المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عقل بلا جسد !!



سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:07 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

لكم مني أجمل وأرق التحيات

...

أقدم روايتي الأخيرة .. عقل بلا جسد !! .. إلى أعضاء منتدى الحلم الجميل ..

ويسعدنى جدا جدا أن أقرأ أراؤكم فيها .. حيث أن روايتي هذة أخذت مني وقتاً ومجهوداً وتفكيراً

...

وأقدمها اليوم لأعضاء المنتدى الجميل ... ويسعدنى أى رأى قادم على هذة الصفحات ..

شكرا ...

السلام .......

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:09 PM
الفصل الاول ...




كانت تقف تلك الفتاه التي تبلغ من العمر عشرين عاما في شرفه المنزل كعادتها كل صباح يوم جديد .. بل كل شروق .. تصحو من نومها وتقوم بغسل وجهها ثم تخرج إلى شرفة المنزل في إحدى أطراف الحي الشعبي .. وكانت تشاهد أفراد الحي وهم ينتشرون فيه واحداً تلو الأخر كلما مر الوقت .. فهناك من يقوم ليفتح محله .. وهناك من يقف علي زاوية الشـارع بعربة الفطور.
وكلما مر الوقت اكثر كلما انتشرت الأفراد في الحي حتى يأتي وقت لا تستطيع أن تشاهد أحدا بعينه بل تتنقل بعينها بين مجموعة من العاملين .. فكانت تسكن بين مجموعة محلات وورش .. فهذه المنطقة منطقة سكنية صناعية .
كانت جميلة وكانت لا تهتم بجمالها إطلاقاً ولا تنظر لنفسها في المرآة إلا كل حين وربما كانت لا تعرف أنها جميلة ولكنها كانت تلاحظ عيون الآخرين وهم ينظرون إليها في إعجاب .. كانت تفكر دائما في الناس ..لا في نفسها .. وأيضا كانت تهتم بالناس لا بنفسها .. فكانت تفكر في هذا وفي ذاك وفي هذه وفي هذا كان عقلها مشغولاً بالناس وبكل من يعيش حولها وربما كانت تتابع العاملين والباعة الجائلين في شارعهم لهذا الأمر.. لكي تتطلع علي ظروفهم وعلي أمورهم وأحوالهم ثم تستمد من مشاهدتها فكرها فيهم .
أيضا كانت تشاهد التليفزيون بكثرة وكانت تعلق كثيراً علي كل ما يحدث فيه فلا يكاد هذا المسلسل ينتهي إلا وتجلس وتعيد علي ذاكرتها كل ما حدث فيه وتتخيل أحداثاً أخرى له وتحزن علي موت هذا وتسعد لزواج هذه وكأنها تعيش في هذا المسلسل .. ولا يكاد هذا البرنامج الفني ينتهي إلا وتتخيل الحياة الحقيقية لهذا الفنان المستضاف تتخيل كل شئ فيه .. ضحكاته واحزانه وافعاله وتعاملاته وسفرياته ونزواته وكل ما في حياته وكأنه واحداً من أهل الحي الذين يعيشون في عقلها وتفكر فيهم أيضا ...ربما كانت تفكر فيهم لان حياتها فارغة لا يوجد في حياتها حبيب ولا قريب فلا تعرف سوي أمها وأبيها وأخواتها وخال كان في انقطاع مستمر عنهم .. وقد أنهت دراستها المتوسطة منذ عدة سنوات و ملأ الفراغ حياتها حتى صديقاتها من أيام الدراسة قد افترقن جميعاً عنها وابنة خالها المنقطع عنها لا تعرف عنها شيئا إطلاقاً بل لم تراها منذ عدة سنوات وزاد الوقت الفارغ في حياتها وقد رأت أن التفكر في الآخرين والتفكير في حياتهم وفي أمورهم ماكينة جيدة لإحراق الوقت ولذلك كانت تلقي بالوقت الزائد في حياتها تحت محركات تلك الماكينة أولا بأول .
ولذلك كانت تعرف كل شئ عن من يعيشون في الحي الذي تسكن به وتستمد معرفتها من خلال متابعتها المستمرة لهم وأيضا من خلال بعض الكلمات العابرة التي تسمعها من أفواه الناس أو الجيران أو أفواه أبويها أو من خلال الأحاديث التي تدور حولها عن أي شئ .. وأيضا من خلال التعليقات التي تسمعها من الوالدان حول كل شئ .وهكذا كانت حياتها .. وحيدة .. من الصعب أن يفهمها أحد في حين أنها كانت تفهم الجميع وكانت تعيش وحيدة .. وتذهب وحيدة .. وتأتي وحيدة .. حتى في منزلها كانت تنام في غرفة وحدها .. وكانا أخاها في غرفة وحدهما واعتادت علي أن تصحو مبكراً عند الشروق وتذهب إلى الشرفة أو إلى النافذة وتتابع الحي وهو هادئا تماما .. صامتاً .. فارغا .. ثم تبدأ الحركة فيه تدريجياً ثم بعد عدة ساعات يمتلأ الحي بالضجيج والأصوات العالية ونداءات الباعة الجائلين والأطفال الصغار والسيدات المتناثرات و …………. الخ .
و أصبحت الساعة في التاسعة ولازالت واقفة غارقة في مشاهدة أهل الحي لا تمل أبداً من مشاهدتها المستمرة لهم .وفوجئت بأمها تنادي لها : يا سماح .... يا سماح ....
ودخلت لأمها وهي تقول : نعم يا ماما فردت أمها : الساعة بقت تسعة يا بنتي يللا عشان نشوف ورانا إيه هنعمله في الشقة انتي مبتزهقيش وقفة في البلكونة تلاقيكي وقفة في البلكونة من صباحة ربنا زي عادتك .
ولم ترد عليها.. فقد كانت تسمع منها تلك العبارات دائماً وأصبحت تلك العبارات معتادة ليس فيها جديد ولذلك لم ترد عليها بل ذهبت مباشرة إلى المطبخ لتقوم بغسل الأواني .
وانهمكت في بقية أعمال المنزل وفي الساعة الحادية عشر أنهت أعمال المنزل وجلست لتشاهد التليفزيون وفي أثناء تلك الفترة التي انقضت كان والدها قد استيقظ وذهب لعمله وكذلك استيقظ أخيها سعد للذهاب إلى الجامعة وأخيها محمود استيقظ للذهاب إلى مدرسته وكانت هي تكبرهم في العمر فكانت تكبر أخيها سعد بعام واحد وأخيها محمود بأعوام كثيرة فقد كان لا يزال صغيراً .
وفي أثناء مشاهدتها للتليفزيون شعرت بأصوات غريبة علي سلالم منزلهم .. شعرت أن هناك بعض الأفراد في صعود ونزول مستمر وكانت تسمع كلمات متقطعة منبعثة من هؤلاء الأفراد مثل : خلي بالك .. حاسب .. تعالي هنا شوية .. شيل من الناحية دي .. ارفع من هنا ......... .
وأحست أن هناك شيئاً جديداً يحدث داخل منزلهم وذهبت في خطوات مسرعة إلي نافذة المنزل ثم نظرت منه فاصطدمت عيناها بعربة نقل تحمل موبيليا وأجهزة وأدوات منزلية وعدة أفراد ينقلون هذه الأشياء إلى أعلي منزلهم وفهمت أن هناك سكان جدد قد جاءوا للإقامة بمنزلهم فأسرعت إلى أمها تسألها في لهفة قائلة : ماما دا في سكان جداد جم وجايبين العفش بتاعهم في عربية وبيطلعوه فوق هو في شقق فاضية في البيت ؟
فردت أمها عليها قائلة وكأنها علي علم بما يحدث: أه دا تقريبا صاحب البيت أجر الاودة اللي فوق السطوح زي ما كان معرف ابوكي .. ما هو كان قايل لأبوكي إنه هيأجرها .
وتذكرت سماح أن هناك بالفعل غرفة بأعلى منزلهم فوق سطوح المنزل ... وقالت لامها وهي تفكر وكأنها تحادث نفسها : يا تري مين اللي هيسكن فيها !!
وردت أمها عليها في سرعة : ما اللي يسكن يسكن إحنا مالنا .
وعادت سماح إلى النافذة لتشاهد محتويات الغرفة والأفراد الذين يحملون هذا الأثاث لاعلي المنزل .
وانقضت فترة الظهيرة ثم أصبحت الساعة في الثالثة عصرا وسماح تحرق ساعات يومها بين التلفزيون والوقوف في الشرفة والنظر من النافذة ومساعدة أمها في طهي الطعام .
ثم سمعت دقات الباب وكانت تعرف أن أخيها الأصغر هو الطارق فهو دائما يأتي في هذا الوقت ولم يكن احداً أخر يطرق بابهم سوي أخويها وأبيها .. ولا يزورهم احداً مطلقاً .. وكانت تعرف أن أبيها لا يدعو أصدقائه إلى المنزل .. فربما كان لا يأتي بهم إلى المنزل حفاظاً علي حرمة هذا المنزل .. وربما كان يفضل مجالستهم علي المقهى .
وفتحت الباب لأخيها الأصغر .. ودخل إلى الشقة والقي بحقيبته علي المقعد ودخل غرفته ليبدل ملابسه وهو يقول : إمال ماما فين يا سماح .. هي بتعمل إيه .. لسة مخلصتش الأكل .
وجائة صوت سماح تقول : لسة .
في حين أن أمه كانت ترد عليه في نفس الحين بعد أن سمعته : لسه يا حبيبي استني عشر دقايق بس لحد ما أبوك واخوك الثاني يجي وهحطلكم الأكل .
ومر الوقت وعاد أخيها وعاد أبيها وجلسوا جميعاً علي المائدة لتناول الطعام .. وفي أثناء تناولهم الطعام .. قالت سماح لأبيها : إمال مين اللي سكنوا فوق يا بابا ؟ .
فرد أخيها محمود في لهفة متسائلا : سكنوا فوق ؟؟ فوق فين هو في شقق فاضية في البيت ؟؟ .
فقال والدهم : أه دا الحاج أيمن صاحب البيت كان قالي من يومين إن في واحد هييجي يسكن في الاودة الفاضية اللي فوق السطوح .
فرد محمود قائلا : واحد لوحده ؟
فأجاب الأب : مش عارف بس هو كان قالي إنه واحد عازب هيسكن في الاودة دي .
وانتهي الغداء وقامت سماح بغسل الأواني بعد تناول الغداء أما أخويها وأبيها ذهبوا إلى النوم .. فقد كانت عادة الأسرة أن تنام ساعة أو ساعتين بعد إنهاء العمل وقد حاولت كثيراً أن تفعل مثلهم وتقلدهم في هذا الشيء .. وتذهب ..ً وتسترخي إلى فراشها لتنام ولكنها لا تستطيع ولا يأتي لها نوماً فتنهض من علي فراشها وتذهب لمشاهدة التلفزيون أو الوقوف في شرفة المنزل لمشاهدة الناس ولمتابعة الأفراد وهم يتحاورون .. وهم يعملون .. حتى الأفراد السائرين .. كانت تتابعهم .. حتى عرفت كل من يمروا من شارعهم . ونادراً عندما كانت تشاهد وجه جديد يمر من شارعهم فتتأمله وتنظر إليه في اهتمام وتذكرت الساكن الجديد في منزلهم وأخذت تسال نفسها عنه ... هل طويل ؟ … قصير ؟ ... أشقر ؟ … أسمر ؟ ... خفيف الدم أم ثقيل ؟ .. جادا أم تافهاً ؟ .. إنها لم تعرفه .. لم تشاهده .. إنها تريد أن تراه .
إنها تعرف الجميع عدا هو .. كيف يكون هناك واحداً يسكن في البيت الذي تسكن فيه وهي لم تشاهده بل تعرفه .. إنها تعرف كل من في الحي .. وتعرف وجوههم واشكالهم وأصواتهم وكل شئ خاص بهم .. فكيف لا تعرف واحد من أهل منزلهم ؟ ..
وتولدت بداخلها حيرة وشعرت أن هناك شيئاً ينقصها إنها حقاً تريد أن تعرفه .. أو علي الأقل .. تشاهده ..
ولكن كيف ستصعد إلى السطوح وحدها بعدما عرفت أن هناك ساكن جديد أعزب قد سكن به ولأي سبب ستصعد وماذا سيقول عنها الساكن الجديد إذا رآها تصعد إلى السطوح بدون سبب ؟ .. إنه سيعرف لاحقاً أنها صعدت لتراه .. وربما لتتحدث إليه .. وهي لا تريد ذلك .. ولذلك لم تصعد .. وانتظرت لتراه وهو داخلاً أو خارجاً من باب المنزل في الصباح أو في المساء .. وتذكرت أنها تنشر الملابس المغسولة أحيانا فوق السطوح بعدما تمتلئ الشرفة والنافذة فيتبقى بعض الرداءات والملابس فتصعد إلى السطوح وتنشرهم وانتظرت إلى أن يأتي يوم الغسيل .. وكانت أمها دائما تغسل الملابس يوم الجمعة.. ففي صباح هذا اليوم بالتحديد تدير محركات الغسالة وتلقي بها الملابس المتسخة وتلاحقها ابنتها سماح بنشرها وتملأ الشرفة والنافذة وتصعد إلى السطوح لتستكمل نشر بقية الملابس المغسولة التي لم تجد لها أحبال في شرفتهم أو في نافذتهم وانتظرت سماح إلى أن يأتي يوم الجمعة .
ولكنها سوف تراه داخلا أو خارجا بالتأكيد قبل يوم الجمعة وأصبحت تقف في شرفة المنزل وقد التهت به عن الآخرين .. تقف وكأنها تتعجله في النزول ولكنه لا ينزل .
وهكذا كانت سماح تعيش أيامها ليس لها وإنما للآخرين .. تنظر للآخرين وتفكر في الآخرين وتسمع من الآخرين وتعرف عن الآخرين بل إنها أصبحت لا تعيش لنفسها وإنما للآخرين .
وكان كل رجال وسيدات وأطفال الحي يعيشون في عقلها .. ربما كل شئ كان يعيش في عقلها ولذلك كان عقلها هو سبب حيرتها دائما .. وكانت تعلم .. كانت تعلم أنها مأخوذة للناس .. وربما كانت تعلم أنها مريضة .. مريضة بالناس .. هذا المرض النفسي الذي يسري في دماءها وفي عقلها وفي روحها وفي كل شئ فيها .. ولكنها لا تستطيع أن تعود .. تعود من هذه الدوامة الغارقة العميقة .. دوامة الناس .. ربما لم تجد شيئا في حياتها لتنشغل به فانشغلت بالآخرين .. وربما كانت هناك عوامل نفسية قد جعلت منها شريط لتسجيل أحداث الآخرين .. وربما كان هذا مرض نفسي .. وكانت بالفعل تشك أحيانا في ذلك ولكن لا تلقي إليه بالا وتتعامل مع هذا الشك بلا اهتمام بل تلقي به بعيدا عن ذهنها عندما يأتيها .. وكانت لا تبالي به .. كانت دائما ساهمة .. متوترة .. غير مركزة .. عقلها شارد .. لا يدري أين يستقر .
كانت لا تطلب لنفسها أي شئ ولا تكلف أبيها شراء شئ لها .. لا ملابس ولا أدوات معينة ولا أي احتياجات خاصة بها .. ربما لان كانت لا تدري بنفسها وكانت حياتها بعيدة عن ذهنها وبعيدة عن ذاكرتها .. حيث كان عقلها وكانت ذاكرتها للناس ولأفعال الناس .. لطباعهم وأشكالها وكلماتهم وكل ما فيهم .
ومر عليها يومان والساكن الجديد لم يخرج من المنزل !! .. وهي تتعجب لذلك حتى خمنت أنه بدون عمل .. وربما كان يعمل ولكنه الان في أجازه مثلاً .. وربما كان يعمل ولكن في فترة المساء بحيث يدخل ويخرج دون أن تراه !! حيث كانت لا تطيل الوقوف في النافذة إلا في النهار .
واضطرت أن تنتظر إلى أن يأتي يوم الجمعة حيث أنها ستراه بالتأكيد عندما تصعد بنفسها إلى سطوح المنزل .

