المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من حياة شيخنا العلامة الزاهد : محمّد المختار الشنقيطي



Mr.alOne
17-06-2005, 05:00 PM
تبتّلٌ في محرابِ شيخِنا العلاّمةِ الزاهدِ : مُحمّدِ بنِ محمّدٍ المُختارِ الشنقيطيِّ




في زحمةِ هذهِ الأحداثِ المتلاطمةِ ، وما تمخّضَ عنها من المواضيع ِ الفاترةِ ، وفي خِضمِّ التصنيفاتِ الجائرةِ ، والمهاتراتِ البائسةِ ، تنكّبتْ بالكثير ِ من المنتدياتِ الأحوالُ ، وتتابعتْ عليها وعلى كُتّابِها الأهوالُ ، ولجَّ الكثيرُ من أهلِها في الخلافِ ، وأصرّوا على العِنادِ ، وصارتِ الكتابة ُ فيها – إلا قليلاً - نوعاً من العبثِ وضرباً من الهذيان ِ ، وإلى المجون ِ والتهريج ِ أقربَ منها إلى التأصيل ِ والتقرير ِ ، ولم نعُدْ نرى فيها إلا هجوماً وتدابراً ، كأنّنا في معركةٍ أو نِزال ٍ .

أقولُ هذا ولا أزكّي نفسي ، أو أستثنيها من هذا ، فأنا منكم ، إن خيراً فخيراً ، أو شرّاً فشرّاً ، وقاتلَ اللهُ دُريدَ بنَ الصمّةِ ، إذ سنَّ الموتَ مع الجماعةِ ولو على حالةٍ لا تسرُّ ، عندما جعلَ رُشدهُ من رُشدِ غزيّة َ – وهي قومهُ - ، وغوايتُهُ من غوايتِها ، وصارَ هذا من السُنن ِ التي تزيدُها الأيّامُ ثباتاً ، مع أنّها طبعٌ ذميمٌ ، وخلقٌ سيءٌ .

هذه الظِلالُ القاتمة ُ من الحال ِ المرير ِ الذي نعيشهُ ، تتطلّبُ منّا وقفة ً نُراجعُ فيها النفسَ ، وواحة ً نتفيّأ في ظلالِها الأنسَ ، ونجدُ في مغانيها الرّاحة َ ، وفي أعطافِها الدعة َ ، وإذا استمرأنا وضعنا المُخزي ، فنحنُ على أعتابِ كارثةٍ فكريّةٍ كُبرى ، فما دامَ الحالُ يُراوحُ في مكانهِ ، بينَ قدح ٍ سافر ٍ يكشفُ مخبوءَ النيّةِ السيئةِ ، وبينَ تصنيفٍ ظالم ٍ يفضحُ خواءَ النفس ِ من الإنصافِِ ، والقلمُ يُبرى ليُكتبَ بهِ ما لا يصلحُ أن يكونَ صحيفة ً على حائطٍ في مدرسةٍ للصبيان ِ ، فإنَّ استصلاحَ الحال ِ وتقويمهُ يحتاجُ إلى زمن ٍ فسيح ٍ ، ونفوس ٍ صابرةٍ ، وهمم ٍ مشحوذةٍ ، ولا يلوحُ في الأفقِ دونَ ذلكَ إلا خرطُ القتادِ ، وسفُّ الرّمادِ ، والحمدُ للهِ على كلِّ حال ٍ .

في طريق ِ الإصلاح ِ للقلم ِ ، والتهيئةِ للفكر ِ ، والدُربةِ للعقل ِ ، هذهِ مادّة ٌ خاصّة ٌ عن شيخِنا العلاّمةِ العابدِ الزاهدِ : مُحمّدِ بن ِ مُحمّدٍ المختار ِ الشنقيطيِّ ، أسعدَ اللهُ أيّامهُ ، وأعلى قدرهُ ومنزلتهُ ، أبثّهُا بينَ يديكم لتكونَ كالغيثِ الذي ينهمرُ فيروي الأرضَ القفرَ اليبابَ ، وكالنّسيم ِ العليل ِ يبعثُ النّشاطَ في النّفوس ِ الحالمةِ ، وكالوردِ العبق ِ الفوّاح ِ في وسطِ القيظِ المُلهبِ يُبهجُ المُهجَ فتنتعشُ وتطربُ ، جمعتُها من خلاصةِ ما سمعتهُ من طلاّبهِ ، أو وقفتُ عليهِ مُعاينة ً ، لعلَّ اللهَ أن يُبعثَ بها الهِممَ من مرقدِها .

هو شيخُنا الفقيهُ المُفسّرُ الأصوليُّ : أبو عبدِ اللهِ مُحمدُ بنُ محمّد المختار ِ بنِ أحمدَ مزيد الجكنيُّ الشنقيطيُّ ، والدهُ رجلٌ من أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ ، درّسَ – أعني والدهُ – في المدينةِ النبويّةِ – شرّفها اللهُ – وفي جُدّة َ – حرسها اللهُ - ، وكانَ عالماً فاضلاً من سراةِ الشناقيطِ ، سليل ِ أرومةٍ من ذوي الشرفِ والوجاهةِ ، ومن أهل ِ الفضل ِ فيهم ، وهو ينتسبُ – كما حدّثني قريبٌ للشيخ ِ – إلى الإمام ِ الكبير ِ : المختار ِ بن ِ بونة َ الجكنيِّ – جادَ اللهُ بالرّحمةِ مثواهُ - ، أحدِ كِبار ِ العلماءِ في بلادِ شنقيطَ ، توفّيَ قديماً ، ولهُ مصنّفاتٌ عدّة ٌ منها : طرّة ُ الألفيّةِ ، والاحمرارُ ، وهي من عجائبِ ما ألّفَ في علم ِ العربيّةِ ، أكملَ بهما ألفية َ بن ِ مالكٍ ووشّحها بحاشيةٍ كاشفةٍ لمعانيها، ولهُ قصّة ٌ عجيبة ٌ تدلُّ على كرامةٍ من اللهِ لهُ - بعدَ أن ِ افترى عليهِ بعضُ أهل ِ عصرهِ ونابذوهُ حسداً وبغياً - ، حدثتْ في ساعةِ وفاتِهِ ، حدّثني بها غيرُ واحدٍ من أهل ِ العلم ِ ومنهم شيخُنا مُحمّدٌ ، ولذكرِها موضعٌ آخرُ .

