harleydavld son
29-06-2005, 08:14 PM
لا بد وانك تعلم مدى شجاعتي ورباطة جأشي فيما يتعلق بموضوع غرفة ألعمليات. إلا أنني هذه ألمره عانيت معاناة شديدة. أوصلتني إلى حد ألرعب من إجراء مثل هذه العملية. ولا اعلم حتى الآن سبب هذا الرعب. إلا أن فكرة الموت سيطرت على عقلي سيطرة كاملة، حتى وصلت إلى درجة ألإيمان ألعميق بأن يوم وفاتي متعلق تماما بيوم دخولي غرفة ألجراحه. وبدأت هذه ألفكرة تتسلط على نفسي وتتناوشها من شتى الجهات، حتى اعتصرت حمرة أناملي وتورد وجنتاي. وقذفتني بكل سوداويتها إلى إحساس مجهول أمام تصور ألموت، ومفارقة ألحياة. ألحياة ألزاخرة بتدفق الروح والنشاط في كل شيء.
الجبال، الوديان، ألأشجار، ألحيوانات، ألأمتدادت ألهائلة للفضاء ألرحب، فبدت ألدنيا عزيزة، عزيزة إلى حد ألجنون. وأصبح مذاقها في ظل شبح ألموت ألمسيطر على عقلي نابضا بعمق حيوي نشيط، لا يفتأ يحمل في جنباته صورا رائعة مضيئة لكل شيء. حتى ألمآسي ظهرت أمامي وهي ترتدي زخرفا من ضياء خلاق، يخلب ألعقول، وينير ظلمات ألمجهول، ألموت، ما أقسى هذه ألكلمة حين تستحيل في عقلك إلى كائن حي يمسك بتلابيب دماغك ليجرك نحوه بكل ما يملك من عناد وتصخر نحو هاويته ألعاجة بسواد ممعن في عمق لا نهائي.
فتقفز في عقلك ألتساؤلات مثل مخالب فولاذية تدميه بإنغراساتها الحادة:- كيف أفارق هذه ألدنيا؟ هل أترك كل شيء ورائي هكذا؟ أأترك هذه الجبال وتلك السهول؟ وكيف أخلف خلفي تزاحم الأقدام في الشوارع؟ وأصوات الباعة وطعم البرتقال؟ ولذة التدخين؟ كيف لا أفيق مبكرا على هدير الحياة ولا أهجع مع هجوع الليل؟.
أمي, أبي, أخواتي, زوجتي, أبنائي, زملائي، أصدقائي، كيف أفارق هؤلاء جميعا، هكذا ببساطه، وبلا أي معني واضح في عقلي عنهم. فالسنين التي عشتها معهم لم تكن كافيه بكل ما في ثوانيها من زخم لأن أكون معنى واضحا عن أي فرد فيهم. إنني الآن في ظل لحظة هبوط شبح الموت على نفسي, أنظر إليهم بصورة مختلفة عن نظرتي السابقة. الآن، أجلوهم بكل طاقة عقلي ونفسي معا فأشعر بوهن عارم يظلل صورهم وحركاتهم, وأحس أثناء محاولة استعادة صورهم بضعف شديد قاتل. وأغرق في بحر مشاعري المستفزة القلقة، مثل غريق يقاوم حواما لا أمل للنجاة منه, لكنه يضرب، بيديه وقدميه, بكل ذرة من ذرات جسده, بعنف, بقلق مضطرب معذب, لكن ألحوام يشده للأسفل وفي عينيه تتبدى نظرات هائلة, مروعه, حيرى, نحو الشاطىء, نحو الرمل, نحو الحياة.
أمانيً, أمالي, طموحاتي, مشاريع حياتي, خطط المستقبل, كيف تنتهي دون أن أكمل شوطي فيها. الموت, الموت سيبترها، يتركها ناقصة شوهاء, تسير على قدمين ولكن دون جذع, دون رأس.
مشاعري, نار عملاقه مستعرة, وأحاسيسي دخان اسود كثيف, فتلك تكويني، وهذه تعوم في صدري وعقلي, ولا أستطيع بين الاثنتين إلا الهروب من ذاتي إلى ممرض أرجوه وأتوسل إليه أن يمنحني شيئا يدفعني لقبو النوم المعتم, الذي لا حياة فيه للعقل، ولا رؤى للمشاعر, وأسلم نفسي كارها لسرير وغطاء هما في مثل هذه اللحظات, أوفى وأعز الأصدقاء.
