واحدة في وقت الأزمة.

ماذا يسعني أن أفعل أو أقول له غير أن أودعه بابتسامة داعية له أن يعيده الله لي سالما و أن يجعل وجوده في وطنه تجسيدا لواجبه المقدس بأن يكلله الله بالنصر و أن يهدي أهله و عشيرته الى كل الخير.

وصلت الى المطار و كنت أجري وأنا ألهث من شدة توتري فلم أرى أمامي سوى ضوء الصالة الداخلية و بدا لي المطار كأنه خالي من البشر تماما لم أسمع شيئا سوى دقات قلبي المتلاحقة بالرغم من ضجيج الأصوات بألسنة مختلفة الأجناس و شعرت بذوبان لكياني كله فبدأ العرق يندى على جبيني بالرغم من أننا في يناير ذروة موسم الشتاء قارس البرودة ليلا.

وقعت عيناي أخيرا على آياد كان بجانبه حقيبة صغيرة و أخرى على كتفه يجلس وحيدا في ساحة الاٍنتظار بالمطار منكس الرأس ينتظر سماع النداء الأخير لكي يستعد للصعود الى طائرته المغادرة الى مطار البوسنة أقرب مكان لكوسفو فلم يكن هناك طيران مدني في منطقة الحرب, رفع نظره فجأة كأنه قد شعر بوجودي و رأيت وجهه يضئ و تبشر قسماته و تنفرج أساريره معبرا بكل عضلة في وجهه المتلألأ بالفرح عن سعادته برؤيتي , جلست بجانبه و شعرت بٍاحساس مُلـٌح أن أمسك يديه و شعرت بيداه تحتضنـٌي كليّ و ليس فقط كفيّ فقلت له "كان لازم أشوفك قبل ما تسافر و أدعي لك أن ربنا يوفقك و ترجع تاني لمصر و لا مش ناوي"

" منة الله اذا قلت لك دلوقتي بس ان عندي الشجاعة إني أعترف لك بحبي, أنا بحبك و لو وصفت لك حبي يمكن ماتصدقيش و تقولي ده بيقول كده لاٍنه مسافر و جايز ميرجعش ابدا أو يمكن يموت و هوه راجع بلده اللي فيها حرب و نزعات عرقية ممكن تصفي كل المسلمين هناك،أو يمكن الروس يموتوه يعني الهلاك و الموت محاصرني من كل جانب بس اذا مرجعتش و حصل قضاء الله فيّ لازم تصدقي دلوقتي و أنا بحلف لك بالله ان عمري ما حبيت و لا ححب واحدة غيرك "

حاولت ان أمنع دموعي و أنا أبتسم بمرارة و الألم و الفرح يعتصرني في نفس الوقت فلم أكن أعرف هل أبكي أم أضحك من السعادة ؟

" مصدقة كل حرف قلته ! و الله العظيم أنا كمان بحبك و حفضل أحبك لغاية ما أموت يمكن منشوفش بعض تاني و ربنا ميكنش قاسم لنا اٍننا نلتقي و لا نكون لبعض لكن الحب اللي في قلبي لك حيفضل جوايا للأبد" قبٌل يدايٌ و جبيني و هو يبكي مثلما كنت أبكي لأن هذا الوقت الذي نعترف فيه بحبنا هو وقت الفراق الذي لا نعرف له لقاء . جاء صوت المضيفة يعلن عن استعداد ركاب الطائرة المتجهة الى البوسنة نظر لي آياد و هو يخلع الكوفية التي كان يلتفح بها و يلفها حول رقبتي برفق شعرت كأنه يحيط اٍصبعي بمحبس الزواج . " هذه ستربطنا معا الى الأبد لا تفرطي فيها حتى اذا تزوجت بأخر اعطيها لاٍبنك أو اٍبنتك و قولي لهم هذه من انسان عزيز لدي ّ كان ممكن يكون والدكم"