ومن شعرهِ – أي ابن ِ بونة َ - الذي يفخرُ بهِ – وهي قصيدة ٌ مشهورة ٌ - قولهُ :

نحنُ ركبٌ من الأشرافِ مُنتظمٌ ********* أجلُّ ذا العصر ِ قدراً دونَ أدنانا

قد اتخذنا ظهورَ العيس ِ مدرسة ً ********* بها نُبيّنُ دينَ اللهِ تِبيانا

ومن أرادَ الوقوفَ على ترجمتهِ ، فلْيُراجعْ كِتابَ " الوسيطِ في تراجم ِ أدباءِ شنقيطَ " ، وهو مطبوعٌ مُتداولٌ .

ومن عجائبِ ما يُذكرُ عن والدهِ ، ما حدّثني بهِ شيخي مُحمّدٌ نقلاً عن شيخِنا الإمام ِ : مُحمّدٍ العُثيمين ِ – برّدَ الله مضجعهُ – أنَّ والدهُ كانَ يحفظُ كتابَ " البدايةِ والنهايةِ " للإمام ِ ابن ِ كثير ٍ – رحمهُ اللهُ – كاملاً ، وقد كرّرَ شيخُنا نقلَ هذا الكلام ِ غيرَ مرّةً ، وأخبرني الشيخُ أنَّ والدهُ كانَ من كِبارِ الضابطينِ لعلمِ التأريخ ِ والنّسبِ ، وذكرَ شيئاً من ذلكَ أيضاً العلاّمةُ : بكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ – شفاهُ اللهُ ومتّعهُ بالعافيةِ - ، في كتابهِ " طبقاتُ النسّابينَ " وغيرهُ .

ومن فضائلهِ – أعني والدهُ - جلَدهُ وصبرهُ ، فقد أوتيَ صبراً عظيماً على ما ابتلاهُ اللهُ بهِ من الأمراض ِ وتقلّبِ الأحوال ِ ، وبقدر ِ ما كانَ يعظمُ بهِ البلاءُ ويشتدُّ عليهِ الكربُ ، كانَ يزدادُ في الثباتِ صبراً واحتساباً ، من ذلكَ أنّهُ كانَ لا يكرهُ البنج والمخدّرَ في الجراحةِ ، فحصلَ عليهِ حادثٌ اقتضى جراحة ً فامتنعَ من قبول ِ البنج ِ ، وأجريتْ لهُ العمليّة ُ وخيطتْ جلدة ُ رأسهُ وهو في كامل ِ وعيهِ ، ولم يزدْ على أنْ كانَ يذكرُ اللهَ تعالى ، ولهُ في هذا أخبارٌ عجيبة ٌ ، ذكرها شيخُنا في دروسِهِ ومحاضراتهِ ، وأتى على شيءٍ منها العلاّمةُ : مُحمّدٌ المجذوبُ – رحمهُ اللهُ – في كتابهِ " علماءُ ومفكّرونَ عرفتهم " ، في جزءهِ الثالثِ ، فلْيُراجعْهُ من أرادَ الوقوفَ على ذلكَ .

وُلدَ شيخُنا في المدينةِ النبويّةِ سنةَ 1381 هـ ، كما حدّثني بذلكَ ، ودرسَ فيها دراستهُ النظاميّةَ ، وأكملَ الدراسةَ المتوسّطةَ والثانويّةَ في معاهدِ الجامعةِ الإسلاميّةِ التابعةِ لها ، ثمَّ أكملَ دراستهُ الجامعيّة َ في الجامعةِ الإسلاميّةِ ، في كلّيةِ الشريعةِ ، وتخرّجَ منها ، ثُمَّ عُيّنَ بها معيداً ، وحضّرَ رسالتهُ الماجستيرَ فيها ، وكانَ عنوانُ رسالتهِ " القدحُ في البيّنةِ في القضاءِ " ، ولم تطبعْ بعدُ ، ثُمَّ حضّرَ رسالتهُ في الدكتوراه ، وكانَ ينوي ابتداءً أن تكونَ في تحقيق ِ جزءٍ من كتابِ الإمام ِ ابن ِ عبدِ البرِّ – رحمهُ اللهُ – " الاستذكارُ " ، ثمَّ عدلَ بعدَ مشورةٍ لبعض ِ مشايخهِ إلى أن تكونَ رسالتهُ في الجراحةِ وأحكامِها ، فاختارَ ذلكَ الموضوعَ ، وكانتْ أطروحتهُ بعنوان ِ " أحكامُ الجراحةِ الطبيّةِ والآثارُ المُترتبة ُ عليها " ، وقد أجيزتْ بمرتبةِ الشرفِ الأولى ، مع التوصيةِ بالطبع ِ ، وطبعتْ مراراً ، وأخذَ شيخُنا عليها جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ .

هذهُ نبذة ٌ يسيرةٌ عن مولدِ الشيخ ِ ودراستهِ وشهاداتِهِ .

أمّا عن علمهِ وفضلهِ وديانتهِ ، فهذا أمرٌ علمهُ جميعُ من عرفَ الشيخَ أو بلغهُ خبرهُ ، واستقرَّ في نفوسهم ، لما سمعوهُ من علمهِ ووقفوا عليهِ من فضلهِ وآثار ِ صلاحهِ ، فالشيخُ لهُ منظرٌ يُنبئُ عن مخبرهِ ، فلا يراهُ أحدٌ إلا ويذكرُ اللهَ تعالى ، فوجههُ وضيءٌ ، طلقُ المُحيّا ، مبتسمُ الثغر ِ ، ناتئُ الجبهةِ وبها أثرٌ للسجودِ ، وأسنانهُ بها فلجة ٌ زيّنتْ طلعتهُ ، وسيما الصلاح ِ وآثارُ الهُدى تتقاطرُ من حال ِ الشيخ ِ وهديهِ وسمتهِ .