وأفيق مشدوها, تلاحقني كوابيس متداخلة, غير منتظمة, ألوان كثيرة حادة فاقعة تتداخل ببعضها وتتشابك ثم تنعقد, عقدا شيطانية متنافرة لا تظهر بدايتها ولا نهايتها، فأحس رأسي ثقيلا, تنوء كتفاي بحمله, وصدري تعوم فيه أختلاطات عشوائية وأمتليء رعبا خانقا فوارا من جديد، فأفر من بين خيوط وحدتي لأنزلق بين جماعات المرضى الضاحكين، والذين لا معرفه لي بهم ولا صلة, أجلس بينهم أستل من صدري ابتسامة ضبابية لأعلقها على قسمات وجهي وفوق شفتي.
ومن بين هذه الجماعات كنت أنحدر نحو السلوى ببطء شديد وأغرق معهم في عوالم متنوعة مختلفة, كل عالم لا صلة له بالعالم الذي قبله, وكل ضحكه ترن وتدوي في أرجاء الصالة لا داعي لها، ومع ذلك أغرق في عوالمهم المفتوحة, وتدوي ضحكاتي في مساحات الجدران وإشعاعات المصابيح المتدلية من السقف, وتغرق عيناي بدموع قهقهات عالية ينحني جذعي معها مرات متلاحقة وسريعة كحرذون يؤدي صلاته وقت الظهيرة.
وحين كان يقذف الليل سدف ظلمته على الكون, كنت أنسل من فراشي للاستراحة, أتأمل الأفق وهو يتبقع بدماء الشمس, بقعا فاترة الحمرة هنا وهناك, ثم تندمج هذه البقع مرة واحده لتطلي الأفق على امتداده بحمرة قانية نزفتها الشمس قبل دخولها بأعماق الأفق البعيد عن العين أو قبل غطوسها بأعماق البحر لتغتسل من أعباء نهار مضن وشاق.
كنت إذ ذاك أشعل سيجارة من أخرى, ليس حبا في التدخين، إنما بحركة أليه اعتيادية, وما أن تتلفع الأرض بتلك السدف تلفعا تاما, حتى تجدني جالسا كتمثال شمعي غارقا ببحر أفكار صاخبة عاتية الموج.
وذات ليله, وفيما أنا غارق في أفكاري, أحسست حركة بجانبي, وحين رفعت رأسي وجدتها جالسة بمحاذاتي تماما, يداها منتصبتان على رجليها, وجهها متكيء على كفيها المفتوحتين لاحتضان الوجه من الذقن وحتى الأذنين.
ذهبية الشعر, وجهها أقرب إلى لون سنابل القمح, يتوسطه أنف صغير مستدق الرأس، وفم حين يفتح تظنه ما زال مغلقا, وعينان حائرتان ينبعث منهما بريق متألق, لكن سرعان ما ينكسر فور خروجه منها.
تطلعت إليها دون مبالاة, وبحركة لا شعورية, وكأنني انظر ببلاهة في الفراغ, إلا أنني أمام إصرار نظراتها وعمقها أحسست برعدة تسري في جسدي كرعدة برد مفاجئة أمام شمس متألقة, حدقت بعينها, فأيقنت عندها بأنها تضرب أعماقي، تسبرها, تغوص فيها منقبة, إلا أنها أمام امتداد نصل نظراتي وبريقه اضطرت للتراجع، وكان تراجعها ثقيلا, يزحف في عينيها زحفا حلزونيا، وأضحت لفترة غير بسيطة،
كأنها تنسحب من عالم إلى عالم, الأمر الذي حيرني ودفعني للتساؤل: أن كانت تحس بوجودي بمحاذاتها أم لا؟ ولم تلبث أن أطلقت تنهيدة حادة ارتفع على أثرها صدرها وهبط بقوة, فأحسست تلك التنهيدة تغوص في صدري مثل دبوس يخترق اللحم بقوة خاطفة وسريعة.
مددت يدي بحركة تلقائية نحو كوب الشاي الفارغ, في محاولة صبيانية للهرب من الموقف, لكنها تنبهت لحركتي بسرعة، فانتصبت لتأخذ الكأس من يدي وتغادر الغرفة دون أن تنبس بحرف واحد. وما هي إلا لحظات حتى عادت وكوب الشاي بيدها مملوء حتى شفته العليا, وضعته على الطاولة وعادت لجلستها من جديد دون أن تنبس بكلمة واحدة مرة أخرى, وكان علي، من باب الأدب, الأدب فقط، أن أشكرها, ولكن بحذر شديد لا يفتح لها مجالا لدخول عالمي بأي ثمن مهما بهظ, لأني لا أريد أن أضع على كاهلي عبئا جديدا، يكفيني إحساسي المتلاحق بقبضات الموت في عقلي.