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:10 PM
الفصل الثاني


إنها لم تجرب من قبل طعم الانتظار .. كانت تعيش كل لحظة في وقتها .. تعيش اللحظة في نفس اللحظة .. لا تفكر في الغد ولا تنتظره فهي تعرف أن الغد مثل اليوم مثل أمس .. ليس هناك جديداً .. لا يوجد شيئا جديداً في الغد لتنتظره .. ولذلك لم تكن تعرف ما هو الانتظار .. إن حياة البشر عبارة عن انتظار .. فهناك من ينتظر الزواج .. وهناك من ينتظر النجاح .. وهناك من ينتظر عملاً جديداً .. أو ترقية في عمله الحالي .. وهناك من هو في انتظار التخرج .. و ……. الخ .
حياة البشر جميعاً عبارة عن انتظار .. وكانت هي في انتظار رؤية الساكن الجديد !! .. كانت تعلم أن هذا الشيء تافهاً .. ولكنه كان هام بالنسبة لها .. ربما لان حياتها كانت فارغة من أي شئ هام .
وجاء يوم الجمعة .. واستيقظت عند الشروق كعادتها .. وعلي وجهها ابتسامة كإبتسامة الطفل الصغير في صباح أول أيام العيد .. وخرجت إلى شرفة المنزل أيضا كعادتها .. وكانت تعرف أن أمها ستصحو بعد قليل لأنها اعتادت علي أن تصحو مبكراً في يوم الجمعة بالتحديد لتنهي غسيل الملابس ونشرها مبكراً وبالفعل بعد ساعة واحدة سمعت سماح وهي في شرفة المنزل صوت موتور الغسالة يدور وصوت أمها في نفس الحين وهي تنادي وتقول : يا سماح يا سماح .. يادي البلكونة اللي مبتزهقيش منها خالص .
ودخلت إلى أمها وسألتها وعلي وجهها ابتسامة .. كأنها تعرف إجابة سؤالها مقدما : إيه هنغسل دوقتي ؟ .
وأجابت أمها في تعجب : أيوة انتي مش شايفة الغسالة دايرة ؟ .
وانشغلت الام ومعها سماح في تنظيف الملابس ثم قامت سماح بنشر بعضها في نافذة الشقة وشرفتها وكانت تترك مسافات فارغة بين كل قطعة والأخرى كي يتبقى جزء كبير من الملابس لتقوم بنشرها أعلي المنزل !!
ودخلت إلى أمها تقول لها :الأحبال إتملت يا ماما أنا هطلع أكمل نشر فوق .
وحملت بعض الملابس وصعدت .. وكانت الساعة حينئذ في التاسعة .. وكانت تصعد سلم المنزل وهي تمني نفسها أن تري باب الغرفة مفتوحاً كي تشاهده وتشاهد كيف رص الأثاث والموبيليا في الغرفة وكيف يسكن وكيف يعيش فيها .. وصعدت ودخلت إلى السطوح .. ولكنها اصطدمت بباب الغرفة مغلقاً وأصيبت بخيبة أمل .. ولكنها شاهدت كرسي خارج الغرفة بجانب بابها .. ربما يجلس عليه خارج الغرفة أحيانا !!
وقررت أن تتباطأ في نشر قطع الملابس لكي يمر كثيرا من الوقت ويخرج .. ربما يلقي إليها بعض الكلمات وتتعرف إليه .
وفوجئت وهي تضع القطعة الأولى بباب الغرفة ينفتح ثم خرج منه .. انه شاب يبدو في الثلاثين من عمره .. طويل وقمحي وتبدو عليه أثار النوم ويرتدي جلبابا .. وتتناثر علي وجهه بعض الشعيرات وأيضا تبدو علي وجهه علامات الغضب من لا شئ .. وعندما رآها اصطدم بها .. وانفتحت عيناه إلى آخرهما ونظر إليها في دهشة وكأنه يحادثها بنظرته .. كأنه يقول لها بعينيه : إنتي بتعملي إيه هنا ؟ .
وشعرت هي بذلك وأحست بالخجل .. وأخذت عيناها تنتقل بين وجهه وبين قطع الملابس وكأنها تقول له : انا طالعة هنا انشر !! .
ثم نطقت أخيرا وقالت له في خجل واضح : إحنا متعودين ننشر الهدوم بتاعتنا هنا كل يوم جمعة أصل البلكونة والشباك مش بيكفوا .
وفوجئت بأنه لم يرد عليها ويتجاهلها تماماً .. وتجاهل كلماتها ودخل إلى الغرفة وترك بابها مفتوح .. وشعرت هي بالخجل يسري في عروقها وندمت علي أنها كانت تنتظر يوم الجمعة وتنتظر رؤيته .
وأثناء نشرها للملابس كانت تنظر بعينها إلى داخل الغرفة في سرعة ثم تعود بعينها وكأنها تهرب بهم .. وكانت تراه يجلس علي الأريكة و هو يمدد قدميه شارد العقل وكأنه يحادث نفسه أو يفكر في قضية هامة أو يفكر بصوت عالي .. وقد أحست هي بأنه غير طبيعي !! .. وأنه مجنون !! .. وأحيانا كانت تراه يضحك بصوت عالي بدون سبب .. وأحيانا أخري .. يغضب ويثور أيضا بدون سبب .. ويقف فجأة .. ويجلس فجأة .. ويثور فجأة .. ويهدأ فجأة .. ثم يضحك .. وفجأة .. يعود للحزن كل هذا يحدث بينه وبين نفسه وبدأت تخاف منه وبدلاً من أن تتباطئ في نشر الملابس كما قررت .. أسرعت في نشرها كي تنزل من هنا بسرعة وبسلام !! .. وبالفعل أسرعت في نشر الملابس حتى إنتهت منها ونزلت بسرعة .
كان قلبها مقبوض وكانت تسال نفسها .. تري هل هو مجنونا ؟ .. ربما كان قد مر بحادثة عنيفة أفقدته أعصابه .. ربما كان يفعل ذلك ليخيفها منه حتى لا تصعد إلى السطوح لكي لا تزعجه مرة أخرى !! .. ربما .......... ربما …...... لا تعرف .
إنه في هذه الفترة البسيطة قد إستحوذت علي كل تفكيرها وعقلها .. إنها تريد أن تعرف هل هذه الأشياء تصدر بقصد أو بدون قصد ؟ .. وإذا كانت بقصد .. فلماذا يفعل ذلك أمامها !! .. ولماذا لم يرد عليها في البداية عندما حادثته ؟.. أسئلة كثيرة كانت تتوالى علي ذهنها وكانت تبحث عن الإجابة فلا تجدها .
وفي صباح اليوم التالي صعدت مبكراً لتأخذ الملابس من فوق السطوح .. وصعدت ودخلت إلى السطوح فوجدته يجلس علي الكرسي المتواجد بجانب غرفته وأيضا شارد العقل وكأنه يفكر في قضية هامة وما إن رآها حتى ظهرت علامات الدهشة علي وجهه وكأنه يقول لها : إنتي تاني !!!!!! .
فنظرت إليه ثم إلى الملابس المنشورة وكأنها تقول له بنظرتها : هاخد الهدوم بس و أمشى ! .
وذهبت لتجمع الملابس المنشورة وهي في حالة تعجب .. لماذا ينظر إليها هكذا ويعاملها هكذا ؟ .. إن شباب الحي ورجال الحي لا يعاملونها هكذا مطلقا .. إنها لم تعتاد من قبل على هذه المعاملة من أحد .. إنه شيئا جديداً في حياتها .. حتى ولو كان سيئا ولكنه جديدا !! .
ومرت دقائق وهي تقوم بجمع الملابس حتى فوجئت بسماع صوت شئ ضخم قد ألقي علي الأرض خلفها ونظرت خلفها بسرعة في خوف فوجدته قد وقع من علي المقعد علي الأرض بعد إن انكسرت إحدى أقدام المقعد وأخذ هو يتألم وهو يمسك قدمه بكلتا يديه .. فلم تتمالك نفسها من الضحك فضحكت .. بصوت عالي وأمامه .. أما هو فشعر بغيظ شديد ونظر إليها نظرات لوم وعتاب وكأنه يقول لها بعينيه : بتضحكي عليه ؟؟!! .
وتباطئ في القيام من علي الأرض وكأنه ينتظر مساعدتها له في أن ينهض .. ولكنها تجاهلته تماما وكأنها ترد له معاملته لها .. وشعر هو بغيظ أكثر فقام من علي الارض وأخذ يكسر في المقعد بغضب ثم ألقاه في نهاية السطوح ودخل غرفته وأغلق بابها خلفه بعنف .. فضحكت هي ضحكة أخري وبصوتاً عالي وكأنها تشعل ثورته بضحكها عليه .. ونزلت ... ... وألقت بالملابس المنظفة في الدولاب بعد ترتيبها وكي بعضها ثم سمعت صوت أمها يأتي إليها من المطبخ وهي تقول : علي فكرة يا سماح انا ناسية أقولك ان خالك إتصل بأبوكى في الشغل عشان يسلم عليه ويطمئن علينا وأبوكي عزمه علي الغداء عندنا بكرة .
فردت عليها سماح في اهتمام وكأنها تسخر من هذا الأمر: خالي !! .. وإيه اللي فكره بينا اليومين دول بالذات .. ما بقاله شهور طويلة لا بيسأل ولا حتي بيفكر يسأل ولا هو ولا بنته حتى .
فاستكملت أمها في الحديث متسائلة: أه صحيح هي بنته دخلت الجامعة ولا قعدت في البيت بعد الثانوية .
فأجابت ابنتها في غير اهتمام : مش عارفة بس انا سمعت إنها دخلت المعهد بس مش متأكدة .
وقالت الام : بكرة ييجي ويمكن كما تيجي معاه وهنعرف .
وكانت سماح تحرق ساعات وقتها وعقلها كالعادة تائها في عالم الآخرين .. شارداً كعادته لا يرقد ولا يستريح ولا يهدأ .. وربما كانت تعلم أن هذا العقل بالتحديد هو سبب حيرتها .. وسبب تشتتها في دنياها بل إنه ليس ملكها إنه ملك للآخرين .. يستمع لأخبارهم .. ويحفظ أسرارهم .. ويشاهد أعمالهم .. ويتابع عاداتهم .. فقد كان هذا العقل مرجع لأي حدث بسيط يحدث حولها ..ولكن اليوم ترى عقلها يزداد تفكيراً في هذا الشخص الغريب .. ذلك الساكن الجديد فقد احتوى علي عقلها بالكامل في تلك الساعات الأخيرة .. إنها مندهشة من أحواله .. إنها تشك في أمره .. هل هو عاقلا ؟؟ .. أم مجنونا ؟؟ .. هل يفعل ذلك برضاه أم رغماً عنه أم هناك مرضاً يسري في عقله وفي جسده أم صدمة كبيرة في حياته نقلته إلى تلك الحالة .
كانت في حيرة مستمرة في أمر هذا الشخص .. كانت تريد أن تعرف .. فقد تعودت على أن تعرف عن الجميع كل شئ .
وجاء الغد …....
وكعادة كل يوم ذهب أخاها لليوم الدراسي وأبيها للعمل واعتكفت أمهـا معها في أعمال المنزل وفي طهي الطعام .
وفي هذا اليوم بالتحديد قد أسرفت الأسرة في شراء الطعام وأسرفت بالتحديد في شراء اللحوم والفاكهة .. ربما لان هذا اليوم يوماً مميزاً للأسرة .. يوماً يختلف عن غيره .. فهناك زائر جديد قادم اليوم .. سوف يقبل عليهم زائر لم يدخل عليهم من سنوات .. خال الأبناء وشقيق الام .
وانقضى الوقت .. وحان وقت الظهيرة وأنهت سماح هي وأمها إعدادات المنزل وطهي الطعام وانتظرت اخوتها وأبيها والزائر القادم .. وبعد لحظات .. سمعت سماح وأمها دقات جرس باب الشقة .. وذهبت .. وفتحت ...... إنه أبيها .. ثم بعد قليل حضر اخوتها.. وبعد لحظات أخري دخل خالها شقيق أمها وكانت هي أول من استقبلوه .. ونظرت في وجهه .. إنه تغير كثيرا .. فالشعر الأبيض يملأ رأسه .. و وجنتاه الحمراوين وعيناه اللامعتين .. إنه قد بلغ مرحلة بعيدة من العمر ولكنه لا يزال جذاب .. وربما شباب بنظراته وكلماته وروحه المعنوية المرتفعة .
ومعه ابنته.. وسلمت سماح علي ابنته واستقبلتها وفرحت بها .. إن ابنته أيضا غاية في الجمال .. صاحبة قوام رشيق .. وأنيقة .. وجذابة.. وصاحبة عينين خضراوين وشعر ناعم منسدل علي كتفيها .. وشقراء ..إنها جميلة .. كل شئ فيها جميل .. حتى ملابسها رائعة .. ولاحظت سماح كل ذلك ولم تبالي بل لم تغار منها .. فكانت تظن أن هذه هي طبيعتها .. كانت تعتقد أنها هي ( نفسها ) لا بد أن تكون كذلك لا شئ غير ذلك وأن ابنة خالها أيضا لا بد أن تكون كذلك لا شئ غير ذلك.
هذه طبيعة كل واحدة منهن .. فكيف تغير من طبيعة خلقها الله !! .. وتناولت الأسرة الغذاء .. و إستحوذت الام مع زوجها علي شقيقها .. وأيضا دخلت سماح مع هناء ابنة خالها لغرفتها لتحادثها وتجالسها وأغلقت سماح باب غرفتها .. وأخذت تتحدث الي هناء قائلة : إنتي عارفة .. في واحد فتح عندنا في المنطقة محل للأزياء وشكله جميل أوي و ….... .
وتقاطعها هناء في ملل وتقول : كلميني عن نفسك انتي يا سماح .. انا عاوزه أعرفك أكثر من كدة يا سماح .
فتسكت برهة ثم قالت وهي تبتسم وكأنها تذكرت شيئا هاما : إنتي عارفة .. في واحد باين عليه مجنون سكن في البيت جديد كنت بنشر الغسيل و ……….. .
فنظرت إليها هناء نظرة ذات معني ..كانت سماح تبحث في أعماقها عن شئ يخصها هي فلا تجد .. تنظر وتفتش عن أية أشياء خاصة بها بداخلها .. فلا تجد إن بداخلها عمق ولكنه عمق فارغ لا يوجد به غير أشياء فارغة .. و تخص غيرها .
كانت تائهة كمن يلهث في الصحراء وراء المياه ولا يجدها وكانت تتألم لذلك .. تحزن وتشعر بالحزن ولكن لا تبكي ولا تيأس .. تظن أن طبيعتها هكذا فكيف تبكي علي طبيعة قد ألقاها الله في حياتها ؟؟ .. وفي أحيان أخري كانت تشك أن هذا مرض نفسي يسري في دماؤها وفي جسدها .
وانتهت الزيارة وانقضى اليوم .. وسمعت والداها يعلقان علي زيارة اليوم بذكر السلبيات والإيجابيات التي فرضت نفسها اليوم وكانت تستمع .. تستمع من بعيد كعادتها .. ثم خلدت إلى النوم أخيراً .. وتوقف العقل أخيرا ..ً وبدأ العقل الباطن يعمل وتوقف عقلها .. عقلها الذي لا يهدأ .. ولا يعرف سوي العمل المستمر .