" آياد سأنتظر عودتك مهما طال الوقت مش معقول بعد لما ألاقي نفسي المفقوده اللي كنت بدور عليها من يوم ما اٍتولدت أتخلى عنها بالسهولة دي , لا تتأخر عليّ لاٍني بقية أهلك أفتكر اٍنك مش سايب اٍنسانة بتحبها و بتبادلك نفس الحب و بس ! أنا حلفت لك اٍني بحبك و اٍنك الوحيد اللي حرك مشاعر كالجبال كانت مدفونة بداخلي اٍحنا تعاهدنا على الحب و وثــّقنا حبنا باٍسم و عهد الله و اٍن شاء الله تعود لتستردني في يوم ما فلن أكون اٍلا لك , و الله لولا ظروف عائلتي الشاقة و مرض أبي و كوني عائلهم الوحيد كنت سافرت معاك لأخر الدنيا أجاهد معاك و أدافع معاك عن وطنك و أهلك بدمي و بروحي " " منة الله أنا حاسس اٍني ممكن دلوقتي أستقبل الموت و أواجهه كل المخاطر وأنا فرحان و مرتاح كلامك ده ملاني طاقة و نور و حب يكفيني لأخر لحظة في عمري ما شاء الله لي من عمر طال أم قـَصُر"

" لا اله الا الله " " محمد رسول الله " كان هذا المشهد و وداعي لآياد يتكرر دائما في أحلامي تقريبا في كل ليلة فكان يتكرر بدقة تفاصيله بنفس قوة الألم و بكل المشاعر التي اٍجتاحتني كالطوفان و باٍسترجاع كل كلمة و كل لفظ حتى بعد مرور خمس سنوات على سفره و أنا لم أسمع عنه أو منه منذ أن أفترقنا شيئا. و لكي أشرح تفاصيل علاقتي به و قصتي منذ البداية لابد أن أرجع للوراء عشر سنوات حين كنت في بداية السنة الأولى لي في كلية التربية جامعة الأزهر كنت أعيش مع أمي و أبي و أخي كانت أسرتي تنتمي اساسا للطبقة المتوسطة حيث ان أبي كان يعمل موظف في قسم الحسابات في اٍحدى الشركات الحكومية و لم يكن لنا دخل أخر غير مرتب والدي فأنتقلنا بمرور الزمن و مع تزايد التباين الواضح في مجتمعنا والاٍختلاف الفظيع بين الطبقات الى الطبقة الفقيرة و قد حاولنا ان نبدو في أحسن حال لكي نحافظ على مظهرنا الاٍجتماعي و مرت بنا الأيام على خير بالرغم من اننا لم نستطيع العيش بطريقة مريحة أو نشتري كل اٍحتياجاتنا التي كانت تتزايد كلما كنا نكبر و نتدرج في الدراسة كان أبي يفعل المستحيل لكي نكبر و نتعلم فأضطر الى أن يعمل بعد الظهر على تاكسي ليوفر لنا نفقات الحياة و التعليم الذي دخل في المرحلة الثانوية لأخي أولا ثم لحقت به أنا ثانيا فقد كان أخي أحمد يكبرني بأربعة أعوام. كان أحمد يشعر دائما بالتمرد على حياتنا و كانت توجد بيننا و بينه فجوة بالرغم من حبه لأبواي و حبهم له و محاولتهم اٍرضائه في كل الأحيان على حسابي أنا و كنت أقول لنفسي ربما لاٍنه ولد و ربما لاٍنهم يشعروا أنني فتاة لن أكون مسئولة عنهم فيما بعد, مما جعلني أسأل أمي في أحد الأيام "ماما هوه أنتوا بتفضلوا أحمد عليّ ليه دايما ؟"

ردت أمي و هي تضحك " يا عبيطة اٍنتوا حبكوا و غلواتكوا واحدة بس اٍنتي حتتجوزي باٍذن الله و حتنتمي لرجل غريب و حتحملي اٍسمه ، مش حتكوني مطالبة برعايتنا كما سيكون أحمد اٍبننا البكر هو المطالب بالإهتمام بنا و الاٍنفاق علينا في كبر سننا و عدم قدرتنا على تحمل المسئوليات وقت بلوغ سن الشيخوخة ربنا ميردناش لأرذل العمر" .