حينَ الحديثِ عن علمهِ ووفرتهِ ، فإنَّ الأمرَ لا يحتاجُ إلى كبير ِ برهان ٍ أو تأكيدٍ ، فمن سمِعَ دروسَ الشيخ ِ أو محاضراتِهِ ، علِمَ حقّاً غزارة َ محفوظهِ ، ودقّة َ فهمهِ ، وكثرة َ اطّلاعهِ ، وسعة َ مواردهِ ، فقد درسَ الشيخُ الفقهَ والحديثَ والتفسيرَ على والدهِ مِراراً ، ومن جملةِ ما قرأهُ : الكتبَ الستّة َ وتفسيرَ القرءان ِ مِراراً ، إضافة ً إلى عشراتِ المتون ِ في الفقهِ وأصولهِ وأصول ِ الحديثِ والعقيدةِ وغيرِها ، ولهُ دِراية ٌ عجيبة ٌ بمذاهبِ الفقهاءِ وأقوالِهم ، فهو يستحضرُ كِتابَ " بدايةِ المُجتهدِ ونهايةِ المُقتصدِ " لابن ِ رُشدٍ الحفيدِ ، ولا تكادُ تمرُّ مسألة ٌ إلا ويذكرُ فيها أقوالَ أهل ِ العلم ِ ومذاهبَهم وأدلّتهم ، ثُمَّ لا يكتفي بذلكَ فحسب ، وإنّما يُرصّعُ البحثَ بالترجيح ِ والموازنةِ بينَ الأقوال ِ ، بطريقةٍ تدلُّ على فقه النفس ِ ، وشيخُنا وإنْ كانَ على طريقةِ المالكيّةِ في التقرير ِ والتفريع ِ ، إلا أنّهُ لا يعتمدُ إلا ما صحَّ بهِ الدليلُ ، وترجّحَ لهُ بموجبِ المقارنةِ بينَ الأقوال ِ ، وهو في دروسهِ يُلقي بحسبِ ما يتهيأ لهُ ، فقليلاً ما يُعدُّ أو يُراجعُ للدرس ِ ، وإنّما يأتي إلى مجلسهِ ويُقرأ عليه ، فينطلقُ كالسيل ِ الهادر ِ ، ولا يُعرفُ انتهاءِ الدرس ِ إلا بسكوتهِ .

وطريقتهُ في التدريس ِ كطريقةِ أصحابِ المطوّلاتِ من كُتبِ الفقهِ ، إذ يذكرُ المسألة َ وفروعها ، ويُطيلُ النفسَ فيها ، فينتظمُ درسهُ أبوابَ الفقهِ أصولاً وفروعاً ، ويذكرُ في كلِّ مسألةٍ أقوالَ أهل ِ العلم ِ فيها ، ويوردُ أدلّتهم وافرة ً تامّة ً ، ثمَّ يذكرُ أجوبةٍ كلٍّ ، حتّى يصلَ إلى ما يختارهُ ويُرجّحهُ ، فيذكرُ وجهَ اختيارهِ ، ويُجيبُ على أدلّةِ الآخرينَ ، كلُّ ذلكَ صارَ طبعاً فيهِ وعادة ً ، فلا يتكلّفُ شيئاً في درسهِ البتّة َ .

وقد توفيَ والدُ شيخِنا في سنةِ 1406 هـ ، ولشيخِنا من العمر ِ 25 عاماً ، وحينَ وفاتهِ أجازهُ بالفُتيا والتدريس ِ ، وكان ابتداءُ شيخِنا بالقراءةِ على والدهِ وعمرُه عشرُ سنواتٍ ، كما أخبرَ بذلكَ في دروسهِ .

وشيخُنا كثيرُ القراءةِ والمطالعةِ ، ولهُ عناية ٌ خاصّة ٌ بالكتبِ ومعرفة ٌ بها ، ومكتبتهُ كبيرة ٌ ، ورثَ أكثرَها عن أبيهِ ، فيها نفائسُ الطبعاتِ وأندرُها ، وقد حدّثني صاحبٌ من طلبةِ العلم ِ ، أنّهُ تناقشَ مع شيخِنا في مسألةٍ ، فذكرَ صاحبُنا للشيخ ِ أنَّ ابنَ تيميّة َ يرى رأيهُ ، فقالَ شيخُنا : لقد قرأتُ الفتاوى ثلاث مرّاتٍ ، ولم يمرَّ عليَّ هذا الكلامُ ! ، فإذا كانتِ الفتاوى قرأها ثلاث مرّاتٍ ، فكيفَ يكونُ شأنُ غيرها من الكتبِ والرسائل ِ ؟ ، ومن عجيبِ ما وقعَ لي معهُ أنّي مرّة ً أتيتُهُ فرِحاً أريدُ إلزامهُ بأمر ٍ ما في مسألةٍ فقهيّةٍ ، فذكرتُ لهُ وجهها ، فقالَ وهو يبتسمُ ابتسامة َ القرير ِ : انظرِ الجوابَ عنها في كتابِ " شرح ِ مُختصر ِ الخرقيِّ " للإمام ِ الزركشيِّ ، وكانَ الكتابُ حديثَ الطباعةِ ، فعجبتُ من سرعةِ قراءةِ الشيخ ِ للكتابِ ، بلهَ وقوفهُ عليهِ ! .