-أشكرك على الشاي.
حدقت في من جديد, كانت عيناها تطفحان بالرعب, بالمجهول, وفوق جفونها ظلال زرقاء مشربة بصفرة باهتة, يبدو الألم والحزن عليها واضحا بكل عمق وقوة. وحبات من دموع تقف على الجفن، مثل زجاج شفاف مصقول, إلا أنه مشعور من الجهة اليمنى ومخدوش في الوسط, غامت الدنيا بعينيها، ولم تغب قليلا حتى أنهلت مطرا شديدا وحارقا, إلا أنه صامت. صمت المقابر وسط الليل, وانساحت الدموع على خديها غزيرة فياضة، كجدول فضي على أديم من ذهب خالص.
نفرت أعصابي بقوة، أطلت برأسها من هجعة سلوى قصيرة، كالأفعى حين تطل برأسها من جحرها، حذرة متوترة، لكنها دائبة ألأهتزاز. أردت أن أبكي، أصرخ، أحطم زجاج ألنوافذ بيدي، أضمها لصدري، أحفر فيه ملجأ أخبئها فيه، أرفسها برجلي، أركلها خارج ألاستراحة، أقذف نفسي خارج ألأستراحة، أمسح دموعها، أفعل أي شيء. إلا أنني ظللت مكاني، كما أنا عاجزا، مشلولا، لا أنفع لشيء على ألإطلاق.
- زوجي سيموت بعد شهر.
وجمدت مكاني، مثل قالب ثلج، تيبست أحشائي، واندفعت برودة عنيفة في عمودي ألفقري، مثل برودة ألبنج في ألوريد، ورقصت معدتي مكانها. ألموت، ألموت مرة أخرى. أنا لا أعرف كيف مرت تلك ألكلمة مثل ألسهم كي تستقر في دماغي. ثم لأرى نفسي مبطوحا فوق دكة ألغسل والناس تغرق فوق جلدي أباريق ألماء وهم يدمدمون بحلاوة ألأجاص، ونكهة ألتفاح، ومذاق ألعسل.
- س... يمو... ت... بع...د...شهر.
خرجت ألكلمات من فمي، كل كلمة مولود، مولود له ألام مخاضه، وضعتها بعد جهد، والعرق يتفصد من جسدي كله، وشيء يهز قلبي والأعماق بوحشية قاتلة، لا رحمة فيها أبدا.
- نعم هكذا أخبر ألأطباء.
- لكن ألموت بيد ألله.
- أنه مصابا بالسرطان.. سرطان ألدماغ.
- قد يشفى.
- فات ألأوان.
- وكيف تعرفين؟
- دعني أحدثك ألقصة من أولها.
ودون أن تسمع إجابتي بدأت تحدث: أتته ألحالة مرة واحدة. صداع دائم في ألرأس وزغللة في ألعينين. ألم عارض، كثيرا ما يحدث مع ألناس. وتركناه، لم نكن ندري آنذاك بأننا لا نتركه ليأخذ حده ومن ثم ينتهي. من أين لنا ألعلم بأننا كنا نحفر ألنهاية في لوح ألأبدية بأيدينا، بضحكاتنا وسرورنا. وتركنا ذلك الورم يعشش في دماغه، يفرخ، ويبني أعشاشا لفراخه، من أين لنا أن نعلم هذا؟
وحين أشتد ألألم، عرضناه على الطبيب. الطبيب زميله، فزوجي أيضا طبيب، لكنه طبيب نفسي، أخبرنا بالحقيقة. صفعنا بها صفعة مروعة. لكنه أستدرك: هناك أمل، لا بد من إجراء عملية جراحيه. ولكن ليس هنا، إنما في لندن.