وجاء الليل .. بظلامه وهدوءه وسكونه ونجومه وقمره قد جاء بطبيعته التي تفرض نفسها علي كل شئ .. ومر وانتهى .. مثلما ينتهي كل شئ .. ودقت العصافير بتغريدها فوق الأشجار معلنة عن مولد صباح يوم جديد .. وتوقف الندي كأن توقفه يعد تقديرا للشمس التي ستسطع بعد قليل لتنير الدنيا بما فيها.. لتكشف عن كل شئ وتقوم بدورها في صنع النهار .
وفي هذا الحين انفتحت عيناها .. وامتدت يدها خلف رأسها لتساوي شعرها المسترسل علي جانب كتفيها وتمسح علي وجهها .. وبدأ العقل يعمل من جديد .. فنهضت كعادتها لتقوم بغسل وجهها تحت الماء البارد .. ثم تمر علي غرفة أمها وأبيها لتلقي عليهم نظرة كعادتها .. ربما لتطمئن عليهم .. ربما لأنها اعتادت علي ذلك .. ثم نظرة أخري إلى غرفة أخويها .. ولكنها صعقت وذهلت بالمفاجئة إنها لم تجد أخيها الأكبر .. لم تجده وفحصت الغرفة جيداً بعينين مفتوحتين إلى آخرهما .. ولكنها لم تجده وعرفت انه لم ينم بالمنزل .. إنه خرج في المساء ولم يعد .. ووضعت يدها علي صدرها وهي تشعر بخوف .. ماذا لو علم والديها بهذا الأمر ؟ ..
وأخذت تتساءل …
ربما قد أصيب بحادثة أثناء سيرة في المساء ؟
ربما قد ذهب لواحداً من أصدقاء السوء وكان سببا في ذلك ؟
ربما قد خرج بعلم والديها .. بل هم من أرسلوه إلى مكان معين ؟
و دخلت الي غرفته ثانية لتيقظ أخيها الأصغر وتسأله .. وقالت وهي تهزه بيدها برفق : محمود .. محمود إنت متعرفش أخوك بات فين من إمبارح ؟ . وكررت تساؤلها وهي تيقظه في تصميم .. ثم قال لها أخيها وبصوت نائم مثل جسده تماماً : أيوة يا سماح هنام كمان شوية قبل المدرسة .
فردت مسرعة : يبني أنا بسألك عن أخوك سعد مبتش في البيت إنت متعرفش هو فين ؟ .
فرد عليها وكأنه تنبه لسؤالها و يريد أن يجيبها بسرعة ليتخلص منها : سعد إستاذن من بابا بالليل وراح يذاكر مع صحبه ويبات معاه .
ثم أغمض عينه فوراً بعد أن القي بالعبارة المطلوبة وذهب إلى نوم عميق في نفس اللحظة .
وقد اطمأنت هي .. واستراحت .. وهدأت .
ثم أخذت تتخيل الليلة التي قضاها أخيها مع زميله .. كيف أتموا استذكارهم ؟ .. ماذا فعلوا بالضبط في ليلتهم .. بل وما الأشياء التي ذاكراها .. بل تخيلت ما هي المواد التي تدرس في كلية التجارة لأخيها ؟ .. ثم خرجت الي الشرفة لتقضي ساعاتها المقبلة .. أو ربما لتحرقها أو ربما لتقبل علي عملها اليومي !!! ..
وشاهدت الجميع وهم يخرجون من منازلهم واحداً تلو الأخر .. وسيدة تلو الأخرى .. لبدء يوم عملي جديد .. وفي هذه الأحيان تذكرته !! .. إنه لا يخرج مثل الآخرين .. لم يطل بوجهه إلى الشارع مثلما يفعل الآخرين .. إنه الساكن الجديد .. وتذكرت أنها لم تحسم أمره بعد .. ولا يزال عقبة في طريق أفكارها .. ودون أن تدري .. قررت أن تصعد إليه .. إن الساعة في الثامنة والنصف وتشعر أنها ستراه صاحيا .. قررت أن تصعد إليه !! .. إنها لا تري في قرارها ريبة سوي سوء موقفها أمامه لا أمام نفسها .. إن عقلها وحده من سيصعد إليه .. لا جسدها إنها لا تضع جسدها في الحسبان ولم تفكر مطلقا في ذلك بل كان هذا الجسـد بعيــداً عن ذهنهـا تمامـاً .. ربما كان ( منسي ) من جانبها فقد كانت تظن أنها عبارة عن عقل فقط .. عقل يحاور الجميع ويحادثهم ويعاملهم ويقوم هو بكل شئ .
وصعدت ..........
ولم تكمل صعودها إليه .. فقد عادت من منتصف درجات السلم .. ربما ترددت وكان قرارها الأخير هو التراجع .. ربما خافت من أن يظن أنها تود التقرب إليه .. وهي لا تريد ذلك .. إنها فقط تريد أن تعرفه مثلما تعرف الجميع .. تريد أن تحسم أمره ... عاقلا ؟.. مجنونا ؟ .. طبيعيا ؟ .. شاذا ؟ .. .تريد أن تعرف لتتخلص من حيرتها .
وانتظرت إلى أن يأتي يوم الجمعة مرة أخرى .........
وفي يوم من بين أيام الأسبوع ذهب والدها ( منصور ) مع الأسرة إلى إحدى الحدائق كنوع من النزهة وكانت سماح مع أخويها وأمها .. وقضت الأسرة يوماً بين الزرع الأخضر والزهور المتفتحة .. وكان يوماً خفيفاً وبه نوع من المرح الذي طغي علي الأسرة بحكم تغيير المكان .
وجلست سماح في إحدى الجوانب تنظر للزرع الأخضر وتتأمله .. لعل خضاره يغسل السواد القائم في حياتها .. لعل خضاره يطبع علي حياتها ويجعلها خضراء مثله .. وجاء والدها وجلس بجانبها وهو يقول لها في حنان وحب : بتفكري في إيه يا تري ؟ .
ونظرت إليه وكأنها تفاجئت به وابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تقول : ولا حاجة يا بابا .
فيستكمل تساؤله وقد اختفت الابتسامة من علي وجهه وظهرت عليه جدية في سؤاله القادم : انا مش عاوزك تكوني إنطوائية كدة .. ناس كثير بيقولولي سماح إنطوائية لأبعد ما يكون .. ليه كدة ؟ .
وردت وهي تحاول إقناعه : لا دا …......... .
وقاطعها قائلا : متقوليش حاجة .. انا بس هقولك علي حاجة .. لو فيه يا بنتي أي مشكلة في حياتك إوعي تترددي في إنك تفاتحيني فيها وتكلميني عالطول .. ومتنسيش إني أقرب الناس ليكي مهما كان .
فوضعت رأسها علي صدره وهي تقول له بعد أن أحست باطمئنان : ربنا يخليك ليه يا بابا يا أغلي الناس عندي .
و عادت الأسرة إلى المنزل مساء الخميس وانقضى الوقت وانقضى الليل ثم أشرقت الشمس ليوماً جديداً من أيام الحياة .. وقد استيقظت ( أم سماح ) مبكراً كعادتها في هذا اليوم بالتحديد .. يوم الجمعة .. لتنظف الملابس .. وقد سبقتها أبنتها سماح في الاستيقاظ أيضا ( كالعادة ).
ودار موتور الغسالة وألقت الام ببعض الملابس في جوف الغسالة وأخذت سماح تناولها بقية الملابس .. وبعد فترة امتلأت الشرفة وامتلأت النافذة بالملابس المنشورة وصعدت سماح بوعاء آخر كبير إلى السطوح لتستكمل نشر الملابس .. كانت تصعد وهي تسائل نفسها : هل ستجده ؟ .. إنه لا يهبط من المنزل أبداً .. نعم .. إنها تقف ساعات طويلة في شرفتهم ولم تشاهده وهو داخلاً أو خارجاً
و وجدت الباب مغلقا .. ولكن وجدت إناء طعام وشراب بجانب الكرسي الموضوع بجانب الباب !! .. ويبدو انه كان يأكل هنا .. كان جسدها ينشر قطع الملابس .. ولكن عقلها لا يدري شيئا عن تلك الرداءات .. وكان يفكر في بقايا الطعام .. والباب المغلق .. والشخص الكائن بداخل الغرفة.. وكانت تفكر مثلما تفكر دائماً .. إن عقلها لا يكف أبداً عن التفكير المستمر .. وفجأة انفتح الباب وخرج هو بقامته الطويلة وشعره الناعم ونظر إليها في تعجب .. أما هي فكانت تنظر إليه بين الحين والأخر دون أن تشعره بأنها تنظر إليه وانتظرت أن يتكلم ولم يحدث .. انتظرت أن ينطق بكلمة واحدة .. ولم يحدث .. إنها لم تستمع إلى صوته من قبل .. ربما كان أخرس !!! …
ونظرت مرة أخرى فوجدته قد استدار و أزاح الأطباق الفارغة من الطعام بقدمية .. و يزيحها إلى جانب الغرفة وكانت تضحك .. كان يفتعل كثيراً من الأشياء تضحك هي لها.. وأحياناً كانت تبتسم ولكن كانت سخريتها منه واضحة تماما وكأنها تقنعه بالفعل انه إنسان غير طبيعي بالمرة ….
ومر اليوم .. وانتهي .. ووجدت منه في الفترة الأخيرة شيئا مسليا لها يستحوذ علي الكم الأكبر من فكرها .. أو يحرق وقتها !!!
فكانت دائما تسخر منه .. وتضحك عليه .. وربما لاحظ ذلك في عديد من المرات ولم يفعل شئ ولكن ما يثير حيرتها .. أنه لا يتكلم .. لم يقول لها ولو كلمة واحـدة لم تسمـع صوتـه مطلقـا فتسـأل نفسهـا كثيـراً .. هل هو أخرس ؟
ومرت أيام .. وهي كما هي .. تفكر باستمرار في كل شئ وفي أي شئ .. وتريد ان تعرف كل شئ وعن كل شئ .. وأبيها يذهب إلى العمل ويأتي في موعده .. والام تتفرغ لاعمال المنزل من ترتيب ونظافة وطهي الطعام .. وأحيانا محادثة ابنتها في أمور الحياة أخويها .. بالدراسة الجامعية والابتدائية .. وفي يوم ما بعد الظهيرة سمعت سماح دقات جرس الباب فذهبت لتفتح الباب واصطدمت عيناها بشاب يبدو في العشرين من عمره شعره خشن .. وبشرته خشنة وعندما تحدث قال في خشونة : سعد موجود هنا دوقتي ؟ .
كان صوته وهو يتحدث أيضا خشن وغليظ .. كل شئ به خشن .. حتى شعرت أن تلك الخشونة تجرحها وتقززها فقالت له في عنف مكتوم .. وكأنها تطرده بصوتها وعينها : عاوز منه إيه ؟ .
فقال لها بنفس الصوت المزعج الخشن الغليظ : هذاكر معاه .
وكان أثناء حديثه معها يمزق ملابسها بعينه .. ويعريها من كل ما ترتدي .. بعينيه .. وينظر أليها بجرأة كانت تندهش هي لها .. وتندهش من نظراته المخجلة لها إنها لا تريده ان ينظر لجسدها .. وانما ينظر إلى عقلها .. ويحادث عقلها .. إنها تعتبر جسدها إضافة إلى عقلها … إنها عقل وليست جسد .. جسدها ما هو الا إضافة إلى عقلها بواسطة الطبيعة .
وبنظراته هذه يمزق الطبيعة التي صنعتها .. يمزق الطبيعة ويشوهها ويثبت لها أنها ليست اكثر من جسد فقط .. ويمحي عقلها .. و في تلك اللحظات .. أسرع سعد إليه مهرولا .. وقال له مرحبا به : أهلا أهلا خميس … اتفضل … خطوة سعيدة … اتفضل ) فشعرت هي بضيق شديد .. إنها تحتقره .. تحتقره .. وتحتقر حياؤه الميت وخشونته ونظراته وسفالته .. وكل ما فيه وربما قد إحتقرت أخيها في هذه اللحظة لانه سمح لشخص مثل هذا بدخول منزلهم بهذا الشكل .
وابتعدت عنهم … ودخلت إلى غرفتها .. ثم بعد لحظات قصيرة جاءها صوت أخيها من غرفته يناديها قائلا : يا سماح .. يا سماح اعملي شاي يا سماح من فضلك .
فردت بكلمة قد استخسرتها في أذن صديقه ولكنها نطقت بها رغما عنها وقالت : حاضر ! .
و إنساقت إلى المطبخ واثناء عملها الشاي كان عقلها يدور .. ويتخيل و يتوقع .. يبني ويهدم .. يصنع ويمحي .. كان عقلها دائراً لا يقف .. وبعدما إنتهت من صنع الشاي نادت لأخيها ليأخذ الشاي .. ربما كانت لا تتحمل أن تشاهد بعينها مثل هذا الشخص ( خميس ) وبعد لحظات قصيرة حضر أبيها .. جاء من الخارج .. وانزعج لوجود شخص غريب في المنزل الذي حرم هو عليه كل الأقدام الغريبة !! .. وسمعت أبيها ينادي علي سعد أخيها بعنف من شرفة الشقة .. فعرفت هي انه سينبهه ويحذره من تكرار هذا الموقف .. فهي قد حفظت شخصية وطباع أبيها تماما … بل كل الشخصيات التي تفكر فيها .. وبالفعل .. وجدت أخيها سعد خارجا من الشرفة وتبدو علامات الغضب علي وجهه .. وبعد دقيقة واحدة .. انصرف هو وصديقه ..وتخيلت هى ما قاله أبيها .. ربما قال له أبيه : ازاي تجيبه هنا ؟ .… أنت مش عندك أخت بنت ؟ و ……. .
وسعدت هي كثيرا بروح أبيها .. وبنخوته ورجولته .. وزاد افتخارها به وانقضت فترة من الأيام .. وهي كما هي .. تعيش للناس .. فقد أعطت لهم تفكيرها وعقلها وربما .. حياتها .. ولم يقترب صديق أخيها من المنزل ثانية .. وأخيها يدخل في هدوء ويخرج وحده في هدوء ولا زالت تسخر من الساكن الجديد .. من تلك الأشياء التي يفتعلها أمامها .. وتضحك عليه .. ولا تفكر حتى في مشاعره .. فقد كانت تعرف عنه انه اخرس مجنون .. والأخرس المجنون بلا مشاعر وبلا أحاسيس .
وانقضت فترة أخرى من الأيام .. حتى جاء يوماً لامعاً في ذاكرتها ومقدساً في حياتها .. فقد كانت تقف في شرفة المنزل كعادتها تقريبا في التاسعة صباحا وشاهدت ثلاثة رجال يهرولون إلى المنزل الذي تسكن به ويبدو علي وجوههم الحزن فانقبض قلبها وأخذت تمني نفسها بالخير .. وبعد دقيقة واحدة سمعت دقات جرس الباب .. ولم تتحرك من مكانها .. من الشرفة … وكأنها تهرب من الواقع .. من الحقيقة .. مما حدث .. وتركت أمها تفتح الباب وثواني معدودة وسمعت صرخة مدوية من أمها وصوت شيئا يسقط علي الأرض …