كما أنَّ لشيخِنا جلداً وصبراً ومُجاهدةً على بثِّ العلم ِ ونشرهِ ، وذلك أنَّهُ كانتْ لهُ ثلاثُ مجالسَ يُقرئُ فيها الفقهَ ، أحدُها بجُدّةَ والأخرى بمكّة َ والثالثة َ بالمدينةِ ، وكانَ يأتي هذهِ الدروسَ برّاً بسيّارتهِ ولوحدهِ ، ولا يكادُ يبيتُ في جُدّة َ إلا قليلاً ، ودرسهُ في مكّة َ يوم الثلاثاءِ في شرح ِ كتابِ " زادِ المُستقنِع " فإذا قضى منهُ ربّما سافرَ إلى المدينةِ ، ويعودُ في الغدِ إلى جُدّةَ ليُلقي فيها درسهُ في شرح ِ كتابِ " سُنن ِ الترمذيِّ " ، فإذا فرغَ من درسهِ وانتهى سافرَ إلى المدينةِ مرّة ً أخرى ، لأنَّ لديهِ درساً في المسجدِ النبويِّ يومَ الخميس ِ في شرح ِ كتابِ " عمدةِ الأحكام ِ " ، وهكذا حياتهُ ، سفرٌ ونصبٌ في سبيل ِ العلم ِ ونشرهِ ، على ما يعانيهِ من المرض ِ واعتلال ِ الصحّةِ ، وقلّما تجِدُ معهُ رفيقاً في السفر ِ ، وذلكَ أنّهُ لا يُحبُّ أن يشقَّ على أحدٍ من طلاّبهِ أو رِفاقهِ ، فإن حصلَ وسافرَ معهُ أحدُهم ، أخذَ منهُ العهدَ على أن يكونَ الشيخُ هو صاحبَ النفقةِ والزادِ ، وأن يكونَ الآخرُ هو الأميرَ ، فإن رضيَ بذلكَ فبها ونعمتْ ، وإلا فإنَّ عذرَ الشيخ ِ بيّنٌ وواضحٌ في تركهِ .

وهذا يقودُنا للحديثِ عن كرم ِ الشيخ ِ وسخاءهِ ، وواللهِ - الذي لا إلهَ إلا هوَ - أنّي لم رجلاً أكرمَ ولا أسخى ولا أجودَ من شيخِنا :

لا تطلبنَّ كريماً بعدَ رؤيتهِ ! ********** إنَّ الكِرامَ بأسخاهم يداً خُتموا

وقد صحبتُ النّاسَ ورأيتُ غنيّهم وفقيرُهم وعالمهم وجاهلهم وشريفهم ووضيعهم ، ولكنّي لم أرَ رجلاً لا يرى المالَ شيئاً ، ولا يُبالي بهِ ، كشيخِنا ، فقد كانَ نفّاحَ اليدِ ، كثيرَ الصدقةِ ، لا يردُّ سائلاً ، ولا ينظرُ فيما يخرجُ من جيبهِ من مال ٍ ، بل يمدُّ يدهُ فإن خرجَ الرّيالُ وهبهُ ، أو خرجتِ الخمسمائة ُ وهبها ، كلّها عندهُ سواءٌ ، وأصحابُ الحاجةِ يقصدونَ إلى الشيخ ِ ويتصدّونَ لهُ ، لعلمهِم بسخاءِ يدهِ وطلاقةِ وجههِ ، ولهُ صدقاتٌ معروفةٌ مُستمرّة ٌ ، وصلة ٌ للغرباءِ ، ووصلٌ بالأرحام ِ ، وكنتُ إذا زرتهُ أكرمني إكراماً عظيماً وبالغَ في ذلكَ ، وما أتيتهُ إلا وكنتُ في بيتهِ بمنزلتهِ فيهِ ، أجلسُ وأنا ربُّ الدار ِ ، وهو يخدمُ ويقومُ ويأتي بنفسهِ ، وربّما أعانهُ بعضُ إخوتهِ ، ولا تكادُ تزورُ الشيخَ إلا وتشعرُ ذاتَ الشعور ِ الذي شعرتُهُ أنا ، فهو مُتهيئٌ للجودِ والكرم ِ بالفطرةِ .

وفي بيعهِ وشراءهِ لا يُماكسُ ولا يترادُّ مع البائع ِ ، وإنّما يشتري بنفس ٍ طيّبةٍ ، وربّما يزيدُ في السعر ِ ، وكنتُ معهُ مرّة ً فوقفَ لتعبئةِ السيّارةِ بالوقودِ ، فدفعِ للعامل ِ مُستحقّهِ ولم يأخذ ما تبقّى من المال ِ ، بل تركهُ للعامل ِ ، وهذه عادة ٌ معروفة ٌ للشيخ ِ ، أنّهُ لا يكادُ يستردُّ ما بقيَ لهُ من مال ٍ إلا نادراً ، كرماً منهُ وسخاءً ، كما أنّهُ إذا قبلَ الهديّة َ كافأ صاحبَها ولا بُدَّ بأحسنَ منها ، بل إنّهُ مرّة ً حضرَ مأدبة ً أقامها لهُ رجلٌ قعيدٌ لا يمشي لحادثٍ أصابهُ ، فلمّا انتهتِ المأدبة ُ قصدَ الشيخ ُ إلى أحدِ الشبابِ وأعطاهُ مبلغاً وقالَ لهُ : ادفعه إلى صاحبِ المنزل ِ ، فلمّا جاءَ الرّجلُ بالمال ِ إلى صاحبِ المنزل ِ ، تفاجأ وإذا بهِ يوازي ما دفعهُ على المأدبةِ ، وقد حدثني بهذه القصّة ُ صاحبُ الدعوةِ شخصيّاً .

وبلغهُ مرّة ً أنَّ أحدَ طلاّبهِ مرضتْ أمّهُ ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أدخلها أحدَ المستشفياتِ الخاصّةِ على نفقتهِ ، إلى أن برئتْ ، وهو في هذا من عجائبِ الزمان ِ ، رعاية ً لحقوق ِ طلاّبهِ وأصفيائهِ ، وسؤالاً عنهم ، ووقوفاً معهم في حالاتِ العُسر ِ والكربةِ والضيق ِ ، ولا أعرفُ رجلاً من طلاّبهِ إلا وللشيخ ِ عليهِ يدٌ أو صنيعة ٌ ، يفعلُ ما يفعلُ بنفس ٍ طيبةٍ وصدر ٍ رحبٍ ، وواللهِ إنّهُ كانَ يهتزُّ للبذل ِ والعطاءِ والصلةِ كما يهتزُّ الغريبُ بالوصل ِ واللقاءِ ، ويهبُ الأعطية َ كأنّما يهبُها لنفسهِ ، لا يستكثرُ شيئاً أو يتعاظمُ مالاً .