فاٍلتمست لهم بعض العذر بعد سماعي كلام أمي في أسباب معاملتهم الخاصة لأحمد بدون مبررات واضحة يقينية لهذا التمييز كل ما هنالك أنهم يمشون على درب آبائهم و المعتقدات الاٍجتماعية السائدة و الموروثات التاريخية التي تفترض أن الولد هو فقط المفروض عليه الاٍعتناء بأبويه و البر بهم .

كان أخي أحمد قد أنهى دراسته في كلية العلوم بتفوق و بدأ في الاٍستعداد للماجستير و شجعه أبي بل كاد يطير من الفرح و قال له" انا مستعد للعمل أربعة و عشرون ساعة متواصلة حتى تتفرغ لدراستك يا اٍبني " و لكن لم يوافق أحمد فقد عًرض عليه ان يعمل في شركة خاصة للأدوية و مستحضرات التجميل كان أحد أساتذته شريك بهذه الشركة و لفت نظره على الفور تفوق أحمد و نبوغه و تنبأ له بمستقبل باهر وعرف أخي مصلحته مع هذا الأستاذ فأقنع أبي قائلا" بالطبع المرتب حيكون بسيط في الأول لكن أنا عندي اٍحساس اٍني حستفيد كويس من شغلي مع أستاذي و حوصل لكل اللي بتمناه في أقصر وقت ممكن " بالكاد كان المرتب يغطي نفقات ملابسه الجديده اللازمة لمظهره بالشركة و نفقات المواصلات أما مصاريف دراسة الماجستير عادت لتنصب على ظهر أبي مرة أخرى و في نفس الوقت كنت في الثانوية الأزهرية أ’كافح وحدي بدون أن أطلب من أبي دروس خصوصية في أي مادة اٍكتفيت بأخذ مجموعة في مادة الاٍنجليزي بالمدرسة بدلا من اٍرهاقه بمال اٍضافي ينفقه على الدروس الخصوصية بالرغم من أن أحمد كان يأخذ دروس في الثانوية في اربع مواد فقد كان والدي يتمنى أن يدخل كلية الطب و لكن مجموعه أدخله العلوم و لم يستطع أبي و ربما لأول مرة في حياته بأن يوافق أحمد على رأيه في اٍعادة السنة لتحسين مجموعه فغضب أحمد لاٍتخاذ أبي هذا الموقف منه و ظل والدي يلوم نفسه على أنه لم يوافقه الرأي و كان أخي بالطبع ينتهز كل الفرص لكي يأخذ من هذا الموقف ذريعة في جعل والدي يشعر بالتقصير في حقه و عدم اٍستطاعته تحسين مستقبل اٍبنه الوحيدكما كان يدعي أخي و يبذل كل ما في اٍستطاعته لرقي شأنه و تفوق مستقبله.

كنت في أوقات كثيرة أشعر بالتمرد على هذا الوضع الغير عادل لكفتـّي الميزان فأنا أيضا لديّ أحلامي بأن أدخل كلية الترجمة و اللغات أو كلية التجارة الخارجية و لكن في ظل الوضع الراهن سأكتفي بأي كلية يقودني لها مجموعي باٍمكانياتي الخاصة و تحت ظل الظروف المتاحة لي.