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:12 PM
الفصل الثالث

شعرت بالرعب قد القي في قلبها وكأن الأرض قد تكهربت والكهرباء تقتل وتعذب في جسدها .. واستدارت بأقصى سرعة وهرولت إلى باب شقتهم فوجدت أمها قد سقطت مغشياً عليها .. ورجلا يفيقها .. ورجلان آخرين والحزن العميق يبدو علي وجوههم .. فأخذت تتأملهم تأمل سريع إنها تتذكر أحدهم .. نعم .. لقد شاهدته من قبل .. إنه زميل أبيها في العمل .. انه زميل أبيها .. أن النبأ القادم عن أبيها .. ماذا حدث لأبيها ؟
واقتربت لهذا الرجل .. اقتربت إليه وكأنها تقترب من قنبلة تخشى أن تنفجر في وجهها .. وسألته بصوت متقطع ضعيف باكي مثل عينيها : بابا ماله ؟ .
فرد عليها وكأنه يعتذر .. كأنه يعتذر عن قرارات القدر : البقاء لله يا بنتي .. ربنا يخليلك والدتك تعوضك عنه إنشاء الله .
فمدت يدها أمام عينه .. كأنها تحجبه عن عينها وهي تصرخ بأعلى صوتها ودموعها تتساقط بسرعة علي وجهها وهي تقول بأعلى صوت : لا … لا … لا .
فيمسك هو بيدها ويحاول أن يهدئها وهو يقول : دا قضاء الله يا بنتي .. محدش يقدر يعترض علي قضاء الله .. قولي بس الحمد لله علي كل شئ وادعيله ربنا يرحمه .
وانتهي اليوم بصعوبة .. ومرت أيام عصيبة جدا علي الأسرة .. كانت سماح وامها وأخيها ( سعد ومحمود ) يعانون الأحزان والمآسي .
وكانت سماح تردد دائما في حزن وبكاء كلمات مثل : بابا خلاص راح مش راجع تاني .. مش هشوفه تاني ولا هسمع صوته تاني .. ولا هلمسه تاني خلاص انتهي .. بابا انتهي خلاص .. هتوحشني أوى يا بابا .. محتاجالك يا بابا يا حبيبي .. نفسي ترجع تاني .. بس انت خلاص مش هترجع .
وتشتد في البكاء وكأنها فقدت أغلى ما لها في الحياة فقد كان أبيها بالنسبة لها في اختصار شديد .. مثال للإنسانية .. وعرفت فيما بعد انه توفي بأزمة قلبية حادة قد أصيب بها فجأة .. وبعد حوالي أسبوع من وفاة رب الأسرة .. ساد الهدوء التام شقة الأسرة وانقطعت سماح عن الوقوف في النافذة في هذه الأيام ولكن لم يتوقف عقلها لحظة .. وربما أخذ التفكير في الموت جزءا كبيرا من تفكيرها .
وجاء يوما بعد حوالي حادثة الوفاة بثمانية أيام .. وكانت سماح وأمها أخويها يجلسون صامتين .. بلا كلام .. ثم انطلقت دقات جرس الباب .. ونهضت سماح لتفتح الباب وما إن فتحته حتى ذهلت بما رأت .. لم تصدق عينيها .. وانفتحت عينيها إلى آخرهما وقفزت علامات الدهشة إلى وجهها .. انه هو .. نعم هو …
الساكن الجديد !!
إنها تشاهده وكأنها تشاهده للمرة الأولى .. يرتدي بدلة سمراء .. وبأسفلها كرافتة زرقاء .. وتظهر خصلات شعره الناعمة لامعة .. ويحمل بيديه بوكيه ورد .. وعندما شاهد سماح تنظر أليه هكذا ولم تتكلم .. قال هو في رشاقة وفي وقار : مساء الخير .. أقدر اتفضل ؟ .
إنها سمعت صوته.. نعم .. للمرة الأولى تسمع صوته .. إن صوته دافئ .. ويدفئها .. بل ويذيبها في صوته الرزين .. إنها تستمع لصوته .. وتسائل نفسها لماذا كان صامتاً ولم يتكلم من قبل ؟ .. وردت عليه بتلقائية : أهلا أهلا بيك .. إتفضل .
واستقبلته الام بكلمات الترحيب .. ولكن لا يزال الحزن مسيطرا علي كلماتها وعلي ترحيبها .. فتظهر وكأنها تؤدي واجباً ما .. وتكرر : اهلاً اهلاً بيك يا بني إتفضل .
وجلس في وقار وهو يقول بنفس صوته الدافئ الرزين : البقاء لله .. انا ممكن محتكتش بالأستاذ منصور الله يرحمه غير في موقف واحد لكن في الحقيقة من خلال الموقف ده أثبتلي انه مثال للاحترام والتقدير .. وأنا بتشرف النهاردة وأنا بتعرف علي أسرته الكريمة .
كانت الام مستمعة .. وترد علي كلماته بكلمات مقابلة لها .. كمثل : ربنا يخليك يا بني .. ربنا يكرمك ويكرم أصلك .. إنت شرفتنا النهاردة .... الخ
وكانت سماح مأخوذة الي كلماته .. ولباقته في كلماته وصوته الدافئ وجلسته الرشيقة ونظراته المشرقة وأحست في هذه اللحظات أنه قد جاء الي هذه الغرفة المتواجدة بأعلى المنزل ليس ليسكن .. وإنما لغرض ما وان هذه الغرفة ليست مكانته التي يستحقها .. ربما جاء هرباً من ظلم كبير قد تعرض له .. ربما من جريمة قد ارتكبها .. ربما هربا من الدنيا !! .. وأحست بأن هذه الغرفة لا تليق به وسخرت من نفسها لأنها كانت تسخر منه .. ولكن لا تزال دهشتها تلاحقها .. لماذا كان يفتعل أو يفعل هذه الاشياء الغريبة !! واستمر الحديث بينهم فقد كانت الام تقول له : بس انت يابني باين عليك طيب وإبن أصيل وربنا هيكرمك .. وإنت زيارتك لينا النهاردة شرف لينا .. والله يكون في عونك على قعدتك لوحدك .
فيرد عليها قائلا في هدوء : لا عادى .. انا أصلي متعود على كدة
فتقول في حيرة : بس إنت من يوم ما جيت مشوفناش حد جاه زارك خالص .. أنت مالكش قرايب ؟ .
فيقول لها وقد بدأت علامات الملل تقفز الى وجهه من حديثها : ليه طبعاً.. هوه في حد مالوش قرايب ؟ .
فترد في تصميم : إمال مش بييجوا يشوفوك ليه ؟ .
فيقول : ميعرفوش العنوان .
فتقول في تصميم أكثر : الله طب ومش بتديهم العنوان لية يبنى ؟؟ .. مش لازم برده يبنى تديهم العنوان عشان يجوا يشوفوك ويطمئنوا عليك برده !! .
فيرد كأنه يريد أن يتخلص من هذا الموضوع : حاضر يا حاجة .. ربنا يسهل إنشاء الله
ويستمر الحديث لحظات عن ( المرحوم ) ولحظات عن التعارف الجديد بينهم ولحظات عن سعد ومحمود ودراستهم .. وتنتهي الزيارة .
ولم تنطق سماح خلالها بكلمة واحدة .. كانت لهفتها على أن تستمع إلى كل كلمة يقولها تحرمها من أن تتحدث .. تريد أن ترى الشخص الجديد الجالس أمام عينيها إنها لم تلاحظ وسامته سوى الان .. لم تلاحظ رشاقته و وقاره وإسلوبه البليغ سوى الان .
ونهض .. وخرج من الباب بعد أن ترك لهم الورود ذات الرائحة المنبعثة .. ترك لهم بصمة .. وربما ترك لسماح وحدها .. تفكير وتساؤلات !! .