وكان يجب أن يسافر، بأي ثمن، ومهما كانت ألظروف. ألعمليه يجب أن تجرى، بدون تأخير، وبأقصى سرعة. ويفضل ألسفر على بساط ألريح. ألوقت ثمين، ألساعة، لا، بل رمشة ألعين، إما أن تكون حياة، أوتكون موت. من ألذي سيقوم برعايتي أنا؟ لا، ليس أنا، أبنه محمد، لا، بل أبنته آية. من سيمسك بذراعها يوم زفافها؟ أي ذراع غير ذراعه ستكون ذراعا ميتة، ينخل فيها ألزيف، ألتصنع، الرياء، ألعفن، من سيعود في المساء ليحملهم على ساعده، ويدور بهم أرجاء ألبيت وضحكتهم ترن كأجراس ألملائكة في قلب ألنسيم والهواء.
والسفر يعني ألافا مؤلفة، أكداسا مكدسه من ورق ألنقد، تملؤ في حقائب ألسفر بدلا من ألملابس، لا يهم، ألنقود يمكن أن تدبر، نبيع ألبيت بكل محتوياته، حتى كرسي محمد، وسرير آية، ثم نبيع ملابسنا، كل هذا لا يهم، ألمهم أن نسافر، أن تتم ألعملية بأسرع وقت ممكن.
كان وجهها وهي تتحدث ينتفخ رويدا رويدا، والدم يتصاعد من كل جسدها ليستقر فيه فيبدو مثل جمرة متقدة تحت نار مستعرة، يذوب على وجنتيها ألحديد، وصدرها كان يعلو ويهبط كسرير هزاز حين يضرب بقوة، فتسمع قعقعة ألقلب وهي تنازع ألعظم وتدفع ألرئتين. وتجمرت عيناها، فبدت وكأنها مغطسة بدم نازف للتو، شبحية، تضيء، تتوهج وتنطفىء فتبعث في ألقلب رعبا مجهولا غامضا، لكنه رعب ينقر ألقلب من سويدائه، فيجيء إثر نقرته غثيان، زوفان في ألمعده. فترتج ألأحشاء. أصابعها كانت تتشنج حين تشير بها لترافق كلماتها بالحركة. وتنثني بجسدها فينتابني إحساس بأنها شلت، تليفت، ولن تعود للحركة من جديد. وجسدها، جسدها كان يرتعش، يهتز بقوة ضارية وكأنه معرى أمام عاصفة جليدية، تنخر ألعظم وتفتته، دون عناء، دون جهد.
أما أنا فقد كنت تائها بصحراء الذهول التي لا أثر للسراب فيها. كنت أرفع نفسي عن ألكرسي وأعاود ألجلوس، لماذا؟ هكذا دون سبب، دون وعي، دون إرادة. أفتح فمي وأغلقه، دون سبب، دون وعي، دون إرادة أيضا. دماغي أصبح كسيحا لا يعمل. شل تماما. أما عيناي فقد كنت أحدق بهما لوجهها، ولكن دون أن أراه. كنت قد تحولت لأذنين فقط. ولو نظر ألناس إلي ساعتئذ لامتلأت قلوبهم هلعا ورعبا، لقذفوا أنفسهم من زجاج ألنوافذ، لأنهم لن يروا سوى إنسان كله أذنين فقط.
وسافرنا، بعنا ما نملك، وسافرنا، غرباء في أرض غريبة. ورأس زوجي يتضخم، يكبر، يتساقط ألشعر عنه، وأضحى غريبا عن جسد صاحبه، وعني. ودخل معنا أرض ألغربه وفي جوفه مخلوق صغير صغير لا تراه ألعين، أدق من رأس ألإبرة بملايين ملايين ألمرات، لكنه قلب حياتنا وبدل أوضاعنا، غير أجسادنا، نقل ألقلب مكان العين، وزرع العين مكان القلب، فأضحت وجوهنا خافقة وأعماقنا باكيه. وتمت ألفحوصات ألأولية. والنتائج، آه ما أقساها. أنه هو، هو، دون شك، ذلك ألكائن ألغريب يتوسط ألدماغ، ينمو، وينمو، حتى أصبح بحجم ألبيضه، والعملية لا بد من أجرائها، وحدد ألموعد بعد ثلاثة أيام من وصولنا.
