المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شعر بعض مشاكل توصيل الشعر



الزعطوط
09-06-2005, 12:00 AM
حاتم الصكر


مهما يكن تحفظنا حول مبدأ التوصيل ? ومقدار وروده في توجه الشاعر وهو ينشئ نصه ? فان الإبلاغ أو توصيل الرسالة حاضران في افتراض وجود متصل ومتصل به ووسيلة اتصال .

أن التوصيل هنا وصف خارجي لا يحتم مزايا فنية داخلية أي أن البحث لن يلزم القصيدة بمهمة توصيلية داخلية بحثاً عن مغزى أو معنى ? لكن التوصيل هنا مفهوم إجرائي بحت يفرضه سياق استهلاك النص الشعري .

فالمقترح المقابل كالبناء أو الأداء سيرتب كذلك صيغة اتصالية توصيلية ما ? بالورقة التي يكتب عليها النص والعين التي تطالعها . وذلك يقتضي العودة إلى طفولة الشعر حين كان فنا شفهيا يلقى لتتلقاه الاسماع .

ولا بد أن تغير وسيلة الاتصال يرتب تغيرا في كيفية التوصيل وهذا هو ما يحاول البحث أن يثبته .

أن خط سير القصيدة القديمة كان يتم بالشكل الآتي :

شفة ? أذن

بينما أصبح بفعل عوامل التدوين ? والطباعة فيما بعد يتم بالشكل الآتي : يد ? عين .

فالمهارات المفترضة في التوصيل الشفهي سوف تتغير قطعاً لصالح المهارات اليدوية .

كما أن السطح الذي يتم عليه التوصيل والاتصال ? سوف يتكيف تبعاً للمهمة الجديدة .

لذا فالورقة ستكون مشاركاً أساسياً في النص ببياضها وانفتاح سطحها ? كما كان الصوت كوسيط ناقل ذا دور في تكوين بنية القصيدة الشفهية ذات الجرس .

***

ويفترض هذا البحث أن وسائل الاتصال الحديثة التي عرفها عصرنا قد أثرت بشكل وبآخر على بنية القصيدة .

فالمخترعات الاتصالية السمعية والبصرية ( هاتف ? برق ? تلفزيون ? سينما...) كانت ذات أثر مباشر انعكس لا في التعامل مع هذه المخترعات كآلات توصيل فحسب بل في مزاياها التوصيلية التي تركت أثراً في القصيدة .

لقد مرّ موقف الشاعر العربي من هذه المخترعات بطورين :

الأول : موقف الانبهار بها ووصفها من الخارج كأشياء معجزة لا يحدها وصف . بل هي داخلة في غرض الوصف فحسب .

ويمكن التمثيل هنا بشاعرين : الرصافي في العراق وحافظ ابراهيم في مصر(1). فالرصافي يصف التلغراف والسينما كما يصف المخترعات الجديدة الأخرى كالساعة والقطار والتومبيل والبليارد والباخرة ومواد الحرب الكيمياوية ونادي الألعاب الرياضية وزلزال مسينا والبواخر الحربية .

وأية قراءة لنص من هذه النصوص تكشف . موقف الانبهار ازاء المخترع والسذاجة التامة التي طبعت النظر اليه .

فالتلغراف أو الأسلاك البرقية في شعر الرصافي هي في الكون ( سر الأسرار ) لأنها تختزل المسافات .

وهذا الاحساس باعجازها الزماني والمكاني هو سبب الانبهار بها . فهي ذات ( نفوذ في جميع الأقطار ) وتنقل الخبر في آن كملمح الأبصار . أما لدى حافظ فالحاكي ذو الميزة الاسترجاعية الذي يحتفظ بالزمن ما هو إلا ( الجماد الناطق ) لكنه أصدق الرسل وأكثرهم أمانة ..

مثل هذا التعامل مع المخترع السمعي أو البصري ظل مهيمناً على اللوحة الشعرية في عصر الاحياء المتزامن مع النهضة العلمية التي دخلت إلى الأقطار العربية . وغالباً ما فرض وصف المخترع قالباً شعرياً واحداً أخذ صفة أدائية أو بنائية جامدة هي واو ربّ المحذوفة . .

فأغلب قصائد وصف المخترعات تبدأ بهذه الواو كقولهم :

ودبابةٍ .. وقاطرةٍ .. وخرساء .. وفدفدٍ ..

الثاني : موقف التأمل في مغزى المخترع وانعكاسه الوجداني أو الشعوري ومقدار ما يتركه من جرس إذا كان صوتياً ? ومن رؤى أن كان عينيا .

لقد وقف نزار قباني ذات مرة ازاء الهاتف ليدخله في لعبة الغزل فأصبح عنصر توصيل يحمل حرارة العاطفة و(يسكب النار على الجرح القديم )كما يقول نزار عن صوت حبيبته القادم عبر الهاتف (من خلف الغيوم ). لكن هذه المشاركة العاطفية بين الآلة كموصل والقصيدة ? لا تتم باندماج تام . فالصوت خارجي وليس جزءاً من الحالة .

أما في قصيدة سامي مهدي : اللقاء (2) ? فان البناء كله يقوم على تقنية الهاتف فالصوت الثاني مختزل في أجوبةيقولها الصوت الأول ? المتكلم . وهو الوحيد الذي نسمع صوته .

فاللقاء إذن محادثة من طرف واحد . لذا فهي مرتبكة شعورياً ارتباكا مقصوداً يستفيد من انقطاع الصوت وعزلة المتحاورين ليوصل احساساً مشابها :

أنا اشتقت اليكم كلكم .. لكن

أقول : اشتقت

لكن هاهي الأشغال تترى

وأنا تعبان

والأطفال ..

أمس اشتقت

قلت : اشتقت

وإذ ينتهي الصوت بالانقطاع والتلاشي نحس الأزمة الوجودية التي تخفيها القصيدة وراء استعارة تقنية الهاتف (3) .

هذه المزاوجة بين الخارج ? شكل الاتصال ? والداخل ? بنية التوصيل ? تتطلب وعيا حضارياً بالمخترع ذاته والمواءمة بين الصوت والأعماق .