هذا بالرغم ِ من قلّةِ المال ِ في يده ِ ، وعدم ِ اكتراثهِ بطلبهِ ، واكتفاءهِ بما يأخذهُ من تدريسهِ بالجامعةِ فقط ، فقد كانَ الشيخُ كثيراً ما ينسى راتبهُ في الجامعةِ ، ولا يأخذُهُ إلا بعدَ أن يتّصلَ بهِ المُحاسبُ ويذكّرهُ بذلكَ ، كما أنّهُ حينَ وُهبَ جائزة َ المدينةِ المنوّرةِ للبحثِ العلميِّ ، قامَ وأعلنَ في مُجتمع ِ الحفل ِ أنّهُ تبرّعَ بكامل ِ مبلغ ِ الجائزةِ للجمعيّةِ الخيريّةِ في المدينةِ النبويّةِ ، وعندما طبعَ كتبهُ لم يأخذَ عليها أجراً ورفضَ رفضاً تامّاً ، وإنّما شرطَ على بائعِها أن تُخفضَ قيمتُها حتّى يتمكّنَ طلاّبُ العلم ِ من شراءه ، مع أنّهُ كتابهُ راجَ رواجاً عظيماً ، وطُبعَ أكثرَ من خمس ِ طبعاتٍ ، كما أنّهُ مؤخراً طبعَ ما بقيَ من أجزاءِ كتابِ والدهِ ، وقامَ بتوزيعهِ مجّاناً .

وهناكَ بيوتاتٌ كثيرة ٌ في المدينةِ النبويّةِ تقومُ على ما يُرسلهُ الشيخ ُ لهم من صدقاتٍ وهباتٍ ، وقد وقفتُ على شيءٍ من ذلكَ بنفسي ، وسمعتُ من غيري من الإخوةِ طرفاً صالحاً .

وهذا غيضٌ من فيض ٍ في حال ِ الشيخ ِ مع الصدقةِ والصلةِ والبذل ِ ، ومن عرفَ الشيخَ علِمَ أنّي قصّرتُ في وصفهِ ، وأمسكتُ عن كثير ٍ من حالهِ فيهِ ، خشية َ أن لا أنسبَ إلى المجازفةِ والمبالغةِ .

ولشيخِنا والدة ٌ يبرُّ بها بِرّاً عظيماً ، فهو إنّما يُكثرُ السفرَ إلى المدينةِ ويُقلُّ من المبيتِ خارجَها رِعاية ً لها ، وبِرّاً بها ، وقد كنتُ في مجلسهِ يوماً بعد صلاةِ المغربِ ، فقامَ الشيخُ يُصلّي الراتبة َ ، فسمِعتُ صوتاً يُنادي : مُحمّد ! مُحمّد ! ، فقامَ شيخُنا وقطعَ صلاتهُ وخرجَ ، فعلِمتُ أنَّ هذهِ أمّهُ ، وقد حدّثني – أعلى اللهُ قدرهُ – أنَّ تركَ الرقية َ والقراءةَ على المرضى بطلبٍ من أمّهِ ، فلا تجدُ الشيخَ قارئاً على مريض ٍ أبداً ، بِرّاً بأمّهِ وصيانة ً لها ، وفي أحدِ دروسهِ حرّجَ باللهِ العظيم ِ أنْ لا يحضرَ دروسهُ رجلٌ عاقٌّ لوالديهِ ، أو ممتنعٌ عن برّهم ، وقالَ : لولا أنّي لا أريدُ أن أحرجَ أحداً ، وإلا لأمرتهم بالخروج ِ الآنَ من الدرس ِ ، وإذا تكلّمَ عن برِّ الوالدين ِ خشعتْ جوارحهُ ، ورقَّ قلبهُ ، ودارتْ الدمعاتُ في عينهِ ، وشفّتْ روحهُ ، رضيَ اللهُ عنهُ وأعلى قدرهُ .

ويمتدُّ برّهُ ويتسلسلُ ليصلَ إلى أشياخهِ وإخوانهِ من أهل ِ العلم ِ ، فلهم عندَ الشيخ ِ منزلة ٌ وقدرٌ عظيمٌ ، فلا يكادُ الشيخ ُ في دروسهِ يذكرُ أهلَ العلم ِ إلا عقّبَ على أسماءهم بالترحّم ِ عليهم ، والدعاءِ لهم بالرضى عنهم ، وهذه من حسناتهِ الكبيرةِ ، والتي غرسها في طلاّبهِ وأحياها فيهم ، فلا يمرُّ عليهِ اسمُ العالم ِ أو الشيخ ِ إلا ودعا لهُ ، وترّحمَ عليهِ ، وأمرَ قارئهُ أن يفعلَ ذلكَ ، برّاً بهم ومعرفة ً لقدرِهم ، فهو يرى أنَّ لهؤلاءِ الأجلّةِ مكانة ً عظيمة ً علينا ، فهم أصحابُ الفضل ِ والسابقةِ ، ولا بُدَّ أن يُعرفَ فضلُهم ، ويُدعى لهم .