والمستشفى كبير، كبير، متطاول في ألأفق، يرنو للسماء، ومظهره جميل، متناسق، يشيع البهجة في النفس. لكنه كأي شيء غيره، لا تراه على حقيقته إلا إذا ولجت بكيانك إلى داخله. قلت أنه جميل، يشيع ألبهجة بالنفس، لكن من ألخارج فقط. أما حين تلج بقدماك بابه، فأنه يصبح مدهشا للعقول. هو مخزن آلام ألبشر وصندوق عذاباتهم وتنهداتهم. فيه تصبح الدموع كاوية، تنزل على ألوجنات فتذيبها كحامض مركز. وفيه ترحل كل يوم أرواح عن أجسادها، رحلة طويلة، طويلة مجهولة لا معالم لها ولا حدود. ومن خلف ألأرواح تلك، تنخلع قلوب من صدورها لتسكن عمق ألألم وقلب ألعذاب.
الجبال، الوديان، ألأشجار، ألحيوانات، ألأمتدادت ألهائلة للفضاء ألرحب، فبدت ألدنيا عزيزة، عزيزة إلى حد ألجنون. وأصبح مذاقها في ظل شبح ألموت ألمسيطر على عقلي نابضا بعمق حيوي نشيط، لا يفتأ يحمل في جنباته صورا رائعة مضيئة لكل شيء. حتى ألمآسي ظهرت أمامي وهي ترتدي زخرفا من ضياء خلاق، يخلب ألعقول، وينير ظلمات ألمجهول، ألموت، ما أقسى هذه ألكلمة حين تستحيل في عقلك إلى كائن حي يمسك بتلابيب دماغك ليجرك نحوه بكل ما يملك من عناد وتصخر نحو هاويته ألعاجة بسواد ممعن في عمق لا نهائي.
فتقفز في عقلك ألتساؤلات مثل مخالب فولاذية تدميه بإنغراساتها الحادة:- كيف أفارق هذه ألدنيا؟ هل أترك كل شيء ورائي هكذا؟ أأترك هذه الجبال وتلك السهول؟ وكيف أخلف خلفي تزاحم الأقدام في الشوارع؟ وأصوات الباعة وطعم البرتقال؟ ولذة التدخين؟ كيف لا أفيق مبكرا على هدير الحياة ولا أهجع مع هجوع الليل؟.
أمي, أبي, أخواتي, زوجتي, أبنائي, زملائي، أصدقائي، كيف أفارق هؤلاء جميعا، هكذا ببساطه، وبلا أي معني واضح في عقلي عنهم. فالسنين التي عشتها معهم لم تكن كافيه بكل ما في ثوانيها من زخم لأن أكون معنى واضحا عن أي فرد فيهم. إنني الآن في ظل لحظة هبوط شبح الموت على نفسي, أنظر إليهم بصورة مختلفة عن نظرتي السابقة. الآن، أجلوهم بكل طاقة عقلي ونفسي معا فأشعر بوهن عارم يظلل صورهم وحركاتهم, وأحس أثناء محاولة استعادة صورهم بضعف شديد قاتل. وأغرق في بحر مشاعري المستفزة القلقة، مثل غريق يقاوم حواما لا أمل للنجاة منه, لكنه يضرب، بيديه وقدميه, بكل ذرة من ذرات جسده, بعنف, بقلق مضطرب معذب, لكن ألحوام يشده للأسفل وفي عينيه تتبدى نظرات هائلة, مروعه, حيرى, نحو الشاطىء, نحو الرمل, نحو الحياة.
أمانيً, أمالي, طموحاتي, مشاريع حياتي, خطط المستقبل, كيف تنتهي دون أن أكمل شوطي فيها. الموت, الموت سيبترها، يتركها ناقصة شوهاء, تسير على قدمين ولكن دون جذع, دون رأس.
مشاعري, نار عملاقه مستعرة, وأحاسيسي دخان اسود كثيف, فتلك تكويني، وهذه تعوم في صدري وعقلي, ولا أستطيع بين الاثنتين إلا الهروب من ذاتي إلى ممرض أرجوه وأتوسل إليه أن يمنحني شيئا يدفعني لقبو النوم المعتم, الذي لا حياة فيه للعقل، ولا رؤى للمشاعر, وأسلم نفسي كارها لسرير وغطاء هما في مثل هذه اللحظات, أوفى وأعز الأصدقاء.
وأفيق مشدوها, تلاحقني كوابيس متداخلة, غير منتظمة, ألوان كثيرة حادة فاقعة تتداخل ببعضها وتتشابك ثم تنعقد, عقدا شيطانية متنافرة لا تظهر بدايتها ولا نهايتها، فأحس رأسي ثقيلا, تنوء كتفاي بحمله, وصدري تعوم فيه أختلاطات عشوائية وأمتليء رعبا خانقا فوارا من جديد، فأفر من بين خيوط وحدتي لأنزلق بين جماعات المرضى الضاحكين، والذين لا معرفه لي بهم ولا صلة, أجلس بينهم أستل من صدري ابتسامة ضبابية لأعلقها على قسمات وجهي وفوق شفتي.