بالطبع جاء مجموعي في المرحلة الثانية و جاء التنسيق معلنا عن اٍلتحاقي بكلية التربية جامعة الأزهر فلم أتذمر و حمدت الله و قلت قدر الله و ما شاء فعل ربما تكون هذه الكلية فاتحة خير عليّ ربما أسعد بكوني فيها و منها أستطيع أن أخرج للحياة العملية و يوفقني الله في العثور على وظيفة جيدة تمكنني أن أدبر بعض المال للاٍسهام في مصروف البيت و أرفع من بعض الحمل الثقيل من على كتفيّ والدي لكي أ ُجهز نفسي فأمي كانت دائما تحمل هم جهازي و كيف اٍنني سأحتاج لمال كثير للجهاز و نحن لم نستعد بخردلة كما كانت تقول لأبي " اللي حيتقدم لبنتك حيهرب لما يعرف اننا مش مستعدين بأي حاجة علشانها لازم يجيي واحد يوافق يأخذها بشنطة هدومها و هما يجهزوا نفسهم من الصفر" فكنت أشعر بالمهانة و انه ينقصني أشياء كثيرة و لكنني كنت أحاول دائما أن أكون اٍيجابية و لا أحسب حساب لكل شئ كل ما كان يشغلني و أنا أخطو في أول يوم لي داخل الكلية أن أفعل ما في وسعي لكي أ’نهي دراستي في سنوات الدراسة باٍنتظام بدون تأخير و أحاول اٍيجاد وظيفة جيدة أستطيع منها أن أزود معلوماتي و اٍمكانياتي للعمل فآخذ كورس لغة أو كمبيوتر أو الأثنين معا لكي أرتقي لوظيفة أفضل تجعلني في موقف قوة فأصرف على نفسي و أ’جهز ما يلزمني كما ينبغي و على ذوقي أنا و بمالي و بمجهودي الخاص بدون اٍرهاق والدي أو طلب مساعدة أخي أحمد أو التفضل لأحد من العرسان عليّ و يتقدم لخطبتي من باب جبر الخواطر .

نجحت بحمد الله في العام الأول و اٍنتقلت للسنة الثانية كانت جامعة الأزهر ذات طبيعة خاصة جدا فهي تتبع المجلس الأعلى للأزهر الشريف و لها مقومات متفردة الى جانب كوننا ندرس مواد الشريعة الاٍسلامية بشكل مكثف و أساسي , كنت في أيام المدرسة أجد هذه المواد ثقيلة على نفسي و لكن بعد فترة قصيرة من خلال الدراسة الجامعية احببت دراستها و وجدت انها شيقة للغاية و فيها كل مناهج الحياة المختلفة التي ساعدتني فيما بعد على اٍكتشاف نفسي و فهمي للحياة بالتدريج بشكل اٍيجابي و أسلوب متطور و سليم على مدار حياتي جعلتني اتقبل أوضاعي بشكل أفضل .

كان أخي قد قطع شوط كبير في رسالة الماجستير الخاصة به تحت اٍشراف أستاذه الذي زكّاه للعمل في شركته الخاصة و هكذا اٍستطاع أحمد أن يحدد ميعاد لمناقشة رسالته و كان أبي في منتهى السعادة كأنه هو الذي سيأخذ الماجستير و ليس أخي كنت قد لاحظت خلال العامين السابقين التغيرات الواضحة التي طرأت على أخي منذ عمله في الشركة فقد بدأ يشعر بنفسه ، بكيانه و انه أستطاع أن يُخطي العراقيل و الصعاب التي كنا نمر بها ، فوضع قدمه على سلم النجاح فظهرت أنانيته بشكل مفرط , جعله تفوقه يتغيرتماماً أصبح يشعر بالتذمر علينا و على حياتنا أكثر من ذي قبل و أيقن أن وضعنا الاٍجتماعي أصبح لا يناسبه فازدادت طباعه و أحواله تـغير من ناحيتنا أكثر فأكثر و لم يعد يخفى علينا بعده الشديد عنا و عن واقعنا الصعب و رفضه لهذا الواقع بل رفضه لنا جميعاً.