والشيخ ُ لا يسمحُ لأحدٍ كائناً من كانَ أن يقعَ في عرض ٍ عالم ٍ بمجلسهِ ، أو ينتقصَ منهُ ، وأشدُّ ما رأيتُ الشيخَ غاضباً حينُ ينتهشُ عرضُ عالم ٍ ، أو يُنالُ منهُ بحضرتهِ ، فيغضبُ الشيخ ُ غضبة ً مضريّة ً ، ويخرجُ عن طبيعتهِ المعروفةِ بالسماحةِ واللين ِ واليسر ِ ، طاعة ً للهِ ولرسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - ، ثمَّ عِرفاناً لحقِّ أهل ِ العلم ِ ولمكانتِهم ، وقد كُنتُ بحضرتهِ ومعنا رجلٌ في ضيافةِ الشيخ ِ ، وكانَ الرّجلُ يشربُ الشاي ، فإذا بهِ يقولُ للشيخ ِ : يا شيخُ ! ، ألا ترى أنَّ الشيخَ عبدَ العزيزَ بنَ باز ٍ يحتاجُ إلى إعادةِ نظر ٍ في بعض ِ الفتاوى ! ، وقد فهِمَ شيخُنا من حديثِ الرّجل ِ أنّهُ يقصدُ الغضَّ من الإمام ِ بن ِ باز ٍ – نوّرَ اللهُ قبرهُ - ، فلم يجدْ شيخُنا بُدّاً من أن أمرَ الرّجلَ بالخروج ِ من بيتهِ ، وقالَ لهُ : لا يجمعُني ومتنقّصُّ الشيخ ِ بن ِ باز ٍ سقفٌ، فخرجَ الرّجلُ من بيتِ الشيخ ِ ، وحدّثني الشيخُ لاحقاً أنَّ الرجلَ جاءهُ بعد أسبوع ٍ وهو يقولُ : أشهدُكَ يا شيخُ أنّي أتوبُ إلى اللهِ من الكلام ِ في الشيخ ِ بن باز ٍ وغيرهُ من أهل ِ العلم ِ .

والشيخ ُ ابنُ باز ٍ – رحمهُ اللهُ – أحبُّ النّاس ِ إلى قلبهِ من أهل ِ العلم ِ بعدَ والدهِ ، وقد قالَ لي مرّة ً : الجامعة ُ الإسلاميّة ُ انتهتْ بعد الشيخ ِ بن ِ باز ٍ ، و حينَ جنازةِ الشيخ ِ في مكّة َ – شرفها اللهُ – رآهُ بعضُ الإخوةِ متأثّراً باكياً .

أمّا الغيبة ُ والنميمة ُ والبهتانُ ، فهي عندَ شيخِنا من أكبر ِ الكبائر ِ ، ولا يسمحُ لأحدٍ أن يغتابَ أحداً أو يغضَّ من قدرهِ مهما كانتِ الدوافعُ والمبرّراتُ ، وقد كانَ لهُ مجلسٌ في بيتهِ يومَ الجمعةِ بعدَ صلاةَ العصر ِ كلَّ أسبوع ٍ ، يأتي إليهِ طلبة ُ العلم ِ للفائدةِ والمناقشةِ ، فكثرَ في مجلسهِ دعاة ُ الفتنةِ ، من الذينَ ينتقصونَ العلماءَ ، ويُثيرونَ الفتنَ ، ويقتاتونَ على التصنيفِ ، فما كانَ من شيخِنا إلا أن أغلقَ مجلسهُ ، وفضَّ ذلكَ المحفلَ ، وشيخُنا يُكثرُ من ذكر ِ قصص ِ العلماءِ في حفظِ اللسان ِ والتصوّن ِ عن الوقيعةِ في الصالحينَ ، فقد كانَ هذا دأبُ والدهِ ، بل هو دأبُ الصالحينَ جميعاً ، أنّهم أملكُ ما يكونون لألسنتهم ، فلا يذكرونَ أحداً إلا بالجميل ِ ، ويُمسكونَ عن الكلام ِ والتجريح ِ ، طاعة ً للهِ وديانة ً وقُربى ، على العكس ِ من الكثير ِ من دعاةِ الفتنةِ والسعاةِ بالباطل ِ ، الذين جعلوا ألسنتهم ناراً تأكلُ أعراضَ أهل ِ العلم ِ، ومقارضَ تقرضُ في مناقبِهم وتُذيعُ مثالبَهم .

Mr.alOne
17-06-2005, 05:15 PM
وأختمُ بأمرين ِ :

أوّلهما : أمرُ الشيخ ِ بالمعروفِ ونهيهُ عن المنكر ِ ، فهو آمرٌ بالمعروفِ ناهٍ عن المنكر ٍ ، يقومُ بحقِّ اللهِ في هذا الأمر ِ ، ومن ذلكَ أنَّ مجموعة ً من الرافضةِ – عليهم من اللهِ ما يستحقّونَ – كانوا قد تحلّقوا وقوفاً في المسجدِ النبويِّ الشريفِ ، وأوعزوا إلى أشقاهم أن يقومَ ويُشعلَ سيجارة ً ويُدخّنَ في باحةِ الحرم ِ ، وهم حولهُ يحوطونهُ ويحرسونهُ ، قالَ شيخُنا : فلم أتمالكْ نفسي ، ودخلتُ في وسطهم وصفعتُ الرافضيَّ مُخمّساً – هكذا نطقها الشيخُ – على وجههِ ، فخنسَ الرافضيُّ ، وولّى قومهُ الدبرَ على حالةٍ من الخزي والعار ِ .

وشيخُنا يأمرُ من يصلّي وراءَ الرافضةِ بأن يُعيدَ صلاتهُ ، ولفتَ في حديثهِ عنهم – أخزاهم اللهُ - إلى أمر ٍ مهمٍّ ، وهو أنَّ الرّافضة َ قليلاً ما يتوبونَ ، يقولُ شيخُنا : ولعلَّ اللهَ غارَ على أعراض ِ صحابةِ رسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – فقلَّ أن يوفّقَ أحدهم لتوبةٍ أو تغيير ٍ لمنهجهِ الخبيثِ .

الثاني : لُطفُ الشيخ ِ وظرفهُ وسعة ُ أخلاقهِ ، وهذا أمرٌ يعرفهُ عن الشيخ ِ من لزمهِ أو صحِبهُ ، أنّهُ فكِهُ الخلق ِ ، لطيفُ الرّوح ِ ، ليّنُ العريكةِ ، كثيرُ البشر ِ والمُلاطفةِ والمُداعبةِ لطلاّبهِ وأصدقاءهِ ، أذكرُ مرّة ً أنّهُ دعا بدعوةٍ في محفل ٍ بأن يقبضهُ اللهُ ويُميتهُ في المدينةِ النبويّةِ ، فجلجلَ المجلسَ وصدحوا قائلينَ : آمين ! ، فقلتُ بصوتٍ مرتفع ٍ : اللهمَّ أجمعينَ ! ، فقالَ شيخُنا وهو يبتسمُ : لا ما يصير كذا ! ، بعدين يصير زحمة .