ومن بين هذه الجماعات كنت أنحدر نحو السلوى ببطء شديد وأغرق معهم في عوالم متنوعة مختلفة, كل عالم لا صلة له بالعالم الذي قبله, وكل ضحكه ترن وتدوي في أرجاء الصالة لا داعي لها، ومع ذلك أغرق في عوالمهم المفتوحة, وتدوي ضحكاتي في مساحات الجدران وإشعاعات المصابيح المتدلية من السقف, وتغرق عيناي بدموع قهقهات عالية ينحني جذعي معها مرات متلاحقة وسريعة كحرذون يؤدي صلاته وقت الظهيرة.
وحين كان يقذف الليل سدف ظلمته على الكون, كنت أنسل من فراشي للاستراحة, أتأمل الأفق وهو يتبقع بدماء الشمس, بقعا فاترة الحمرة هنا وهناك, ثم تندمج هذه البقع مرة واحده لتطلي الأفق على امتداده بحمرة قانية نزفتها الشمس قبل دخولها بأعماق الأفق البعيد عن العين أو قبل غطوسها بأعماق البحر لتغتسل من أعباء نهار مضن وشاق.
كنت إذ ذاك أشعل سيجارة من أخرى, ليس حبا في التدخين، إنما بحركة أليه اعتيادية, وما أن تتلفع الأرض بتلك السدف تلفعا تاما, حتى تجدني جالسا كتمثال شمعي غارقا ببحر أفكار صاخبة عاتية الموج.
وذات ليله, وفيما أنا غارق في أفكاري, أحسست حركة بجانبي, وحين رفعت رأسي وجدتها جالسة بمحاذاتي تماما, يداها منتصبتان على رجليها, وجهها متكيء على كفيها المفتوحتين لاحتضان الوجه من الذقن وحتى الأذنين.
ذهبية الشعر, وجهها أقرب إلى لون سنابل القمح, يتوسطه أنف صغير مستدق الرأس، وفم حين يفتح تظنه ما زال مغلقا, وعينان حائرتان ينبعث منهما بريق متألق, لكن سرعان ما ينكسر فور خروجه منها.
تطلعت إليها دون مبالاة, وبحركة لا شعورية, وكأنني انظر ببلاهة في الفراغ, إلا أنني أمام إصرار نظراتها وعمقها أحسست برعدة تسري في جسدي كرعدة برد مفاجئة أمام شمس متألقة, حدقت بعينها, فأيقنت عندها بأنها تضرب أعماقي، تسبرها, تغوص فيها منقبة, إلا أنها أمام امتداد نصل نظراتي وبريقه اضطرت للتراجع، وكان تراجعها ثقيلا, يزحف في عينيها زحفا حلزونيا، وأضحت لفترة غير بسيطة،
كأنها تنسحب من عالم إلى عالم, الأمر الذي حيرني ودفعني للتساؤل: أن كانت تحس بوجودي بمحاذاتها أم لا؟ ولم تلبث أن أطلقت تنهيدة حادة ارتفع على أثرها صدرها وهبط بقوة, فأحسست تلك التنهيدة تغوص في صدري مثل دبوس يخترق اللحم بقوة خاطفة وسريعة.
مددت يدي بحركة تلقائية نحو كوب الشاي الفارغ, في محاولة صبيانية للهرب من الموقف, لكنها تنبهت لحركتي بسرعة، فانتصبت لتأخذ الكأس من يدي وتغادر الغرفة دون أن تنبس بحرف واحد. وما هي إلا لحظات حتى عادت وكوب الشاي بيدها مملوء حتى شفته العليا, وضعته على الطاولة وعادت لجلستها من جديد دون أن تنبس بكلمة واحدة مرة أخرى, وكان علي، من باب الأدب, الأدب فقط، أن أشكرها, ولكن بحذر شديد لا يفتح لها مجالا لدخول عالمي بأي ثمن مهما بهظ, لأني لا أريد أن أضع على كاهلي عبئا جديدا، يكفيني إحساسي المتلاحق بقبضات الموت في عقلي.
-أشكرك على الشاي.