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:15 PM
الفصل الرابع

مر على وفاة أبيها حوالي شهر .. وقد ظهر خالها في حياتهم .. ولكن من بعيد .. كعادته .. أن يكون بعيداً عنهم .. فكان يتصل بهم عبر الهاتف .. ويرسل إليهم بعض المستلزمات .. ويأتي ليزورهم ولكن لا يجلس أكثر من دقائق معدودة .. كأنه يخاف من أن يتعلقون به .. ويصبحوا أمانة في رقبته .. فلذلك كان يؤدى واجبه نحوهم سريعاً ويبتعد .. ويظل بعيداً .. خوفاً من أن تصبح المسئولية علية دائمة ورسيمة .
وكانت سماح قد تعودت على أن تتحدث إلى الساكن الجديد في أيام الجمعة بعبارات كمثل ( إزيك .. أهلا بيك .. مساء الخير .. صباح الخير ) وكلمات أخرى من هذا القبيل وهو يرد عليها بكلمات مقابلة لها .. وعرفت إسمه فيما بعد ( خالد ) وتطورت التحيات بينهم إلى كلمات عابرة .. وتعقيبات سريعة .. وعلاقة هامشية .. وكانت تفكر فى كل كلمة تقولها له قبل أن تنطق بها .. تفكر فيها جيدا .. بل وتتوقع رد فعله عليها .. و تفكر أيضا فيما بعد كثيراً .. وتعيدها على نفسها .. وتدريجياً .. تحولت العلاقة الهامشية بينهم إلى علاقة جيرة !! .. إثنين جيران يتحدثون ...
كان كل هذا فى اعتبارها ليس أكثر من عقل يحادث عقل .. أو عقل يحادث إنسان .. المهم هى فى حد ذاتها فى نظر نفسها ليس أكثر من عقل .. لا تضع جسدها فى الحسبان ولا تتذكره .
وجاء يوم جمعة .. وصعدت هى الى السطوح لتقوم بنشر الملابس .. و وجدته واقفاً يشاهد الأفراد المارين فى الطريق وكذلك السيارات التى تمر من الطريق العام الذى يظهر من بعيد .. وعندما شاهدته .. ابتسمت وهى تنظر الية وتقول: إنت إتعديت مني وللا إيه ؟ .
فينظر إليها ويفاجأ بها .. ويبتسم هو الأخر قائلاً فى استفسار : ليه .. واتعديت بإيه ؟ .
فتجيبه قائلة : لا ولا حاجة .. أصلى متعودة أقف في الشباك أو البلكونة كتير أوى .
فيبتسم وينظر أمامه .. وتبدأ هى في نشر قطع الملابس .. وتبدأ أيضا الكلام .. وكأنها تبحث عن موضوع للحديث فية .. وتقول : تعرف إن الحياة دي بقت صعبة أوي .. وكل لما الإنسان يتقدم في العمر .. كل لما صعوبتها بتذيد علية .
فيبتسم ابتسامة لا تعبر إلا عن الثقة .. ويقول : صدقيني .. الإنسان هو اللى بيصعب حياته على نفسه بإيده .. وبرده هو اللي بإيده يسهلها .
فتقول هى فى غير اقتناع : إزاى بأة .. قصدك تقول إن الإنسان هو اللي بيتعس نفسه سعات .. طب إزاى ؟ هو في حد يتعس نفسه ؟ .
فيجيبها متعمقاً في الموضوع : الإنسان عمره ما يتعس نفسه ولكن الظروف المحيطة بة هى اللي بتتعسه .. وغالباً بيكون هو صانع الظروف دى بنفسه .. يصنع ظروف سيئة وبعدين تضره .. ويرجع يقول أنا حياتي تعيسة .. يعني الطالب يفضل يلعب طول السنة .. ويجي في الآخر يرسب .. ويرجع يقول انا حياتي صعبة .. الموظف .. يقتل ضميره في عمله .. وأحيانا يغتلس ويسرق وبعدين يدخل السجن ويرجع يندم ويقول أنا تعيس .. البنت تمشى مع واحد واتنين وتلاتة وبعدين لما تبقى سمعتها سيئة .. تقول أنا عايشة تعيسة .. الإنسان نفسه يفضل طول عمره يعصى ربنا ويبعد عنه .. وفى الاخر يدخل جهنم ..بعدين يبكي ويندم ويحزن ويقول أنا تعيس .. إذاً الإنسان هو اللي بيصنع تعاسته بنفسه .
فتنظر الية نظرة استسلام .. وكأنها اقتنعت بكلماته المصوبة .. ومن داخلها إعجاب كبير بفكره .. ولكنها تقاوم هذا الاقتناع وهذا الاستسلام وتوجة إلية سؤلاً مباشراً في حدة .. وتقول : لكن أحياناً الإنسان بيمر بظروف صعبة .. ومش بيكون له يد فيها خالص .. يعني مثلا بابا لما مات !! .
ثم تنظر إلى الأرض بعد أن ظهرت علامات الحزن على وجهها وكأنها تذكرت هذا اليوم .. ويلاحظ هو ذلك فيقول لها لاحقاً : من الناحية دي الجانب الإيماني لدي الإنسان هو اللي بيتحكم فيه .. وبرده هرجع وأقولك هو اللي بيتعس نفسه برده .. إنتى لو عندك اقتناع كامل وإيمان تام بالله .. وبان الموت وارد على كل البشر .. مش تتعسي .. يمكن تزعلى على فراقه لكن مش هتتعسي .. وهتقولى انا لله وإنا إلية راجعون وهتدعيله بدال ما تصرخي علية .. هتدعيله بدال ما تلبسي اسود على روحه .. هتقولي يارب ارحمه .. وزي ما قلتلك .. الظروف الطبيعية اللي بيمر بيها الإنسان .. بتتوقف على الناحية الإيمانية فيه .. يعني مثلاً لو خانتك صديقة انتى مخلصة ليها .. لو عندك إيمان بإن البشر مش ملائكة .. والأخطاء واردة فى حياتهم .. وإن الخيانة ممكن تكون من طبعهم .. مش هتتعسى .. لكن ممكن تزعلى من الصدمة .
وتقتنع هى بكلماته .. وباَرائة .. وبحديثه .. وبل وتشيد له بإعجابها هذا وعن اقتناعها .
وتدريجياً .. تحولت علاقة الجيرة التى بينهم إلى علاقة صداقة .. صداقة قوية بينهم .. صداقة طاهرة .. وكانت تصعد إلية كثيراً لتحادثه .. كانت أمها على علم بذلك .. فهى تثق تماما فى أخلاقها .. كما أنها لا تريد أن تضيق عليها التشديد .. خاصة بعد وفاة أبيها .. أغلى ما لها فى الحيــاة .
وكثرت الأحاديث بينهم وامتدت .. وكانت دائما تقتنع بأرائة وتعجب بها وتفتخر بأنها تسمع صوته وكلماته بل وكانت أحياناً تتخذ من كلماته .. مبادئاً لها .. ومن مقولاته .. حكماً لها .
وكانت أحياناً تتأمل أثاث غرفته وتندهش .. إنه أثاث ثمين .. قيم جدا .. لا يليق مطلقاً بهذه الغرفة !! ..
إن من لدية القدرة على شراء مثل هذا الأثاث .. لدية القدرة على شراء شقة أو منزل .. وليس استئجار غرفة !!! .
إن هذا الأثاث يليق بغرفة في قصراً .. وليس بغرفة بأعلى منزل !! .. وكانت تحتار كثيراً وتزيد حيرتها عندما تفكر في أمره .. بل في أصله .. من هو ؟ .. و من أين جاء ؟ .. وماذا يعمل ؟؟ .. ولماذا لا يخرج من المنزل ؟
كانت الأسئلة تتولى على ذهنها سريعاً عندما تفكر في هذا الأمر .. ولكنها لم تسأله .. نعم .. لم تسأله رغم الحوارات الكثيرة والأحاديث الكثيرة جدا التي دارت بينهم فى كل مجالات الحياة .. لم تسأله عنه هو ! .. ربما خافت من أن يظن أنها تشك فيه .. وهى لا تريد ذلك بل إنها تعتبره عالماً .. وصاحب خبرة كبيرة فى الحيـاة ! .. كان بالنسبة لها صندوق مفتوح .. تأخذ منه ولا يفرغ أبدا مما فية .. يعطى باستمرار .. كان يحدثها عن كل شئ ..المنطق .. المبادئ .. الأخلاق .. الطبيعة .. الأحاسيس .. المشاعر .. الفن .. الأدب .. الديانات .. كل شئ .. باختصار .. كان يحدثها عن الحياة .. الحياة بكل ما فيها .. بحلوها ومرها .. بسعادتها وشقاؤها .. كل الحياة .. وكانت تستمع إليه وهى مؤمنة تماما بفكره وكلماته وأرائه وكانت جلساتهم تمتد أحياناً الى الساعات .
وبدأ يستحوذ على تفكيرها وحده .. استحوذ على تفكيرها بدون قصد !! .. فكانت هى تبحر فى عالم التفكير وهى تشعر بسعادة ومتعة وسرعان ما تتذكر أنها لا تعرف عنه شيئاً .. فتغضب .. وكان هذا الشىء الذى ينغص عليها سعادتها .. إنه يحدثها عن الحياة ليس عن نفسه .
وجاء يوما كانت تجلس فيه هي وأمها وشقيقها الأصغر .. ثم سمعت دقات جرس الباب فنهضت وذهبت لتفتح وصدمت به إنه جاء الي هنا مرة أخرى .. ( خميس ) لا زالت تذكر اسمه .. إنه عديم الحياء .. كيف يأتي إلى هنا ثانية ؟ .. صديق شقيقها سعد قد جاء ثانية .. ويقف أمامها .. ويقول لها بصوت غليظ وعيناه لا زالت تتفحص جسدها كعادته : سعد هنا ؟ .
ترد هي في عنف وغضب .. وكأنها تنهره بكلماتها : لا مش هنا .. مش هنا .. مش موجود .
فيقول لها في برود ولا زال ينظر إليها في وقاحة : هو مش انتي أخته برده ؟ .
فترد عليه وهي تضم شفتيها غيظا : ليه بتسال ليه دي حاجة تخصك ؟ .
فيبتسم ابتسامة باردة كالثلج .. ويقول لها : خلاص خلاص انا هجيله كمان شوية .
ويستدير .. ويرحل .. وتغلق هي الباب بعنف وتزفر الهواء من فمها أيضا بعنف .. وتذهب إلى أمها وتجلس.. وتتردد في أن تقول لها عن هذا الشخص وتقرر الا تقول لها .. لأنها تعلم جيدا أن ليس بيدها شئ .. وعندما يأتعى المساء تفاجئ بان أخيها سعد قد عاد .. وبصحبة خميس .. وقد خرجت أمها وقد إصطحبه إلى غرفته .. وشعرت هي بضيق شديد وغضب .. تود لو دخلت الي غرفته وطردت هذا الشيء القائم بها وكان غضبها يزيد ويرتفع الي ذروته عندما كانت تستمع الي ضحكاتهم العالية التي كانت تصل الي حد القهقهة فتدرك أنه لم يأتي للاستذكار .. وتشعر بالغيظ الشديد .
وفجأة .. سمعت صوت أخيها ينادي من غرفته ويقول : يا سماح اعملي كوبايتين شاي يا سماح .
فردت عليه بتلقائية وبأعلى صوتها قالت : مش عاملة شاي .. مش هعمل يا سعد .. مش كفاية .
فنهض وخرج إليها مسرعاً وهو يبدو جاداً .. ونظر إليها في جدية وقال : إيه اللي انتي بتقوليه دا ؟ انتي إتجننتي ؟ .
ولم ترد عليه بينما كانت تبادله النظرات الجادة وكأنها تتحداه .. فإستكمل وقال : إنتي هتعملي الشاي ولا لأ ؟ .
إن الأمر لم يعد في نطاق المشروب ولكنه دخل الي نطاق التحدي .. و ردت هي بسرعة وفي ثقة وقالت : مش عاملة شاي يا سعد .
وصدمت وفزعت هي بأن رفع يده وهوي بها علي وجهها .. وصدمت لذلك .. وقالت له في دهشة كبيرة : بتضربني يا سعد ؟ بتضربني عشان واحد صايع زي ده ؟ .
و باليد الأخرى لطمها لطمة أخرى قوية على وجهها.. وبعنف قال لها : متقوليش صايع وأضربك وأكسر عضمك كمان .
وإنهارت دموعها علي وجهها مما تراه ومما يحدث لها .. و وجدت خميس صديق أخيها قد حضر ويشد أخيها ليبعده عنها وهو يقول له في فاعلية مصطنعة : خلاص خلاص يا سعد مكنش فيه داعي للي حصل ده .. الحكاية مش مستاهلة تعالي ننزل دلوقتي ونسبها لوحدها .
وتركاها وذهبا وأصيبت هي بآلام .. وبالجرح العميق يتولد بداخلها .. إن هناك شخصاً غريباً قد شاهد دموعها وأي شخص ؟ شخص قبيح في نظرها قد راَى دموعها وهي تنزف .. وكأن أمرها قد أفتضح أمامه .. إنتصر عليها .. أثبت لها أن قدمه ستدخل هنا في هذا المنزل رغما عنها .. وربما فمه سيشرب مشروباً من صنع يدها رغماً عنها أيضاً .. ربما كل شئ .. فقد إنتصر عليها بمساعدة شقيقها .
وعندما حضرت أمها لم تحادثها فيما حدث .. ربما كانت لا تريد أن تجعل من البيت ناراً مشعلة .. ربما كانت تعلم وتيقن جيداً أن أمها لن تستطيع أن تفعل شئ .. فقد كانت مسلوبة الإرادة مع إبنها الكبير وكانت تتركه لزوجها ثم تركه زوجها للدنيا ورحل .