ومرّة ً كنّا في أحدِ القرى معهُ ، وفي المجلس ِ أخلاطٌ من جُفاةِ الأعرابِ ، وقليلي العلم ِ ، ولا يعرفونَ حقَّ أهل ِ العلم ِ أو طريقة َ مُخاطبتهِم ، فبادرَ أحدُهم شيخنا بالسؤال ِ وقالَ : يا شيخ لو فيه رجلين أحدهم مزيّن لحيّته والثاني مدخّن ، مين يصلّي إمام ؟! ، قالَ شيخُنا وهو يبتسمُ : صلّ إنت ، أنت مو مزيّن لحيتك ولا شارب للدخان ، فضحك المجلسُ ، وكانَ غرضُ الشيخ ِ أن يلفتَ النّاسَ إلى السؤال ِ عن مسائلَ ذاتِ فائدةٍ مباشرةٍ ، ولهذا ابتدرتُ المجلسَ وسألتُ سؤالاً يُهمُّ الجميعَ ، فنظرَ إليَّ الشيخُ وقالَ : إيه هذي هي الأسئلة اللي نبغاها .

ومن رأى الشيخ َ علِمَ أنّهُ صاحبُ ابتسامةٍ لا تكادُ تُفارقُ وجههُ ، حتّى في أحلكِ الظروفِ ، وأشدِّ المواضع ِ ، فلا تراهُ إلا وهو يهشُّ ويبشُّ ، ويبتسمُ ويُبدي لكَ السرورَ ، وإذا سلمتَ عليهِ فإنّكَ تخرجُ من وراءِ ذلكَ بشعور ٍ أجمعَ عليهِ من يعرفُ الشيخ َ أو يسلّمُ عليهِ : وهو أنّهُ يعرفكَ وبينكما صُحبة ٌ! ، فلا ينزعُ يداً ، أو يكفُّ عن ترحيبٍ ، أو يقطعُ ابتسامة ً ، حتّى تفعلَ أنتَ ذلكَ ، وهذا من عظيم ِ خلقهِ وسعةِ صدرهِ .

على أنَّ فيهِ حدّة ً تكادُ تُقرأ من كلامهِ وأسلوبهِ ، فينثالُ من جنباتِ بعض ِ حديثهِ وهجُ الحدّةِ ، وزفرة ُ القوّةِ ، إلا أنّهُ يكسرُ ذلكَ كلّهُ بالحلم ِ ، ويردُّ نفسهُ إلى طبيعةِ التروّي .

كما أنّهُ تامُّ المروءةِ وافرُ الخلق ِ ، لا يوجدُ عندهُ ما يقدحُ في مروءةٍ أو يشينُ في طبع ٍ ، وإنّما هو العدلُ والوسطُ في الخلق ِ والطبيعةِ ، مع عفافٍ تامٍّ ، وتصوّن ٍ عظيم ٍ ، وغيبةٍ مأمونةٍ ، وحرص ٍ على أسبابِ السلامةِ ، وبُعداً عن البدع ِ والأهواءِ .

وهذهِ الأخلاق ُ الكريمة ُ والشمائلُ الحميدة ُ ، جعلتْ طلاّبهُ يحرصونَ كلَّ الحرص ِ على التشبّهِ بهِ ، في سمتهِ ودلّهِ وهديهِ وهيئتهِ ، ومن حضرَ دروسهُ فسيرى عجباً ، من تعظيم ِ الطلبةِ لهُ وتوقيرهُ ، وإظهار ِ الإجلال ِ لهُ ، والكثيرُ منهم يحرصُ أن يتزيّا على طريقةِ الشيخ ِ ، وذلكَ أنّهُ يحرصُ على لبس ِ الغترةِ البيضاءِ ، ويحسرُ جبهتهُ ، ويجعلُ غترتهُ في الربع ِ الأوّل ِ من طاقيّتهِ ، وهذه الطريقة ُ في التزيّي امتثلها طلاّبهُ ، وساروا عليها ، لقوّةِ ما أثّرهُ الشيخ ُ فيهم ، فقد وسِعهم بأخلاقهِ وفضائلهِ ، واستحوذ َ على قلوبِهم بشمائلهِ ، حتّى صارَ منهم ملءَ السمع ِ والبصر ِ والجوانح ِ ، وبمثل ِ هذهِ الكرائم ِ من الأخلاق ِ ، والنجائبِ من الخِلال ِ ، فاقَ الشيخ ُ أقرانهُ وألجمَ خصومهُ ، وصدقَ الشّاعرُ إذ يقولُ :

قاتلْ عدوّكَ بالفضائل ِ إنّها ********** أمضى عليهِ من السّهام ِ النُفّذِ

بقيَ أن أذكرَ لكم أنَّ شيخَنا لم يتزوّجْ بعدُ ، وقد ذكرَ سببَ ذلكَ أنّهُ مبتلى ببعض ِ العلل ِ والأمراض ِ ، التي تنتابهُ بين حين ٍ وأخرى ، فإن قدّرَ اللهُ لهُ وتزوّجَ فهذهِ طريقة ُ أنبياءِ اللهِ ورسلهِ – عليهم صلواتُ اللهِ وسلامهُ - ، وإن حالَ بينهُ وبينَ الزواج ِ عرضٌ أو مرضٌ ، فكم من إمام ٍ مفوّق ٍ لم يتزوجَ وملأ علمهُ الخافقينَ ، كابن ِ تيميّة َ والنووي وغيرِهم – رحمة ُ اللهِ عليهم أجمعينَ - ، نسألُ اللهَ أن يكتبَ لشخِنا الشفاءَ العاجلَ ، وأن يمدَّ في عمرهِ ويحفظهُ ، ويُبقيَهُ ذخراً للإسلام ِ والمُسلمينَ .