في اٍحدى المرات كنت أنا و أحمد بمفردنا في المنـزل فطلب مني كوب شاي فصنعته له و جلست احاول ان أعرف ماذا يدور في رأسه بالضبط وسألته مباشرة " ليه يا أحمد دائما تساعد في اٍعطاء أبي و أمي الاٍحساس بالتقصير بالرغم من اٍنك عارف كويس هما أد ايه بيحبوك " فنظر لي بحدة و قال " اٍنتي زعلانة ليه هما لازم يشقوا و يتعبوا علشانا ده واجبهم تجاهنا و لا حضرتك غيرانه مني علشان هما بـينفذوا لي كل طلباتي و أنتي لأ " فرغرغت عيناي بالدموع من كلامه اللاذع و قلت " يا أحمد أنا مش غيرانه منك أنا خايفة عليهم و صعبانين عليّ جدا و اللي مضايقني أكتر اٍنك مش حاسس بيهم و لا بمقدار تعبهم و شقاهم علينا" رد عليّ بفتور شديد " خليكي في نفسك و في جهازك اللي لسه محدش فيهم عمل فيه حاجة بصي لمستقبلك و ملكيش دعوة بيّ هما مبصوتين كده" لم أعرف هل أبكي أم أضحك من كلامه فقد كان في منتهى اللامبالاة و عدم الذوق. حاولت التحدث معه مرة أخرى بصراحة و لكنه لم يعطني فرصة لأقرب منه فأفتح له قلبي و يفتح لي قلبه بل زاد في صلفه و عناده الى أقصى مدى و التمرد الدائم على أحوالنا الضيقة و واقعنا القاسي الصعب و الغريب في الأمر أن أبوايّ كانوا يلتمسون له الأعذار في كل الأحوال و يجدون له دائما مبررات جديدة كل يوم ! و لا أعرف لماذا فقد كنت أستغرب من موقفهم تجاهه و تنفيذهم لكلامه بالحرف الواحد بدون تفكير و كأن أخي أصبح هو الآمر الناهي في البيت كل كلامه مطاع كل طلباته أوامر غير قابلة للتغيير أو للمناقشة هل يمكن أن أحب اٍنسان الى هذه الدرجة؟ أن يكون حبي بهذاالأسلوب لأحد يجعله يتحول الى روح موحشة أنانية لا يرى غير نفسه ، مطالبه و طموحه الشخصي فيستطيع أن ينسى أو يتناسى أبويه و عطاءهم المستمر و تضحياتهم بكل غالي و نفيس من راحتهم و سعادتهم بل و من آدميتهم حتى يجعلوه في مكانه عاليه و موضع اٍجتماعي مرموق فيفرحوا كلما اصبح فوق روؤسهم متسلق بقدميه على أكتافهم و أعناقهم لكي يمسك بالنجوم و يلمس السماء بيديه , هذا الحب الجارف الذي أطلق الوحش الكامن بداخله، أخرج أسوأ ما فيه من صفات و شهوات كان يمكن ترويضها و كبحها قبل الأوان. كنت أشعر بالحيرة و الاضطراب النفسي الشديد و القلق بالرغم من عدائي بدون أسباب واضحة للقلق فلم أكن أحب أن أشعر به و لا أطيق ان يسيطر على نفسي و لو حتى ليوم واحد فقط.

هذه الحالة النفسية المتململه لم تكن تروقني كثيرا فكنت أحاول بشتى الطرق المشروعة الممكنه و المتاحة أمامي أن أزيل هذا الاحساس المدمر من نفسي و من حياتي لأني أعتبره عدوي الأول و الأخير في الدنيا. كنت في غاية الشوق الى العودة لكليتي و أصحابي و دراستي بالرغم من مرور شهر واحد فقط من اٍنتهاء العام الدراسي الأول فقد كانوا المرفأ الوحيد الذي أستطيع أن أرسو عليه بكل مشاكلي في حياتي وهمومي و قلقي من الغد القادم. كنت في السنة السابقة قد اٍستطعت تكوين صداقات كثيرة من زميلات لي في نفس كليتي الأزهرية فقد كنا نستخدم هذا المصطلح الأزهري لنفرق بيننا و بين طلاب الجامعات الأخرى و لكن من أهم تلك الصداقات كان ما يربطني بسها و أخوها سعد اللذان كانا يسكنان قريبا منا في حي السيدة زينب فقضيت معظم الصيف و أنا أوثق علاقتي بها و بأهلها ليس فقط لاٍني كنت أفضلها عن باقي زميلاتي بل حتى عن زميلات المدرسة القدامى , ربما لاٍنها كانت تسكن بجانبي في نفس الحي و كانت قريبة الشبه بي في كل الظروف و لكن الفرق الوحيد بيني و بينها أن لها أخ رائع متفاهم معها , علاقتهم وثيقة جدا فكان يعرف عنها كل شئ و هو لم يكن يخبئ عنها أي شئ فشدتني تلك العلاقة المميزة بينهم الغريبة بالنسبة ليٌ.