وعندما تحدثت مع ( خالد ) في اليوم التالي .. أيضا لم تذكر له هذا الموضوع ربما خجلاً منه .. ربما كانت تشعر أنه أيضا لن يفعل شيئا وليس بيده شيئا .. فلماذا الحديث حول هذا الموضوع ؟ .. وتكرر إقبال خميس علي البيت بصحبة شقيقها .. وأحيانا يأتي وحده .. ولكنه دائما يجده لم يأتي مرة ويعود دون أن يدخل الشقة وكانت هي في نظر نفسها في حالة إنهزام مستمر.. كانت تري أرض شقتها وهي تتلوث بأقدام هذا الشيء وهي لا تستطيع فعل شيئا.. ولم يطلب منها شقيقها شيئاً ثانية بل وانقطعت عنهم المعاملة تماما .. ولكن ما كان يثير غضبها وغيظها .. تلك النظرات الوقحة التي تمزق جسدها وتقتــل براءتها كمن يغتصب حــق غيره .. و تدريجيا تطورت النظرات الي محاولات .. محاولات في أن يصنع معها علاقة .. أي علاقة علاقة يستطيع عن طريقها التقرب إليها .. ولكنها كان محاولات فاشلة .. فكلما يأتي ليتحدث معها .. تصده .. تنهره .. تدفعه بعيدا عنها كأنه ميكروب تخشي ان يصيبها .. فكان دائما بالنسبة لها شيئا محذور إلى أن يحسم أمره !! .. وأثناء كل هذا كانت صداقتها الحميمة بخالد مستمرة والتحاور بينهم والتحدث مستمر وربما .. كان يهون عليها صعوبة وقتها بل وصعوبة حياتها !! .. بل وازدادت الصداقة بينهم وربما وصلت إلى حد الإعجاب .. الإعجاب به من جانبها .. ولكن أي إعجاب !!! ..إعجاب التلميذة بأستاذها ؟.. إعجاب الصديقة بصديقها ؟ .. إعجاب الحبيبة بحبيبها ؟ .. كانت دائما تقف عند الأخيرة .. تقف وتتأمل وهي تشعر أنها مثل الطير الحر .. لها أجنحة ترفرف بها وتطير في الهواء وهي تغني في سعادة .. وأحيانا تشعر أنها تسبح في بحر عميق يصعب فيه السباحة .. تعافر وتتحدي في شيئا ليس هيناً .
وأحيان وأحيان أخري كثيرة …
فتعددت مشاعرها .. عندما تخيلت بفكرها أنه حبيبا لها .. ولكن تبقي في النهاية أمنية كبيرة وعالم جديد بالنسبة لها .. وربما دواء لشفائها .
وفي يوما في فترة ما بعد الظهيرة كانت تجلس مع أمها .. وكانت أمها تنظر أليها في هذا اليوم نظرات جديدة .. أو نظرات ذات معني .. وكان هناك شيئا في صدرها تريد أن تقوله لها .. هما ثقيلاً تريد أن تخرجه وترتاح هي منه .. ولاحظت هي ذلك .. وفكرت كعادتها .. تري ما هو هذا الشيء ؟ .. وطال الصمت القائم بينهما حتى فكرت أن تمزق هي هذا الصمت وتشجع أمها علي الحديث ولكن سبقتها أمها في تحقيق رغبتها .. وابتسمت ابتسامة مصطنعة وقالت أيضا بلهجة مصطنعة: عندي ليكي خبر حلو يا سماح !!!
قالتها بطريقة وكأنها تشوقها لأن تستمع لبقية الحديث .
فابتسمت سماح ابتسامة طبيعية وقالت بلهجة طبيعية : إيه هو يا ماما خير ؟ .
فقالت أمها وهي تعلم أنها ستفاجئها: في عريس طلب ايدك !!! …
وابتسمت الام ابتسامة تعبر عن سعادتها الحقيقية وقالت: مبروك يا عروسه .
وذهلت سماح لسماعها هذا الخبر ونظرت الي أمها في اهتمام كبيروقد شعرت في هذه اللحظة أنها إنسانة .. لها وجدان وكيان وأن هناك بعض الأشخاص يفكروا فيها مثلما تفكر هى فى الجميع .. شعرت أنها تعيش فى عقول البعض مثلما يعيش الجميع في عقلها وحدها .. وأن لها حقوق قد سلبتها هي بنفسها لتلقي بها عبر السراب.. وردت علي أمها قائلة في دهشة: وهو مين دا يا ماما .
قالت لها: انا معرفش يا بنتي بس هو واحد صاحب أخوكي سعد .. هو سعد اللي بيقولي في واحد صاحبه إسمه خميس وجه هنا كذا مرة و شافك وعجبتيه وطالب إيدك وأخوكي موافق .
وضعت سماح يدها علي صدرها بسرعة .. ربما كانت تخشى أن يتوقف قلبها من هول المفاجأة التي ألقت علي أذنها وأغمضت عينيها .. وبدأ جسدها يرتعش .. وتغير لون وجهها حتى انقلب تماما.. وبدأ جسدها ينكمش فقد كانت هناك برودة تجتاحها فانزعجت أمها لما تراه .. وساعدتها لتصل الي فراشها .. وظلت جالسة بجانبها وهي ترتعش .. وتردد كلمات دون أن تدري كمثل : إنت فين يا بابا .. يا حبيبي يا بابا .. بنتك بتتعذب يا بابا .. إلحقني يا بابا .. إنت وحشتني !! .
كانت دموع أمها تسيل لهذه الكلمات وتحتضنها وتقول لها في حنان : انا جنبك يا سماح .. انا جنبك يا بنتي .. انا جنبك يا حبيبتي .
وظلت أمها بجانبها فنامت الام وهي جالسة بجوارها ......
في صباح اليوم التالي عند الشروق استيقظت سماح كعادتها وفوجئت بأمها واضعة رأسها علي أحد جانبي المقعد ونائمة علي المقعد .. فأيقظتها وهي تقول لها في لوم : ماما .. ماما إصحي يا ماما.. إنتي نايمة علي الكرسي يا ماما !! .
فاستيقظت الام المغلوبة علي أمرها وسألتها بلهفة: إنتي كويسة يا بنتي ؟ .
فردت عليها الابنة تطمئن أمها : متقلقيش يا ماما انا بخير الحمد لله .
واستكملت الام حديثها مع إبنتها في رفق وهدوء: انتي لازم تعرفي يا بنتي إن إنتي كبرتي ولازم يكون ليكي بيت وزوج وحياة خاصة بيكي .. 'نتي يا حبيبتي عديتي العشرين .. وفي بنات كثير أدك إتجوزوا وخلفوا فانا عشان خايفة عليكي عوزا كي تتجوزي بسرعة قبل ما يجري بيكي العمر أكثر من كده .
وهكذا تحدثت إليها أمها فقد كانت تظن أن إبنتها تخاف الزواج وتريبه .
ولم تتحدث الابنة كأنها كانت مؤمنة بأنه ليس هناك فائدة من الكلام وربما كان بداخلها إيمان تام بأن ارتباطها بهذا الشخص يدخل في نطاق المستحيل مهما حدث .. فالموت أهون عليها من أن يلمس جسدها بل الموت أهون عليها من أن ينظر إليها نظراته الخالية تماماً من الحياء .. وربما صمتت ولم تتكلم لعدم قدرتها علي الإقناع والكلام .. فقد كانت تشعر بخمود متناهي في صباح هذا اليوم .. ومرت الساعات وانقضى اليوم
انقضي يومها ما بين مشاهدة التلفاز والوقوف في شرفة المنزل والحديث مع خالد لبضعة ساعات .. ونامت في نهاية اليوم بعد أن شعرت بالإرهاق في هذا اليوم .. رغم أنها لم تبذل مجهوداً كبيراً فيه .. ربما تأثير الإجهاد الذي مرت به بالأمس .
ونامت … وغرقت في نوم عميق … عميق جدا ...............
وزحف الليل حتى جاء بساعة متأخرة منه وهى لازالت غارقة في نومها العميق … وصوت أنفاسها يملأ الغرفة … والظلام الدامس يسيطر علي كل شئ … وتسرع أنفاسها وهي نائمة ... وقد قفزت قطرات العرق إلى وجهها …
تصعد إلى السطوح ... لتجلس مع خالد … والوقت في ساعة متأخرة منه … والظلام حولها قد أطفئ كل شئ … وتضع يدها أمام عينيها فلا تراها ... ورغم ذلك صعدت إليه وهي تتحسس الحائط .. وهي تصعد درجات السلم وتنادي وصوتها له صدي ... وتقول في خوف !! خالد .. خالد .. خالد .. تنادي وصدي صوتها يعود إليها بعد لحظة … وعندما دخلت إلى السطوح ... وجدت ضوء النجوم وضؤ القمر قد أضاء فناء السطوح ... وفتحت باب الغرفة وكأنها منومة مغناطيسياً ... ووجدت الغرفة مظلمة تماماً فأخذت تسير فيها وهي تتحسس الحوائط بيدها... تبحث عنه وهي تردد .. خالد .. خالد .. وصوتها يعلو تدريجياً .. نتيجة الخوف الذي يزيد في قلبها تدريجيا ... وفجأة ... اصطدمت قدماها بشيء ملقي علي الأرض … وأصيب جسدها بالكهرباء والارتعاش الشديدين ... وتسمرت مكانها … فقد أحست أن هذا الشيء الملقي علي الأرض هو ( جثة إنسان ) وعادت الي الخلف ... وأضاءت المصباح ببطيء شديد ثم نظرت للأرض فجأة… وصرخت … انه خالد ... ملقي على الأرض ... مقتول ... ودماؤه قد روت أرض غرفته …
وإنفزعت … ونهضت من نومها وهي تغطي يدها بوجهها … إنها كانت تحلم .. بل إنه كان كابوساً … وحمدت الله علي أنه كان حلم وليس حقيقة وأخذت تقول وتكرر : الحمد لله يا رب … الحمد لله يا رب … الحمد لله يا رب .
وأنفاسها لا زالت سريعة .. سريعة جدا .. كأنها قادمة من مسافة طويلة جدا وهي تهرول .. و وجهها مملوء بالعرق .. وقررت أن تصعد إليه بالفعل لتطمئن عليه .. إن الساعة الان في السادسة صباحاً … وللمرة الأولى تصعد إليه مع صعود الشمس الي السماء وصعدت بسرعة وهي تهرول .. وبدون تفكير طرقت الباب .. وفتح لها وبدون أن تدري احتضنته .. وضمت وجهها علي صدره وكأنها تطمئن نفسها أنه بخير .. وقالت بصوت فيه إجهاد : خالد .. الحمد لله .. إنت بخير .
ويقف هو مزهولاً .. ثم قال لها والدهشة تظهر علي وجهه : في إيه ؟ .. في حاجة حصلت ؟ .
فقالت له في خجل بعد ان تركته : لا مفيش .. أصلي حلمت حلم وحش جدا ليك .
فابتسم ابتسامته المعتادة .. ابتسامة الثقة في النفس .. ثم قال لها بصوت هادئ .. دافئ .. منخفض : سماح .. بتخافي عليه ؟ .
فقالت في تلقائية سريعة: أيوة طبعاً بخاف عليك .
ونظرت إليه مبتسمة ثم قالت : مش جارنا ؟ .
ثم قال لها ولا تزال ابتسامته علي وجهه : بتحبيني ؟ .
فنظرت بعينها بعيداً عن عينيه .. كأنها تهرب من سؤاله .. وازداد وجهها احمرارا .. وشعرت بالخجل فكرر سؤاله في إلحاح .. فقالت له وكأنها تائهة : مش عارفة .. والله مش عارفة .
فقال وهو مندهش : مش عارفة إذا كنتي بتحبيني ولا لأ ؟ .
فقالت في تأكيد : أيوة .
ثم نظرت الي وجهه في تأمل واضح .. مثلما تنظر الحبيبة الي وجه حبيبها .. أو مثلما تنظر التلميذة الي وجه أستاذها.. وقالت وهي تتساءل : إيه هو الحب ؟… قولي إيه هو الحب ؟ .
فقال وهو ينظر إليها : مش عارفة إيه هو الحب ؟ .. الحب أحاسيس ومشاعر بتعيش داخل الإنسان .. الحب تضحية من أجل الشيء اللي بتحبيه .. الحب إيمان .. إخلاص .. إهتمام .. وأحيانا بيكون غيره .. الحب سلاح ذو حدين .. يسبب ......
الابتسامات والدموع … الأحزان والأفراح … النشوة والألم … الحقيقة والخيال .
الحب تفكير … إهتمام … صدق … غيره … لهفة … انتظار .
ولم تتكلم هي و قالت له بعد لحظات صمت : خالد .. ممكن أسألك سؤال ؟ .
قال بتلقائية : طبعا .. إتفضلي .
فقالت له وكأنها تلقن له شيئا هاما ثمينا : إنت مين ؟ … وجيت منين ؟ … وليه مش بتنزل خالص من البيت ؟ قولي بصراحة هربان من حاجة ؟ إحنا أتكلمنا في كل حاجة في الحياة ما عدا عنك إنت .
فصعدت علامات الحزن علي وجهه .. وكأنه تذكر كل ما جري .. وقال لها في استسلام : هقولك .. لكن قوليلي الأول .. يهمك إنك تعرفي ؟ .
وقالت بتلقائية و في ثقة تامة : أيوة طبعاً .. يهمني .. يهمني .
وعادت أليه ابتسامته المعتادة .. ابتسامة الثقة في النفس .. وروى لها كأنه يتذكر أشياء بعيدة .. وبدأ يتكلم ليقول : هقولك .. هقولك علشان حاسس إنك حيرانه .. هقولك يا سماح .
كانت تجلس وهي تنظر إليه في إهتمام .. وكأنها ستسمع الي أخبار و أحداث في منتهي الاهمية .. فتجلس كالمنومة مغناطيسيا وهى تنظر اليه .. وبدأ هو يقول : انا فعلا هربان .. لكن مش هربان من جريمة ارتكبتها .. بالعكس هربان من جريمة ارتكبت ولا زالت ترتكب ضدي وضدك وضد كل إنسان .. جريمة ضد الإنسانية .. وأي إنسان عنده ضمير لا يمكن يتقبلها .