هذه قطوفٌ يسيرة ٌ من حال ِ شيخِنا ، كتبتُها على عجل ٍ دونَ ترتيبٍ لها أن مراجعةٍ ، والذّهنُ مكدودٌ والخاطرُ هائمٌ في أوديةِ الدّنيا ، والجسمُ قد لعبَ بهِ البردُ وفتَّ في عظامهِ ، لعلَّ اللهَ أن يُحيي بها رُفاتَ الفكر ِ البائدِ ، أو رميمَ القلمَ الجانح ِ ، فنحنُ بحاجةٍ إلى أمثال ِ هؤلاءِ الأئمّةِ الأعلام ِ ، وإلى من يُسدُّ فراغهم ، فقد تصرّمَ جيلُ العلماءِ الكبار ِ ، وبقيَ منهم طائفة ٌ يسيرة ٌ ، ولا ندري ماذا يُحدثُ اللهُ من أمر ٍ ، فإن لم نبتدر ِ الغاية َ ، ونستبقْ إلى العلياءِ والمجدِ ، في العلم ِ والعِبادةِ والصلاح ِ ، فإنَّ حالنا ستكونُ مشينة ً ، وخاتمة ُ فكرِنا ستكونُ غيرَ سديدةٍ ، ولن تُغني عنّا المدائحُ أو الأهاجي ، وإنّما هو العلمُ والعملُ ، واللهُ المستعانُ .

دمتم بخير ٍ .
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=24301&highlight=%D2%C7%CF+%C7%E1%E3%D3%CA%DE%E4%DA (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=24301&highlight=%D2%C7%CF+%C7%E1%E3%D3%CA%DE%E4%DA)

شايف
23-06-2005, 10:11 PM
إنَّ استصلاحَ الحال ِ وتقويمهُ يحتاجُ إلى زمن ٍ فسيح ٍ ، ونفوس ٍ صابرةٍ ، وهمم ٍ مشحوذةٍ ،
ولا يلوحُ في الأفقِ دونَ ذلكَ إلا خرطُ القتادِ ، وسفُّ الرّمادِ ، والحمدُ للهِ على كلِّ حال ٍ .

ومن رأى الشيخ َ علِمَ أنّهُ صاحبُ ابتسامةٍ لا تكادُ تُفارقُ وجههُ ،
حتّى في أحلكِ الظروفِ ، وأشدِّ المواضع ِ ،
فلا تراهُ إلا وهو يهشُّ ويبشُّ ، ويبتسمُ ويُبدي لكَ السرورَ ،
وإذا سلمتَ عليهِ فإنّكَ تخرجُ من وراءِ ذلكَ بشعور ٍ أجمعَ عليهِ من يعرفُ الشيخ َ أو يسلّمُ عليهِ :
وهو أنّهُ يعرفكَ وبينكما صُحبة ٌ! ،
فلا ينزعُ يداً ، أو يكفُّ عن ترحيبٍ ، أو يقطعُ ابتسامة ً ، حتّى تفعلَ أنتَ ذلكَ ،
وهذا من عظيم ِ خلقهِ وسعةِ صدرهِ . :)

على أنَّ فيهِ حدّة ً تكادُ تُقرأ من كلامهِ وأسلوبهِ ،
فينثالُ من جنباتِ بعض ِ حديثهِ وهجُ الحدّةِ ، وزفرة ُ القوّةِ ،
إلا أنّهُ يكسرُ ذلكَ كلّهُ بالحلم ِ ، ويردُّ نفسهُ إلى طبيعةِ التروّي .


والشيخ ُ لا يسمحُ لأحدٍ كائناً من كانَ أن يقعَ في عرض ٍ عالم ٍ بمجلسهِ ، أو ينتقصَ منهُ ،
وأشدُّ ما رأيتُ الشيخَ غاضباً حينُ ينتهشُ عرضُ عالم ٍ ، أو يُنالُ منهُ بحضرتهِ ،
فيغضبُ الشيخ ُ غضبة ً مضريّة ً ، ويخرجُ عن طبيعتهِ المعروفةِ بالسماحةِ واللين ِ واليسر ِ ،
طاعة ً للهِ ولرسولهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - ، ثمَّ عِرفاناً لحقِّ أهل ِ العلم ِ ولمكانتِهم ،

وقد كُنتُ بحضرتهِ ومعنا رجلٌ في ضيافةِ الشيخ ِ ، وكانَ الرّجلُ يشربُ الشاي ،
فإذا بهِ يقولُ للشيخ ِ : يا شيخُ ! ، ألا ترى أنَّ الشيخَ عبدَ العزيزَ بنَ باز ٍ يحتاجُ إلى إعادةِ نظر ٍ في بعض ِ الفتاوى ! ،
وقد فهِمَ شيخُنا من حديثِ الرّجل ِ أنّهُ يقصدُ الغضَّ من الإمام ِ بن ِ باز ٍ – نوّرَ اللهُ قبرهُ - ،
فلم يجدْ شيخُنا بُدّاً من أن أمرَ الرّجلَ بالخروج ِ من بيتهِ ،
وقالَ لهُ : لا يجمعُني ومتنقّصُّ الشيخ ِ بن ِ باز ٍ سقفٌ، فخرجَ الرّجلُ من بيتِ الشيخ ِ ،

وحدّثني الشيخُ لاحقاً أنَّ الرجلَ جاءهُ بعد أسبوع ٍ وهو يقولُ :
أشهدُكَ يا شيخُ أنّي أتوبُ إلى اللهِ من الكلام ِ في الشيخ ِ بن باز ٍ وغيرهُ من أهل ِ العلم ِ .


اسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يجزيك خير الجزاء وبارك الله في علمك وفي عمرك ..

ابو خالد
24-06-2005, 12:00 PM
السلام عليكم ورحمة الله
اخونا الكريم / محمد الحريص
اسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يجزيك خير الجزاء
وبارك الله في علمك وفي عمرك ..
على نقلك الطيب العطر لسيره شيخنا
جعله الله بميزان حسناتك
ولك تحيتى وسلامى
والسلام عليكم ورحمة الله