حدقت في من جديد, كانت عيناها تطفحان بالرعب, بالمجهول, وفوق جفونها ظلال زرقاء مشربة بصفرة باهتة, يبدو الألم والحزن عليها واضحا بكل عمق وقوة. وحبات من دموع تقف على الجفن، مثل زجاج شفاف مصقول, إلا أنه مشعور من الجهة اليمنى ومخدوش في الوسط, غامت الدنيا بعينيها، ولم تغب قليلا حتى أنهلت مطرا شديدا وحارقا, إلا أنه صامت. صمت المقابر وسط الليل, وانساحت الدموع على خديها غزيرة فياضة، كجدول فضي على أديم من ذهب خالص.
نفرت أعصابي بقوة، أطلت برأسها من هجعة سلوى قصيرة، كالأفعى حين تطل برأسها من جحرها، حذرة متوترة، لكنها دائبة ألأهتزاز. أردت أن أبكي، أصرخ، أحطم زجاج ألنوافذ بيدي، أضمها لصدري، أحفر فيه ملجأ أخبئها فيه، أرفسها برجلي، أركلها خارج ألاستراحة، أقذف نفسي خارج ألأستراحة، أمسح دموعها، أفعل أي شيء. إلا أنني ظللت مكاني، كما أنا عاجزا، مشلولا، لا أنفع لشيء على ألإطلاق.
- زوجي سيموت بعد شهر.
وجمدت مكاني، مثل قالب ثلج، تيبست أحشائي، واندفعت برودة عنيفة في عمودي ألفقري، مثل برودة ألبنج في ألوريد، ورقصت معدتي مكانها. ألموت، ألموت مرة أخرى. أنا لا أعرف كيف مرت تلك ألكلمة مثل ألسهم كي تستقر في دماغي. ثم لأرى نفسي مبطوحا فوق دكة ألغسل والناس تغرق فوق جلدي أباريق ألماء وهم يدمدمون بحلاوة ألأجاص، ونكهة ألتفاح، ومذاق ألعسل.
- س... يمو... ت... بع...د...شهر.
خرجت ألكلمات من فمي، كل كلمة مولود، مولود له ألام مخاضه، وضعتها بعد جهد، والعرق يتفصد من جسدي كله، وشيء يهز قلبي والأعماق بوحشية قاتلة، لا رحمة فيها أبدا.
- نعم هكذا أخبر ألأطباء.
- لكن ألموت بيد ألله.
- أنه مصابا بالسرطان.. سرطان ألدماغ.
- قد يشفى.
- فات ألأوان.
- وكيف تعرفين؟
- دعني أحدثك ألقصة من أولها.
ودون أن تسمع إجابتي بدأت تحدث: أتته ألحالة مرة واحدة. صداع دائم في ألرأس وزغللة في ألعينين. ألم عارض، كثيرا ما يحدث مع ألناس. وتركناه، لم نكن ندري آنذاك بأننا لا نتركه ليأخذ حده ومن ثم ينتهي. من أين لنا ألعلم بأننا كنا نحفر ألنهاية في لوح ألأبدية بأيدينا، بضحكاتنا وسرورنا. وتركنا ذلك الورم يعشش في دماغه، يفرخ، ويبني أعشاشا لفراخه، من أين لنا أن نعلم هذا؟
وحين أشتد ألألم، عرضناه على الطبيب. الطبيب زميله، فزوجي أيضا طبيب، لكنه طبيب نفسي، أخبرنا بالحقيقة. صفعنا بها صفعة مروعة. لكنه أستدرك: هناك أمل، لا بد من إجراء عملية جراحيه. ولكن ليس هنا، إنما في لندن.
وكان يجب أن يسافر، بأي ثمن، ومهما كانت ألظروف. ألعمليه يجب أن تجرى، بدون تأخير، وبأقصى سرعة. ويفضل ألسفر على بساط ألريح. ألوقت ثمين، ألساعة، لا، بل رمشة ألعين، إما أن تكون حياة، أوتكون موت. من ألذي سيقوم برعايتي أنا؟ لا، ليس أنا، أبنه محمد، لا، بل أبنته آية. من سيمسك بذراعها يوم زفافها؟ أي ذراع غير ذراعه ستكون ذراعا ميتة، ينخل فيها ألزيف، ألتصنع، الرياء، ألعفن، من سيعود في المساء ليحملهم على ساعده، ويدور بهم أرجاء ألبيت وضحكتهم ترن كأجراس ألملائكة في قلب ألنسيم والهواء.