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:16 PM
استكمال الفصل الرابع



وكانت تجلس وكل حواسها منتبهة له ولكلماته .. وتسمع كل كلمة في إهتمام وتنتظر الأخرى بل وتتعجلها .. وهو يقول : انا محامي .. وعندي مكتب مشهور الحمد لله مكتب بتاعي انا وزميلي أحمد نصر شركاء فيه .. ومكتب كبير وله سمعته وله عملائه الكبار .. وزميلي أحمد نصر .. هو صديقي الاول في الحياة لكن للأسف إنهدم وانتهى .. انا وهو كنا مع بعض طول حياتنا .. دخلنا المرحلة الثانوية مع بعض وخلصناها مع بعض بتقدير واتفقنا إحنا الإثنين ندخل الحقوق .. وساعدنا بعض في كل شئ ووقفنا جمب بعض في الحلوة والمرة .. وكافحنا .. وعرفنا طعم الشقاء .. كنا بنتنافس انا وهو في الكلية علي التفوق .. ومتكاتفين إلى أقصي .. والدفعة كلها كانت بتضرب بينا المثل .. وإنتهت مرحلة الدراسة وكنت انا الاول علي الدفعة ورفضت أكون وكيل نيابة علشان أفضل معاة .. وعلشان نكمل مع بعض المشوار .. وكان حلمنا انا وهو نفتح مكتب ونبنيه ونكبره بمجهودنا وعرقنا وتفكيرنا .. رفضت اكون وكيل نيابة علشان مسبهوش وعشان مخلفش وعدي .. عشان نحقق الحلم .. وفتحنا المكتب .. وبدأ يشتهر وينتشر خطوة خطوة .. وإحنا كمان نتشهر معاه .. وبدأنا بعد فترة نمسك أهم القواضي وكنا بنقدر نكسبها دايما .. كان الشغل دايما بينا تحدي .. زي الدراسة تمام .. وقدرنا نكون نفسنا من المكتب ومرت كذا سنة والمكتب بقي ضمن أكبر مكاتب المحاماة .. ولكن بعد كدة لقيت أحمد بقي يتغير بقي كل همه الفلوس .. الفلوس وبس .. الفلوس هي كل هدفه كان بيبرأ مجرمين خطيرين علشان ياخد منهم فلوس ..أفوجأ بإن تاجر مخدرات ببيع السموم للناس وبيقتل في شباب البلد ويمص دمهم .. أفوجأ بإنه واخد براءة علي إيده .. الاقي بنت متخصصة في الاعمال المخلة .. أخدت البراءة .. لقيته إتغير اصبح انسان تاني بيستغل مهارته و شطارته فى شغله إستغلال سىء .. وبدأت أعارضه .. وبدأت الخلافات بيننا تكبر وتزيد وبدأت القواضي الملفقة وقواضي السرقة وقواضي الاداب تملا مكتبه والي جانبهم .. قواضي المخدرات .. وأصبح أعمي تماماً .. مش بيشوف غير الفلوس .. كلمته .. ونصحته وقلتله إنت كدة مش بتصون زي المحاماة .. بالعكس .. إنت كده بتساعد علي إنتشار المجرمين في البلد .. يقولي انت لسه بتفكر بالطريقة دي ؟ علشان كده هتفضل طول عمرك محلك سر .. أقوله إنت كده مالك حرام .. وربنا مش بيبارك في المال الحرام .. يفكر إني بحقد عليه أو مش قادر أعمل اللي هو بيعمله .. وبدأت اتشائم .. وأتضايق .. أتضايق من كل حاجة وكرهت الشغل وكرهت المكتب وكرهت المحاماة .. وبدأت حالتي النفسية تسوء وفي يوم .. لاقيته جاي وجايب كل الاوراق والوثايق وبيقولي انا هفض الشركة وخد المبلغ اللي إنت عاوزه وتنازل عن حقك في المكتب وفي كل حاجة إحنا شركا فيها .. وقتها كنت هضيع من الصدمة .. قررت أبعد .. أبعد عن كل حاجة .. عن الدنيا كلها .. كنت محتاج أقعد لوحدي .. كنت خلاص مش هقدر أكمل .. للدرجادي الفلوس بتتحكم في الانسان ؟ للدرجادي الانسان وصل لمرحلة المهانة ؟ يبيع كل حاجة بكل سهولة ؟ يهدم كل شئ من غير تفكير ؟ .. حرام .. حرام الإنسان يكون عبد الفلوس .
ويصمت هو بعد أن تحدث فترة طويلة .. ويضع يده علي وجهه ويقول : كنت عامل زي المجنون .. لما جيت هنا مكنتش عارف أعمل إيه وكنت أبكي .. وأضحك .. أبص لورا ألاقى كل شئ إتهدم .. أغضب .. وأزعل .. وأبكي .. وبعدين أقول مفيش حاجة تستاهل ومفيش حاجة في الدنيا تساوي دمعة إنسان .. أضحك .. وسعات كنت أفضل أخبط علي الباب لما أحس إني متغاظ .. فقالت له وهي تخفي وجهها للاسفل .. قالت وهي تبتسم إبتسامة خجل : كنت فكراك مجنون ‍.
فضحك هو ضحكة عالية .. ضحك بملء ما فيه ثم قال وكأنه يذكرها بشيئاً قد نسته : وكنتي كمان بتتريقي عليه وتضحكي علية .
فابتسمت إبتسامة خجل مرة أخري .. وقالت له وكأنها قد أعادت النظر في شئ هام : لكن دلوقتي ......... .
وإنتظر هو ثم قال في هدوء : دلوقتي إيه ؟ .
فقالت وكأنها تائهة تبحث عن شيئاً : خالد انا جوايا حاجات كتير أوي عاوزة أقولها لك لكن مش عارفة أخرجها لك إزاي مش عارفة .
فقال لها : سماح .. تاني هسألك السؤال بتاع الصبح .. إنتي بتحبيني ؟ .
فقالت له وقد إزداد وجهها إحمراراً : إنت غالي أوى عندي .
فابتسم إبتسامته المعتادة وقال لها في مرح : تعرفي إن إنتي لذيذية أوي يا سماح ؟ يمكن إنتي اللي هونتي عليه الفترة اللي انا قعدتها هنا .. وكمان حلوة أوي .
ففتحت عيناها إلى اَخرهما وظهرت الدهشة علي وجهها وقالت له وكأنها تتأكد مما قال : انا لذيذة ؟ انا حلوة ؟ .
وقال لها في تأكيد : طبعا .. و قمر .
فضحكت ضحكة حاولت أن تكتمها ولكنها لم تستطع .. ربما أشبع غرورها بكلماته .. ربما أشعرها انها ليست مجرد عقل وإنما إنسان كامل .
ونزلت من عنده بعد فترة طويلة قد قضتها معه .
وبدأت تتغير !!!
بدأت تقف أمام المرآة .. وتشاهد نفسها .. وتتزين .. وترتدي أفضل ما لديها من ثياب بل وتشترى ثياب جديدة ووجدت نفسها تفكر فيه هو فقط .. وجدت نفسها قد طردت كل من بداخلها ووضعته هو وحده .. وجدت نفسها قد أصبحت إنسانة أخري لها شئون تهتم بها ومستحضرات تشتريها وتذهب للكوافير .. ثم تبدو أكثر جمالاً .. وصلت الي حد الروعة .. كان خالد بالنسبة لها شيئا ثميناً بل إنه لا يقدر بثمن هو فقط من تفكر فيه .. هو فقط من تتزين له .. هو فقط من تعيش له وحده .. وكانت تعجبه .. وكان يصرح لها بإعجابه هذا .. وأحيانا كان يلقي عليها كلمات الغزل فأحيانا كان يقول لها : " يا بنتي انتي المفروض تفخري إنتي معجب بيكي .. دا انتي البنت الوحيدة اللي أعجبت بيها في حياتي .. حتي في الجامعة كانت البنات تجري ورايا وأنا أجري منهم وكان نفسهم يتقطع .
وكانت تضحك أحيانا لكلماته وأحيانا كانت تفخر بجمالها فكان دائما يشبع غرورها ويشعرها بانوثتها.. وتغيرت تماماً ..
ولكن !!!
تاتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. ففي هذه الايام كان يصدمها أخيها أحيانا بأشياء غريبة .. مريبة .. شاذة .. وغير مألوفة .. وأحيانا .. قبيحة .. مرة يدخل المنزل فجراً وهو فاقد الوعي .. يستند بيديه علي حائط .. ويترنح يميناً ويساراً وكانت تستقبحه في هذا الحين .. ولا تستطيع أن تشم رائحته ولا تستطيع الاقتراب منه .. وتطور الأمر إلى أن أصبح يعود إلي المنزل كل يوم في منتصف الليل وهو .. ( سكران ) .. وعلمت أمه بأمره .. وحاولت مراراً وتكراراً أن تصلح من أمره .. ولم تستطع .. و بالتدريج .. وجدوه قد تحول إلي إنسان منحرف .. ينام طوال النهار ولا يذهب لدراسته .. وطوال الليل خارج المنزل .. ثم يعود إليهم في نهاية الليل .. في غير وعيه .
وبدأت أشياء غريبة تحدث .. بدأت الام تلاحظ أن هناك أدوات منزلية وقطع من الأثاث وأشياء أخري تختفي تماماً من المنزل وكذلك كانت تلاحظ أيضا سماح .. وكان بحثهم عن هذه الأشياء يطول .. يبحثوا في كل مكان في الشقة .. ثم يدركوا أخيرا أنه هو .. سعد .. هو من يسرق هذه الأشياء .. وتيقنوا أنه بالفعل من يسرق هذه الأشياء ويبيعها .. ربما لشراء الخمر .. ربما لشراء السجائر المخدرة .. لقد وصل إلى هذه الدرجة من الانحراف .. وكانت الام تنزف دموعها لحال إبنها .. كانت دائماً تدعو له وهي تصلي .. وأحيانا كانت تنصحه برفق .. وأحيانا أخري كانت تنهره بعنف .. اتبعت معه كل الوسائل وكل الطرق لكي يعدل عن طريقه .. لكي يعود .. لكي يبتعد عن هذا الطريق المسدود .
أما سماح فكانت أيضا حزينة عليه .. وأحيانا توجه إليه عبارات غير مباشرة .. توضح له بأن وضعه الحالي لا يصح ابداً .
ولكن كانت ماخوذة بكل تفكيرها .. وربما .. بكل كيانها .. الي خالد .. وصرحت له بحبها وهو كما هو يتكلم فقط .. يتكلم وهي تسمع .. كانت تهوي سماعه .. كانه أستاذها المفضل .. ولكن بينها وبين نفسها كان بلا شك .. حبيبها .
كانت أيامها معه خالية من الاحزان .. مليئة بابتسامات حقيقية وليست ابتسامات مزيفة مرسومة علي الوجه لشيئا ما .. وإنما كانت ابتساماتهم نابعة من القلب .. من الوجدان .. واعترفت له كثيرا بحبها له .. ولكن هو .. لم يصرح .. ربما صرحت عيناه بهذا الحب من خلال نظرته إليها .. فكان يحتويها بعينيه كأنه ينظر الي قطعة من جسده .. أو إلي شيئاً ملكه .. وفي مرة كانت تجلس معه .. وأعطاها كارت باسمه .. وقرأت ما فيه .. خالد كمال المحامي .. الي جانب رقم الهاتف وتأملت الكارت كثيراً .. وتخيلته علي غير هيئته .. بل وتخيلت كروت كل المهن والأعمال .. شكلها .. حجمها .. الرمز المدون بها .. إنها كما هي لا زالت تفكر في كل شئ .. ولكن كل شئ عنه هو .. عن حبيبها خالد .. تفكر في كل شئ عنه .. ولا تفكر في أي شئ سوي عنه .. وإتخذت قراراً .. إنها ستتصل بهذا الرقم المدون بالكارت عبر الهاتف لا لشئ .. ربما يكون للتجربة .. ربما تكون رغبة .. وإتصلت بالرقم .. وسمعت الصوت الرفيع الحاد القادم عبر السماعة !! .. : ألو .. ألو .. مين معايا ؟ .
وترددت .. وارتبكت .. لا تعرف ماذا ستفعل .. إنها ستلقي بالسماعة ولن تجيب .. إنها مترددة .. لا إنها سترد .. وأجابت بصوت مرتبك .. : ألو .. دي نمرة الأستاذ أحمد كمال المحامي ؟ .
وجاءتها الإجابة بنفس الصوت الحاد الرفيع العالي : أيوة يا أفندم لكن الأستاذ أحمد في أجازة حالياً ومش عارفين هييجي إمتي .
وابتسمت ابتسامة واسعة .. كأنها إطمئنت .. إطمئنت إليه إطمئنت إلى حبها .. ولكن .. سألت نفسها فيما بعد لماذا أعطاها الكارت ؟ .. ربما هو نفسه كان يريد أن يطمئنها إليه ؟ وإذا كان ذلك .. لماذا يسعي إلى طمئنتها إليه ؟ لماذا ؟ هل يعنيه أمرها ؟ هل يريد أن يتزوجها !!!
وفكرت كثيراً .. وانتهت بفكرها عند ذلك .. أن تصبح زوجة له .. إنها تتخيل نفسها زوجة له .. كانت تشعر أنها ملكة متوجة علي عرش السعادة عندما تذهب بخيالها إلى ذلك .. كانت فعلا سعيدة .. وربما إعتبرت نفسها زوجة له بالفعل .. وكانت تود ان تعطي له كل شئ .. إنه زوجها في نظرها .. فإنها تعيش في الخيال .. وفي الخيال هو زوجها .. ولذلك كانت تود ان تعطيه كل شئ .. حتى جسدها .. ولكن .. إذا طلب !!!
وفي هذا الوقت قد تحول أخيها سعد إلى منحرف ضال فاسد .. وربما .. مجرم .. فكان يفعل كل شئ .. يتناول المخدرات والخمور .. ويصحو في المساء وينام بالنهار .. ويرق أثاث وقطع المنزل .. وكانت امه تدعوه دائما الي الصلاح .. الي الهدي .. تدعوه بكلماتها وأحيانا بدموعها وأحيانا بقلبها ولكنه يزداد عناداً وقسوة وإندفاعية في طريق الضلال .
وقررت أمه أن تتعامل معه بشكل أخر .. بعنف .. بقوة .. بقسوة .. وبدأت تضيق عليه الخناق كثيراً .. وتسأله باستمرار في حدة : كنت فين ؟ جاي منين ؟ صرفت الفلوس في إيه ؟ رايح فين ؟ جاى منين ؟ .
وبدا هو يضعف لإصرار أمه وقوتها.. وبدأ صوته يعلو داخل المنزل : أنا حر .. سبوني في حالي .. عاوزين مني إيه .
وبدأ يهدد بأن يترك المنزل .. وأصبحت هذه العبارة لا تغادر فمه في الفترة الأخيرة .. : أنا هسبلكم البيت وأمشي .. مش هتشوفوني تاني !! .
وكانت أمه تخاف من هذه العبارة .. كان قلبها يرتجف لسماعها .. فقد كانت تخشى تحقيقها .. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .
جاء يوم ودخل عليهم وهو فاقد الوعي كالعادة .. وطرق الباب فجراً .. واستيقظت أمه وأخته وأخيه الأصغر .. ووقفت أمامه الأم تقول له بنبرة حادة .. : جاي منين ؟ وإيه اللي انت عامله في نفسك ده ؟ .. هو مفيش فايدة ؟ " وأجاب وهو يتمايل يميناً ويساراً : " ملكوش دعوة .. ملكوش دعوة بيية .. إنتي مالك إنتي : فسارعت الأم .. ورفعت يدها ولطمته علي وجهه بقوة وهي تردد في قسوة : إخرس .. إخرس ! .
ووضع يده علي وجهه .. كأنه يمسح بيده الاَلام التى إنبعثت في وجهه من خلال الضربة .. ثم نظر إليها نظرة ذات معني وقال كأنه يتخذ قراراً هاماً : طيب .. أنا ماشي " والتفت إلي الخلف وسارع في المشي وهو يتمايل يميناً ويساراً ..
وأيقنت امه هي وابنتها انه سوف يذهب .. سوف يذهب هذه المرة بلا عودة .. إنها المرة الأخيرة التي سيروه فيها كما كان يقول .. وأسرعت سماح تتعلق به وتمسك به .. وهي تردد : أخوية .. سعد .. متسبناش .. سعد .. إحنا محتاجينلك .
وهو يسرع في هبوط درجات السلم وهو يردد : إوعي سبيني .
وفجأة دفعها بقوة وهو يزعق فيها : إوعي سبيني .
وسقطت علي الأرض .. وأخذ جسدها يتأرجح علي درجات السلم وأصيب جسدها بصدمات وجروح من أثر سقوطها علي السلم .. وشعرت بألم .. ألم كبير في قدميها .. ونهضت وهي تتألم .. ولكنها لم تستطيع .. فصرخت صرخة مدوية وسقطت كما كانت .. إنها لا تستطيع الوقوف إنها أصيبت بكسر في قدميها وساقها .. إنها تتألم وتصرخ واندفع أخيها الصغير باكيا علي صدرها وهو يردد في انقطاع : أختي .. أختي .. متعيطيش .. أختي . واتصلت الأم بالطبيب .. وجاء الطبيب بعد أن حملوها إلي الفراش .. وأجري الكشف عليها وسمعته يقول لامها : للأسف حالتها خطيرة جدا لازم تتنقل المستشفي حالاً .
.. وانتقلت إلي المستشفي .. وعرفت فيما بعد انه من الصعب أن تمشي مرة ثانية علي قدميها على الأقل في هذه الفترة .. علمت بهذا الأمر .. وبدأت تتعذب .. تتعذب لشعورها بالعجز .. تتعذب لعجزها ..
وعادت إلي المنزل .. وأصبحت جليسة فراشها .. لا تستطيع فعل شئ .. ليس باستطاعتها أن تقف في شرفة المنزل لمشاهدة الناس !! لا تستطيع أن تصعد لحبيبها خالد !!
لا تستطيع أن تقف أمام المرآة لتتزين .. لا تستطيع فعل شئ ودارت الظنون في عقلها .. وزاد فكرها .. وكثرت تخيلاتها .. إنها قد خسرت كل شئ بعجزها .. قد خسرت أخيها الذي تركها وتركهم وغادرهم .. وربما لم يعلم بأمرها .. خسرت صديقها وحبيبها خالد .. نعم .. سوف لا تستطيع أن تصعد إليه .. كيف ستراه ؟ كيف ستحادثه ؟ إنها لا تعلم هل عرف هو بأمرها ؟ لقد خسرته وخسرت كل شئ …
وامتلأ المنزل بالأحزان .. الأخ الصغير قد عرف طريق الحيرة مبكراً والأم دموعها لا تفارق وجنتيها .. وسماح تفكر .. تفكر في طريقة تعبر بها إلي بر الأمان .. حيث إنها تشعر أنها تغرق .. تغرق وتموت ولكن هل الأمر بيدها ؟؟ ربما لو كان داخلها إيمان كبير بالله وبأن هذا وارد في حياتها ومكتوب علي عمرها .. ما كان هذا حالها ولكنها لا تستطيع .. إنها تعيش في الخيال .. وتبني خيالها مما تراه وتشاهده عينيها .. وعينيها لا تري سوي غرفتها وهي جليسة الفراش .. إنها مقيدة .. للمرة الأولي تشعر أنها مقيدة .. وبكت .. بكت كثيرا لحالها ..!!
وعادت من جديد لتصبح عقل بلا جسد عقلها هو من يفعل كل شئ .. يفكر .. يقرر .. يحاور .. يتخيل .. يكتشف .. يتصور .. بينما جسدها ليس له أي مهام .. كان فقط ليس أكثر من تمثال ينظر إليها الآخرين من خلال هذا التمثال أو تمثال يشاهده الناس ولا يتحرك .. بينما العقل هو من يعيش ويتفاعل وسط الجميع ..
إنها لا تريد ذلك .. إنها تريد أن تصبح مثلما كانت امرأة تحب من قلبها وتعمل بجسدها وتتمني وتحلم وتفكر بعقلها .
كانت في مرات كثيرة تنهض من علي الفراش في محاولة تحدي مع نفسها .. أو مع كل شئ .. ولكن سرعان ما كانت تسقط .. وقد انصرف عنها كل الخطاب .. كل من كان يتقدم لها .. الكل أعطي لها ظهره .. ومرضت .. وإشتد مرضها .. وأجهدت عقلها معها .. وظهرت علي وجهها البريء الجميل .. أثار الإجهاد والتعب ..
والأم ليس لها حيلة .. لا تملك لها سوي الدعاء .. والدموع والكلمات التي تهون عليها حالها .. تحاول أن تشعرها دائما بأنها لا زالت جميلة .. ورقيقة .. وهادئة .. والجميع يتمناها ويحلم بها .. وهي كانت غير مقتنعة بهذه الكلمات .. وكانت هي تبحث بتفكيرها عنه .. عن احمد .. لقد اشتاقت للقائه .. ولكن كيف ستراه ؟ وفكرت أن تكتب له ورقة .. وتدون بها كل ما حدث وترسلها إليه مع أخيها الأصغر .. ولكن ترددت .. وارتبكت .
وجاء يوم ….
وسمعت دقات جرس الباب .. أسرع أخيها الأصغر نحو الباب .. ثم سمعت صوت أخيها الأصغر قادم من الخارج وهو يقول : أهلا يا عمو .. اتفضل .. مش حضرتك اللي ساكن فوق ؟ .
وإنقبض قلبها .. إهتز .. واهتز جسدها .. وربما أدمعت عيناها .. دموع السعادة .. ووجدت أمها قادمة لها وتميل عليها وتقول لها وهي تبتسم : أستاذ خالد عاوز يشوفك .
فهزت رأسها علامة علي موافقتها .. ودخل إليها .
ونظرت إليه كمن تنظر إلي الجنة .. ملهوفة تريد أن تراه انه كما هو .. يرتدي بدلته السوداء وشعره الناعم الأسود المسترسل إلي الخلف وعيناه اللامعتان وعلي وجهه تلك الابتسامة المعتادة .. ابتسامته .. ابتسامة الثقة في النفس ويحمل علي يده بوكيه من الورد ... ورود ينبعث منها روح التفاؤل والمحبة .. وربما .. الحب
نظر إليها وإحتواها بعينه .. مثل الذي ينظر إلي نفسه .. أو إلي قطعة منه .. وقال لها وعلي وجهه نظرة أمل يحاول أن يجعلها سعيدة .. وقال في هدوء ووقار : كدة بردو مشوفكيش الفترة دي كلها ؟ .
وقالت وهي تحني رأسها إلي الأسفل في خجل : انت معرفتش اللي حصل ؟
وقال بسرعة في تلقائية : عرفت .. عرفت كل حاجة .. وفكرت كتير .. وكمان قررت .
نظرت إليه وعلي وجهها ابتسامة ولهفة .. تريد أن تعرف بأقصي سرعة ما الذي يدور بداخله وقالت في لهفة : عرفت إيه ؟ .. وفكرت في إيه ؟ .. وقررت إيه ؟ .
وابتسم ابتسامة واسعة .. وربما أدرك اللهفة التي تدور بداخلها .. واستكملت تقول وكأنها ترجوه وتحايله : اتكلم .
وقال لها وكأنه يواسيها .. : عرفت إن رجلك اتكسرت .. ألف سلامة .
وقالت بتلقائية : مين قالك ؟ .
فقال وهو يبتسم : العصفورة قالتلي .
فابتسمت ابتسامة واسعة .. و ظهر المرح علي وجهها .. فاستكمل وقال : قلبي دليلي .. اللي يحب إنسان مش لازم يعرف كل حاجة عنه ؟ .
وإنتبهت هي فجأة .. فقد انتبهت لكلمة قد وردت بين كلماته .. ونظرت إليه كأنها تستفسر عن هذه الكلمة .. تسائل وتستفسر عن حقيقتها وواقعيتها ..
ونظر إليها في جدية وقال لها في جدية ..: سماح .. تقبلي تتجوزيني ؟ .
ضحكت ضحكة من قلبها .. حاولت أن تكتمها في داخلها .. ولكنها لم تستطع .. فضحكت .. ضحكت بملء ما فيها .. وظهرت كما كانت من قبل .. رشيقة .. جميلة .. مرحة .. نشطة .. متألقة .. رومانسية ..
ربما كانت السعادة تزيدها جمالاً ؟ ربما الحب يجعلها تقبل علي الحياة ؟ وقالت له وكأنها تسوق دلالها عليه .. : أفكر .
وضحك هو أيضا .. ثم قال لها وهو يتأملها وكأنه يحايلها ..: متفكريش .. وافقي عالطول .
ثم قالت له متسائلة وهي تنظر إليه نفس النظرة : إنت بتحبني ؟ .
تقولها وكأنها تطلبها منه .. تطلبها منه لكي تستريح .. إنها الدواء بالنسبة لها .. ثم أمسك يدها .. وقبلها وقال لها : بحبك .
.. وارتجفت هي لذلك .. أدركت أنها ليست عقل .. بل إنها إنسان كامل .. وابتسمت وسعدت .