في هذا الصيف بعد أن أنهينا عامنا الأول بنجاح عرفتني سها على آياد الطالب في السنة السادسة كلية الطب جامعة الأزهر و كان يقيم في مدينة البعوث للطلبة المغتربين تابعين لكليات الأزهر و قد آتى من كوسفو اٍحدى الدول المستقلة عن البلاد المفككة من الأتحاد السوفيتي السابق و كان مسلم الديانة يتحدث العربية بطلاقة و العامية المصرية باٍجادة شديدة بعد بقاءه ست سنوات في مصر للدراسة ,كان يتمتع بوسامة شديدة ,مجتهد في دراسته , شديد الذكاء حباه الله بشخصية جذابة محبوبة من الجميع زملائه و اساتذته على حدا سواء فكان يعتبر انسان اٍجتماعي من الطراز الأول يحب الاٍختلاط بالأخرين و الخروج كثيرا وتنظيم الرحلات الى شتى بقاع مصر فكان يعرف مصر أكثر منا نحن المصريين ربما لاٍنه كان يعلم أنه لن يبقى للأبد هنا بل سيأتي اليوم الذي يعود فيه لبلده فكان يغترف مصر كلها بداخله و يختزنها في أعماقه, كنت قد ألتقيت بآياد في أكثر من مناسبة في وقت الدراسة و لكنني قربت منه كثيرا عندما عرفتني صديقتي سها عليه بشكل رسمي فقد فكان أخوها سعد زميل دراسة و صديق مقرب له منذ سنة أولى طب لذلك علاقتي بآياد بدأت تتوطد أكثر بسبب صداقتي لسها التي كنت أحبها جدا و أشعر بقربها الشديد مني جائز لأن أبوها موظف على قد حاله مثل والدي و كانت حالتهم الاٍجتماعية قريبة الشبه بنا و لكن ما لفت نظري فيها اٍنها اٍنسانة ضحوكة لا تستطيع أن تكف عن الضحك و الاٍبتسام لمدة خمس دقائق متواصلة حتى اٍنها اذا لم تجد شئ تضحك عليه تضحك على نفسها و حالها فهي لم تكن تحب الوجوه الحزينة المكشرة فمتاعب الحياة بالنسبة لها مادة للضحك و السخرية تستطيع بهم التغلب على كل العقبات و المشاكل و التخطي لمصاعب الحياة المستمرة المتتالية , عوضتني سها و قربها مني عن افتقادي لمعنى الأخوة في أخي أحمد و اعتبرتها أخت لي فأصبحت هي و أخيها سعد الأخوة اللذان لم أحظى بهم فملأوا عليّ حياتي و أقتحموا وحدتي فلم أعد أشعر ببعد أحمد عني و عدم اٍكتراثه بأن أكون أخت له مقربه منه فيظهر شئ من الأهتمام و لو بالصدفه لما يربطنا ببعض من أواصر دم و صلة قرابة من الدرجة الأولى لذلك صارت علاقتنا مع الأيام اٍلى منطقة اللاعودة بلا أمل في اللقاء مثل قطبّي المغناطيس اللذان لن يلتقوا ابدا و لن يجذبوا لبعض بأي حال من الأحوال فبيننا مسافات و بحار و محيطات و جبال اٍذا أستطعنا أن نتخطاهم جميعا في يوم ما , لا يمكن أن نعوض ما فاتنا من سنين لم نقضيها معا و تجارب لم نعشها سويا فلا اذكر بيني و بين أخي ذكريات مشتركة أو اهتمامات واحدة بل لم نكن نتمتع بصفات متشابهه لا في الطباع أو الأخلاق و لا حتى في الشكل أو الملامح فأخي مبتلى بنفس جامدة و بشخصيه عصبية المزاج متقلبة الأهواء يمتلك حب و أنانية مطلقة لنفسه و لذاته اٍذا أراد أي شئ يفعل المستحيل الصائب منه و الخطأ لكي يصل الى غرضه بلا تفكير في أحد أو شئ غير ما يريده هو و لكي يحقق طموحه الجامح يبـيع كل غالي يحسبه رخيص.

Kira
27-05-2005, 10:38 PM
هلا والله

مشكور على القصة:biggthump