والسفر يعني ألافا مؤلفة، أكداسا مكدسه من ورق ألنقد، تملؤ في حقائب ألسفر بدلا من ألملابس، لا يهم، ألنقود يمكن أن تدبر، نبيع ألبيت بكل محتوياته، حتى كرسي محمد، وسرير آية، ثم نبيع ملابسنا، كل هذا لا يهم، ألمهم أن نسافر، أن تتم ألعملية بأسرع وقت ممكن.
كان وجهها وهي تتحدث ينتفخ رويدا رويدا، والدم يتصاعد من كل جسدها ليستقر فيه فيبدو مثل جمرة متقدة تحت نار مستعرة، يذوب على وجنتيها ألحديد، وصدرها كان يعلو ويهبط كسرير هزاز حين يضرب بقوة، فتسمع قعقعة ألقلب وهي تنازع ألعظم وتدفع ألرئتين. وتجمرت عيناها، فبدت وكأنها مغطسة بدم نازف للتو، شبحية، تضيء، تتوهج وتنطفىء فتبعث في ألقلب رعبا مجهولا غامضا، لكنه رعب ينقر ألقلب من سويدائه، فيجيء إثر نقرته غثيان، زوفان في ألمعده. فترتج ألأحشاء. أصابعها كانت تتشنج حين تشير بها لترافق كلماتها بالحركة. وتنثني بجسدها فينتابني إحساس بأنها شلت، تليفت، ولن تعود للحركة من جديد. وجسدها، جسدها كان يرتعش، يهتز بقوة ضارية وكأنه معرى أمام عاصفة جليدية، تنخر ألعظم وتفتته، دون عناء، دون جهد.
أما أنا فقد كنت تائها بصحراء الذهول التي لا أثر للسراب فيها. كنت أرفع نفسي عن ألكرسي وأعاود ألجلوس، لماذا؟ هكذا دون سبب، دون وعي، دون إرادة. أفتح فمي وأغلقه، دون سبب، دون وعي، دون إرادة أيضا. دماغي أصبح كسيحا لا يعمل. شل تماما. أما عيناي فقد كنت أحدق بهما لوجهها، ولكن دون أن أراه. كنت قد تحولت لأذنين فقط. ولو نظر ألناس إلي ساعتئذ لامتلأت قلوبهم هلعا ورعبا، لقذفوا أنفسهم من زجاج ألنوافذ، لأنهم لن يروا سوى إنسان كله أذنين فقط.
وسافرنا، بعنا ما نملك، وسافرنا، غرباء في أرض غريبة. ورأس زوجي يتضخم، يكبر، يتساقط ألشعر عنه، وأضحى غريبا عن جسد صاحبه، وعني. ودخل معنا أرض ألغربه وفي جوفه مخلوق صغير صغير لا تراه ألعين، أدق من رأس ألإبرة بملايين ملايين ألمرات، لكنه قلب حياتنا وبدل أوضاعنا، غير أجسادنا، نقل ألقلب مكان العين، وزرع العين مكان القلب، فأضحت وجوهنا خافقة وأعماقنا باكيه. وتمت ألفحوصات ألأولية. والنتائج، آه ما أقساها. أنه هو، هو، دون شك، ذلك ألكائن ألغريب يتوسط ألدماغ، ينمو، وينمو، حتى أصبح بحجم ألبيضه، والعملية لا بد من أجرائها، وحدد ألموعد بعد ثلاثة أيام من وصولنا.
والمستشفى كبير، كبير، متطاول في ألأفق، يرنو للسماء، ومظهره جميل، متناسق، يشيع البهجة في النفس. لكنه كأي شيء غيره، لا تراه على حقيقته إلا إذا ولجت بكيانك إلى داخله. قلت أنه جميل، يشيع ألبهجة بالنفس، لكن من ألخارج فقط. أما حين تلج بقدماك بابه، فأنه يصبح مدهشا للعقول. هو مخزن آلام ألبشر وصندوق عذاباتهم وتنهداتهم. فيه تصبح الدموع كاوية، تنزل على ألوجنات فتذيبها كحامض مركز. وفيه ترحل كل يوم أرواح عن أجسادها، رحلة طويلة، طويلة مجهولة لا معالم لها ولا حدود. ومن خلف ألأرواح تلك، تنخلع قلوب من صدورها لتسكن عمق ألألم وقلب ألعذاب.