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:18 PM
الفصل الخامس


إن أجمل ما في الحياة .. أن الأمل يعيش في أصعب الظروف .. شعاع النور يخترق الظلام الدامس .. إن روح الأمل دائما تغلب على روح اليأس
لقد جئنا إلى الدنيا لنكافح من أجل تحقيق الأمل .. فقد يكون هذا الأمل هو الإيمان .. أن نسعى للإيمان .. أن نتواصل فيه .. وقد يكون أملنا هو الوصول إلى السعادة .. التي هى ضمن أهداف كل إنسان .. وربما يكون الأمل هو الحياة بالنسبة للبعض .. نعم .. فالبعض يكافح فقط من أجل أن يستمر في الحياة .. من أجل أن يعيش .
وهكذا كانت سماح ...................
واليوم قد دق النبض في أملها .. اخترق شعاع النور ظلام ليلها .
لقد تمسكت بالأمل كثيراً .. واليوم يتمسك بها هو .. يدعوها إلى السعادة .. لقد جاءها فارس أحلامها وقبل يدها وهى في أصعب الظروف .. وارتفعت روحها المعنوية .. وربما حاولت أن تمشى على قدماها .. حاولت مراراً وتكراراً .. مرة تفشل .. ومرة تمشى وهى تستند إلى الحائط .. وقد تكررت زيارته لها .. وفى المرة الأخيرة فاتح أمها في موضوع الزواج ورحبت الأم بذلك ولكن ترحيبها كان خالياً من البهجة لغياب ابنها و قد جرت الشهور .. ولازال ابنها غائباً .. قد غاب أيضا عن من له علاقة به .. انقطع عن الجامعة .. وعن أصدقائه وزملائه .. انقطع عن الجميع .
وبدأ الأمل يبتعد عنهم في أن يجدوه ولكنه قطعاً لم يذوب .. لم يتلاشى .. لم يختفي .. لازال قائماً ولكن بعيداً .
وجاء يوم أقبل عليهم خالد ليزورهم وبداخلها علبة تحتوى على ( دبلة الخطوبة ) .. وقدمها لهم في وقار .. وفى حب .. ثم وضعها في يد سماح وهو يفتخر بأنه سيشارك هذه الإنسانة حياتها .
ربما أحبها ؟
ربما أعجب بها .. وباسلوبها في الحياة وبطباعها وبأخلاقياتها ؟
ربما أقدم على هذه الخطوة عطفاً عليها وهى في هذه الحالة ؟
ولكن في كل الأحوال كان سعيداً بها .. وكانت هى سعيدة به .. وكان كثيراً يتعجل الأم في إتمام الزواج .. وكانت الأم غالباً تقول له : طب مش نستنى يبني شويه لحد ما حالتها تتحسن على الأقل تقدر تمشي .
كانت تضع أسباباً عديدة للتأجيل .. أسباباً مختلفة تأتى بها من الشرق ومن الغرب .
ولكن تبقى التساؤلات !!!
هل بالفعل تدفع بموعد زواج ابنتها بعيداً .. لحالة ابنتها المرضية !؟
ربما كانت تبعد الزواج لأن الأمل في قلبها قائماً بأن يعود ابنها الغائب ويحضر الزواج .. ويقف بجانب أخته الوحيدة في ليلة زفافها !؟
ولكنه لا يعود .. الأيام تمر وهو غائب لا يعود .
وتحسنت حاله سماح الصحية .. فبدأت تمشى وهى تستند إلى الحائط .. ومرة تمشى وهى تستند إلى أمها أو حبيبها .. خالد .
وكان هو فخوراً وسعيداً بها .. يشعر أنها ليست كمثل البشر .. إنها ملاك قادم من السماء ليعيش وسط البشر .. إنها لم تجني أبداً على أحد .. حياتها خالية من الشرور .. وصمم على إتمام الزواج بعد أن أعد له كل شئ ..لقد أنهى كل شركاته مع زيله المحامي .. وجمع كل ما له لتأثيث عش الزوجية .. وبالفعل أتمه بلمسات الحب .. والسحر .. والإتقان .. والإبداع .. ثم دعاها لتشاهده هى وأمها وأخيها الأصغر .
وفى خلال أيام تم عقد القران وإتمام حفل الزفاف .
إن ليلة الزفاف كانت بالنسبة لها مثل ليلة من ليالي من ليالي ألف ليلة وليلة .. كانت أصوات الموسيقى عالية في أذنها .. الوجوه كثيرة أمامها .. كثيرة جدا .. إنها لا تستطيع الارتكاز على وجه واحد وتشاهد أشخاص كثيرين كانت لم تشاهدهم من فترة طويلة .. وأقارب كانوا منقطعين عنهم .. وصديقاتها من أيام الدراسة .. وبعض أهل الحي .. لقد جاء كل هؤلاء هنا من أجلها في هذه الليلة .. والورود .. الورود كثيرة جدا أمام أعينها .. و الجميع يبتسم لها .. إنها تشعر أن الجميع يتنافسون من أجل أن تقه عينها على أحدهم .. فهي أميرة هذه الليلة .
كل الوجوه مبتسمة في تفاؤل وتنظر لها في حب وسعادة .
إنهم يحسدونها !! .. ربما يحسدونها على جمالها في هذه الليلة ؟ .. ربما يحسدونها على هذا الفارس الجالس بجانبها ؟ .. ربما يحسدونها لأن كل هذه الأنوار قد اضيئت لها .. وكل هذه العيون تنظر إليها وحدها . وكل هذه الأجساد قد جاءت إلى هنا اليوم من أجلها .. وهذه الموسيقى قد أديرت لها هى .
وكانت سعيدة بذلك .. عقلها في هذه الليلة كانت لا يفكر سوى فيها هى .. في الغد في مستقبلها القادم مع شريك حياتها .. ترى ماذا يحمل لها الغد ؟
إنها تخاف من الغد .. تخاف من أن يفقدها سعادتها التي جاءتها مؤخراً .. لقد أصبح لديها اليوم شيئا ثميناً تفكر فيه وتخشى فقدانه .. وأمها سعيدة في هذه الليلة وعلى وجهها ابتسامة فرح .. ولكنها ابتسامة ناقصة .. ينقصها الاكتمال .. ينقصها جزء منها .. ابنها .. حياتها وعمرها وشقاؤها .. ابنها الغائب .. وربما كانت تبحث عنه بين كل هذه العيون .. لعله قد جاء بعد أن علم بزفاف أخته .. لعله يفاجئها ويرتمي في أحضانها وهو يبكي ويقول في شجن وفى حب : أمي سامحيني .
ولكن هذا لم يحدث .. لم يأتى .. وانتهى اليوم وانتهت الأيام التالية وعاشت سماح مع زوجها في عش الزوجية .. وهى خائفة من أن تفقد هذا العش الجميل الهادئ .. إنها تخشى زواله .
وأنشأ خالد مكتب محاماة خاص به وتدريجياً اشتهر المكتب وأصبح له عملاء كثيرين وحقق نجاحاً .. وتدريجياً أصبح ضمن مكاتب المحاماة الشهيرة والتي يعتمد عليها في القضايا الهامة والكبرى .
وكان يعود إلى المنزل يجد زوجته في انتظاره .. وقد تزينت وارتدت أفضل ما لديها من ثياب .. إنها تهتم بنفسها .. تهتم بهيئتها وبشكلها حتى تحتفظ بحب زوجها .. لقد أدركت أنها ليست مجرد عقل .. وإنما قلب يشعر ويحب .. وجسد يعمل ويجتهد .. وعقل يفكر ويحلم .
وجاء يوم .. كان هذا اليوم هو عيد زواج خالد .. وقرر أن يحتفل به وبالفعل اشترى كل المستلزمات واشترى الشموع وفرش البيت بالحب وملأ وجه حبيبته بالقبلات وملأ وجهه بالابتسامات .. ودعا أمها وشقيقها الأصغر .. إن هذا اليوم مقدساً في حياته .. إنه تاريخ زواجه بأميرة أحلامه .. وسيده قلبه .. وملكه أيامه .
ودق جرس الباب .. وفتح الباب وهو يرحب بأمها وقبل شقيقها وحمله إلى داخل الشقة .. وأطفئوا الأنوار .
ودارت أحداث الاحتفال .. وفى وسط الاحتفال .. دق جرس التليفون .. وبتلقائية .. رفت الأم السماعة وأجابت : اَلو ...... .
ثم شاهدوها وقد تغير حالها .. وظهرت علامات اللهفة على وجهها .. وهى مستمعة في تركيز تام للحظات .. ثم فجأة تحولت علامات اللهفة إلى علامات الفزع !!!
ثم ألقت بالسماعة وقالت تلقائية صارخة : ابني .. سعد ابني في المستشفى !!!
وهرول الجميع إلى المستشفى .. والتقوا به .. وعرفوا فيما بعد أنه مصاب ببعض الصدمات والجروح .
لعل أصدقائه قد خانوه .. وألقوا به إلى حيث السراب !!!
وقال لهم الطبيب في شرح وفى هدوء : متقلقوش .. هو حالته بسيطة جدا .. إحنا أول ما جالنا عملنا له الإسعافات الأولية .. وبعد كدا ادناله العلاج المناسب .. وهى شويه كدمات وجروح هيخف منها قريب جدا .
وتأكدوا منه فيما بعد أنه رافق أصدقاء السوء وسار في طريقهم وتقيد بهم .. ثم فعلوا معه هكذا فيما بعد .. كان يقول في ندم وفي شجن : أنا غلطت .. وعارف إني غلطت .. وغلطت كتير .. أنا كنت فاكر إني لما أقدر أعمل كل حاجة وأي حاجة تخطر على بالي أبقى أنا إنسان قوى وشاطر وناجح .. لكن أنا كنت غلطان .. الواحد يقدر يعمل حاجات كتير .. لكن المفروض يختار بين الحاجات الكتير .. خير .. أو شر !! .. أنا عاوزكم تسامحوني أنا سبت الأمان وروحت للضياع والشباب الفاسد عشان أبقى زيهم .. سبت أختي وسبت أمي اللي بتحبنى وروحت للضياع والشباب الفاسد ونسيت كل حاجة .. نسيت نفسي .. نسيت مستقبلي !! .. أنا عاوزك تسامحيني يا أمي .. وانتي يا سماح .. عاوزك تسامحيني .. أنا غلطت في حقك كتير .
ثم يصمت وهو ينظر إلى سقف الغرفة .. كأنه يبحث عن أيامه القادمة ويستكشفها .. وتنظر إليه سماح وهي تقول وابتسامة الحب الدافئة على وجهها : انت اللي عملت في نفسك كدا يا سعد .. ضيعت أيام من عمرك .. غمضت عنيك وضيعت أيام من عمرك .. وآذيت نفسك وتعبت اللي حواليك .. إنت اللي عملت كدا .. وربنا إدالك فرصة تانية عشان تكون إنسان جميل .. اوعى تضيعها يا سعد !!!
ربما قد أدلت له بنصيحتها من صندوق حياتها المليء ؟
ربما من خلال تجربة حياتها ؟
ولكن في كل الأحول .. قد عرفت أخيرا أقدامهم .. طريق النور .

سمير عبد المجيد
16-06-2005, 04:20 PM
قدمت روايتي إهداء الى موقع المنتدى .. وأعضاءه وإداريينه ...

ويسعدني ويشرفنى أى رأى قادم أو أى نقض قادم .. أو أى مناقشة فى روايتي ..

......

ولو أننى أعلم أن من سيقرأون روايتي هم قلة قليلون .. هؤلاء الذين يسعوا الى القراءة والمعرفة .. وحب الاستطلاع .. وقراءة كل ما هو جديد ومفيد ...

مع الشكر ....

إسلام إسماعيل
16-06-2005, 06:50 PM
"بسم الله الرحمن الرحيم"

مشكور أخي علي القصة الجميلة.........

ونتوقع منك المزيد.........

الأمير القلق
16-06-2005, 08:01 PM
ماشالله.. يعطيج العافية أخوي على مجهودك الجبار..

بس حابب أحط تعليق..

لو تبي القراء يقبلوا على القصة عليك وضعها في أجزاء..
وليست كاملة كما فعلتها..

ولكن مجهود يستحق الشكر..

تابع أخوي في الكتابة ( المجزأة )..
ونحن في الانتظار..



تحياتي،،